|
لا تعبث بالكونسيبت (خارج البورتفوليو، داخل الاستعارة)
محمد عبد القادر الفار
كاتب في الفضاء والمعنى
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 08:51
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في ذلك المشهد الهادئ من فيلم ساعي البريد Il Postino، يجلس ماريو على الشاطئ، لا ليناقش الشعر، بل ليهرب من صمته. تخرج منه استعارة عفوية، فيقول له نيرودا مهنئا: لقد استخدمت استعارة لتوك يا ماريو! وكأن اللغة في تلك اللحظة لم تعد ملكا لمن يحمل لقب شاعر، بل لمن يتعثر بها عن غير قصد في لحظة صمت مشع.
ربما تولد العمارة هكذا أيضا، في هامش دفتر لا في مخطط. من جملة لا تقصد أن تكون فكرة تصميم، لكنها تنبض بكتل غير مرئية، وتنسج فراغا لم يُرسم، بل تسلل من عتمة التأمل.
كان المنسي معماريا، نعم. لكنه على مشارف الأربعين ولم يبن مبنى واحدا بعد. لم يكن حتى يعتني بالبورتفوليو ولا يبالي بشأنها! كأن المهنة عبرت بجانبه ولم تلتفت، أو أنه هو من جلس على ناصيتها، يشرب قهوته بهدوء، يراقبها تمر، كما يراقب قطارا لا ينوي صعوده! كان يراقب الفضاءات كما يراقب ضوء المساء على جدار لا يعني شيئا. لم يكن يبحث عن مشروع ولا عن وظيفة، بل عن شعور أو نغمة أو سؤال لم يُسأل بعد
وفي مساء متأخر، كتب جملة على ورقة مهملة:
الفراغ حين يصغي لا يكون سلبيا بل يصبح جهاز إدراك.
لم يفكر كثيرا. لكنه حين أعاد قراءتها ظهر له أحدهم، لا من الخارج، بل من داخل الجملة ذاتها. كان صوته يشبه نيرودا. لكن وبلكنة من خرسانة أو من خشب منحن قال له بهدوء: لقد جئت لتوك بكونسيبت معماري جيد!
وللحظة، لم تعد العمارة ملكا لمن يملكون الأرض، بل لمن يصغون إلى الفراغ حين يتكلم، ولو لمرة واحدة.
قال له الصوت: لقد جئت لتوك بكونسيبت concept!
ولم يكن في نبرته حكم، بل ملاحظة ناعمة، كأنها خرجت من فم حجر.
ثم أضاف، وكأنه يفكر بصوت مرتفع:
الفراغ، حين يصغي؟ هذه ليست جملة هندسية. لكن فيها ما يكفي لتعاد صياغة مدرسة كاملة. كان ذلك الصوت اقرب إلى فرانك لويد رايت هذه المرة: بطيء النغمة، فيه نبرة أخشاب، ورائحة موقد مشتعلة.
قال:
حين كنت أصمم بيت الشلال Falling water لم أكن أبحث عن شكل، بل عن صمت يتلاءم مع الماء. فالفراغ عندي لم يكن وظيفة، بل تواطؤا بين المادة والظل. وكأن العمارة لا تبنى من الجدران، بل من تلك اللحظة التي تقرر فيها الجدران أن لا تعترض الضوء.
لكن قبل أن تكتمل الفكرة تسلل صوت آخر، أنحف، أكثر حدة، فيه شق نغمي لا يمكن إخفاؤه: لو كوربوزييه.
قال وهو يتلمس الكلمات كما يتلمس رسام زوايا لوحة لم تكتمل:
-الفراغ حين يصغي، قد يتحول إلى فوضى! أنا لا أؤمن بالصمت التأملي، بل بالصمت المنظم.
توقف قليلا، ثم أكمل:
في كنيسة رونشان Ronchamp Chapel لم أصمم جدرانا بل حوامل ضوء. الفراغ هناك لا يصغي إليك بل يجبرك أن تصغي أنت له. والنوافذ ليست فتحات، بل أجهزة توجيه شعوري. وكل انحناءة في السقف، وكل ثقل في الجدار، ليس تزيينا، بل توجيه إدراكي نحو الداخل.
