|
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
محمد عبد القادر الفار
كاتب
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8354 - 2025 / 5 / 26 - 00:46
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الشارع دا أوله بساتين وآخره حيطة سد ليا فيه قصة غرام ما حكيتش عنها لأي حد من طرف واحد وكنت سعيد قوي بس حراس الشوارع حطوا للحدودتة حد
هكذا غنّت "فرقة المصريين"، بكلمات صلاح جاهين، كأنهم لا يتحدثون عن شارع، بل عن مسرح صغير لحكاية كبرى. عن حيّزٍ وُعِد بالبساتين، وانتهى بخرسانة مسدودة. مشهد يُشبه ما نراه في فيلم Mamma Roma لبازوليني، حين يُلاحَق الشاب إيتوري في شوارع روما القديمة، لا من الناس فقط، بل من المكان نفسه. وكأن الشارع يحتفظ بالجرم، ويتآمر على الغفران.
وفي علم الاجتماع الحضري، تُوصف هذه الظاهرة بـانقطاع السرد المكاني (breakdown of spatial narrative): حين يُصمَّم المكان ليُنسى، لا ليُروى. حين تُقتلع الذاكرة من الرصيف، ويُعاد تمهيد الشارع ضد أهله، لا من أجلهم. وكما قد يقول ابن خلدون: إذا فسد العمران، ضاق بأهله وإن اتسع. والضيق هنا ليس في العرض الفعلي، بل في المعنى، في الحق في الحكاية. كأن كل شارع في مدينتنا هو قصة لم تكتمل. حدوتة قُطعت عند آخر سطر، ليس لأن القصة انتهت، بل لأن السلطة أنهت الجملة دون أن تسألنا.
زحام وأبواق سيارات مزعجة للي يطول له رصيف، يبقى نجا لو كنت جنبي يا حبيبي أنا مش كنت أشوف إن الحياة مبهجة … عجبي!
هكذا يُعلّق صلاح جاهين، في إحدى رباعياته، لا على المرور بل على النجاة من الحياة الحضرية أو المدينة كفعل مؤلم في ذاته. المدينة لا يقتلها الزحام، بل تُخنق حين تُمنع الحكايات من الاكتمال. في الرواية، هناك دائما مشهد أول. وفي الفيلم، لقطة افتتاحية تتفتح كما الذاكرة. وفي المدينة؟ هناك شارع. لكن الشارع الذي نقصده ليس كما في دفاتر التخطيط، ليس ممر حركة (corridor of movement) ولا شريانا حضريا (urban artery)، بل هو نَفَسٌ سرديٌ يتردد بين الأرصفة، وحكاية لا تُختصر بوظيفة. الشارع الذي يتحدث عنه جاهين لا ينقل، بل ينطق. لا يُفصَّل لعجلات المركبات، بل لخطى الغرام، لأول "صباح الخير" تقال بخجل، ولآخر نظرة بين شبّاك وشبّاك. الشارع بهذا المعنى هو ما يتبقى من المدينة حين تُسقط المخططاتُ الهامش، وحين ينسى المصمم أن الناس لا يسكنون في الmasterplan، بل في الظلال، والزوايا، والكسرات اليومية التي لا تظهر في الرسم. في المدينة الحيّة، الشارع هو اللقطة الطويلة (long take) التي لا تُقطع، هو النصّ المكتوب بالمشي، لا بالقلم. هو الفراغ الذي تسكنه الذاكرة قبل أن تسكنه الأرصفة. حين تمشي، لا تمر فقط بجدران ونوافذ وبشر، بل تمر بسيناريوهات غير مكتوبة: طفلٌ يركض بلا حذاء، امرأة تنتظر مكالمة لا تأتي، ظلٌّ على الحائط يبدو كأنه شخصٌ يفكر. تماما كما في نهاية فيلم “L’eclisse” (الكسوف) لأنطونيوني، حين تختفي الشخصيات من الكادر، ويبقى الشارع وحده يمشي أمام الكاميرا، كأن المدينة قررت أن تستمر في الحكاية دوننا.
لكن ماذا لو لم يكن الشارع مجرد مشهد يُرى؟ بل وهمٌ متبادل بينك وبين المدينة؟ وهمٌ جميل، تتخيّله أنت، وتتظاهر هي بأنها تؤمن به؟ عهذا هو المدخل الذي يفتحه الروائي الإيطالي إيتالو كالفينو في كتابه الساحر "المدن غير المرئية"، حيث لا يُخبر ماركو بولو الإمبراطور قوبلاي خان عن المدن التي زارها، بل عن المدن التي تكسّرت داخله. مدن تتكوّن من ذكريات مُبتلّة، أو رغبات لم تكتمل، أو خوفٍ تم تجسيده بهندسة صامتة. كالفينو لا يقدّم خريطة، بل ألبوم حنين معماري، يرسم عبره مدنً ليست على الأرض، لكنها تسكن اللغة. وكأن كل مدينة، في جوهرها، جُملة لم تُكمَل بعد. وهنا نصل إلى عمق السؤال: المدينة ليست مبنى، بل سرديّة مبنيّة. ليست مادة، بل كود لغويّ يحكم الحواس، والحركة، والهوية. وإن غاب عنها الوصف، ماتت. كأن كالفينو يريد أن يقول: "المدينة لا تقول لك شيئا، بل تنتظر أن تقول لها شيئا." وإن لم يكن فيك ما يُقال، تُعيد تشكيلك حتى تُصبح قابلاً للتكرار.
ولهذا، فالصراع اليوم في تخطيط المدن ليس بين الحجر والبشر، بل بين السرديّات العليا، والسرديّات اليومية. بين الخطاب الرسمي للتخطيط (official planning discourse) والنصّ العابر الذي يهمسه الناس أثناء عبورهم للشارع. وفي كتاب المدن غير المرئية، لا يضع كالفينو خريطة بقدر ما يمدّنا بمجموعة استعارات حضرية متحركة. كل واحدة منها تُضاء من زاوية، ثم تختفي. في مدينة زُورا Zora، على سبيل المثال، كل شيء يمكن تذكّره: أسماء الشوارع، نِسَب الأبنية، موقع كل نافذة. لكن هذا الاكتمال لا يعني حياة. بل على العكس، في هذه المدينة المثالية التصميم، تفقد الحكايات القدرة على النمو. كأن التنظيم الزائد قتل الارتباك اللازم للذاكرة. أما إيرين Irene ، فهي مدينة لا تُحد، يراها كل من يصلها بطريقة مختلفة. كأنها لا تسكن مكانا، بل تُبنى في كل عبور. هي ليست مدينة تُشرح، بل مدينة تُعاش. وقد كتب كالفينو في وصفها: أنك ما إن تصلها، حتى تشك إن كنت قد غادرت مدينتك أصلاً. وبين زُورا وإيرين، يتأرجح السؤال الأبدي: هل نحن بحاجة إلى مدينة يمكن فهمها؟ أم إلى مدينة تجعلنا نفهم أنفسنا؟
فهناك فعلا من يرى أن المدينة مكان نحتاج قياسه، لا فهمه، ناهيك عن أن يفكر في أن يسمح للمدينة أن تسائله عن نفسه. إنه المساح land surveyor الذي يرى المدينة كأرقام طافية على شاشة. فهو يحمل جهازا، لا ذاكرة. يرى المدى، لا الحنين. ومع تقدم تقنيات الرفع ثلاثي الأبعاد بالدرونات والبوينت كلاود وغيرها، ازدادت ثقته بأنه قادر على الإحاطة بهذه المدينة فهي عنده تُفهم ك”حجم” (Volume) وتُقرأ بإحداثيات وخطوط كنتورية وغير ذلك مما يخضع الفراغ للرقم. لكنه لا يسأل: من جلس هنا؟ من غنّى عند هذه الزاوية؟ أو لماذا ظلّ هذا الشارع منحنياً كل هذه العقود دون أن يُعدّل؟ ولا ينبغي أن نلومه. فهذا هو المطلوب منه! لكنه يذكّرنا بأن العين التي لا ترى إلا البيانات، قد تُنظّم المكان… لكنها لا تُفسّره. ولهذا فإن المدن التي قام بتخطيطها مسّاحون، افتقرت لطبقات مختلفة من الوعي بالمدينة. طبقات كالتي كان كالفينو يتحدث عنها!
