|
أعرب هذا المبنى (خارج الإدراك، داخل الاشتقاق)
محمد عبد القادر الفار
كاتب في الفضاء والمعنى
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8358 - 2025 / 5 / 30 - 23:59
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كان الشكل هناك قبل أن يكون الاسم.
نقطة على الرمل ثم قوس ثم خط مستقيم يشق الأفق بلا سبب.
لم نكن قد نطقنا بعد. لكن يدا ما كانت تكرر وتعيد وتحوّر وتعدل وتبتكر عبر الاستمرار. وكأن العمارة وجدت لا لتفهم بل لتركب تركيبا، كما يركب الطفل كلماته الأولى أو كما يرتب الغريب أنفاسه في لهجة لا يتقنها.
لا شيء في المبنى يقال مباشرة. هو لا يتكلم لكنه يكرر. وكل تكرار هو تشكيك في الأصل. وكل تحوير هو تصريح بوجود نحو grammar خفي يحكم الشكل، دون أن يصرّح عن نفسه.
لذلك لا نصغي إلى العمارة كم يصغي إلى حكاية فقط، بل نقرأها كمن يفك شيفرة، لا بحثا عن المعنى، بل عن القواعد أولا!
فما هي قواعد الشكل؟
ليست قواعد الشكل نظرية بالمفهوم المألوف، بل أشبه بماكينة نحوية للشكل. نحوٌ لا يتعامل مع الكلمات، بل مع الكتل والمحاور و والزوايا. وقد وُلد هذا المفهوم أول مرة في السبعينيات، في ورقة تأسيسية وضعها George Stiny جورج ستيني وJames Gips جيمس جيبس حيث اقترحا أن الشكل في التصميم يمكن أن يعالَج مثل الجملة في اللغة، عبر وحدات بنيوية وقواعد إنتاجية. لم تكن الفكرة مجرد تحليل هندسي بل كانت فتحا لغويا داخل الحقل البصري، إذا قدما إطارا يمكن من خلاله توليد أشكال جديدة، وتفسير الأنماط المعمارية وفق قواعد تركيبية صارمة ومرنة في نفس الوقت. إذا يمكن القول أن الأمر بدأ من هنا: وحدات أولية وقواعد إنتاج وتراكيب تتضاعف عبر التكرار.
وبينما ولد هذا الطرح في سياق رياضي وفلسفي لتحليل الأنماط البصرية، سرعان ما التقطه المعماريون كأداة قادرة على تنظيم التكوين وتحويله من سلسلة قرارات إلى سلسلة قواعد وبالتالي الوصول إلى فهم أكبر للتكوينات المعمارية وتوليد تصاميم جديدة أيضا عبر عمليات تحوير متسلسلة تستند إلى منطق شكلي صارم.
فكما أن اللغة تنتقل من الجذر إلى الاشتقاق، فإن التكوين المعماري، وفق قواعد الشكل، ينتقل من النواة إلى التشكيل بواسطة عمليات إنتاج (production rules) تشمل التكرار والانعكاس والتوسع والحذف والإزاحة والتحوير.
والمذهل هو أن هذه القواعد يمكنها محاكاة أنماط معمارية تقليدية بالكامل، أو توليد أنماط جديدة لا علاقة لها بالموروث. وهكذا، تصبح قواعد الشكل جسرا بين التحليل والتصميم، وبين التفكيك والبناء، وبين القراءة والكتابة.
هذا النمط من الاشتقاق البنيوي لا يقتصر على العمارة وحدها. ففي الفن المفاهيمي مثلا شكل Sol LeWitt أحد أبرز من استخدموا هذه المقاربة، إذ لم يكن يرسم الجدران بنفسه، بل يكتب تعليمات محددة لإنجاز أعماله الجدارية، ويترك التنفيذ لفنانين آخرين. وبذلك تصبح القاعدة هي العمل الفني الحقيقي، بينما تتوزع النتائج بتنوع التأويلات.
هذا النموذج يقدم حالة فنية موازية لقواعد الشكل المعمارية حيث لا تكون القيمة في الشكل النهائي بقدر ما تكمن في المنهج الذي استق منه، وفي القابلية غير المنتهية للتركيب.