ثم استدار نحو المنسي وقال له، لا بلهجة المعلم، بل بفضول الباحث:
كيف توصلت إلى جملة كهذه؟ هل رأيت الفراغ فعلا؟ أم أنك فقط تلعثمت بالقرب من الحقيقة؟ لم يجب المنسي. لكن الفراغ الذي بدأ يتشكل في خياله لم يعد فارغا. كان يملؤه الآن ضوء مائل، وظلال حوار لا يسمع، وملمس سؤال لم يُسأل بعد.
وهنا سمع صوتا ثالثا. لم يكن ذا نبرة تصادمية، بل أشبه بموجة خافتة تهز سطح ماء بارد. قال بصوت شفاف بلا مصدر واضح:
-الفراغ لا يصغي فقط بل يحتفظ بالصدى!
كان ذلك ستيفن هول!
لم يتحدث عن الكتلة، بل عن المائع الذي يتسلل منها. قال كأنه يستدعي صدى ضوء قديم:
في مكتبة هانتزر بوينت Hunters Point Library لم أصمم رفوفا، بل تراكبا زمنيا للنظر. والدرج ليس وسيلة انتقال بل تسلسلا تأمليا. هناك، العمارة ليست كيانا يحتضن الكتب، بل فراغ يعيد تعريف علاقاتنا بالمدينة والماء والظل.
ثم أضاف، وكأنه يسحب فكرة من بين الضلوع:
الفراغ عندي ليس نقيض المادة! بل هو ما يتبقى من الضوء حين لا يعود أحد للنظر فيه. وهو ليس صامتا، بل يتذكر!
بدأ المنسي يعيد التفكير في جملته الأولى: لقد تقاطعت الجملة التي قالها مع فكرة لوكوربوزييه عن التوجيه الشعوري للفراغ، ومع وصف رايت للضوء كتواطؤ مع الطبيعة، والآن جاء هول، ويا للهول! جاء لا ليقترح شيئا بل ليعيد تعريف المعنى من أساسه!
كان المنسي لا يزال واقفا على عتبة الجملة: الفراغ حين يصغي…
صدى الجملة لم يخفت بعد، لكنه بدأ يتكسر تحت وطأة الأصوات التي تجمعت حوله.
كان صوت بيتر آيزنمان هو الذي خرق الصمت هذه المرة. صوت حاد، هش، كأن اللغة عنده لا تقال بل تنتزع من بنى مخفية:
-الفراغ لا يصغي!
قالها وكأنه يقطع خيطا ناعما بشفرة مفايهمية.
-العبارة رومانسية جدا لتُصدَّق! لكنها مغرية بما يكفي لنبدأ الهدم من داخلها!
ثم تابع وهو يدول حول المنسي كما يدور تفكيكي حول نصف مغلق:
-في House VI لم أصمم مكانا يسكن فيه أحد. بل تركت الصدع في مركز الغرفة كأني أقول: السكن هو غياب دائم. والمعنى؟ المعنى لا يُخلق من الضوء أو الظل، بل من الفجوة بين توقعاتك وما تراه فعليا!
هل تفهم ما أقصد؟
إن الكونسبت الحقيقي هو ما لا يشبه نيتك!
وهنا تدخل لوكوربوزييه من جديد، كأنه يستعيد السيطرة:
نحن لا نهدم الجملة، بل نبني منها، حتى وإن ولدت عرجاء!
لكن آيزنمان ابتسم بشيء من الغضب الخفي:
المنسي لم يستخدم استعارة، بل اقترب دون أن يدري من مفصل هش في المفاهيم: ذلك المكان الذي يوشك فيه المعنى على الانهيار. لكنه في النهايى تفادى ذلك الانهيار المفاهيمي، مرة أخرى دون أن يدري. قال رايت، بنبرة من يستنشق الغابة:
ومع ذلك قال شيئا! وهذا وحده يعني أنه لمس الطين!
وهنا، رأى المنسي أن ينسحب إلى الداخل قليلا. لا ليهرب من أعينهم، بل ليتفادى صوته هو.