وكالفينو لم يكن وحده.
في ركنٍ آخر من السرديات الحضرية، كانت امرأة ترتدي معطفا رماديا، وتقف عند مفترق طرق في مانهاتن، ترى ما لا يراه المهندسون. ترى أن الطفل الذي يركض خلف كرة هو مقياس الأمان، وأن العجوز الذي يجلس على العتبة هو أهم من كل كاميرات المراقبة. جاين جاكوبز Jane Jacobs لم تكن تحب الخرائط، كانت تؤمن ب"العين على الرصيف"، لا ب"العين من فوق". بالقهوة التي تشرب عند الزاوية، لا ب"الاستخدام المختلط" mixed-use كمصطلحٍ بارد. بالنسبة لها، المدينة لا تُبنى من الأعلى، بل من الأسفل، من تلك الحكايات الصغيرة التي تتجاور بلا إذن، من التداخلات اليومية التي يصعب ترسيمها، لكنها تُنتج "حيّزا حيّا". لم تكتب جاكوبز عن التخطيط الحضري بقدر ما كتبت عن نبض المدن. كانت تشكّ في ما يُقال في المؤتمرات، وتفضّل أن تسأل البقال. بالنسبة لها، لم يكن الشارع مجرد ممر، بل نسيج اجتماعي مرن، تُعيد تشكيله كل حركة، كل وقفة، كل نظرة متقاطعة. في كتابها The Death and Life of Great American Cities أرادت أن تثبت أن المدينة ليست جهازا ينبغي ضبطه، بل كائن حيّ، لا يُفهم إلا إن عاشه المرء. ولهذا، كانت ترى في النسيج الحضري ما يشبه اللغة، بمفرداتها، وقواعدها، وحتى لحظات الصمت. الشارع عند جاين جاكوبز لا يُفهم عبر خرائط استخدامات الأراضي (land use maps)، بل عبر العيون التي تراقب، والطاقة البشرية التي تُعاد تدويرها، والأنماط الدقيقة للحركة اليومية التي تصنع ما يُعرف بـإحساس المكان (sense of place)، لا ما يُدعى بالخطة. ولذلك، لم يكن غريبا أن ترى في كل محاولات التخطيط العقلاني من الأعلى (top-down rationalist planning) محاولة لاختزال الحياة إلى رسوم بيانية، نسب FAR، ومعادلات كثافة. بينما الحياة، في رأيها، لا تُقاس، بل تُسكن. لذلك حين اقترح روبرت موسيس، الذي كان في حينها وجها لبيروقراطية الحداثة الحضرية في نيويورك، مشروع الطريق السريع لمانهاتن السفلى (Lower Manhattan Expressway) والذي كان سيؤدي إلى تدمير أجزاء كبيرة من أحياء سكنية نابضة بالحياة مثل سوهو وغرينيتش فيليج، قادت جاين جاكوبز حملة شعبية لإيقاف المشروع تكللت بالنجاح وتم إيقاف المشروع رسميا سنة 1971! لكن، كما في كل سردية حضرية، يبقى السؤال: من أين نبدأ تأمل المدينة؟ من المركز، حيث الخطط تُوضع؟ أم من الهامش، حيث الحياة تحدث فعلا؟ من يُعرّف المدينة؟ هل هي العاصمة؟ المركز الرسمي حيث تُؤخذ القرارات، وتُعلّق اللافتات؟ أم أن المدينة الحقيقية تسكن في الأطراف، حيث لا تصل الكاميرات، ولا تُصمَّم الشوارع بنفس النية أو الميزانية؟
فليست كل المدن عواصم. بعضها يُبنى ليُروى، وبعضها يُبنى ليُبرمَج. في العواصم، تخطط الدولة، وفي الأطراف، تتحدث الأزقة! العاصمة تُحاط بدوائر منظمة، يُعاد تصميمها كل عشر سنوات لتُرضي خيالا سلطويا ما. بينما الأطراف تُبنى بالرغبة، بالصدفة، أو بالحاجة الملحّة.
المركز يريد النظام! الزقاق يريد الحياة!
ولهذا، تُصمَّم العواصم لتبدو جميلة من الجو، بينما تُبنى الحارات لتُحب من الأرض!
وفي كثير من دول العالم، المركز يقول ما المدينة يجب أن تكون، بينما الأطراف تقول ما المدينة اضطُرّت أن تكونه.
من هنا، لا يمكن أن نقرأ المكان فقط بالبناء، بل أيضًا بالمسافة. المسافة من المركز، من الصوت، من اللغة، من الحق في أن تُرى وأن تُعبّر.
