|
افتح الكتالوج (خارج اللعبة، داخل الخطة)
محمد عبد القادر الفار
كاتب في الفضاء والمعنى
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8356 - 2025 / 5 / 28 - 17:26
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لا شيء يبدو استثنائيا في البداية. أنا في سيارتي أسلك طريقا مألوفا. كوب قهوة بغطاء بلاستيكي، وزجاج أمامي يعكس سماء باهتة. لكن مع الانحناءة التالية، يتبدّل كل شيء. تنفتح الواجهة على خط أفق جديد، أبنية بزاويا مختلفة، ظلّ شجرة ممتد على الإسفلت، ومن سماعات السيارة يبدأ لحن Happy Together بالتصاعد: I can’t see me lovin’ nobody but you ثم تأتي جملة for all my life بالتزامن مع انفراج المشهد، كأنّ الصورة والموسيقى تواطأتا على خلق لحظة نادرة: لحظة يتقاطع فيها الخارج والداخل، الحنين والآن، عمّان وبرمنغهام. برمنغهام، حيث قضيت عاما أدرس التخطيط الحضري في 2015، ما زالت تحتفظ لنفسها بنغمة خاصة، تظهر فجأة كلما التقت عمّان بها على موجة موسيقية.
لا يمكن تسمية ما يحدث هنا، لكنه يشبه انتباها فجائيا بأنك في مدينة لا تعرفها تماما، رغم أنك عشتها ألف مرة.
ثمّ تتبدل الإشارة، تنطلق السيارة، وتدخل الموسيقى في إيقاع جديد. أغنية Good Vibrations بما تحتويه من تسارع غريب وتلاعب نغمي، كأنها تعبث بالجاذبية: I’m pickin’ up good vibrations She’s giving me excitations
في هذه اللحظة، لا تعود المدينة مجرد مشهد خارجي، بل تتحول إلى شاشة منفعلة. تتوهّج النوافذ، وتتحرّك الخطوط، ويصبح الشعور بالتنقّل أكثر عمقا من مجرد انتقال فيزيائي. كأنّ هناك ما يُعاد ترتيبه بينك وبين المكان، وبين ذاكرتك والصوت. لحظات كهذه تُشبه ما يسميه البعض narrative lift-offs، أو لحظات التحليق السردي: تلك القفزات الشعورية التي لا تتبع منطقا زمنيا، بل تولد من تواطؤٍ لحظي بين ما يُرى وما يُسمع، بين ما يُتذكّر وما يُعاش. أو يمكن أن تندرج ضمن ما يسمى affective transitions او ما يمكن وصفه بانزلاقات شعورية تنشأ من تفاعل الإيقاع السمعي مع التغيّر البصري، وتصنع فجأة نوعا من الانخطاف الإدراكي. لا هو تماما transcendence (ذلك التعالي الوجداني الذي يفصلنا عن اللحظة)، ولا هو nostalgia (الرجع العاطفي إلى زمن مضى)، بل حالةٌ بينهما: رقيقة، مؤقتة، لكنها صادقة جدا.
إن كل مدينة، في لحظةٍ ما، كانت خيالا خاما. مكانا لم تُكتشف حدوده بعد، ولا توقّعاته، ولا احتمالاته ولا حتى موقعه من الإعراب في الجملة الكبرى للتاريخ. لكن المدن اليوم، لا تولد على ذلك النحو. فهي لا تُنتظر لتتشكَّل، بل تُبرمَج لتتحقق.
صار كل شيء فيها مسبوقا بواجهة. كل فراغ يُرى كمُخرَج نهائيّ لعمليّة تصميم، وكل حيّ يُقرأ من خلال خطّ زمنيّ متسارع يسعى إلى تحقيق الفعالية لا الإقامة.
في السابق كان المصمم يتساءل: كيف نخلق حيّزا يُسكن؟ أما اليوم، فالسؤال أصبح: كيف نخلق حيّزا يعمل؟ حيزا ---------function---------al؟ يعمل على مستوى البيانات، السلوك، التفاعل، والرغبة.
المدينة لم تعد مشهدا نكتشفه، بل لوحة قيادة (Dashboard) نُراقَب ونُراقِب عبرها، ونُعيد تشكيل أنفسنا وفقا لها، وقبل أن نعي ذلك.
يجري حاليا تحويل الفضاء الحضري إلى واجهة رقمية تفاعلية، حيث يُعاد تعريف السلوك البشري كواحد من المدخلات inputs بحيث يُقاس، يُحلَّل، ويُعاد توجيهه. وأثناء ذلك، قد يسرنا أن نجد أبوابا تُفتح تلقائيا، وأضواء تستجيب لحركتنا، وأنظمة ذكية تدفئ الحجرة قبل أن ندخلها. وقد لا تكون المشكلة، إذا كان ثمة مشكلة، في المدينة الذكية نفسها أو في ذكائها بل في أن ذكاءها هذا أحادي. فهي تتقن الحوسبة ولا تجيد الحُلُم. تتحكّم، ولا تستضيف.
فإذا كانت الأنظمة الذكية ستدفئ الحجرة قبل أن ندخلها، فمن سيُدفئ المدينة نفسها؟ ومن يُذكّرها أنها لم تُبنَ لتُجيب، بل لتُنصِت؟
إن الزمن الحضري، في هذا السياق، لم يعد مجرّد نتيجة. بل أداةَ ضبط!