لم تبرق مخيلته بمتحف غوغنهايم فرانك غيري ولا دار أوبرا سيدني لأوتزون. بل همست بصورة أهدأ: مكتبة إشبيلية العامة Seville Public Library التي صممها مكتب Cruz Ortiz Arquitectos. كانت قد مرت معه كحالة دراسية Case study خلال سنوات دراسته لبكالوريوس هندسة العمارة، وظلت في ذاكرته! هناك اندمج القديم بالجديد، لا بصدمة ولا بإسقاط، بل كأن الزمان انثنى مرة واحدة دون أن ينتبه أحد.
ثم قفزت إلى ذهنه حالة دراسية أخرى لم يكن على علم بها قبل أن يرى تحليلا من قبل أحد الطلبة في واحدة من جلسات تحكيم Jury السنة الخامسة: مكتبة المدينة في شتوتغارت. ذلك الصندوق الأبيض الذي صممه Eun Young Yi، لا كصرح معرفي فقط بل كمجسم ضوء تقريبا. يتدرج الزائر صعودا حول فراغ مكشوف للضوء، لا بحثا عن نهاية، بل كأن مستوى يعيد كتابة غايته، في مسار تحكمه سكينة هندسية، لا ضجيج فيه سوى وقع الخطى! وكأن كل طابق يكشف نفسه كامتداد للصمت، حيث تتكرر الحركة حول الفراغ لا للوصول، بل لتثبيت الإقامة في المعنى، تحت ضوء يصفي التجربة دون أن يختزلها.
أغمض المنسي عينيه وقال لنفسه، دون استعارة:
-ربما لم أقل شيئا، لكنهم سمعوا شيئا لم أقله!
في تلك اللحظة لم تكن الصور التي توافدت إلى ذهنه من نوع المباني التي تتصدر المجلات أو تدرس في المحاضرات، بل كانت تلك التي تتسلل إلى الذاكرة دون ضجيج وتستقر هناك كأنها جزء من نسيج الوعي!
تذكر مبنى وايت يو White U في اليابان والذي صممه تويو إيتو. منزل صغير، اختفى خلف جدرانه البيضاء المنحنية، وكأنما يحاول أن يختزل العالم في فراغ داخلي يحتضن الحزن والسكينة معا. كان ذلك المبنى بمثابة قصيدة معمارية لا تقرأ بالكلمات، بل تحس بالظل والنور والانحناءات.
ثم عاد بمخيلته إلى البيت الزجاجي Glass House الذي صممه فيليب جونسون. منزل شفافا، حيث لا مكان للاختباء، وكل شيء مكشوف للعيان. ولكن، ورغم ذلك، كان هناك شعور بالخصوصية، كأن الزجاج نفسه يخلق حدودا غير مرئية بين الداخل والخارج.
يا للتناقض: وايت يو يخفي كل شيء، والبيت الزجاجي يظهر كل شيء، وكلاهما يترك أثرا لا يمحى في النفس!
وهنا قال المنسي لنفسه:
ربما العمارة ليست ما نراه، بل ما نشعر به عندما لا نكون متأكدين مما نراه! وفي اللحظة التي كاد فيها يظن أن العمارة كلها لعبة إخفاء وإظهار، همس في ذاكرته مبنى لم يكن يخفي شيئا، بل يرفض أن يفسر نفسه أصلا: محطة إطفاء فيترا Vitra Fire Station، أول مشروع صمم فعلا من يد زها حديد لا من مخيلتها فقط. هناك لم يكن الخط المائل تزيينا، بل موقفا. لا توازن، لا محاور متناظرة، لا دفء. فقط حدة! كأن المبنى نفسه يقفز قبل أن يتأكد من الأرض!
تساءل المنسي: وهل يمكن أن يكون الكونسيبت هو الانحراف ذاته؟ لا ما يقوله، بل كيف يقرر أن يقول ما لا يقال؟
ذلك المبنى لم يكن يرغب في الاحتواء، بل في الشرخ. الشرخ في العادة يرمم. أما هنا فكان هو التصميم. لم يكن ذلك المبنى دعوة للسكن بل صدمة للحواس، ورفضا لأي تواطؤ مع التوقع. وكأن زها حديد حين رسمته لم تكن تبحث عن إجابة بل عن ارتجاج في الإدراك لا في الشكل.