وفي جزيرة هرمز، على ضفة منسية من الجغرافيا الإيرانية، نبتت مئتا قبة ترابية كأنها فقاعات زمن طافية، أو سطر من لغة بدائية لم تفك رموزها بعد. لا توجد واجهات تقليدية ولا أبواب تزهو بأهميتها، بل فقط عناصر متكررة تشبه بعضها ولا تتطابق. إنها القباب التي كونت مشروع Majara Residence الذي أنجزته ZAV Architects سنة 2020 مستخدمين تقنية Superadobe (وهي أسلوب بنائي طوره المعماري الإيراني الأمريكي نادر خليلي يقوم على رص أكياس مملوءة بالتربة كما لو كانت خرزا، وتستخدم لبناء القباب بطريقة عضوية ومنخفضة التكلفة) وموزعين الفراغات كما لو أن المعجم المعماري انقسم إلى مقاطع صوتية ثم أعيد تركيبه.
لكن ما يبدو عشوائيا للعين السطحية يخفي نظاما صارما لا يحمه المخطط التفصيلي، بل قواعد إنتاج، تبدأ من وحدة شكلية بسيطة: قبة ترابية بأبعاد محددة، ثم تتكرر وتتحور وتتضاعف، كما تتكاثر الكلمات داخل نحو غير منطوق. وفي هذا المشروع لا يمكن القول بأن المعماري قام بتصميم كل قبة على حدا، بل قام بوضع القاعدة، وترك العمارة تكمل نفسها. هنا تتحول يد المصمم إلى يد نحوي: لا يكتب الجملة كاملة، بل يكتب قاعدتها فقط، ويترك الباقي للتوليد.
وبهذا المعنى فإن Majara ليست مبنى، بل جملة مفتوحة لا تنتهي عند آخر قبة. لأن ما يُرى هو فقط نتيجة مرئية لقواعد تركيبية كامنة، يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. العمارة هنا لا تُقرأ كما نقرأ مبنى، بل كما نقرأ بنية: علاقة بين عناصر، وسلسلة من الاشتقاقات الشكلية. وهذه بالضبط هي الفكرة الجوهرية التي اقترحها مفهوم قواعد الشكل (Shape Grammars): أن المبنى ليس بالضرورة هو الهدف، بل الهدف هو القاعدة التي ولد منها المبنى، والقادرة على أن تلد غيره!
وهذا التصور لا يبتعد كثيرا عم ما اقترحه كريستوفر ألكساندر Christopher Alexander في عمله الشهير A Pattern Language حين رأى أن العمارة ليست مجرد هياكل منفردة بل نظام لغوي حي تبنى فيه البيوت والساحات والأبواب كأنها كلمات تنتمي إلى لغة نمطية تمتد عبر الثقافات. لكن بينما ركز الكساندر على المعنى الاجتماعي والنفسي للأنماط، جاءت قواعد الشكل Shape grammar لتعيد ترتيب العلاقة من الداخل: من البنية إلى التكوين ومن الشكل إلى التوليد.
وفي الحالتين يظل السؤال الأهم: كيف تُبنى الوحدة؟ وما الذي يجعل شكلا ما صالحا للتكرار والاشتقاق بينما يظل غيره جامدا، خارج النحو؟
لعل الإجابة تبدأ حين تدرك أن ما انطبق على Majara لم يكن استثناء بل نمطا!
Majara ليست حالة معزولة. فما كشفه هذا المشروع لا يتعلق بتصميم قباب ترابية أو توزيعها على الأرض، بل بطريقة النظر نفسها: أن لا نرى الجدار كحد، بل كفاعل داخل علاقة. وأن لا نقرأ القبة كمأوى، بل كوحدة نحوية داخل جملة مكانية أكبر. وهذا يصبح ممكنا حين نعيد فهم المبنى لا ككتلة منفصلة بل كبنية تركيبية تتكون من عناصر وشروط وتُفهم من خلال ما يربطها أكثر مما يحدها. وحين نبدأ برؤية العمارة لا كحضور مادي بل كتركيب لغوي، فإن كل مبنى يصبح احتمالا ضمن بنية أكبر: سلسلة من الاشتقاقات الشكلية تبدأ من وحدة أولى، شكل بدائي أو قالب متكرر، وتنمو بتأثير قواعد تركيبية محددة. وهذا تماما ما تقترحه قواعد الشكل حين ترفض أن يكون الشكل ناتجا تلقائيا عن المادة أو الوظيفة بل تجعله نتيجة مباشرة لقانون إنتاجي يشبه قواعد النحو في اللغة لكنه يتعامل مع الفراغات والكتل بدلا من الكلمات والجمل.