فبمجرّد دخولك المدينة المؤتمتة، يتغيّر إيقاعك: تُسرِع حين تتسارع إشارات المرور. تُبطئ حين يُفرَض عليك الانتظار. ويُعاد توجيه قراراتك اليومية عبر خوارزميات تعلمت منك أكثر مما تجرأت أنت أن تعترف به لنفسك. وهكذا، فالمدينة الحديثة، وبدلا من أن تكون مكانا نعيش فيه، تتحول إلى نظام يراقب كيف نعيش.
كل نقراتنا، خطواتنا، توقيت عبورنا من تقاطع، وربما حتى ضغطات المصعد. كلها تُحوَّل إلى بيانات. وكل بيانات، تُحوَّل إلى قرار. لكنه ليس قرارك. فالخوارزميات تُعيد تنظيم المدينة بصمت. تُقرر من يحتاج للإضاءة، من له أولوية العبور، متى يُنصَح بالخروج أو البقاء. ومدينة كهذه ليست ذكية بقدر ما هي مدينة تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك.
ومع الوقت، يبدأ المواطن يشعر أنه لم يعُد ساكنا في المدينة، بل مستخدِما لها. كما لو أن المدينة أصبحت واجهة تطبيق (interface)، وكما لو كانت هذه هي الملامح الأولية لعصر تجربة المستخدم الحضري Urban User Experience.
لكن، هنا يكمن السؤال الأخطر: هل وُجدت المدينة كي تكون سهلة الاستخدام؟ أم لأنها كانت دائما، ولا تزال، أكثر تعقيدا من أن تُختصر في واجهة؟
في كتابه الشهير The Design of Everyday Things، يؤكد دون نورمان أن التصميم الجيد لا يحتاج إلى شرح. أن الباب الجيد يُفهم دون تعليمات، وأن الزرّ الواضح لا يربكك بل يوجّهك بلطف. ومن هنا، نشأ ما يُعرف بتصميم يركز على المستخدم User-Centered Design. وقد انتقلت هذه الفلسفة من تصميم الأدوات المنزلية إلى الواجهات الرقمية ثم أخذت تتسلل ببطء إلى المدن. فأصبحت الأرصفة تُصمَّم بحسب تدفّق المارّة، والإشارات تضيء لا وفق القانون، بل وفق الاستشعار، والمكان يُقاس بمدى راحة استخدامه، لا بعمقه الشعوري، ولا بتاريخه، ولا حتى بإمكانية فقدانه.
ولكن حين نُعامل المدينة كجهاز ذكي، هل نصمّمها لتُسكن، أم لتُستخدم؟ وهل كل تحسين للراحة هو بالضرورة تعزيز للحياة؟
أحيانا، حين يُفرط المصمم في مراعاة المستخدم، يفقد المقام خصائصه، وتتحول المدينة إلى بيئة مفرطة التكيّف Over-Adapted Environment. كأنها لا تُربكك بشيء، لكنها لا تُدهشك بشيء أيضا. مدينة بلا مقاومة، بلا أسرار، بلا فجوات. بلا تلك اللحظات الصغيرة التي لا تُفهم، لكن تُحس.
حين أعلنت شركة Sidewalk Labs الذراع الحضرية لشركة Alphabet، الشركة الأم لغوغل عن مشروع Sidewalk Toronto عام 2017 بدا وكأنه طليعة لمستقبل المدينة الذكية: حيٌّ جديد بالكامل، يُعاد تخيله من الصفر، تتحكم فيه البيانات، تُراقب فيه الحركة والازدحام بأنظمة استشعار متقدمة، وتُعاد تهيئة الفراغات العامة بحسب التفاعل الفعلي للسكان.
كان الحلم واضحا: أن تُصمّم المدينة وكأنها Dashboard حيّ، لوحة تحكم للراحة، حيث لا مفاجآت، ولا هدر، ولا انتظار.
لكن شيئا ما أخاف سكان تورنتو! لم يكن الخوف من التكنولوجيا، بل من استبدال السياسة بالخوارزميات، ومن تقليص المدينة إلى تجربة مستخدم UX مثالية، لكن دون نَفَس.
احتج الناس، توقفت المفاوضات، وفي 2020، أُعلن رسميًا إلغاء المشروع. ليس لأنه فشل تقنيا، بل لأنه فشل في الإجابة عن سؤال بسيط: مدينة لمن؟ ولماذا؟
لكن ما لم تجرؤ تورنتو على تنفيذه، كانت كوريا الجنوبية قد شرعت في اختباره فعليا قبل ذلك بمدة. ففي عام 2003، بدأ بناء مدينة سونغدو على سواحل إنشيون، فوق أرض مستصلحة من البحر، بوصفها مشروعا مشتركا بين Gale International الأمريكية وPOSCO الكورية، وبتمويل بلغ مليارات الدولارات.
كان الطموح أن تصبح أول مدينة ذكية شاملة، مُخططة بالكامل من الصفر، حيث كل شيء قابل للقياس والمراقبة: المياه، الهواء، النفايات، الطاقة، الزمن نفسه. وأن تكون مدينة لا تحتاج إلى مفاتيح ولا بطاقات ائتمان، حيث الأبواب تُفتح تلقائيا، والهوية رقمية، وكل خدمة قابلة للطلب بضغطة.