أعاد المنسي قراءة الجملة، لا كمعماري، بل كمن ينصت إلى صدى بعيد من نفسه القديمة. لم تعد الجملة تقول ما قالته أول مرة. بل صارت كأنها شبح فكرة، يظهر حسب من ينظر.
رايت سمع فيها الضوء. لوكوربوزييه سمع فيها النظام. هول سمع فيها الزمن. آيزنمان سمع فيها الصدع.
أما المنسي، فسمع فيها الارتباك النقي. ذلك الشعور الذي يسبق المعنى ولا يسعى إليه.
أعادها مرة أخرى، وأعادها، إلى أن أدرك أنها لم تكن تنتمي له أصلا. كأنها سردت قبلَه، لا من قِبلِه.
لم يكن هو من كتبها، بل هو من صادفها على الورقة، كما يصادق المرء حجرا في درب لم يمشه من قبل.
وكأن العمارة التي دافع عنها الكبار في الجدل السابق لم تكن إلا آثارا لاحقة لجملة نطقت في الهامش، وتمت مأسستها في ما بعد.
وهنا تسلل إلى ذهنه سؤال لم يدع الذكاء بل همس مثل لغز قديم:
وماذا لو لم تكن الجملة أصلا استعارة!
ماذا لو كانت ببساطة نقطة انكسار غير مصرح بها في السرد أعيد ترتيب ما قبلها على ضوئها!
بهذا، لم يعد الكونسيبت سببا للبناء بل صار أثرا جانبيا تم تضمينه لاحقا لإضفاء المعنى، تماما كما يعاد تفسير الأحلام القديمة بعد معرفة النهاية!
وهكذا تكتب العمارة أحيانا: لا من نية مسبقة، بل من إعادة تنسيق للحظة سابقة، كي تبدو كما لو أنها كانت حتمية منذ البداية! في العمارة اليابانية التقليدية، تستخدم الأبواب المنزلقة مثل فوسوما وشوجي لتقسيم المساحات مما يسمح بتغيير وظيفة الغرفة حسب الحاجة. هذه المرونة في التصميم تعكس فهما عميقا للفراغ كعنصر حي يتفاعل مع المستخدمين والبيئة المحيطة، كما يوضح آراتا إيسوزاكي في كتابه Japan-ness in Architecture حيث يقدم الفراغ لا كحيز سلبي بل كوسيط ديناميكي يتشكل بالسلوك والزمن.
تخيل المنسي نفسه في غرفة واشيتسو يابانية حيث تتغير وظيفة الغرفة بتغيير ترتيب الأثاث والجدران المنزلقة. هناك، الفراغ لا يملأ بل يعاد فهمه.
وفي تلك الغرفة المتحولة، لم يكن الفراغ مجرد ظرف للحدث بل كأنه هو الحدث. هناك، بدأ المنسي يدرك أن العمارة ليست دائما ما يُحتفى به، بل قد تكون في ما لا يقال، في ما يُبنى بصمت ويُفهم بالحواس لا بالكلمات. بعض المباني لا تُدرَّس في الكليات لكنها تعلِّم شيئا أعمق، عبر الطريقة التي يتسلل فيها الضوء، أو النمط الذي يُفتح فيه باب ما على زاوية غير متوقعة. فما لا يُعلن أحيانا هو ما يزرع أثرا أعمق فينا دون أن نشعر.
ثم تساءل: ما معنى أن تُبنى عمارة ولا تُدرّس؟ أن يبقى مبنى ما خارج المنهاج لكنه لا يخرج من الذاكرة؟ وهل ما لا يُذكر في المحاضرات لا يستحق الذكر؟ وهل العمارة التي لا تُذكر في المحاضرات أقل حضورا، أم أكثر مكرا؟ وما معنى أن يتسلل فراغ ما إلى الوعي دون إذن؟
في تلك الغرفة اليابانية التي لم يزرها، لكنه سكنها بخياله، بدأ الفراغ يتصرف كشيء حي: يتمدد، يتقلص، يتغير مع الضوء والمزاج والحركة. هناك، لم يكن الحيز ثابتا، بل مرنا، قابلا للتأثر والاستجابة!
