|
هندسة الكشف (خارج النية، داخل الانبثاق)
محمد عبد القادر الفار
كاتب في الفضاء والمعنى
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8362 - 2025 / 6 / 3 - 23:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في البدء لم يكن المعماري يصمم. كان يراقب. كان ينظر إلى تشققات الطين بعد المطر. إلى انحناءة الورقة. إلى أثر الريح في الكثبان. ويتساءل: كيف تنشأ البنية form؟ وكيف تنتظم الأشياء؟
ليس غريبا إذا أن تكون العمارة، في أكثر لحظاتها شاعرية، هي تلك التي لم تصمم على الورق. بل نشأت كما تنشأ الخلية. فالخلية لا تحتاج إلى مخطط خارجي لتشكيلها بل تنمو وفق معلومات مضمنة في حمضها النووي، يتكرر نسها ذاتيا ضمن بيئة مناسبة، فتنتج شكلا ووظيفة بتكامل لامركزي. أو كما تتكون مستعمرة النمل، بفعل تراكم القواعد البسيطة، التي إذا اجتمعت تولدت منها أنماط معقدة لا يمكن التنبؤ بها. وهذه هي العمارة النشوئية Emergent Architecture حيث الشكل النهائي ليس هدفا بل نتيجة.
في هذا الحقل لا تبنى الجدران بل تبرمج. لا يرسم الفراغ بل يستولد. وهنا تصبح مفاهيم مثل emergence و self-organization و complexity ليست مجرد استعارات شعرية بل أدوات تصميم فعلية تمتحن في الأكواد والخوارزميات والنماذج الحية.
لكن فكرة أن تنشأ البنية من داخلها لا تعني القطيعة مع العالم الخارجي. بل على العكس، ففي أكثر المقاربات تقدما للعمارة النشوئية، يعامل السياق المحيط ليس كشرط يفرض على التصميم بس كجزء من الخوارزمية نفسها.
وفي كتاب مايكل وينستوك The Architecture of Emergence: The Evolution of Form in Nature and Civilization يؤكد أن الأنظمة النشوئية لا تنمو في الفراغ، بل تتشكل باستجابة دقيقة للقوى البيئية، فتصبح الرياح والحرارة والانحدار جزءا من عملية التوليد نفسها، لا مجرد خلفية لها.
أما أخيم مينغس في كتابه Material Computation: Higher Integration in Morphogenetic Design فيبرز أهمية دمج سلوك المواد في عمليات التصميم الحاسوبي، مشيرا إلى أن التفاعل بين الخصائص المادية الداخلية والظروف البيئية الخارجية ينتج أشكالا معمارية تتسم بالتكيف والأداء العالي.
وهكذا يصبح الموقع Site هو الجين الخارجي الذي ينقش أثره في شيفرة المبنى، ويتحول السياق من معطى ثابت إلى محرك حي، يحدث أثره داخل النظام ذاته.
والعمارة النشوئية لا تطمح إلى محاكاة الطبيعة بل إلى فهم منطقها الخفي ثم إعادة تفعيله في المادة والفراغ والضوء.
كتب ستيفن جونسون في كتابه Emergence: The connected lives of ants, brains, cities and software أن الأنظمة النشوئية لا تبدأ من خطة، بل من التعليمات البسيطة. فلا يوجد عقل مركزي يدير مستعمرة النمل ولا خريطة موضوعة لتمدد الأحياء العشوائية. بل هناك فقط عناصر صغيرة تتفاعل محليا، باتباع قواعد بسيطة. ثم تكرر نفسها إلى أن يظهر نظام معقد. فالنظام لا يبنى، بل يظهر.
وقد أثبت علماء مثل Deborah Gordon و E.O Wilson أن النمل يتصرف بذكاء جماعي مذهل دون أي قائد، من خلال ظاهرة تعرف بالstigmergy حيث تولد القرارات من التفاعل المحلي المتكرر، لا من خارطة مرسومة سلفا. والعجيب أن نفس هذا المنطق يحكم أنظمة برمجية لا مركزية حديثة، من شبكات peer-to-peer وحتى الblockchain، حيث لا يفرض النظام من الأعلى، بل يتكون من الأسفل، عبر خوارزميات تتكرر وتتكيف.
وفي قلب هذا المفهوم تكمن فكرة معمارية مذهلة: أن يكون المبنى نفسه نتيجة لا قرارا.