في مشروع Majara تحولت العمارة إلى لغة حية بالفعل، لا تُروى بل يُعاد إنتاجها، ولا تُدرَّس كأثر بل تُمارَس كقواعد. وهنا تتشكف قدرة قواعد الشكل على العمل في المسافة بين التحليل والتصميم، بين استحضار البنية الأصلية وتوليد بنى جديدة تنتمي إليها دون أن تكررها. فهي ليست أدوات استنساخ بل أدوات اشتقاق تحمل في طياتها وعدا بأن يكون بكل مبنى ماض ومستقبل محتمل!
كما في الموسيقى، حيت تُعاد كتابة لحن كلاسيكي داخل جنرا جديدة، لا ليُنسخ بل ليُعاد تشكيله. فمثلا في أغنية Daydream لفرقة Wallace Collection في أواخر الستينيات، توليفة سايكيديليك Psychedelic حالمة بنيت على لحن بحيرة البجع لتشايكوفسكي. تم تقديم لحن قديم في نسيج جديد ليخرج العمل وكأنه ابن شرعي لكليهما: الأصل والابتكار. والعمارة حين تبنى بمنطق قواعد الشكل shape grammars تفعل الشيء نفسه: تعيد قول ما سبق قوله ولكن بتركيبة لغوية جديدة.
وهذا يتقاطع مع ما اقترحه لودفيغ فتغنشتاين في فلسفة اللغة، حين رأى أن المعنى لا يُستخرج من المفردة بحد ذاتها بل من موضعها داخل الاستعمال. كذلك فإن القبة أو الجدار لا يحملان دلالة ثابتة، بل يكتسبان معناهما من علاقتهما بما حولهما ومن القاعدة التي سمحت بوجودهما داخل البنية.
هذا النوع من التكرار التركيبي، حيث يُعاد تشكيل العنصر ذاته ضمن بنية واحدة مع تغييرات طفيفة في موضعه أو علاقاته، يذكرنا بتجربة فيلم Last year at Marienbad حيث يُعاد نفس المشهد مرات عدة، لكن مع تغيرات طفيفة في الإضاءة، ترتيب الحركات، زاوية الكاميرا، وحتى وقع الكلمات. المشهد هو نفسه، لكن الإدراك يتبدل، والتكرار لا يولّد التكرار بل انزياحا داخليا في الذاكرة. وكأننا أمام معمار سردي تعاد صياغته بنفس القواعد كل مرة دون أن يتكرر فعلا. وهذا ما تفعله بعض المشاريع المعمارية حين تعمل على الاختلاف داخل التكرار، فتمنح العين صورة مألوفة، لكن دون أن تمنحها يقين التكرار. لأن الوحدات ذاتها حين يعاد ترتيبها تولّد فراغا جديدا وشعورا مختلفا حتى لو لم تتغير مادته.
على نحو مختلف، يأخذنا فيلم Meshes of the Afternoon لMaya Deren إلى تجربة أخرى من التكرار، حيث لا يكون المشهد فقط قابلا للإعادة، بل للإرباك الحسي والاختلاط الزمني. فالمخرجة لم تستخدم التكرار لتأكيد الإيقاع، بل لتفكيك المعنى. وكل مرة يعاد فيها المشهد، يتغير شيء صغير: موقع المفتاح، حركة اليد، زاوية السّلّم، وكأننا في حلم يتكرر دون أن نستيقظ منه. هذا النوع من التكرار يشبه في العمارة ما تفعله بعض التراكيب حين تبى لتربك، لتعيد ترتيب وعينا بالمكان، لا لتستقر فيه!