في ذلك التأمل الطويل، لم يعد المنسي ييرى الفراغ كمجرد مساحة هندسية تقاس، بل كجسد ثان، يتنفس مع الزمن، يتفاعل مع الإيماءة، ويمتلك ذاكرة. وهذا التبدل لم يأت من فهم أكاديمي بل من إدراك حسي صامت، يشبه تماما ما وصفه موريس ميرلوبونتي، وهو اسم لم يقرأه ضمن مقرر التصميم، بل ضمن انحرافاته الفلسفية المتأخرة!
في كتابه Phenomenology of Perception لا يقدم ميرلوبونتي الجسد كموضوع إدراكي فقط، بل كوسيط للوعي ذاته. فالجسد عنده ليس أداة لإدراك العالم بل هو العالم الذي يدرَك من خلاله كل شيء. فالإدراك لا يتم من الخارج، بل من داخل الجسد الحي الذي يسكن العالم. الجسد لا يراقب بل يشارك في تشكيل المعنى.
استوعب المنسي ذلك متأخرا، حين أدرك أن فهمه للعمارة لا يمر عبر الصور أو النصوص أو التحليلات فقط، بل عبر حركات جسده داخل المكان: كيف يلتفت، أين يتوقف، ومتى يشعر أن الضوء لامس جلده لا عينه.
ولعل العبارة التي كتبها: الفراغ حين يصغي…… لم تكن استعارة، بل وصفا دقيقا للحظة إدراكية تقع بين الجسد والمكان.
تذكر المنسى كيف أن الإدراك لا يتشكل في لحظة بصرية واحدة، بل في تتابع الحركات، في المسار لا في المشهد. كان يتخيل نفسه يسير داخل House 11a لبيتر آيزنمان، حيث لا يتبع الفراغ منطقا وظيفيا مألوفا، بل يتحرك كأنه يتذاكى على التوقعات. الجدران لا تحتضن بل تربك. النوافذ لا تطل بل تعيد ترتيب العلاقة بين الداخل والخارج. وهناك، في مفصل غير محسوب، فهم المنسي أن المعنى قد لا يكون في ما يعبر عنه المبنى، بل في ما يحجبه!
في تلك اللحظة، بدا له أن مشروع آيزنمان ليس بيتا للسكن بل سيناريو إدراكي كتبه معماري متأثر بلغة السنيما. وهذا ما أشار إليه آيزنمان في إحدى مقابلاته حين تحدث عن أثر مخرجي السنيما، أمثال فيلليني وتاركوفسكي على فهمه للزمن والتركيب. العمارة بالنسبة ليست فقط بناء، بل مونتاج، نوع من التقطيع المفاهيمي، حيث يصبح الإدراك تجربة متعددة الطبقات، أشبه بفيلم لا يروى بل يشعر.
وفي تلك الطبقات التي تشبه مونتاجا متشابكا عاد المنسي ليتأمل فكرة الفراغ حين يصغي، لا كجملة معمارية، بل كتركيب سردي: متى يصغي الفراغ؟ كيف نعلم أنه يصغي؟ وما الذي يصير عليه عندما نتجاوزه دون أن ننتبه؟
تسللت إليه في تلك اللحظة نغمة ناعمة، لا تشبه الضوضاء، بل ما بعدها. تذكر So What مقطوعة مايلز دافيس من ألبوم Kind of Blue. لم يكن ما أثر فيه هو اللحن في حد ذاته بل تلك اللحظات التي لا يعزف فيها شيء، تلك الفراغات الي تترك عمدا، وكأنها تحتفظ بجوهر لا يقال. كان دافيس في تلك المقاطع، لا يملأ السكون، بل يعزفه. وما كان يبهره في هذا النمط، الذي يعرف بال modal jazz، هو أنه لا يقوم على تسلسل نغمي صارم ك bebop بل على مساحات لحنية مفتوحة تمنح فيها الحرية للموسيقي كي يرتجل ضمن إطار محدود. كأن الانضباط نفسه خلق ليحتوي التجاوز.