وفي عمّان، تقف اللويبدة كمثالٍ حيٍّ على هذا التداخل بين المركز والهامش، فجبل اللويبدة حيٌّ كان يوما في قلب المركز ولا زال قريباً منه، لكنه ظلّ يتكلم بلسان الحافة، أو على الأقل يتظاهر بذلك. وإذا جربت أن تمشي يوما في اللويبدة، فلن تراه جنة عمرانية، لكنك ستشعر أنه من الأماكن القليلة في عمّان التي ما زال الحيّز فيها يتحدث بلهجة قديمة. الشارع هناك لا يحب السيارات، ولا يبدو أنها تحبه كثيرا. الدخلات ضيّقة، والمداخل تنفتح ببطء، لكن الأرصفة تحفظ أثر الخطى، والنوافذ القديمة لا تزال تطلّ كما كانت، بلا زجاج مقاوم للزمن. في اللويبدة، لا تسير على خطوط مستقيمة، بل على أثر ذاكرة لا تزال تتنفس. في زواياها مدارس ذات جدران شاهدة، ومقاهٍ كانت يوما نقاط التقاء لمجتمعاتٍ موازية، sub-societies تعرف بعضها، وتتناقض دون أن تتنكر لنفسها. في أحد مطلات اللويبدة الجبلية، كان المكان شبه سريّ، يقصده فئة من اليساريين، المثقفين، المتثاقفين، والانتهازيين، لكن كان بينهم نوع من الاعتراف الضمني،، والدفء. اليوم، صار المطل معروفا. أكثر انفتاحا، أكثر ازدحاما، أقل خوفا. لكن، ربما، أكثر وحشة. كأن المكان فقد خصوصيته، فانكشف للضوء، ولم يعد يعرف ما إذا كان حيّا، أم مجرد مساحة تُلتقط فيها صور مشرقة لذكريات لا تخصّ أحدا. وربما، حين نخرج من جبل اللويبدة، بكل ما فيه من دفءٍ مُهدد، نتساءل: هل من طريقة لئلا تضيع المدن بهذا الشكل؟ هل من سُبُل لبناء مكان لا يزول حين يراه الجميع؟ لعل الإجابة لا تكون في المخطط، بل في الإحساس الذي سبق الرسم. ذلك الإحساس الذي لطالما كتب عنه كريستوفر ألكساندر، لا كمصمم، بل كمنصت للمكان. كريستوفر ألكساندر لم يكن يتحدث عن المدن كما يتحدث المخططون. لم يكن يبحث عن النموذج، بل عن الارتجاف الخفيف الذي يحدث عندما يدخل الجمال مكانا ويستقر. كان يرى أن المكان الجيد لا يُصمَّم، بل ينشأ حين تتصالح المادة مع النية. في كتابه The Timeless Way of Building، لا يضع ألكساندر قوانين للتصميم، بل يبحث عن ما يسميه "الطريق الذي لا يُعلّم"، ذاك الحسّ الكامن الذي يجعلنا نعرف أن هذا الحيّ مريح، وأن هذا الزقاق "يشبهنا". هو لا يؤمن ب”الابتكار المعماري” بقدر ما يؤمن ب”الأنماط الحية” Patterns of life التي تُعيد الظهور حيثما كان البشر أحرارا في تشكيل أماكنهم. كان ألكساندر يرى أن العمارة الجيدة تنبع من الداخل، من طريقة جلوسنا، من اتجاه الضوء، من الصوت الذي يملأ الفراغ، مما يُسمّى علميا بالaffordances أي ما يتيحه المكان لا بما يحتويه، بل بما يدعو إليه. في عالم ألكساندر، لا يوجد "فراغ" بالمفهوم المعماري، بل مقامٌ متكرر، يولد من الذاكرة الجمعية، ويعيش داخل الإيقاع الحسيّ للحياة. ولهذا، فإن المدينة بالنسبة له لا تُبنى بخطّة، بل تتشكّل كما تتشكّل اللغة: ببطء، بإيماءات صغيرة تتراكم، حتى ينشأ منها معنى لا يمكن نسيانه. وفي واحدة من أكثر اللحظات كشفا في تاريخ النقد المعماري، وقف كريستوفر ألكساندر أمام بيتر آيزنمان في حوارها في جامعة هارفرد عام 1982، وقال له دون مواربة: "ما تفعله ليس عمارة. ما تفعله جريمة ضد الإنسان." لم يكن الخلاف على التفاصيل، بل على جوهر المعنى. فألكساندر يرى العمارة كاستجابة شعورية لكائن حيّ، بينما آيزنمان يعاملها كمجال مفاهيمي مُغلق، لا يهم فيه إن أحبّ الناس المكان، بل يهمه أن يقول "شيئا معماريا".
وفي هذا التباين، يُولد السؤال الحقيقي: هل بُنيت مدننا لتُعاش؟ أم لتُدرّس؟ هل صُمّمت لتكون صالحة للحياة، أم صالحة للنشر الأكاديمي؟
لكن ما الذي يجعل المدينة تخنقك أحيانا؟ ليس الجدار، ولا الكاميرا، ولا حتى القانون. بل تلك العين غير المحددة التي لا تعرف من أين تنظر إليك، لكنها تجعلك تقف مستقيما رغما عنك.
في فلسفة ميشيل فوكو، هذا هو “البانوبتيكون”، سجن دائري، لا يُرى فيه السجّان، لكنك تفترض وجوده، فتقوم بدوره، تراقب نفسك بنفسك. المدينة، حين تُصمَّم على هذا الأساس لا تشبه ساحة عامة، بل فرقة أوركسترا صُمِّمت لها النوتة مسبقا. كل مشهد فيها محكوم بإيقاع مدروس. كل ممر مضبوط على طبقة محددة من السلوك. كل ظلّ محسوب كي لا يحجب الرؤية عن عينٍ لا نعرف مكانها. الشارع هنا لا يُسكن، بل يُؤدى.
كأنك تمثّل في فيلم لا تعرف مخرجه، ولا مشهدك التالي فيه.
في هذه المدن، لا يوجد فراغ لحدوتة صلاح جاهين. لا خطأ، لا صمت، لا نسيان. بل إضاءة مشتعلة، وجدران مطلية، وشعور داخلي بأن هناك من يراك دائماً، وإن لم يكن هناك أحد.
وفي فيلم Rear Window لهيتشكوك، لا تبدو المدينة كحيّز للعيش، بل كمسرح يُراقب من بعيد ! فالبطل لا يستطيع أن يخرج من شقته، لكنه يرى كل شيء، أو يظن ذلك. هو عين معلّقة، مثل الكاميرا، مثل الدولة، مثل أنظمة الCCTV. المدينة أصبحت واجهة تُراقب، لا تُعاش. كأنها تُبنى من أجل المشاهدة، لا من أجل العيش. كأن كل نوافذها أُعدّت ليُرى من خلفها، لا ليُرى العالم منها.
في روايات ألبير كامو كانت الحرية تولد من لحظة اللاجدوى. من رجل يرمق البحر، ويشعر أنه غير مراقب، وأنه للمرة الأولى لا يهم ما يقول أو يفعل. أما في مدن فوكو، فالحرية لا تولد، بل تتسرب من بين البلاط.
وفي زقاق المدق، كان نجيب محفوظ يجعل العيون تملأ المكان دون أن نراها: الفتوة، العجوز، الطفل، البائعة، كلهم يملكون قدرة على الرؤية، وكلهم يخضعون لبعضهم. كأن الزقاق بانوبتيكون طيني، لا يحتاج إلى برج مراقبة، بل إلى نظرات تسكن اللحم.