العمارة من هذا المنظور لا تصمَّم كم تخاط الثياب بل كما تركَّب الجمل. كل شكل فيها لا يتم اختياره بذاته، بل لأن القاعدة التي سبقته سمحت بوجوده ومنحته موقعا داخل السياق. الشكل هنا ليس مظهرا بل نتيجة. ولأنه نتيجة، فهو قابل للولدة من جديد كلما أعيد تطبيق القاعدة في سياق مختلف. وهذا ما يجعل من التكوين المعماري لغة حقيقية لها وحداتها الأولية وصيغها وقواعدها وحتى أعرافها التداولية التي تتحكم بما هو مقبول وما هو منحرف.
لكن الغواية في قواعد الشكل لا تكمن في قدرتها على تفسير التكوين، بل في قدرتها على التوليد. فهي لا تكتفي بأن تقرأ الشكل كما هو، بل تقدم مفاتيح لإنتاج أشكال جديدة انطلاقا من الجذور نفسها. ولهذا تصبح النظرية في آن واحد أداة قراءة وأداة كتابة، تفكك التاريخ لتعيد تأليفه، وتقلد التقليد لا لتكراره بل لتفجير احتمالاته، وكأنها تقول: ليس المهم ما تم بناؤه، بل ما كان يمكن أن يبنى لو اتبعت نفس القاعدة بمنطق مختلف.
وقواعد الشكل لا تستخدم فقط لإنتاج ما لم يبن بعد، بل لقراءة ما بني فعلا ولتفكيك البنى القائمة كما يفكك الغوي بيتا شعريا ليفهم وزنه الخفي. وهنا يظهر مشروع ناصر خسرو في قلب طهران، لا بوصفه مبنى بعينه بل بوصفه شريطا حضريا يضج بالواجهات الموروثة التي توحي بتكرار. لكنه تكرار غير ميكانيكي. وتُراكم الزخارف دون أن تفقد التركيب. وتنادي بالذاكرة دون أن تغرق في الحنين.
وفي دراسة تحليلية لبثينة حسن العيلوتي نشرت سنة 2019، استخدمت قواعد الشكل لفهم هذه واجهات معمارية إسلامية قائمة وتفكيك بنيتها الشكلية وصولا إلى توليد بدائل مقترحة لا تقلد التاريخ بل تحوره. والنهج في الدراسة كان واضحا: البدء بوحدات واجهية بسيطة (قوس، نافذة، مشربية) ثم إعادة تركيبها بناء على قواعد اشتقاق تسمح بالتحوير والتكرار والانزياح تماما كما يفعل شاعر حين يعيد بناء بيت شعري من نفس القافية لكنه يحمّله معنى جديدا. أو كما يفعل ستيف رايش Steve Reich (المعروف عربيا باسم رايخ) في مؤلفاته الموسيقية، حيث تتكرر الجملة النغمية الواحدة مرات ومرات، وكأنه تكرار طقوسي، لكن بانزياحات دقيقة تجعل التكرار ذاته أداة توليد، والتشابه أداة تغيير. فالتكرار هنا لا يعني الجمود، بل هو شكل آخر من الحركة. وهكذا لا تعود الواجهة عنصرا زخرفيا ولا أثرا متحفيا بل نظاما توليديا يتفاعل مع السياق العمراني ويقترح امتدادات حديثة تتناغم مع اللسان المحلي دون أن تعيد تمثيله تمثيلا جامدا.
وقد فصّلت هذه الدراسة التي قامت بها بثينة العيلوتي التي حملت عنوان Shape Grammars as a Reverse Engineering Method for the Morphogenesis of Architectural Facade Design في هذا الانتقال المزدوج، حيث استعرضت قدرات قواعد الشكل على العمل في اتجاهين متعاكسين: تحليل البنة القائمة عبر تفكيكها إلى قواعد، وتوليد تكوينات جديدة انطلاقا من القواعد نفسها، مما يجعل النظرية أداة تحليل وتأليف في آن واحد.