لكن وبعد مرور أكثر من عقدين، لم تأتِ النتائج كما توقع المستثمرون. فمن أصل 300 ألف نسمة كان يُفترض أن يسكنوها، لم يأتِ إلا ما يقارب 120 ألفا حتى عام 2024، وأغلبهم في ضواح سكنية لا في مركز المدينة المصمم ليكون القلب النابض. أما المركز نفسه، فقد بقي هادئا أكثر مما ينبغي، تعمل أنظمته بكفاءة، لكن دون حياة.
وصفت سونغدو في تقارير نقدية بأنها مدينة بلا روح. وشبّهها معماريون كوريون بأنها مستوردة بالكامل من الخيال الأمريكي، لا تشبه مدن كوريا ولا ناسها.
حتى المطوّر الأمريكي نفسه اعترف لاحقا بأن المدينة بحاجة إلى مزيد من العفوية، مزيد من الحياة غير المخططة. ويمكننا أن نستخلص أن المشكلة لم تكن أن سونغدو متقدمة أكثر من اللازم بقدر ما كانت أنها تخلّت عن اللازم، غير القابل للتصميم. وكأنها كما وصفت أيضا من بعض منتقديها: نسخة معقّمة من المستقبل، نحب مشاهدتها، لا السكن فيها.
لكن سونغدو لم تكن استثناء. وهي مجرد مظهر واضح لمرض معماري مستتر: التصميم الزائد! حين يتحول كل شيء إلى خطة، وكل احتمال إلى محاكاة، وكل خطأ إلى مشكلة يجب محوها.
التصميم الزائد لا يُنتج مدنا بل نماذج حضرية مشبعة، مثل صورة مرشّحة مفرطة التشبع بالألوان، تبدو مثالية لكنها خانقة.
في هذه المدن، لا مكان للمفاجأة. لا مكان لما يُكسر، أو يُرمَّم، أو يُعاد تأويله. كل شيء مُسبق، مُتوقّع، محكوم.
كأن المدينة لم تُصمَّم لتُعاش، بل لتُفهم بالكامل من قِبل الخوارزمية.
وهنا، يحدث الانكسار!
لأن المدينة، كالكائن الحي، تحتاج للفوضى كي تتنفّس. ولأن الرصيف الذي لا يسمح بالخطأ، لا يسمح باللعب. ولأن النظام الكامل، كما حذّر جيل دولوز، لا يترك مجالًا للانفلات، للرغبة، للتسرّب وهو بذلك، ضد الحياة.
في كتاب دولوز المشترك مع فليكس غاتاري، ألف هضبة (A Thousand Plateaus)، تُوصَف الحياة كشبكة مفتوحة من التدفقات لا تُفهم عبر المركز، بل عبر التشعّب، عبر المسارات التي تنبثق فجأة كأنها شقوق صغيرة في جدار النظام. كانا يريان أن الرغبة لا تسكن في الثبات، بل في خط الهروب، ذلك المسار الهامشي، الخارج عن الخريطة، الذي لا ينتظم، بل يتملّص، لا يُبنى، بل ينبت.
ومن هذا المنظور، تصبح المدينة التي تُغلق منافذ الخطأ هي نفسها مدينة تطرد الحياة منها، تدريجيا، باسم الكمال.
المدينة الجيدة، مثل السيمفونية العظيمة، لا تكتمل بما يُعزَف فقط، بل بما يُترك صامتا عمدا، بما يُؤجَّل، بما لا يُفسَّر، بما يُفسَح له أن يتنفس. فكما تُبنى الموسيقى على المسافات بين النوتات، تُبنى المدن على الفراغات التي لا تُشغَل، وعلى الفسحات التي تُعاش لا لتُستثمر، وعلى السكوت الذي لا يُحسب كعَجز، بل كضرورة جمالية.
في إحدى تجاربه الشهيرة، كتب المؤلف الموسيقي جون كيج مقطوعة عنوانها 4:33 لا تُعزف فيها نوتة واحدة! فقط صمت! الصمت كخامة موسيقية، واللاشيء كمكوّن جوهري في إدراك الزمن.
تماما كما في عمارة بيتر زومتور، حيث لا يُصمَّم الحيّز ليُرى، بل ليُحَس. حيث الفراغ له جسد، والصمت له صوت.
ولهذا، قد تكون مشكلتنا اليوم ليست في غياب التخطيط، بل في فرطه، في امتلاء المدينة لدرجة لا تسمح بالدهشة، ولا بالضياع، ولا بأن نُفاجَأ بأنفسنا في منتصف الطريق.
وفي الحقيقة، فإن مقطوعة 4:33 لم تكن صامتة حقا. فخلالها سُمع سعال من أحد المقاعد الخلفية. انزلق مقعدٌ بخفة، تنهّد شخص، صفّق آخر بغير قصد. كانت هذه الأصوات، كلّها، جزءا من العرض. كأن كيج أراد أن يقول لنا: أنتم تظنون أنكم صامتون لكنكم تصنعون موسيقاكم الخاصة طوال الوقت.