إن العمارة النشوئية Emergent Architecture لا تعتمد على مخطط مصمم مسبقا بقدر ما تعتمد على عمليات توليدية generative processes يتم فيها تحديد مجموعة من القواعد الأولية، ثم تترك الخوارزميات أو المواد لتنتج الشكل النهائي، كما تنمو الشجرة من جيناتها، لا من رسم مسبق.
وفي علم الأحياء النمائي Developmental Biology، لا يكتب شكل الكائن الحي كخريطة جاهزة بل كشيفرة جينية تحدد قواعد النمو وتترك الشكل يتولد من التفاعل مع البيئة. فالشجرة مثلا لا تتبع شكلا مرسوما، بل تنمو عبر تفاعل جيناتها مع الضوء والجاذبية والماء، لتنتج في كل مرة بنية متفردة.
وقد طول آلا تورينغ نموذجا رياضيا يعرف ب Turing patterns لتفسير كيف تنشأ الأنماط المعقدة، مثل خطوط الحمار الوحشي أو طيات أوراق النباتات، من تفاعل بسيط بين عوامل مفعلة ومثبطة داخل البيئة الخلوية. وهو نموذج ألهم لاحقا مقاربات في التصميم المعماري التوليدي، حيث ينظر إلى الكود البرمجي كحمض نووي لا يفرض شكلا، بل يطلق سلسلة من التفاعلات التي تنتج الشكل كأثر.
أحد أبرز التطبيقات المعمارية الجديدة لهذا المنطق هو مشروع Subdivided Columns للمعماري مايكل هانسماير، حيث لم يصمم شكل الأعمدة يدويا، بل تركت لتتولد خوارزميا عبر عمليات حسابية تحاكي النمو الطبيعي، مستندة إلى نفس المبادئ التي تقترحها تورينغ في نمو الأنماط العضوية.
وهنا يتغير دور المعماري فلا يعود مؤلفا يتحكم بكل خط. بل يصبح مربيا لنظام حي ينمو بتأثير عوامل مادية ورقمية وبصرية، بل واجتماعية أيضا. فهو لا يفرض التصميم بل يستخرجه كما يستخرج النبات شكل أوراقه من داخله لا من خارجه.
وليس الشكل وحده هو ما ينشأ في العمارة النشوئية، بل كذلك الفاعلية Performance. وهنا يتقاطع هذا التيار مع ما يسميه برانكو كولاريفيتش ب Performative Architecture حيث لا يقاس نجاح المبنى بجماله أو وظيفته فحسب، بل بقدرته على التكيف، على الأداء، على التحول ضمن شروط مادية أو بيئية أو رقمية.
وفي هذه السياقات تصبح العمارة أقرب إلى النظم البيولوجية منها إلى الأجسام الصلبة. وتعامل الخامات كما تعامل الكائنات الدقيقة: تحقن بالتعليمات، وتترك لتتشكل. كما في البيولوجيا الاصطناعية Synthetic Biology حيث تبرمج الخلايا الحية لإنتاج أشكال وبنى دون تدخل مباشر، بل عبر كتابة كود جيني يتم تفعيله في شروط مناسبة. ليس الشكل هو الهدف بل العملية.
وكما في بعض أنماط البرمجة التوليدية generative programming حيث لا يُكتب الشكل خطوة بخطوة كما في البرمجة الإجرائية، بل يُحدد عبر قواعد مجردة وشروط استجابة تُطلق داخل النظام وتترك لتتفاعل ديناميكيا. فالمعماري هنا لا يفرض المخطط بل يكتب المنطق. لا يرسم بقدر ما يبرمج. ثم يفسح المجال للشكل أن يظهر كتفاعل، لا كنتيجة محسومة. والأهم أنه لا يبحث عن الكمال بل عن الاستجابة والتفاعل والأداء الحي. والجمال هنا لا يأتي من الإتقان المحكم بل من قدرة الشكل على الإنصات للزمن والمادة والبيئة. وكأن المعماري يمارس نوعا من التأمل المادي: لا يفرض التصميم بل يفسح له المجال، كما يفسح الراهب الياباني للمكان أن يظهر روحه بدل أن يزينه.
إن العمارة النشوئية بهذا المعنى لا تطلب السيطرة بل تتيح للمعماري أن يتنازل عن جزء من سلطته للزمن والبيئة والمادة والألغوريثم.