إن قواعد الشكل لم تكن يوما مجرد خيال نظري. لقد ولدت من تحليل صارم أحد أبرز أمثلته ما قام به George Stiny و William Mitchell حين قاما بتحويل تصاميم Andrea Palladio إلى مجموعة من القواعد التوليدية. ففي دراستهما The Palladian Grammar الصادرة سنة 1978 لم ينظرا إلى فلل بالاديو كتحف كلاسيكية بل كنظام لغوي يمكن توليده. فاستخدما تقنيات تشبه الإعراب في النحو، وحددا عناصر التماثل، ومراكز المحاور، وتقسيمات المسقط، ثم قاما بتحويل كل ذلك إلى قواعد اشتقاقية تسمح بإنتاج فلل جديدة تلتزم بروح بالاديو دون أن تكون مجرد نسخ. وكهذا لم تعد الفيلا كائنا فرديا، بل نتيجة لقواعد يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها.
وهذا النموذج لم يكن الوحيد، بل تكررت المحاولات التي تسعى إلى تحويل العمارة من ممارسة حسية إلى نحو مرئي، كما في دراسة بثينة العيلوتي التي أشرت إليها قبل قليل، حيث لا تتم مقاربة العنصر الزخرفي ككائن معزول بل كجزء من بنية نحوية خفية. كل قوس ونقش يصبح عنصرا قابلا للاشتقاق وكل واجهة تتحول إلى جملة معمارية ذات قواعد قابلة للتكرار والانزياح.
ولعل من الأمثلة العميقة الأخرى التي تبرز هذا الفهم التركيبي ما نجده في العمارة اليابانية التقليدية، حيث لا تبنى المباني لوصفها كتلا مستقلة، بل تنسج وفق نظام معياري يعرف بال كن Ken وهي وحدة قياس مكانية تنظم كل شيء، من أبعاد الغرف إلى المسافات بين الأعمدة. هذا النظام الذي وجدت منذ قرون لم يكن مجرد وسيلة ضبط هندسي بل كان بمثابة نحو خفي للتصميم. فكما تشتق الجملة في اللغة من قواعد ثابتة، كانت الفضاءات اليابانية تشتق من وحدة أولى يعاد تركيبها مرارا وفق قواعد صارمة تضمن التناسب والتناغم والوظيفة. وهذا يجعل من كن ken ليس مجرد موديول module معماري فحسب بل قاعدة اشتقاقية تتكامل مع البيئة والفكر الياباني بما فيه من طقوس تأمل وزن، فيتم تحويل البناء إلى فعل تأملي لا يقل طقوسية عن الشعر أو الخط.
يمكن أيضا العثور على تطبيقات قواعد الشكل في العمارة الكلاسيكية الإغريقية، وبخاصة المعابد اليونانية، التي لطالما اعتبرت نماذج مثالية للتناسق والنسب. والدراسات التي قاربت هذه المعابد من منظور توليدي لم تعد تنظر إلى الأعمدة والتيجان كعناصر زخرفية بل كأجزاء قابلة للاشتقاق من قواعد تركيبية تتحكم في توزيع الرواق، عدد الأعمدة، المسافات الفاصلة، ونسبة الارتفاع إلى العرض. هنا تتحول البنية الكلاسيكية من منجز نهائي إلى سلسلة من القرارات النحوية التي يمكن توليدها وفق منطق محدد، مما يفسر التشابه العميق بين المعابد، رغم اختلاف مواقعها ووظائفها.
وفي سياق مختلف زمنيا وثقافيا يمكن النظر إلى بعض المساجد العثمانية بوصفها أيضا نتاجا لقواعد شكلية. فالمسجد العثماني الكلاسيكي، كما يظهر في أعمال سنان مثل مسجد السليمانية، لم يكن فقط تكرارا لشكل القبة المركزية، بل اشتقاقا مستمرا لمبدأ توليدي يقوم على مركزية الفراغ، والتوازن بين الكتلة والضوء، والتدرج في الإيقاع البنائي من الداخل إلى الخارج. لذا فلعل بنية هذه المساجد يمكن فش شفرتها من خلال قواعد نحوية تعيد إنتاج نفس اللغة المعمارية وتمنحها القدرة على التكيف مع الموقع والبرنامج والرمزية، دون أن تفقدها طابعه الروحي المتناسق.