كان كيج متأثرا بتعاليم الزن، حيث يُنظر إلى الصمت لا كغياب، بل كحضور مختلف. كالماء في كوب، لا يُرى، لكن وجوده هو ما يمنح الشكل للكوب أصلا. و4:33 لم تكن أبدا مجرد نكتة على حساب الجمهور، بل كانت تمرينا في الإصغاء، درسا في الإنصات إلى كل ما نتجاهله. لأننا في العمق، نخاف الفراغ. نملؤه بأي محتوى: كلام مرتجل، ضحكة غير لازمة، إشعار من هاتف، إعلان في شارع. نخشى الصمت، لأن الصمت مرآة. وفيه، نسمع أنفسنا، لا غير.
ولعل المدينة الحديثة تعاني من الفوبيا نفسها. كل فراغ فيها يُملأ. كل لحظة تُبرمج. كل حيّز يُستثمر.
لكن كما في موسيقى كيج، وكما في فراغات زومتور، الحياة لا تُبنى فقط على ما نملكه، بل على ما نتركه بلا تملك.
غير أن هذا ما لا تحتمله المدينة الحديثة: أن يكون فيها شيءٌ لا يُعرف، لا يُخطَّط له، لا يُراقَب. فما لا يمكن التنبؤ به، لا يمكن تسويقه. وما لا يمكن قياسه، لا يُمنح حيّزا. وهكذا، شيئا فشيئا، يصبح اللايقين عدوا عمرانيا. ويُختَزل الحيّز إلى ما هو مؤكد فقط، إلى ما هو محسوب، مأمون، مُضبوط كالنبض الصناعي.
لكن الإنسان، في جوهره، ليس كائنا حسابيا. بل كائنا مفتوحا على الاحتمال. يحتاج للتيه، للزلة، للدهشة. لحيّز لا يُقال له:هنا يجب أن تقف بل: هنا يمكنك أن تضلّ قليلا، ولن يحدث شيء. لذلك، قد لا تكون المدينة التي نرجوها هي الأكثر ذكاء، بل تلك التي تعرف كيف تحتمل الغموض، وتعطي اللايقين مكانا ليقيم، لا ليُقصى.
وقد يكون اللعب، في وجه المدينة الصارمة، أكثر من مجرد ترف. إنه فعل مقاومة حضرية. حين يرسم طفلٌ مربّعات لعبة الغمّيضة بالطبشور على الرصيف، فهو لا يلهو فقط، بل يُعيد تعريف الأرض. يحوّل الإسفلت من مسار مروري إلى مساحة احتمالات. يمارس حقه في أن لا يأخذ المدينة على محمل الجد.
فاللعب، كما ألمح ميشيل دو سيرتو في كتابه The Practice of Everyday Life هو الطريقة التي يخترق بها الضعفاءُ نظمَ الأقوياء، ويحتالون على خريطتهم. واللعب عند ميشيل دو سيرتو يشمل الأفعال اليومية الصغيرة كالمشي والتسكع والتأمل. وهي عنده تكتيكات تُمارَس داخل الفضاءات التي تفرضها المؤسسات، تخرق بها الجماعات الهامشية نظم الأقوياء، لا عبر المواجهة المباشرة، بل عبر التحايل والارتجال والمعنى الشخصي. واللعب بهذا المعنى لا يعترف بالإشارات ولا بالحدود الوظيفية للحيز ولا بتعليمات الاستخدام.
هو انفلات صغير، لكنه جوهري، من قبضة الجَدّية المفرطة. ومن مركزية الكفاءة التي تُصنّف كل تصرّف على أنه إنتاج أو استهلاك.
في اللعب، يخرج الإنسان من كونه مستخدما ويعود ليكون ساكنا، متجوّلا، كائنا في الزمان، لا في الخريطة.
ولهذا، تُعدّ المساحات التي تتيح اللعب، لا كبرنامج رسمي، بل كإمكانية تلقائية، هي المساحات التي تسمح للمدينة أن تتنفس، وأن تتذكّر أنها ليست آلة بل مسرح.
وقد سبقه إلى ذلك يوهان هويتزينغا، حين كتب في Homo Ludens: A Study of the Play-Element in Culture أن اللعب لا يُضاف إلى الثقافة، بل يسبقها، وأن الإنسان لا يُعرَّف فقط بعقله، بل بلعبه أيضا. فاللعب ليس نقيض النظام، بل هو الطريقة الأولى التي أنشأ بها الإنسان معنى، وقانونا، وحتى مجتمعا.
ومن هنا، تصبح المساحة التي تسمح باللعب هي نفسها المساحة التي تسمح بالحرية، وتُعيدنا إلى نقطة البدء: حيث لم تكن المدينة نظاما، بل ساحة.
وقد لا نجد لهذه الفكرة تجسيدا أصفى من مشهد النهاية في فيلم The 400 Blows للمخرج الفرنسي فرانسوا تروفو. أنطوان، الطفل الذي أمضى الفيلم كله هاربا من الأسرة، المدرسة، الشارع، والشرطة. كان يهرب من المدينة المغلقة: من الشوارع التي لا تُسامح. من الجدران التي تراقب. ومن المسارات التي تُرسم للمرور فقط، لا للتيه. كان يبحث عن فراغ غير مبرمج. عن مساحة لا تُدار. لا تُراقَب، ولا تُستثمَر. وعندما وصل أخيرا إلى البحر، ركض! الركض نفسه لم يكن مجرد لعب، بل فعل مقاومة عمرانية ضد المدينة التي لا تسمح بالدهشة. ركضٌ في فضاء مفتوح، بلا خرائط، بلا إشارات. ركضٌ يستعيد الحق في أن يتحرك دون غاية. ثم تتوقف الكاميرا على وجهه Freeze frame أنطوان يحدّق في الأفق، لا في المدينة! في آخر ما تبقى من فراغ غير محكوم.