ولا يمكن النظر إلى كاتدرائية البذور Seed Cathedral مثلا والتي صممها توماس هيثروك كمجرد جناح في معرض عالمي. لقد بدت وكأنها نبتة عملاقة خرجت من الأرض بدفع داخلي لا بتخطيط خارجي: جسم ناعم ومتوهج، مؤلف من أكثر من 60 ألف عصا شفافة، كل واحدة منها تحوي بذرة نبات حقيقي في طرفها. وليس المبنى هو ما يرى بل هو ما يسمح للرؤيو أن تعبر خلاله.
في ذلك المشروع لم يكن الشكل النهائي هدفا بل كان نتيجة لعملية نشوئية emergent process بدأت من فكرة: كيف يمكن للمبنى أن يحفظ الحياة؟ وكيف يمكن أن يكون أرشيفا للبذور؟ ويكون في الوقت نفسه جسدا معماريا حيا؟ والإجابة لم تأت برسومات فقط بل بتفاعل مواد شفافة وضوء وهواء وبذور.كل عصا لم تكن تشبه الأخرى لكنها أطاعت نفس المنطق. كل واحدة منها اتبعت قاعدتها المادية لتنتج مجتمعة شكلا لم يحدده المعماري سلفا بشكل مباشر، بل سمح له أن يظهر، تماما كما وصف جونسون أو كما توقع كولاريفيتش:
Emergent form is not designed. It is cultivated البنية النشوئية ليست مصممة بل مزروعة!
وهكذا تحولت كاتدرائية البذور إلى استعارة مادية عن فكرة النشوء: شكل لم يصمم بالمعنى التقليدي، بل نبت من الداخل، من تفاعل الضوء مع الشفافية، والبذور مع الهواء، والمادة مع البيئة. ولهذا لا يمكن تكراره. ليس لأن شكله معقد، بل لأن بنيته تعتمد على ظروف نشوئية فريدة: فكل عصا شفافة حملت بذرة مختلفة، وكل زاوية انعكاس للضوء بنيت على موقعها الجغرافي وزاوية الشمس وتوزيع الكتلة من حولها. لذا فإن أعادة إنتاج الشكل تعني إعادة إنتاج كل تلك التفاعلات الدقيقة، وهذا ما يجعل الشكل غير قابل للتكرار فعليا.
وهو لا يشرح بالمسقط أو المقطع بقدر ما يفهم من خلال ما هو محسوس، وبما يولده في الجسد من ارتباك بصري ودهشة مادية، وبما يخلفه من أثر في الذاكرة.
ولكن هذا النوع من العمارة لا يناسب الجميع. فالعمارة النشوئية تحيل كل ما اعتدنا عليه في التصميم إلى سؤال: ماذا لو لم نكن نعرف النتيجة مسبقا؟ ماذا لو لم يكن هناك شكل نهائي، بل فقط عملية؟ هل يقبل المعماري أن يتخلى عن اليقين؟
هنا تدخل العمارة منطقة اللايقين، حيث النية لا تقود الشكل بل تغذيه وتراقبه وتضبط حدوده، دون أن تتحكم به. والعمارة هنا تتحول إلى ما يسميه مانويل دي لاندا تجربة في الكثافة، حيث تتغير الكتلة باستمرار بتأثير القوى الداخلية تماما كما تتشكل التضاريس أو كما تتكون البلورات.
وهذا اللايقين لا يعني الفوضى. بل يعني أن الشكل أصبح نتاجا زمنيا لا حالة نهائية. نتاجا يظهر حين تتفاعل القواعد البسيطة ويتراكم أثرها وتتكاثف النتائج في لحظة معمارية لا يمكن توقعها سلفا. كما في فيزياء الأنظمة غير الخطية، حيث تولد القفزات النوعية عند الوصول إلى نقطة تشعب bifurcation لا بسبب خطة مرسومة بل نتيجة تراكم كمي يصل إلى عتبة حرجة. كذلك تتشكل البنية المعمارية النشوئية: لا بالتصميم، بالظهور!
وهكذا، وبدلا من أن يكون التصميم فعل فرض، يصبح فعل تهيئة. تهيئة للظروف وللأنظمة وللمواد، كي تنشأ منها بنية حقيقية، عضوية، متفردة.