لكن كل مدينة، مثل كل حكاية، تختلف باختلاف من يرويها. تخيل أن أربعة من أكبر من فكّروا في المدن، جلسوا حول طاولة مستديرة: واحد يتكلم عن الخيال، والثاني عن الأرصفة، والثالث عن الأنماط التي لا تموت، والرابع عن الهوس، والعرض، والهندسة كإعلان عصبي. إيتالو كالفينو يفتح النقاش بلغته الحالمة: المدينة عنده ليست كتلة إسمنت، بل شعور مؤجل. لا يصف المدينة كما هي، بل كما تُحلم، تُنسى، تُبالغ في تذكّرها. كل مدينة في كتابه "المدن غير المرئية" هي مرآة مشروخة للوعي، كأنك لا تسكن المدينة، بل تسكن تفسيرك لها. ثم تتكلم جاين جاكوبز، بصوت أقل عذوبة، لكنه أشد دقة. المدينة عندها ليست حلما بل ممارسة. تُقاس بخريطة العيون والخطى التي تعبرها، لا بالأقمار الصناعية. هي معمارية الصمت الموزّع: سيدة تنشر الغسيل، طفل يلعب قرب الرصيف. وهكذا تُبنى شبكة الثقة الاجتماعية الحضرية! يدخل كريستوفر ألكساندر الحديث بهدوء. لا يتكلم عن "مدينة"، بل عن طريقة أزلية في البناء، حيث لا تُخلق الأمكنة من القرارات العليا، بل من استجابة المادة نفسها للمعنى. عنده، الفراغ ليس حيّا لأنه فخم، بل لأنه ينبض بالسلام الداخلي. لأن النور يسقط عليه من زاوية حكيمة، ولأن النمط الذي فيه feels right، حتى دون أن نعرف لماذا. ثم يأتي ريم كولهاس، يدخن، يتأمل، يبتسم كمن اكتشف أن المدينة فقدت عقلها. المدينة بالنسبة له ليست مكانا، بل مسرحا للهوس البشري، حيث المولات والناطحات والمطارات والمربعات الضوئية هي أدوات القصة، أدوات السوق، أدوات الرغبة. هو لا يُدين ذلك، بل يحتفي به بقلق. يرى أن الفوضى نفسها قد تكون هي النظام الجديد، وأن الشوارع أحيانا تُبنى لكي تُراقبك وأنت تتخيّل أنك حر. لكن، هذا الجنون المعماري الذي يحتفل به كولهاس لم يخرج من فراغ.
سبقه مشروع حداثي جسّده لو كوربوزييه، حين صمّم المدن كما تُصمَّم المخططات العسكرية: شبكة شوارع مستقيمة، تقسيمات صارمة، وفوق كل شيء: غياب تام للحكاية. في برازيليا، العاصمة التي رُسمت كطائرة على الورق، أصبحت المدينة لوحة هندسية معلّقة، بلا ظلّ، بلا مصطبة، بلا عطب. كل شيء هناك كان جميلا، إلا الحياة! وفي أغنية "الشوارع حواديت"، تتكرر اللازمة كما يتكرر المرور اليومي، كأننا نُجبر أنفسنا على التذكّر، على الانتباه، على ألا ننسى أن هذا الحيز كان “المدرسة”، ثم أصبح “النسيان". من هنا، تبدأ الفكرة المعمارية الكبرى: أن الشارع ليس مرآة المدينة، بل ذاكرتها. وأن التصميم الذي لا يُبقي مكانا للذاكرة، يحوّل الشارع إلى "حيطة سد"، والمشي إلى عبور صامت.
وهنا، تخطر لي فكرة. تخيّل أن الشارع ليس معبرا، بل قضية. وأننا لسنا مارة، بل محلفين في محكمة. لكن الشارع، ككائن عمراني، ليس له عمرٌ ثابت.
في بعض الأحياء، يبدو الشارع كشابٍ لم يكتمل نضوجه بعد. يتقلّب بين الفوضى والاحتمال، وفي أحياء أخرى، يظهر ككهلٍ أنهكه التخطيط الرديء، أو كطفلٍ وُلد دون اسم، يعيش على هامش النموذج. الشارع هنا متهم بأنه عشوائي، خطر، بلا معنى. يُقال إنه سبب في كل الزحام، والانهيار، واللامنطق. لكن لا أحد يسأله عن مرحلته من دورة الحياة. هل هو في الطفولة؟ في المراهقة؟ هل تم إخضاعه قبل أن يتكوّن؟ ننظر إليه جميعا… ولا يقول شيئا. لأنه شارع. لا يتكلم. فقط يُعبَر.
في هذا السيناريو، يصبح كالفينو هو المحلف الذي يقول: "ربما لم نسمعه بعد. ربما لديه حكاية لا نعرف لغتها."
وترد جاين جاكوبز: "أنا رأيت عيونه على الرصيف، هناك سيدة أشفقت عليه."
ويضحك كولهاس: "طفل؟ هذا وحش يُغذيه السوق، وهو يحب ذلك."
أما فوكو، فيمسح نظارته، ويهمس: "هو لم يختر الجريمة. نحن من وضعه في إطار الجريمة."
لكن الشوارع لا تتكلم تحت القسم. هي تهمس. وما لم نصغِ، سنظل نسمع ضجيجها، ولا نسمعها.
لكن ماذا لو لم نكن بحاجة إلى تخطيط المدن، بل إلى تلحينها؟
فبعض المدن لا تُبنى بالحجارة، بل تُركّب كما يُركّب المقام.
المقام، كما في الموسيقى الشرقية، ليس مجرد تسلسل نغمات، بل تجربة حسّية كاملة داخل حيّز. له طريقته في الدخول، في الالتفاف، في المراوغة، في الغموض النغمي، وفي الصمت الذي لا يعني النهاية، بل الانتظار. هكذا يجب أن تُفهم المدينة: لا كشيء يُخطط، بل ككلمة تُنطق. كقصيدة طويلة جدا، كل حيّز فيها يملك قافيته الخاصة، وإيقاعه، وسكتاته. المدينة التي لا تُنطق لا تُعاش. بل تتحول إلى ضجيج لا معنى له، أو أسوأ: إلى سجن صامت لا يُدرَك حتى من الداخل. فالمدينة، مثل المقام، لا تحتاج إلى قرار. بل إلى أُذُن تعرف متى تبدأ، ومتى لا تفعل شيئا على الإطلاق.