كأن الفيلم يقول: الحرية لا تبدأ من التخطيط، بل من الفراغ غير القابل للتخطيط. واللعب، في جوهره، ليس انشغالا بل هو انسحاب مؤقت من السلطة. كما لو أن الطفل، دون أن يدري، يُجسّد ما دعا إليه هنري لوفيفر حين طالب بالحق في المدينة right to the city، لا كحق قانوني، بل كحق في أن نعيد استخدام الحيّز بطريقتنا، أن نكسره قليلا، أن نضلّ فيه، أن نمارس عليه رغباتنا لا فقط احتياجاتنا.
ولهذا، لا عجب أن يكون البحر، لا الشارع، هو أول مكان يبتسم فيه الهواء لأنطوان. البحر، كآخر ما تبقّى من مدينة لم تُقسّم بعد! مدينة بدون علامات، بدون تعليمات، بدون حدود.
لكن الأخطر من تنظيم الزمن هو تنظيم الاحتمال. فالمدن المصمّمة سلفا لا تكتفي بأن تقول لك ماذا تفعل، بل تحرمك من أن تفعل شيئا غير متوقّع. فحين يتحول كل ممرّ إلى خط توجيهي، وكل زاوية إلى سلوك مرسوم مسبقا، تصبح الشوارع بلا التواء، والحيّ بلا صدفة. تُستبدل الذاكرة باللافتة، ويُستبدل الخيال بصورة جاهزة، ويُستبدل التوقّع بالعرض الترويجي. وتُقدَّم المدينة كما يُقدَّم منتج رقميّ: Drone يطير، مؤثرات تلمع! كأنها تقول لك: انظر، هذه كل زوايانا. وكل ظلّ مرسوم. ولا داعي لأن تتخيل شيئا آخر! كأن المدينة الجديدة لا تريدك أن تعيشها، بل أن تشتريها من النظرة الأولى ثم تمرّ فوقها فقط. والساكن في هذه الحالة يتحوّل إلى مستخدم، والمكان إلى واجهة سلسة بلا مفاجآت ولا أخطاء.
في مارس 2024، كتب الباحث مايكل باتي دراسة بعنوان Digital twins in city planning، نُشرت في مجلة Nature Computational Science. لكنها لم تكن ورقة تقنية فقط، بل أقرب إلى ملاحظة خافتة وسط ضجيج المدن الذكية. باتي في دراسته لا يُدين التوأم الرقمي بوصفه أداة، بل يحذر من سحره: من قدرته على أن يُقنعنا بأنه هو الواقع. فكما في السينما، ليست كل لقطة شاملة كافية للفهم. والكادر، أحيانا، أضيق من أن يحتوي المعنى. والوضوح نفسه قد يكون شكلا من أشكال الحذف. وفي نظر مايكل باتي، المدينة ليست فقط حركة مرور، ولا شبكة صرف صحي يمكن محاكاتها، بل هي علاقات، مواقف، أصوات داخلية، طقوس يومية، وكل ما لا يُختزل إلى إحداثيات. وهناك فرق شاسع بين أن تفهم البنية التحتية، وأن تشعر بالحياة. ولهذا، يحذّر باتي من الخطأ المنهجي في أن يتحوّل التخطيط الحضري إلى مرآة رقمية تلمع لكنها لا تعكس شيئا. أن نكتفي بالنموذج، وننسى الإنسان. أن نصمّم توأما رقميا بمعزل عن المُخطّط، والعالِم الاجتماعي، والمواطن، فنخلق مدينة أكثر صمتا، لا أكثر وعيا. كأن التوأم الرقمي، في أسوأ حالاته، يعيد ارتكاب واحدة من أقدم خطايا العقل: وهم المعرفة الكاملة! حين نرى المدينة من فوق ونظن أننا نعرفها. حين نزرع المستشعرات وننسى أن الحياة تحدث بين النبضات، لا داخلها.
وهكذا، يعود السؤال: هل نحن نطوّر أدوات للفهم؟ أم نخلق واقعا بديلا نرتاح لتوقّعه، ونتجاهل هشاشته؟ فالتكنولوجيا، حين تدخل المدن، لا تفعل ذلك بحياد! في كتابها Uneven Innovation: The Work of Smart Cities، الصادر عام 2020 عن MIT Press، تسجّل الباحثة جينيفر كلارك واحدا من أكثر التحليلات اختراقا لمسألة الذكاء الحضري. لا تُجادل في جدوى الابتكار، بل في عدالته. لا في كيف يعمل، بل لمن يعمل. ترى كلارك أن المدينة الذكية لا تنشأ فقط من خوارزميات ونماذج، بل من قوى كامنة: سلطة، سوق، بنية طبقية، وتاريخ من التفاوت. وأن هذه القوى تعيد قولبة الذكاء الحضري ليخدم مركزا، ويُقصي طرفا أو هامشا. الابتكار، في نظرها، ليس بالضرورة تقدما. فقد يُستخدم لتكريس الفوارق بدل تقليصها. المدن التي تحتفي بالSmart Grids قد تُهمل الأزقة، وتلك التي تغمر ميادينها بالمستشعرات، لا تُغمر بالضرورة بالأمان الاجتماعي. كأن التكنولوجيا أصبحت مرآة مقعّرة: تُضخّم صورة بعض المواطنين، وتُهمّش الباقين. وتماما كما في عروض الأزياء، لا تُصمَّم المدينة الذكية لتناسب الجميع، بل لتُبهر الممول. ومن لا يلبس مقاس الرؤية الجديدة، يُقصى بهدوء. تكتب كلارك عن كيف يتحول الذكاء من وظيفة إلى استعراض. من أداة للعيش، إلى أداة لتلميع سردية اقتصادية.