وقد لا يبتعد هذا المنظور كثيرا عن فهم فيرديناند دي سوسير للغة كنظام تفاضلي، حيث لا تُعرّف الكلمات بذاتها، بل باختلافها عما سواها. كذلك فإن الوحدة الشكلية في العمارة لا تستمد معناها من ذاتها، بل من تباينها وتكرارها وتحويرها داخل نسق توليدي!
لكن قواعد الشكل، رغم ولادتها داخل مختبرات التحليل المعماري، لا تنتمي إلى الماضي وحده ولا تستخدم فقط لتفكيك التراث أو إعادة تركيب السياقات المحلية. فهي بطبيعتها التركيبية قادرة على التسلل إلى أعماق العمارة الحديثة أيضا، حتى في أكثر أشكالها انسيابا وتجريدا. فإذا كانت Majara قد بينت لنا كيف يمكن للتكرار المحسوب أن يولّد مشروعا حيا من التربة نفسها، وإذا كان شارع ناصر خسرو قد أظهر كيف يمكن تفكيك التقاليد إلى قواعد واستنطاقها بلغة معاصر، فهناك أيضا على الجانب الآخر عمارة لا تتكئ على الذاكرة إطلاقا بل تستلهم العمليات الطبيعية وتركب الشكل كأنها تحاكي جريان الماء أو تنامي الخلايا.
في مركز ريتشارد جيلدر للعلوم والتعليم والابتكار، الذي أنجزه Studio Gang عام 2023 في نيويورك، لا نجد الواجهة كعنصر مستقل بل ككائن حي يتنفس عبر الانحناءات ويتمدد بليونة تذكرينا بتكوينات جيولوجية أو أنسجة عضوية. وللوهلة الأولى يبدو الشكل منفلتا من كل قيد كما لو أنه نتاج حدس صرف أو نتيجة مباشرة لمحاكاة رقمية خالية من النحو. لكن القراءة المتأنية تكشف عن شيء آخر: بنية داخلية قائمة على التكرار والتحوير وعن قواعد تكوينية خفية تحكم الانتقالات الشكلية بين الفراغات وتربط بين التفاصيل الدقيقة والانحناءات الكبرى كما تربط القواعد اللغوية بين المفردة والسياق.
وهذا النوع من التوليد الشكلاني، الذي ينطلق من عمليات شكلية خالصة لا تعتمد على نمط مسبق، يلتقي مع ما اقترحه Karl Chu، أستاذ العمارة في معهد برات (Pratt institute)، في تنظيراته حول العمارة الخوارزمية generative algorithmic design، حيث لا يكون التصميم نتيجة اختيار شكلي، بل نتيجة لعمليات حسابية تتكاثر مثل الجينات، وتعيد تعريف العمارة كبنية ديناميكية قابلة للولادة المستمرة.
هنا لا يبدأ المعماري من نمط تراثي ولا من موتيف أو وحدة زخرفية مألوفة بل من شكل أولي لا اسم به بعد، ثم يبني عليه ويشتق منه ويعيد تشكيله عبر سلسلة من التحويرات التدريجية، كما لو انه يكتب جملة نحتية لا تتكرر فيها الكلمة، لكنها تتبع وزنا مشتركا. وما يثير الإعجاب في هذا المبنى ليس فقط الجمال الناتج بل قدرة التكوين على أن يبدو تلقائيا رغم أنه مبني على نظام داخلي دقيق. كأنما التصميم لا يُصاغ بل ينبت! وهو في نفس الوقت، ورغم مولده الخوارزمي، لا يبدو باردا أو صناعيا، بل يحتفظ بقدرة نادرة على إثارة الحواس، كأنه يجمع بين الصرامة البنيوية والحدس!
وهكذا نجد أن قواعد الشكل Shape Grammar لا تنتمي بالضرورة إلى الزخرفة ولا إلى التقليد بل يمكن أن تعمل داخل العمارة العضوية المعقدة والرقمية حيث يكون الشكل أكثر من مظهر. يكون عملية process. والمصمم في هذه الحالة لا يرسم الشكل النهائي بل يكتب قانونه ويترك للتكوين أن ينمو.