لكن فوكو مثلا، والذي صاغ البانوبتيكون، لم يكن مأخوذا بالانضباط، بل كان مأخوذا بما يفلت من الانضباط. بالفراغات الهاربة من الضوء. ففي مقابل السجن الذي يرى كل شيء، تحدّث عن شيء آخر: أماكن ليست للضبط، بل للتمرد الرمزي. سماها "الهتروتوبيا" وهي حيّزات لا تنتمي كليا إلى النظام، لكنها تكشف النظام بالضبط لأنها خارجه. من أمثلتها المقبرة، المرحاض العمومي، غرفة تبديل الملابس، السفينة. ليست مجرد أماكن، بل مرايا سوداء، ترينا هشاشة النظام عندما يُضطَر أن يعترف بها. وفي المدن، ربما لم تكن أزقتنا الضيقة، وشوارعنا العشوائية، مجرد صدفة هندسية، بل كانت دائما هتروتوبيا حضرية. أماكن لا تستجيب للسلطة، بل تراوغها. هي لا تعلن تمردها، بل تُدخّنه مثل سيجارة على ناصية لا تظهر في المخطط. وفي الجزائر، كما رآها ألبير كامو، لم تكن المدينة مجرد استعمار. بل استعمار للمكان، وللإحساس بالمكان. مدنٌ لا يُسمَح لها أن تتنفس وحدها، ولا أن تخطّ شوارعها بلغتها. مدنٌ بُنِيَت لتُراقَب، لكنها قاومت بأن أصبحت ثقيلة على الرؤية، محجوبة، مائلة، لا تُرى من نافذة السلطة إلا كخطأ. في الطاعون، كانت المدينة مُحاصرة بلا فِعل، مشلولة تنتظر العدوى أو المعجزة. وفي الغريب، لم يكن مقتل العربي لحظة مأساة، بل فراغا شعوريا تاما لم يحتج إلى تفسير. كأن المدينة عند كامو موجودة لتُغلق، والعربي موجود ليُنسى. كان كامو يرى الألم، لكن لا يسمع من يتألم. يرى الشمس، لكن لا من احترق تحتها. كان، رغم فرط إنسانيته، ابن مستوطنة يكتب عن الضياع، وهو فوق أرض مسروقة. ولعل المدينة، في تلك الروايات لم تكن سوى استعارة لهوية لم يَحلّها: هو نفسه لم يعرف لمن ينتمي. لا للسلطة، ولا للمقاومة. ولا حتى للشمس التي أحبها. ومع الوقت، صارت المدينة تشبه الجُملة المبتورة: تَحوي الإيقاع، لكنها تفتقر للّفظ.
وهنا بالضبط، حين تبهت السلطة، وتتلاشى الرواية الكبرى، تبدأ المدينة بإعادة تكوين نفسها، لا كجُرح، بل كحركة جسد. كمن يتمشّى ليشعر أن العالم ما زال موجودا. فحين تفقد المدينة لغتها، لا تبحث عن خطاب جديد، بل تتلمّس خطواتها من جديد. تجرب أن تمشي، أن تترك ظلا على الجدار، أن تبطئ في الزاوية! وهناك، في هذا البطء المتعمد، في هذه العادة اليومية التي تتحوّل إلى مقاومة، يتبلور ما كتب عنه يان غيل، وويليام وايت، وكريستوفر ألكساندر: مجرد رغبة بشرية في أن يُرى المرء وهو يمشي، لا وهو يُراقب. أن يكون الشارع للحياة، لا للحركة. للوقوف، لا للعبور. للحديث العابر، لا للكاميرات. هذا ما تُسميه بعض مدارس التخطيط الحديثة: “الحياة بين المباني” (Life Between Buildings)، حيث المقياس البشري Human Scale يعامل بحساسية شديدة. وهذه الحياة بين المباني لا تُقاس بالمتر، بل بالابتسامة، واللقطة الجانبية، وبطء الخطى حين يتأمل العابرُ ظلّه في واجهة متجر. أنا أعرف هذا الافتقاد إلى "الحياة بين المباني" جيدا. ليس من الكتب، بل من الحياة اليومية الهادئة التي عشتها في أحياء مثل عبدون، ضاحية الرشيد، الجبيهة، وضاحية الأمير راشد. أحياء لم تكن صاخبة ولا معزولة، بل جميلة بما يكفي. لكنها دائما بدت وكأنها تفتقد شيئا لا يُسمّى. كأنها كانت تعرف كيف تُبنى، لكن لا تعرف تماما كيف تُعاش. فالأرصفة فيها مصمّمة للمشي، لا للالتقاء. والظلّ فيها يمرّ دون أن ينتبه إليه أحد. ويندر أن تسمع فيها صوتا ينادي باسمك من نافذة مفتوحة. وربما لم يكن النقص في التصميم البصري فقط، بل في الحركة أيضا. فالمدن لا تُبنى فقط بالأرصفة، بل بوسائل الانتقال. ومع أن المشي هو أول لغة حضرية نتعلّمها، لكن ما لم تتكامل معه شبكة نقل عادلة، يظلّ الوصول امتيازا لا حقا. وفي كثير من الأحياء، صُمّمت الشوارع لتخدم المركبات، لا البشر. لا مقاعد، لا ممرات ظل، لا مسافة آمنة للمشي.. بل حركة، حركة فقط …. وكأن كل وقفة تُعدّ خرقا للنظام. والمدن التي لا تمنح أهلها الحق في التباطؤ، لا تمنحهم الحق في الانتماء.
ولهذا، بدأ البعض يطرح السؤال من جديد: لماذا نبني المدن أصلاً؟ هل لنتحرك فيها بأمان؟ أم لنعيش فيها بصدق؟ وهل وظيفة المدينة أن تنظّمنا؟ أم أن تحتضن اختلافنا؟
فمع بداية الألفية، ظهر مفكرون آخرون أعادوا التفكير في "السبب" من وجود المدن. أحد أبرزهم كان ريتشارد فلوريدا، صاحب كتاب The Rise of the Creative Class كان يرى أن المدينة لا تزدهر فقط بالبنية التحتية، بل بمن تحتضنهم. وأن النمو الحضري لا يقوده الإسمنت، بل الخيال. وأن المدن التي لا تسمح ب"اختلاف" سكانها، ولا توفر مساحة للحوار، تخسر قوتها التنافسية، وتتحول إلى مجرّد مساحات للإنتاج، لا منصات للابتكار.
فلوريدا رأى أن الإنسان المبدع، أو ما سمّاه "الطبقة الإبداعية"، يبحث عن مدينة تمشي على إيقاعه، تسمح له أن يكون هو، لا أن يُعاد تشكيله وفق خطاب سلطوي أو قالب عمراني مغلق. لكن حتى المدن التي اجتذبت المبدعين، واستثمرت في الفنون والمساحات العامة، كثيرا ما نسيت أبسط سؤال: هل يُمكن للمدينة أن تُصغي؟ أن تفهم أن الإبداع لا يولد من مرافق فاخرة فقط، بل من الشعور بأنك مرئي، غير مراقب، مسموع.
ربما لهذا لم نفهم المدن تماما حتى الآن. لأننا لم نتعلم الإصغاء إليها.
فالمدن، مثل الموسيقى، ليست مجرد معادلة بين الكتلة والفراغ، بل هي زمنٌ في الفراغ. ليست ما يُرى، بل ما يُنتظَر أن يُقال.
والمدينة الجيدة، كالمقطوعة الجيدة، لا تُبهرنا في البداية، بل تقودنا، نغمةً فنغمة، حتى نعرف أين نحن. وحين قال أحد المفكرين أن العمارة هي "موسيقى متجمّدة"، لم يكن يتحدث فقط عن التناسق الشكلي، بل عن الإيقاع الإدراكي. عن كيف يتعامل جسدك مع المكان كما يتعامل مع السيمفونيات: بالتوقع، والانتباه، والخوف، والنشوة. الموسيقى تُصمَّم بلحظات الصمت، كما تُصمَّم بالنغمات. وكذلك المدينة الجيدة: لا تُقنعك بأن تمشي فيها، بل بأن تتوقف. أن تسمع ظلّك. أن تنصت لفراغ لا يشرح نفسه، لكنه يفهمك. في نظريات التصميم الحضري، تظهر مفاهيم مثل:
"إيقاع التتابع البصري" (Spatial Rhythm): كيف تُنظَّم الكتل والفراغات لتقود العين كما تقود الموسيقى الأذن.