وفي هذه اللحظة، لا تبدو المدينة حقيقية. بل تمثيلية حضرية ضخمة، تشبه مشهدا مسرحيا بإضاءة مُحكمة، وأداء محسوب، ومشاهدين محددين. لكن ماذا عن الكواليس؟ ماذا عن الوجوه غير المضاءة؟ عن ذلك الحي الذي لم يصوَّر في فيديو العرض؟ من لم يُدعَ إلى العرض، هل يُحتسَب من الجمهور؟
أسئلة لا تجيب عنها الأنظمة الذكية، لأنها ببساطة لا تُدرجها في البرمجة. لكن وسط هذا المشهد، وبين خوارزميات تعيد رسم المدينة دون أن تستأذن سكّانها، بدأت تظهر محاولات خجولة، لا لرفض الذكاء، بل لإعادة توجيهه. لا لإطفاء الضوء، بل لفتحه من الزاوية الصحيحة. في مدينة بولونيا الإيطالية، لم تُرفع الكاميرات، بل رُفعت الأصابع. لا اعتراضا، بل اقتراحا. فقد طوّرت البلدية نموذجا يُعرف بالتوأم الرقمي المدني (Civic Digital Twin)، لا ليُراقِب سكانه، بل ليُصاغ بمشاركتهم. كان الهدف بسيطا في ظاهره: أن لا يُبنى النموذج الرقمي للمدينة من دون المدينة نفسها. أن لا يُدار التوأم، إلا بحضور الأصل. في هذا المشروع، لا تُعالَج البيانات في مراكز مغلقة، بل تُقدَّم على طاولة الحوار. يُدعى المواطنون للمشاركة في تصميم النماذج، من خلال ورش عمل، ومنصات تفاعلية، وتجارب محاكاة تشاركية. هنا، لا يُنظر إلى السكان كمستخدمين، بل كمنتجين للمعرفة الحضرية. فهل يكون هذا الشكل من التوأم بداية لصلحٍ مؤجل مع الواقع؟ أم قناعا آخر أكثر لطفا، لكنه قناع مع ذلك؟ أو ربما مجرد محاولة لتأجيل القطيعة بين الواقع ونُسَخه؟
ربما لم تكن المشكلة في كمية البيانات، بل في طريقة الإصغاء إلى الواقع.
وفي هذا السياق يلاحظ ما ذهب إليه جيمس برايدل، في كتابه Ways of Being. وهو لا يقترح فيه نظاما آخر، بل ليقترح تحوّلا أنطولوجيا في معنى الذكاء نفسه: أن لا يكون أداة للفهم، بل طريقة للوجود. ذكاء لا يسعى للسيطرة، بل للانتماء! لا يُبسّط، بل يتشابك. في قلب رؤيته مفهوم الEntanglement: الذكاء لا يعمل عبر فصل العالم وتحليله، بل عبر التشابك معه، وبأن يكون جزءا من النسيج، لا مراقبا له من الخارج. وهنا تتحوّل المدينة من خريطة إلى حقل حي. ومن كود يُدار، إلى كائن يُحس. تصبح الأرصفة علاقات، وتصبح البيانات مجازا لحوار، لا لحكم. وحتى الإشارات الضوئية لا تعود مجرد تنظيم للمرور، بل تعبيرا عن إيقاع اجتماعيّ مشترك، حيث يتنفس الحيّ بالتزامن، لا بالتنميط. وفي هذا الإطار، لا يعود الذكاء شيئا نملكه، بل علاقة نعيش داخلها. ولا يكون استخراجيا extractive ولا محايدا بل متأثرا وحساسا ومتواضعا. يكتب برايدل عن أشكال من الإدراك تتجاوز النموذج البشري: كيف تعرف النباتات؟ كيف تحس الحشرات؟ كيف تتواصل النظم البيئية دون أن تنطق؟ كلها ذكاءات لا تقوم على التفسير، بل على الاحتواء. وفي هذا المنظور، لا يصبح الهدف من الذكاء أن يشرح المدينة، بل أن ينصت إليا، أن يسكنها، أن يعترف بأن وجودها أعمق من أن يُقاس. وكأن برايدل يذكّرنا بأن الذكاء الحضري الحقيقي لا يحتاج دائما إلى خريطة، بل إلى جذر وإلى تشابك.