لكن السؤال الأهم لا يتعلق بما يمكن لقواعد الشكل أن تفعله، بل بما يمكنها أن تمنه. ففي لحظة ما، حين تصبح القاعدة مُلزمة لا ممكنة تنقلب الأداة إلى إطار والإطار إلى قيد. ويبدأ المعماري بالتصميم داخل النظام لا خارجه. وهنا تظهر المفارقة: فالمنهج الذي ولد ليحرر الشكل من العشوائية قد يتحول إلى وصفة صارمة تنتج الاختلاف وفق معادلات مكررة وتخفي الرتابة تحت قناع التنويع. لأن التكرار حين لا يصاحبه وعي يعيد إنتاج الذات بل أن يفتح أبوابها.
وقد سبق للمعماري البريطاني نيل ليتش Neil Leach أن حذر من هذا التحييد البنيوي للشكل، حين رأى أن بعض اتجاهات العمارة الرقمية تفرغ الفعل المعماري من مضمونه الإنساني والتأويلي وتحصره في عملية محسابية مفرغة من المعنى. والتفكيك، كما يراه ليتش، لا يعني فقط كسر الشكل، بل كشف البنية التي تنتجه، وفضح السلطة التي تختبئ خلف القاعدة. وهنا يتقاطع نقده مع أحد أهم أسئلة قواعد الشكل: من الذي يضع القاعدة؟ ولماذا تصبح بعض القواعد أكثر شرعية من غيرها؟
لكن هذا النقد لا يلغي القدرة المدهشة التي تتيحها القواعد، بل يذكرنا بأن القاعدة ليست محايدة، وأن على المعماري أن يعي منطقها كما يعي جمالها. فقواعد الشكل Shape grammar، ورغم كل المحاذير، تبقى من أجرأ ما اقترحته العمارة الحديثة: فكرة أن الجمال لا يؤلف فقط بالعين بل بالعقل. وأن المعنى يمكن أن يكون نتيجة اشتقاق لا مصدر إلهام فقط. بل ربما في زمن طغى فيه السطح على العمق والشكل على المنطق تصبح العودة إلى القاعدة، لا بوصفها سلطة بل بوصفها اقتراحا، ضرورة لا رفاهية. لا لأننا نبحث عن نظام، بل لأننا نبحث عن معنى، عن لحظة نطمئن فيها إلى أن ما نراه لم يخلق بالصدفة، بل بخيط من منطق داخلي، لا يقال، بل يكتشف.
وهذا ما يتقاطع مع أطروحات عدد من المنظرين المعماريين المعاصرين، خصوصا أولئك الذين اشتبكوا مع نظريات النظم المعقدة complex systems theory والديناميكيات غير الخطية مثل Manuel DeLanda و Sanford Kwinter و Michael Weinstock وJohn Frazer وغيرهم، حيث لا يُفهم الشكل بوصفه نتيجة قاعدة تصميمية مغلقة بل ككائن ديناميكي يتموضع داخل حقل قوى نشط تتادخل فيه المادة مع الزمن، والسياق مع الحدث، والتكوين مع الاحتمال. وفي هذا التصور لا يكون الشكل ناتجا، بل حالة مؤقتة ضمن سلسلة من التفاعلات المستمرة، أشبه بما يظهر في الطبيعة الحية: لا خط مستقيم، ولا مركز ثابت، بل نشوء Emergence وتكيف Adaptation واستجابة Feedback. كما تنشأ أنماط جناح الفراشة من عمليات خلوية لا مركزية تنتج بل من تواطؤ عضوي بين الإشارة والاستجابة. وهكذا يغدو الشكل المعماري أشبه بكائن حي: ينبض، يتكيف، ويتغير، لا بفعل قانون مسبق، بل بفعل بيئته.
ولعل هذا ما يجمع بين القباب الطينية في جزيرة هرمز والواجهات المحفورة في قلب طهران والانحناءات العضوية في نيويورك: أنها جميعا، رغم اختلافها الشكلي والزماني، تنبع من إيمان خفي بأن الشكل ليس مجرد خيار، بل جملة، والجملة مهما بدت حرة، لا تكتمل دون نحو.