وكما يشير إمبرتو إيكو في نظريته عن النص المفتوح، حيث لا يُحدد المعنى، بل يترك كي يستخلص ضمن شروط تأويلية تتغير مع الزمن والسياق. وهكذا يعامل الشكل في العمارة النشوئية: لا يفرض على المتبقي، بل يدرك كتجربة تتشكل أمامه.
في العمارة التقليدية. التصميم يشبه الإملاء: شكل يُقرَّر ثم يُنقل إلى الواقع. أما في العمارة النشوئية فالتصميم أقرب إلى التربية أو إلى التخمير البطيء. فالنتيجة لا تُفرض بل تُمنح فرصة للظهور. وهنا تلتقي العمارة مجددا مع علم الأحياء ونظرية الأنظمة المعقدة، وحتى من علم النفس الجمعي. فالSelf-organization كمفهوم مركزي يشير إلى قدرة النظام على خلق النظام داخله دون قيادة خارجية. والمبنى في هذه الحالة ليس مجرد مجمّع لأجزاء، بل هو كائن ذاتي التنظيم، يتكون من تفاعلات بين مكوناته كما تتكون أنماط طيران السرب أو شبكات الطرق.
وتتقدم الفكرة خطوة أبعد حين نربطها بمفهوم adaptive systems حيث لا يقوم النظام بتنظيم نفسه فقط، بل يتكيف. يقرأ المتغيرات ويعيد تشكيل نفسه بناء على المعطيات. فالمبنى هنا يصبح حساسا للضوء، للحرارة، للصوت، بل وحتى للسلوك البشري. لذا فإن تصميمه لا يستكمل عند البناء، بل يستمر وهو قيد الاستخدام.
وهذا كله يعيد تعريف المعماري نفسه. فالمعماري لم يعد حارسا للشكل ولا مؤلفا للجمال بل مُطلقا للعمليات. ينسحب من الواجهة ليفسح المجال للبنية كي تنضج وتستجيب. أن تخطئ وتصحح.
ولعل ما يميز العمارة النشوئية عن غيرها ليس فقط طريقة تكون الشكل بل أيضا توقيت ظهوره. ففي التصميم التقليدي ينتهي الزمن عند لحظة الإنجاز، حين يرفع الستار عن المبنى وتلتقط له الصور. أما هنا فالزمن ليس نهاية المشروع بل أحد مواده.
الزمن يعامل كما تعامل الخامة أو الضوء أو الجاذبية. وهو ليس سياقا خارجيا بل هو عامل داخلي في تكوين الشكل. فالكتلة mass لا تستخرج دفعة واحدة بل تتشكل عبر زمن التصميم وزمن الاستخدام وزمن التبدل البيئي.
المبنى هنا لا ينظر إليه ككائن مكتمل بل ككائن قيد النشوء.
والعمارة لا تعرف بجمالها الثابت بل بقدرتها على التحول، على أن تعيش زمنها الداخلي كما تعيشه الكائنات الحية. وفي هذا السياق يصبح المعماري بمثابة منسق زمني أيضا! فهو من ينظم العلاقة بين الفعل والشكل، بين الضوء والظل، وبين الاستخدام والتغير، بحيث لا يجمد الزمن داخل الجدران، بل يطلقه ليصوغ البنية من الداخل.
وهنا تصبح العمارة النشوئية هي عمارة الزمن أيضا. زمن لا يقاس بالساعات بل بالتفاعلات: كم مرة تغير الضوء داخل البهو؟ كم مرة أعاد المستخدمون تشكيل المسار؟ كم مرة استجابت المادة لاحتكاك الجسد؟
ومن بين الأمثلة المعمارية التي تجسد فكرة الزمن بوصفه مادة تصميمية، يبرز مشروع Metropol Parasol في قلب إشبيلية من تصميم Jurgen Mayer كبنية لا تقاس بجمالها وحده، بل بمدى انغماسها في الزمن.
المشروع لا يبدو مكتملا، بل كأنه لا يزال في طور التكوين. وكأن كل لحظة يمر بها، وكل ظل يتبدل، وكل زائر يعبر، تترك جميعا أثرا على بنيته لا فيزيائيا فقط بل معنويا أيضا. ففي هذا الهيكل الخشبي الهائل الذي يشبه مظلة متحركة أو غابة حضرية، تتداخل الأزمنة: زمن الرومان الذي كشفه الحفر وحفظ في متحف تحت الأرض. وزمن السوق الذي ينبض تحته كامتداد حي للوظيفة اليومية. وزمن الزوار الذين يعبرونه ويصعدونه ويتوقفون في ظلاله أو ينظرون منه إلى المدينة.