وعلى هذا الخيط، تمشي العمارة العصبية Neuroarchitecture بخفة لا متأخرة ولا مستعجلة! لا تعِدنا العمارة العصبية بفهم المدينة، بل بجعلها تفهمنا. تسأل كيف يستجيب الدماغ للضوء، للاتساع، للتكرار، للتناظر، وللحافة. ومع تزايد استخدام الـEEG والرنين المغناطيسي الوظيفي في دراسة تأثير الفضاء المعماري على الدماغ، بدأت تظهر تصاميم تُبنى بناءعلى استجابة الجسم قبل العقل. فراغات تُقاس لا فقط بالأمتار، بل بالموجات الدماغية التي تولّدها. حكأن المدينة صارت تعرف متى تُريحك، قبل أن تفهم لماذا. أحد أبرز الأمثلة هو مركز ماجي (Maggie’s Centre) في مانشستر، من تصميم نورمان فوستر. وهو ليس مشفى بالمعنى التقليدي، بل مساحة رعاية نفسية لمرضى السرطان، صُممت لتُهدئ، لا لتُرهب. فيه لا وجود للممرات الباردة أو الإضاءة الفلورية الحادة. بل نوافذ واسعة، مواد طبيعية، وانسيابية في الحركة، تُقلّل من ضغط الكورتيزول بحسب دراسات قياس النشاط العصبي. والأثر لا يظهر فقط في مراكز الرعاية أو عبر تخطيط المدن. فالسينما أيضا، حين تُصيب، تفضح علاقتنا بالفراغ. لا كخلفية، بل ككائن حي يتواطأ مع الشعور، ويعيد تشكيله بهدوء. ففي فيلم In the Mood for Love لوونغ كار واي، لا تُقال المشاعر، بل تُسكن في الفراغات. فالممر الضيق بين الشقتين المتجاورتين، والحركة بطيئة تحت الضوء مائل، والجدار الذي يفصل لكنه يقرّب، كل ذلك يجعل من العمارة جهاز استشعار عاطفي. أي أن المكان هناك ليس مسرحا للقصة، بل هو طرف فيها. وهو الذي يحتفظ بالأسرار، يربك الخطى، ويبطئ الزمن، كأنّ كل بلاطة فيه تنصت للحوار الذي لم يُقل. وتُصبح الزاوية أداة تواطؤ، ويصير الظلّ ملاذا للحيرة. ليس لأن التصميم جميل، بل لأنه يذكّرنا بأننا لسنا محايدين تجاه الفراغ، بل مرآة له. وهكذا، لا يبقى السؤال هل المدينة ذكية بما يكفي لراحتنا؟ بل هل نعرف نحن كيف نكون داخلها دون أن نذوب في منطقها؟ لأن الخطر الحقيقي ليس أن تُراقَب خطواتك، بل أن تفكر أنت كما تفكر الخوارزمية، وتحلم كما تحلم الشاشة، وتمشي كما تمشي النقطة على الخريطة. في منتصف القرن العشرين، حاول كونستانتينوس دوكسياديس من خلال علم الاكستيكسيس Ekistics، أن يُعيد للمدينة توازنها بين الإنسان والنظام، بين الحي والشارع، بين الرغبة والمخطط. فقام برسم شبكات، وتصميم النُسُق. لكنه حذّر، في أواخر كتاباته، من المدينة التي تُصمّم بالكامل. قال إن الخطر لا يكمن في نقص التخطيط، بل في كماله الزائد عن الحاجة. فالمدينة التي لا تترك فراغا للدهشة تصبح جسدا بلا روح.
وهو ما يلتقي، بطريقة غريبة، مع رؤية الروائي توماس بينشون، الذي كتب عن عوالم تُبنى من شبكات غير مرئية، حيث لا شيء يحدث صدفة، لكن لا أحد يعرف بالضبط لماذا يحدث أي شيء. في روايات توماس بينشون إجمالا، يبدو كل شيء متماسكا من بعيد. لكن حين تقترب تكتشف أن النظام نفسه هو المتاهة! وربما ليست مدننا الحديثة سوى نسخ عمرانية من تلك الشبكات السردية، منظّمة بعناية، لكنها لا تمنحك مخرجا بل تضعك في حلقة منطقية مغلقة، كأنك تمشي في قصة كُتبت لتُربكك، لا لتقودك.