"نقاط التوقف الإدراكي" (Pause Points): تلك الأماكن التي تدعوك لأن تبطئ، لا لتأخذ صورة، بل لتستعيد نفسك.
"العتبات" (Thresholds): الحدود النفسية التي تفصل بين مقام وآخر، بين الزحام والسكينة، بين الصخب والتأمل.
وهذه ليست مصطلحات فقط، بل مفاتيح لفهم المدينة كما تُعاش، لا كما تُبنى.
فالsyncopation في موسيقى الجاز يشبه تماما انكسار الشوارع فجأة في الأحياء الشعبية.
والcrescendo في الأوركسترا، يماثله تصاعد البؤر البصرية نحو ساحة عامة.
أما لون الصوت (timbre)، فتراه في اختلاف ملمس الأرضيات، وخشونة الجدران، وفي الطريقة التي ينكسر بها الضوء عند زاوية لم تكن مقصودة.
إن المدينة الحديثة، في كثير من الأحيان، تُبنى على إيقاع آلي صارم: شوارع مستقيمة، كتل متكررة، إشارات ضوئية تنتظم كالميتَر في الموسيقى العسكرية. لكن مدينة الحكايات، مدينة "الحواديت" التي يحبها صلاح جاهين، تُبنى على "تعدد الإيقاع" (Polyrhythm)، كما في موسيقى الطرب أو الأفروكوبان: لا إيقاع مركزي واحد، بل عدة إيقاعات تتراكب وتتشاكس، تخلق فجوات، مفاجآت، خللاً ممتعا. حيث الخطأ نفسه جزء من الجمال. هكذا فهمها يان غيل ببساطة: أن الشارع لا يُحكم بقوانين المرور، بل بإيقاع المارّة: كيف يتباطؤون يتوقفون أمام واجهة يتراجعون خطوة فجأة ليُلقوا السلام يعبرون في غير أماكن العبور ويخلقون مقاما جديدا، لم يكن في المخطط.
المدن التي تُبنى بهذه الطريقة لا تُقرأ كتصاميم، بل تُسمع كنغمة! حتى أنها تُشمُّ أيضاً! فكل مدينة لها رائحة: رائحة الخبز في الصباح، البنزين في الظهيرة، الزعتر، الرطوبة، الغسيل المبتل، وأحيانا رائحة لا اسم لها، لكنها تعني: "أنا هنا." المدن التي تُنسى، هي المدن التي لا تترك رائحتها في القلب. المدن التي تُنسى، لا تُشمّ. فالحواس ليست ترفا في تخطيط المدينة، بل بوصلة العودة إليها حين نضيع.
وإن كانت المدينة تُسمَع وتُشمّ، فهي أيضا تُقرأ. تُقرأ كما تُقرأ يافطة مطعم باهتة فوق شارع فرعي، أو تحذير أمنيّ معلّق على باب مدرسة، أو شعار بلديّة نُسيَ على جدار مهجور. في المدن القديمة كانت الكلمات قليلة، تُكتب على أبواب الورش، أو في دعاء بسيط مرسوم فوق واجهة المخبز، أو حتى في موعظة مكتوبة على زجاج سيارة تاكسي. أما في المدن الحديثة فالطباعة تفيض من كل زاوية. لافتات، banners، يافطات ضوئية، ملصقات انتخابات، لوحات إرشاد، تعليمات صارمة، وشعارات بنمط موحّد لا يقول شيئا. وأخيرا، شاشات رقمية لا تكفّ عن التبدّل. تعدّك بالتخفيضات، ثم بالفرص، ثم بالموت القادم من الإهمال أو السرعة الزائدة. لا أحد يطلب منك القراءة! لكن الجميع يصرخ في عينيك ! في تجربة المستخدم الحضرية، لا تؤثر "الخطوط الحضرية" (Urban Typography) على العين فقط، بل تشكّل كيف تشعر بجسدك وأنت تمشي في المكان. الخط، لونه، سماكته، تردده. كلها ليست مجرد تفاصيل جرافيكية، بل هي علامات نفسية أيضاً. بعض الخطوط يرحّب بك. وبعضها ينهرك. وبعضها يُثقلك برسائل لا تنتهي: اتجه يمينا، لا تقترب، انتبه، اشترِ، خفّف السرعة، اغتنم الفرصة، ممنوع الوقوف.
رولان بارت قال ذات مرة أن "المدينة خطاب"، وأننا "نتكلم مدينتنا كما تتكلمنا". لكن ما لم يقله هو: ماذا يحدث حين يصبح الخطاب صراخا؟ حين تتحول المدينة من لغة تُنطق، إلى جدار مليء بالأوامر؟
هذا بالضبط ما تناوله الفيلم الوثائقي “Helvetica” (2007) للمخرج الأمريكيGary Hustwit، حين كشف كيف تؤثر الخطوط في إدراكنا للحيز، ليس كجماليات تصميمية فقط، بل كقوة رمزية تحدد إن كان مرحبا بك، أو لا. اللافتة تصبح سلطة. والخط، أداة هيمنة بصرية.
أما في الموسيقى، فقد غنّت فرقة Five Man Electrical Band في سبعينيات القرن الماضي أغنيتها الشهيرة Signs ، تشتكي من لافتات المدينة التي تقول لك ما تفعله، وأين تذهب، وكيف تبدو. لم تكن الأغنية دراسة حضرية بقدر ما كانت صرخة ضد كل سلطة تتخفّى خلف لافتة. فاللافتة هنا ليست مشكلة بصرية، بل هي مجاز للإقصاء، للتمييز، للرقابة المبطّنة. ومع ذلك، فإن توتّر تلك الاغنية مع العالم المليء بالعلامات يضعها، ربما دون أن تقصد، ضمن أكثر الأصوات صدقا في مواجهة المدن التي تتكلم كثيرا. ولا تقول شيئا! كان الصوت فيها غاضبا، ساخرا، لكن الأهم: كان إنسانيا بشدة. يشبه تماما ما نشعر به اليوم، حين نقرأ ألف جملة في شارع واحد، ولا نجد بينها واحدة تشعرنا بالراحة! هكذا تفقد المدينة نُطقها. لا تُقال، بل تُسوّق. لا تُخاطبك، بل تستهلكك. تُفرط في الحديث، وتنسى الإصغاء. تعاملك كما يعاملها المساح، كشيء يقاس!
وفي عالم يُقاس كل شيء فيه، يزداد صمت المدن. فهي تُبنى بلا جسد، ولكنها قد تعرف عنك كل شيء،، تقريبا.