وكل هذا لا يتم نظمه بتسلسل مسبق بل ينشأ تلقائيا من تفاعل الوظيفة والضوء والحركة والمادة. إن Metropol Parasol ليس شكلا جاهزا بل هو منصة نشوئية للزمن المدني. وبنيته لا تقول لك: انظر إلي! بل: تعال ودعني أتشكل بك!
وكأنه يعيد صياغة العلاقة بين المعمار والزمن، لا كمجرد خلفية تاريخية، بل كعنصر حي يعيد صياغة الفضاء باستمرار.
أما الجناح الآيسلاندي في معرض إكسبو 2010 فقد قدم قراءة مختلفة تماما للنشوئية، لا عبر الخوارزميات بل عمر تأمل طويل في الجيولوجيا.
المبنى يبدو ككتلة شفافة بنيت من تحت جليد حي، لا من زجاج. وواجهاته متعددة الطبقات، تعكس الضوء وتكسره وتعيد توزيعه داخل الفراغ كما تفعل الكتل الجليدية في الطبيعة. والشكل الخارجي لم يكن هدفا في ذاته، بل نتاج تفاعل بين الضوء ومواد شديدة الحساسية، ودرجة الحرارة. هنا لم تتجل العمارة النشوئية في الشكل فقط بل في الإحساس المناخي. فالفراغ يبرد حين تقترب منه، والضوء يتغير حسب الموقع. وكأن المبنى يرد على المستخدم لا بلغة وظيفية، بل بلغة استعارية حسية. والمبنى يشه التربة الآيسلاندية ذاتها، فهي هشة، متحولة، مشروخة، لكنها حية. بل إنه ليس من الممكن رسم المبنى بدقة على الورقة لأنه لا يعرف بالخطوط بل بالتبدل والانعكاس، وبزمن الضوء.
ويمكننا القول بأنه في في ذلك الجناح الآيسلاندي نرى توسعا في معنى العمارة النشوئية لتشمل ليس فقط كيفية تشكل الشكل، بل كيفية تشكل الإدراك نفسه.
وثمة خيط خفي يجمع بين كل تلك المشاريع رغم تباين أشكالها وبيئاتها. فكلها لا تُفهم من خلال الصورة الثابتة، بل من خلال الزمن. وكلها لا تُقرأ كأشكال مكتملة، بل كبنى نشأت من شروط داخلية، لا من قرار خارجي. وهي لا تشرح نفسها، بل تجبر المتلفي على قراءة تشكلها، لا شكلها.
وهنا يبدأ التحول. حين لا يعود الشكل مجرد نتيجة، بل موضوعا للنقد، وحين لا تكفي الصورة لتفسيره، بل يحتاج المتلقي إلى أن يتتبع آثاره كما يتتبع قارئ أثر جملة محذوفة في قصيدة.
فهل يمكن للنقد المعماري أن يفكك الكتلة كما تفكك الجملة؟
لعل سؤالا من هذا النوع يحتاج إلى إفراد مقال خاص به.
وفي كل الأحوال، فإن الأمر المريح في العمارة النشوئية هو كمية الصدق المصاحبة لها. فهي لا تعد بشيء، لا بالشكل ولا بالكمال ولا بالحضور المهمين. لكنها تتيح شيئا أعمق. أن يولد المبنى من داخله أيضا، لا من حوله فقط. وأن يكون الشكل ابن شروطه، لا ضحية لمزاج المصمم. وأن يتنفس مع محيطه، ويتبدل مع الزمن، ويعيد تكوين نفسه كما تعيد الطبيعة كتابة ملامحها كل يوم.
ليست نمطا ولا مدرسة ولا حتى أسلوبا بصريا. بل هي ما يشبه لوحة Twittering Machine لبول كيلي، التي تخلط البيولوجيا بالميكانيكا، وترسم طيورا كأنها متصلة بمحرك يدوي. آلة لا تغني، بل تغرد عبر الصدأ، وترتج بين الطيران والعبودية. رأي فيها بعض النقاد فخا كابوسيا، ورآها آخرون تمجيدا للضعف الجميل، وانتصارا للعضوي على المصنّع. وقد اعتبرتها الأنظمة السلطوية عملا شاذا، لا لأنها هجومية، بل لأنها عصية على التفسير، وغير قابلة للتوظيف. لوحة لا تقول ما هي بل تبقي السؤال مفتوحا حول معناها وجدواها واتجاه حركتها. تماما كما تفعل العمارة النشوئية، التي لا تُفهم عبر صورتها الثابتة، بل عبر الإيماءة التي توحي بها، والاحتمال الذي تتركه معلقا!