إذا فسؤالنا منذ البداية كان مشروعا بل راهنا وضروريا: هل كل ما صُمِّم بإتقان يُفهم؟
في منتصف التسعينيات، أطلق ريم كولهاس كتابا غريبا، سميكا، وغير منتظم بعنوان S, M, L, XL، بدا وكأنه قاموس معماري لتفكيك القواميس المعمارية. صفحات مليئة بالرسومات، الملاحظات، المانيفستو، الصور، والنصوص المتنافرة. لم يكن الكتاب يُقرأ، بل يُكتشف. لا يقدّم ريم كولهاس في كتابه سردا معماريا تقليديا، بل يُفكك المساحات والأفكار واللغة نفسها، متعمّدا جعل القارئ يتوه في طبقات النص، كما يتوه الساكن في مدن صُمّمت بأكثر من مقياس، وبأكثر من وعي. بين الصفحات، وبين المشاريع، هناك شعور متكرّر بأن كل محاولة للفهم تُنتج طبقة جديدة من الغموض، وأن التصميم، كما السرد، ليس أداة ترتيب بقدر ما هو فعل مراوغ. هذا الكتاب، بكل شطحاته، لم يكن احتفاء بالنظام، بل كان اعترافا فوضويا بحاجة المعمار إلى اللايقين. وفي أحد مقاطعه، يتساءل كولهاس: هل يمكن للمدينة أن تصمّم نفسها دون أن تفهم نفسها؟
يبدو ريم كولهاس كمن يصرّ على أن لا شيء يمكن أن يُختزل إلى وظيفة، أو يُفهم عبر منظور واحد فقط، وأن المدينة ليست كيانا عقلانيا بقدر ما هي نصّ هجين، يقاوم الفهم المستقرّ ويُراكم الالتباس عن عمد. وفي مواجهة هذا العالم الذي يتسع بلا توقف، تصبح القيادة في مدينة ما، بينما تتغيّر الأغاني على نحو عشوائي، أو كأنها كذلك، جزءا من طقس تأمّليّ حديث. كما لو أن الذهن يركب موجات الساوندتراك الخاصة به، محاولا إنتاج تتابعٍ عاطفي، لا منطقي، يُعيد به تعريف المشهد حوله. وبينما تتجه المدن اليوم إلى مزيد من التنظيم، وخرائط المعلومات، والتوأم الرقمي، تزداد الحاجة لتذكّر أن كثرة البيانات لا تساوي كثافة المعنى. فالمدينة التي نرتاح للعيش فيها هي غالبا مدينة تتقبّل هشاشتنا، وتدعونا للتباطؤ. كأن كل هذه الانطلاقات لا تقود إلا إلى لحظة انتظارٍ غريبة، على قارعة الزمن.
وحين لا يعود بالإمكان تتبّع الخيط، ولا مغادرة الحلقة، لا يبقى سوى الإصغاء إلى الموسيقى مجددا أثناء استحضار مشاهد المدينة! فكل تلك النشوات العابرة، التي صنعتها موسيقى متواطئة مع تقاطعات الطريق، لم تكن إلا محاولات لصياغة معنى ما داخل سرديّة لا مخرج منها. وحين ينكسر الإيقاع، ويهدأ الحيّز، وتختفي تلك الذبذبات الطيبة، تبدأ أغنية Lemon Tree. لا وعد فيها، ولا ذروة. فقط انتظار معلّق، كأن المدينة تتنفّس ببطء، دون يقين. تنقلك إلى لحظة أكثر سكونا، لكنها لا تقلّ وطأة.ث تقول الأغنية بصوتها المعلّق بين العبث والمرارة: I’m driving around in my car I’m driving too fast I’m driving too far ليست هذه نشوة، بل دوخة من نوع آخر. هنا لا تحلّق السردية، بل تدور حول نفسها. لا تصعد، بل تتذبذب، تترنّح كدوّامة من الأسئلة التي لا تجد مخرجا. هذا النوع من التجربة لا يفتح نوافذ على مدن بعيدة، بل يُقفل الستائر. يجعلك تُدرك أن بعض الرحلات لا تغيّر وجهتك، بل تكرّس تيهك.
ولعلّ هذا التقلّب بين Good Vibrations وLemon Tree هو ما يصنع مفارقة المدن التي نعيش فيها: فهي لا تهبك شعورا واحدا، بل تمرّرُك بين موجات متضادّة من الانتشاء والانتظار، من الأمل اللامحدود إلى التكرار العقيم. لكنها تفعل ذلك دون أن تعتذر. المدينة، أي مدينة، لن تمنحك فقط Good Vibrations، ولن تُلقيك في عزلة Lemon Tree، بل ستدفعك بينهما بلا استئذان، كأنها تعرفك أكثر مما تعرف نفسك.
ورغم صعوبة الاعتراف بذلك إلا أننا فعليا لا نحتاج إلى مدينة نعرف كيف نعيش فيها بقدر ما نحتاج إلى مدينة لا تدّعي أنها تعرفنا!
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
-
خطة الله في غزة
-
سأم مع سبق الإصرار
-
غزة: مشهد إضافي
-
كاتب يطارد شبحه في أرشيف الإنترنت
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 8
المزيد.....
-
صانعة المحتوى اللبنانية عبير الصغير تحتفل بخطوبتها في أجواء
...
-
صانعة المحتوى عبير الصغير تحتفل بخطوبتها.. تفاصيل حصريّة عن
...
-
-بخطوة نادرة-.. مسؤول يكشف لـCNN: وزير الخارجية السعودي سيزو
...
-
ترامب: بكين -انتهكت بالكامل- الاتفاق مع واشنطن بشأن الخفض ال
...
-
-برا وبحرا وجوا-.. -نيويورك تايمز- تكشف بنودا من مذكرة أوكرا
...
-
الولايات المتحدة.. سحب طماطم ملوثة بالسالمونيلا قد تفتك بالم
...
-
السيسي يتلقى اتصالا من رئيس وزراء اليونان بعد أزمة دير سانت
...
-
تحذيرات من -أسلوب جديد- لسرقة أموال المصريين عبر الهواتف
-
-سبيس إكس- تخطط لإرسال روبوتات إلى المريخ
-
كاتس يهاجم ماكرون: اعترافكم بفلسطين مجرد ورق يلقى بمزبلة الت
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|