وفي النهاية، ليست قواعد الشكل مجرد أداة تصميم ولا حتى نظرية معمارية فحسب، بل اقتراح لطريقة في فهم الوجود نفسه: أن نرى التكرار لا كملل بل كإيقاع، وأن نرى الشكل لا كقناع، بل كبنية تحتية للمعنى. فالمعماري حين يعمل وفق قواعد، لا يقيد خياله، بل يمده بسياق، ويضع لنفسه وزنا يشبه وزن الشعر، يقاوم الانفلات ليصنع المفاجأة. وبينما يعيد بناء الوحدات لا يكرر فحسب بل يجيد العزف على تباين التكرار. وهذا يذكر بما قاله رولاند بارت عن النص المفتوح: أنه ليس وحدة مغلقة: بل حقل للتأويل المستمر، يعاد إنتاجه مع كل قراءة. وكذلك هي العمارة حين تبنى بقواعد شكل. لا تفرض المعنى بل تفتحه، وتترك للعين أن تكمل الجملة.
فالقبة لا تهمنا بقدر ما يهمنا السبب الذي جعلها تتكرر. ولا يهمنا الخط المنحني إلا لأنه لم ينحن عبثا. وما يهم فعلا هو الشعور بأن ما نراه، بسيطا كان أو معقدا، لم يأت من لا شيء، بل من قاعدة، من منطق، من نحو معماري صامت يحكم حتى تلك المباني التي تبدو حرة كالسحاب.
وأحيانا يبلغ التكرار حده الأقصى حين يتجاوز وظيفته الشكلية إلى تجربة حسية كاملة. ففي غرف اللانهائية Infinity Rooms التي أنشأتها Yayoi Kusama لا تعود الجدران حدودا بل مرايا ولا تعود الأشكال مفصولة بل متكررة حد التلاشي. تتكرر النقاط، الألوان، الانعكاسات، لكن بانزياحات طفيفة تكفي لتجعل كل زيادة مختلفة. وهنا، كما في بعض المشاريع المعمارية، يصبح التكرار نفسه هو التجربة، والتكوين لا يقاس بأبعاده بل بقدرة الحواس على تحمله، وهو ما يجعل من الشكل طقسا إدراكيا ومن الإيقاع المعماري مانترا بصرية، تقال لا لإيصال معلومة بل لتوليد حضور!
وحين نمر من الآن فصاعدا أمام مبنى ما، ولا نفهم لماذا نشعر بالانجذاب نحوه، ربما نحتاج إلى قراءة أكثر هدوءا لأصله. كأننا نقرأ جملة مصاغة بقواعد لا مرئية، لا تُفهم من ظاهرها بل من بنيتها. وكأن الشكل حين يستقر فينا لا يطلب التصفيق بل أن نسعى إلى أن نعرف من أين أتى!
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
افتح الكتالوج (خارج اللعبة، داخل الخطة)
-
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
-
خطة الله في غزة
-
سأم مع سبق الإصرار
-
غزة: مشهد إضافي
-
كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
المزيد.....
-
صحيفة: بريطانيا تهتم بشراء طائرات أمريكية قادرة على حمل أسلح
...
-
الأورومتوسطي: الجيش الإسرائيلي يُكثف استخدام طائرات -كواد كو
...
-
استخباراتي أمريكي سابق: روسيا ستحقق أهدافها حتى لو رفضت أوكر
...
-
كييف تشعر بالقلق من هشاشة خطوط دفاعها في خاركوف وسومي
-
-الغارديان-: الاتحاد الأوروبي قد يؤجل تسليم الأصول الروسية إ
...
-
بريطانيا تخطط لبناء مصانع ذخيرة -لردع الأعداء بشكل أفضل-
-
-من أنت حتى تعرفها؟-.. برلماني أوكراني يرد على تصريحات زيلين
...
-
-نحن وإسرائيل لدينا أعداء مشتركون-.. رجل أعمال أمريكي ينشر م
...
-
السعودية.. مطار الملك عبد العزيز بجدة يحظر دخول 12 مادة للمم
...
-
مسؤول في -حماس- يعلق على انتقادات ويتكوف لرد الحركة على مقتر
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|