إنها فلسفة تكون. مشروع لإعادة التفكير في العمارة لا كمنتج بل ككائن حي. وفي هذا التحول تخرج العمارة من التمثيل إلى التحول ومن السيطرة إلى الإنصات ومن الفرض إلى الانبعاث. كما في مقطوعات Morton Feldman حيث لا تدرك ما إذا كانت النغمة تتكرر أم تتغير، وحيث يصبح الإدراك نفسه جزءا من العمل. وقد وجد فيلدمان في السجاد الشرقي خاصة الفارسي مصدر إلهام عميق. لم تدهشه النقوش وحدها، بل ما سماه التماثل المعاق، وهو تكرار غير متماثل، فيه حياد بصري يشبه التداخلات السمعية. وقد ألهمه على نحو خاص مفهوم ال abrash وهو ذلك التفاوت الطفيف في الصبغة بين خيوط السجادة، الذي لا يلاحظ من الوهلة الأولى، لكنه يخلق إيقاعا بصريا هشا يتأرجح بين النظام والانحراف. وقد ظهرت هذه الفكرة بجلاء في مقطوعته الشهيرة Crippled Symmetry حيث تتوزع النغمة داخل النسيج الصوتي كما يتوزع اللون داخل السجادة: بتكرار يتعمد الخطأ، وبنمط ينصت إلى انحرافه أكثر مما يقلد تماثله.
وهكذا أراد فيلدمان لموسيقاه أن تتصرف كما تتتصرف تلك النقوش: لا تدخل في نغمة فتخرج منها، بل تبقى عند الحافة، تكرر ببطء، وتنزاح دون أن تعلن التغيير. وكذلك العمارة النشوئية لا تقترح شكلا نهائيا بل تخلق حالة إدراكية يتردد فيها الشكل بين الظهور والاختفاء.
وهناك، في النقطة التي يتقاطع فيها الشكل مع اللايقين، والزمن مع الإدراك، سيبدأ سؤال جديد: إذا كان المبنى ينشأ، فكيف نقرؤه! كيف نقرؤه كبنية لا كصورة؟ كفكرة لا ككتلة؟
لعل الإجابة لا تنتزع من المسقط أو المقطع، بل تحس كما تحس لوحة Sea of Ice لكاسبار ديفيد فريدريش. ليس لأننا نراها مكتملة، بل لأنها تظهر ما لم يكتمل. كتلة في طور التفتت، تشير إلى ما يتكون في الهشاشة، لا في الاكتمال!
https://binabdelqader.com/2025/06/03/emergence/
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تعبث بالكونسيبت (خارج البورتفوليو، داخل الاستعارة)
-
أعرب هذا المبنى (خارج الإدراك، داخل الاشتقاق)
-
افتح الكتالوج (خارج اللعبة، داخل الخطة)
-
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
-
خطة الله في غزة
-
سأم مع سبق الإصرار
المزيد.....
-
-حرب كلامية-.. ترامب يعرب عن خيبة أمله في إيلون ماسك والأخير
...
-
في الذكرى الـ81 لإنزال نورماندي... المحاربون القدامى يعودون
...
-
محررون فلسطينيون يتحدثون عن ظروف اعتقالهم داخل السجون الإسرا
...
-
اكتشاف مدينة أثرية غارقة في المحيط يعود عمرها إلى 140 ألف عا
...
-
اتصال هاتفي بين ولي العهد السعودي والرئيس الإيراني
-
انسحاب مسؤولين مصريين من فعالية دولية كبرى خلال كلمة إسرائيل
...
-
ترامب يعرب عن استيائه من -تصعيد- النزاع الأوكراني
-
في مشهد إنساني.. توزيع مثلجات مجانا على الحجاج في صعيد عرفات
...
-
الأمين العام لحلف -الناتو- يقترح زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 5
...
-
حكومة نتنياهو تصدر توجيهات للإدارة المدنية ببدء فرض السيادة
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|