نعم، في زمن أصبح فيه كل شيء قابلا للمسح، لم تعد المدينة تُقرأ بالحواس، بل تُفكّك على شاشات متوهجة. الDigital Twin، الGIS، نماذج الBIM، نظم إدارة المدينة المعلوماتية، وكثير مما هو مبني على الbig data، كل ذلك يحاول أن يبني للمدينة مرآة رقمية مطابقة، لا تنعكس فيها فقط الأشكال، بل حتى البُنى التحتية، خطوط المجاري، توزيع الكثافة، حركة الطقس، سلوك الناس. وكأن المدينة لم تعد تُبنى في التراب، بل تُنمذج على السحابة. لم تعد ذاكرة، بل قاعدة بيانات. لم تعد تعني، بل تشير. هذه الأدوات لا شك عظيمة من حيث أنها تمنحنا فهما غير مسبوق. لكنها تُغري بوهم أخطر: وهم الفهم الكامل. ذلك الذي يجعلنا نعتقد أننا نعرف المدينة، لأننا نعرف كل شيء عنها. لكنها لا تسأل لماذا تحب هذا الزقاق دون ذاك. لا ترى الخوف في ظلّ العمود. لا تسمع وقع خطوات حزينة في آخر الليل. إن المدينة التي تُختزَل إلى رقم، تفقد سرديتها. تصبح مجرد كائن قابل للإعادة، لا كائنا جدير بالتأمل. وكما قال أحدهم عن الغابة في زمن الأقمار الصناعية: "يمكننا الآن عدّ الأشجار، لكننا فقدنا الغابة".
ولهذا، قد لا تكون مدن المستقبل "أذكى"، بل أبكم. تراقبنا من دون أن تقول شيئا، ونحن نكمل حياتنا داخل "نسخة تجريبية" من المدينة.
وفي نسخة تجريبية كهذه لا عجب أن نذهب أبعد من ذلك في التجريب، فبينما يحاول المهندسون أن يبنوا مدينة تُفهم، هناك من يحاول أن يبني مدينة تُلعب.في ألعاب مثل Cities: Skylines ، تصبح المدينة حقل تجريب غير محدود. يمكنك أن ترفع جبلا، تمحو حيّا، تصمم شبكة مواصلات على مزاجك، أو تفصل أغنياء المدينة عن فقرائها بسطر واحد. اللعبة لا تطلب منك أن تسأل عن الذكريات أو الأمان، لكنها تسمح لك، لأول مرة، أن ترى النتيجة في زمنٍ مضغوط. كأن اللعبة هي Digital Twin، لكن بدون بلدية، وبدون ميزانية، وبدون سكان حقيقيين يغضبون من قراراتك. لكنها تُعطيك شيئا لا يُعطى عادة: مقعد المؤلف! ولكن حتى لو بلغنا أقصى ما في الرقمنة، وصارت المدن تُنشأ بجملة واحدة، بمجرد prompt يُكتَب في برنامج، فسنكون، دون أن ندري، قد عدنا إلى نقطة البدء: المدينة ككلمة! كأمر لغوي يُقال، لا كجدار يُبنى.
ففي لحظة ما.. في الماضي وقبل أن تُصمَّم المدن كخرائط على الورق. كان هناك من يُصمِّم اللغة. واحد اسمه ابن مقلة: خطّاط في القرن الرابع الهجري. لم يكن معماريا، لكنّه فكّر كما يفعل المصمم الحضري.
كان يرى في كل حرف وحدة فراغية. وفي كل نقطة مقياسا ذهبيا لما ينبغي أن يكون عليه التوازن. لم يرَ الخط كزخرفة، بل كمكان. كل حرف عنده يسكن فضاء، ويُراعي جاره، ويُحبّ ظله. كان يؤمن أن الحرف ميزان الجمال، وأن الفراغ بين الحروف لا يقل قداسة عن الحروف نفسها. كأنّ كل كلمة هي زقاق، وكل جملة ممرّ مشاة أنيق بامتدادات روحية. ولو عاش ابن مقلة في هذا العصر، ورأى اللافتات الرقمية والخطوط العشوائية التي تغطي مدننا، لربما بكى كما يبكي معماريّ يرى مبناه يُشوّه بسقالات الإعلان. لأن المدينة التي تفقد تناسق الخط تفقد مقامها البصري وتصير صراخا بصريا بلا ذوق، ولا نقطة ميزان. ابن مقلة علّمنا أن الحرف لا يُرسم بل يُسكن. وأن الكلمة، مثل المدينة، لا تُبنى إلا لمن يعرف مقامها. وقد دفع ابن مقلة ثمن ذلك المقام! فقُطعت يده التي ابتكر بها الخط، لأنه كان يكتب كما تُبنى المدينة: بالاتزان، لا بالإذعان. وظل، رغم بتره، يحاول أن يكتب، كأن الحرف لا يُولد من اليد، بل من الروح التي لا تُبتر.
لكن المدينة، مثل الكلمة، لا تُقال دفعة واحدة. ولا يكفي أن تُبنى بتوازن. بل أن تُقدَّم كما تُقدَّم الجملة في المسرح: بحضور وغياب، بإيماءة وظل. وهذا بالضبط ما تحاول أن تصنعه السينوغرافيا: أن تجعل الظهور فنا، والاختفاء فنا أعظم. السينوغرافيا في المسرح هي فنّ ترتيب الحضور والغياب، الإضاءة، الظل، الخلفية، الموضع. أي تقرر كيف يظهر الحدث، وكيف يُؤثِر غياب شيء ما! وكذلك في المدينة، ليست السينوغرافيا مجرد أعمدة إنارة، بل كيف تروي المدينة نفسها عبر الضوء. كيف تمشيك من لقطة إلى لقطة، من ظلّ إلى وهج، من ضيق إلى اتساع، كما لو كانت تتلو عليك نصا بلا صوت. في المدينة، كل كادر هو اختيار: ماذا أُظهِر؟ وماذا أُخفي؟ من أين يأتي الضوء؟ وعلى من يقع؟ وهل تُضاء الأشياء لتُرى؟ أم ليُنسى ما لا نريد رؤيته؟ الإضاءة ليست تقنية، بل إيقاع نفسي. الظل ليس نقصا، بل مسافة آمنة بيننا وبين كل ما هو واضح جدا.
أفلام أندريه تاركوفسكي فهمت هذا جيدا! في إضاءته، لا شيء يُسلَّط عليه الضوء مباشرة. ففي فيلم Nostalghia مثلا، الضوء لا يكشف، بل يتردد. يضيع في الضباب. وكأن المدينة تحلم بنفسها ولا تصدّق أنها موجودة. وكذلك في أفلام أنطونيوني، الإضاءة لا تُستخدم لإظهار التفاصيل، بل لإبراز ما لا يحدث. في فيلمه La Notte، الضوء باهت، ناعم، متردّد، كأنه تائه مثل الشخصيات نفسها. النوافذ مضاءة لكن فارغة. الشوارع ممتدة لكنها بلا وجهة. والمباني، مهما علت، لا تحتضن، بل تُبعد. أنطونيوني لا يخلق كادرات ليُري، بل ليسمح للمشاهد أن يضلّ. أن يتوه بين العمارة والعاطفة، بين المعنى والصمت. تماما كما تفعل بعض المدن. حين لا تُضاء لتُرحّب، بل لتؤكد أنك لست جزءا منها. حين يصبح الضوء باردا، والظل هشّا، وتصبح السينوغرافيا الحضرية مجرد ترتيب لعناصر لا تحكي شيئا، بل تملأ الصمت فقط. ربما لهذا، حين غنّى عبد الحليم حافظ "ضي القناديل والشارع الطويل"، لم يكن يُنشد للشارع فقط، بل لسينوغرافيا حضرية مفقودة الآن: ضوء خافت يكفي للبوح، وظلٌّ يسمح بالندم، وشارعٌ لا يُطلب منه أن ينقل الناس بسرعة، بل أن يُمهّد للغرام، وللانكسار، وللسؤال. يقول: "يا شارع الضباب مشيتك أنا، مره بالعذاب ومره بالهنا…" هنا، لا يُقاس الشارع بالأمتار، بل بالحالة. ولا تُقاس الإضاءة بالواط، بل بقدرتها على خلق مقام شعوري يسمح لاثنين أن يقولوا شيئا لم يقل من قبل. بعض الأماكن، كشارع عبد الحليم الذي يتهادى في ضوء القناديل، تقول لك، وكأنها تحبك: "احكِ لي." والبعض الآخر، حين يستقبلك، يقول لك: "برّر وجودك." ولو طرنا من ذلك الشارع الطويل الذي يمشي على أطراف الضوء نحو الفيفث افينيو في نيويورك لسمعنا صوت فرانك سيناترا هذه المرة: "If I can make it there, I’ll make it anywhere" نشيد استعراضي لمدينة لا تُعاش، بل تُؤدى. لا تُسكن، بل تُغزَى كمنصة طموح. نيويورك هنا ليست مقاما، بل ميدانا. الشارع فيها لا يدعوك للتباطؤ، بل يختبر قدرتك على البقاء. هو ليس فراغًا عاطفيا كما في أغنية حليم، بل اختبار مستمر للصعود أو الاختفاء.
وهناك مدن، لا ندخلها بالسفر، بل بالأغنية. كما فعل Ray Charles حين غنّى “Georgia on My Mind”. لم تكن جورجيا فقط ولاية أمريكية، بل صفحة من ماضيه الممزّق. فقد كان ممنوعا عليه دخولها في مرحلة ما بسبب قوانين الفصل العنصري، ثم عاد إليها لاحقا وغنّى لها. غنّى عنها، كأن صوته اخترق الجغرافيا، وأعاد تشكيل المدينة كذاكرة قابلة للعفو، لا كقانون. أغنية تحوّلت إلى اعتراف حضري: أن المدن لا تُفهم بالخريطة، بل بالندبة. ولا تُستعاد بالبناء، بل بالاعتراف.
في كتاب كالفينو، يقال أنك "حين تصل إلى إيرين، تشكّ أنك كنت هناك من قبل. أو أنك لم تغادر المدينة السابقة، بل تغيّر فقط الضوء. فهي مدينة لا تُعرَّف. ولا يمكن رؤيتها إلا لحظة الوصول. وحين تغادر، لا يمكنك وصفها دون أن تخطئ." يا لها من مدينة! مدينة لا تُعرّف، ولا تُحدّد بخط بناء! بل تتردّد في الرأس كاحتمال. وكأن ذلك ما كُتب إلا ليقول لنا أن أجمل المدن هي تلك التي لا تُرسم على الورق. قد لا تقنع فوكو، ولا تُرضي جاكوبز، ولا تُغري كولهاس. ومع ذلك قد تبقى، ببساطة، شارعا ينتظر أن تُروى حدّوتته، دون أن تُغلقها نقطة.
وربما، لن تكون هناك في المستقبل مدن كما نعرفها اليوم أصلا. فلربما تنهار سلطة ما، وينسحب المركز، ويولد شكل آخر من الحياة! أقل أناقة، أقل تحكماً، لكن أكثر صدقا. ربما المستقبل لا يخبئ لنا مدينة ذكية، بل مدينة صامتة، تتركك تكمل الجملة بنفسك. مدينة لا تقول لك من أنت، بل تسألك: "هل ترغب في البقاء؟" ثم تصمت. وهذا كل ما نحتاجه أحيانا: أن نُسأل عن شيء كهذا! أن نجد في الزقاق مقاما، وفي اللافتة تلميحا، وفي الظلّ حكاية مؤجلة.
وفي النهاية، كثيرون، ومن أزمان متباعدة، افتتنوا بالمدينة وحاولوا فهم إيقاعها. منهم من رأى أن المدينة لا تُبنى بالمسطرة، بل تُرتّب كما تُرتّب عناصر لوحة كلاسيكية. مثل كاميلو سيتي. الساحة عنده ليست "عنصر تنظيم"، بل فراغا يتسع لظلّ عابر، لمصافحة، أو نظرة مرتجلة. ومنهم من آثر أن يتذكر على أن يخطط، مثل ألدو روسي، الذي رأى في المدينة دفترا قديما، وكل مبنى فيه يشبه سطرا محذوفا من قصة لم تُكمل. ومنهم من كان مشغولا بالكادر، بتسلسل المشهد، بالانكشاف التدريجي للمدينة كما لو كانت شريطا سينمائيا. مثل غوردون كولين. والمدينة عنده لا تُرى دفعة واحدة، بل تُكتشف كما يُكتشف وجهٌ قديم في ضوء متقطّع.
لم يقدّم أي منهم جوابا حاسماً بل كانت لكل منهم، كما لغيرهم، مقاربة فاتنة ما، يمكن أن تلهم أحدا ما في زمن آخر، تماما كما فعل كالفينو في كتابه. مضوا جميعا وتركوا المدينة مفتوحة، كصفحة لا تزال تُكتب. أو كزقاق لا نعرف إلى أين يؤدي، لكننا نأمل أنه يعرفنا.
https://binabdelqader.com/
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
-
خطة الله في غزة
-
سأم مع سبق الإصرار
-
غزة: مشهد إضافي
-
كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 7
المزيد.....
-
ترامب عن آخر جولة للمحادثات مع إيران: -هناك فرصة ولا أريد سق
...
-
اجتماع في مدريد بشأن الوضع بغزة بمشاركة 20 دولة أوروبية وعرب
...
-
مصادر طبية ومحلية: عشرات الشهداء والجرحى في مجزرة ارتكبتها إ
...
-
وزيرة الأمن الداخلي الأمريكية تزور إسرائيل وتؤكد دعم واشنطن
...
-
حكومة نتنياهو توجه تحذيرا لبريطانيا وفرنسا
-
وزير الخارجية التركي يزور موسكو للقاء لافروف وبحث مجموعة واس
...
-
طهران تدرس مقترحا عمانيا بشأن المحادثات مع واشنطن
-
ما سر أداء برشلونة الرائع أمام بلباو في ختام الدوري الإسباني
...
-
عاجل| 19 شهيدا في قصف استهدف مدرسة تؤوي نازحين في حي الدرج ب
...
-
شاهد.. قطيع من الأغنام يقطع الطريق أمام السيارات الرياضية ال
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|