وقد بدت له هذه الفكرة، لأول مرة، أقرب ما تكون إلى جوهر العمارة الذي يلاحقه دون أن يسميه: ذلك الذي لا يتجلى في الجدران بقدر ما يتجلى في ما تسمح به الجدران. وهذ يشبه ما أشار إليه بول برلينر في وصفه للجاز، وذلك في كتابه Thinking in Jazz حين اعتبر أن قواعد الجاز ليست قيودا بل شروطا حوارية. فهناك، كل نغمة تتكئ على ما قبلها، وتلمح إلى ما بعدها، وتفسح المجال لغيرها، كأن الفراغ في الجاز، تماما كما في العمارة، لا يُملأ، بل يفسر لحظيا، كاحتمال للتجوز والتفاوض والتواطؤ!
وهنا فهم المنسي فجأة: أن العمارة، كالموسيقى، قد تبنى مما لا يبنى، من تلك الهوامش التي تُقصد، ومن السكتات التي تعني أكثر من النغمة، ومن الفراغ الذي لا يُلغى بل يُقصد لينصت إليه.
وفي هذا التقاطع بين النغمة والكتلة، بين الصمت والفراغ لم يكن بول برلينر بعيدا عن بيتر آيزنمان: كلاهما لا يرى في الشكل جوابا، بل حقلا مفتوحا للتأويل، لا كمنتج نهائي، بل كإطار تفكير.
وهنا يتداخل هذا الإدراك مع ما جاء في ورقة بيتز آيزنمان The End of the Classical حيث اقترح أن الشكل المعماري لا يجب أن يتبع الوظيفة كما في الحداثة، بل أن يتحرر ضمن مفهوم ما بعد الوظائفية Post --function--alism: أن يولد الشكل لا كأداة، بل ككيان مستقل، يحمل منطقه الخاص خارج حدود الدلالة المباشرة.
وهكذا بدا أن ما بين مايلز دافيس وآيزنمان، رغم الاختلاف الظاهري، ليس تعارضا بل توترا خصبا: فالأول يترك السكتة لتتكلم، والثاني يترك الشرخ ليتكلم، وكأن الفراغ المعماري في الحالتين ليس صمتا بل بيانا مؤجلا.
لكن المعنى لم يكن يترسب في ذهن المنسي كمفردات نقدية، بل كأثر جسدي. كان يشعر، أحيانا، أن المباني التي تبنى حول فكرة فقط، تشبه عازفا يصر على مقطوعة لا يتقنها. في حين أن المشاريع التي تسكنه فعلا كانت تلك التي تهمس ولا تصرخ. تفتح له احتمالات التأويل ثم تنسحب بصمت.
في مشروع آيزنمان Cannaregio Town Square الذي لم يبن أصلا، قدم آيزنمان المشروع بوصفه form without---function---، كتلة لا تعد بوظيفة ولا تعتذر عن غموضها. وكان في ذلك المشروع شيء من الجرأة النظرية، لكن أيضا شيء من العجز: كأن المعماري تعمد أن يصمم فراغا مفصولا عن الاستعمال لا ليحرره، بل ليختبر استحالة احتوائه.وهناك أدرك المنسي أن الفكرة حين تنفصل تماما عن التجربة قد تتحول إلى حالة مختبرية أكثر منها عمارة، ولكن وفي نفس الوقت أدرك أن المعنى قد يكون مقصودا في لحظة الغياب كما لو أن البنيان قرر ألا يفصح عن كل ما لديه.
ذلك المشهد المرسوم، لا المنفذ، لم يكن فارغا، بل كان يتنفس، مثل كائن لم يكتشف بعد. وفي خياله، لم تكن هذه أول مرة يواجه فيها تلك الفجوة بين الفكرة والتجربة. تذكر غويدو في فيلم 8 1/2، المخرج الغارق في أزمة إبداعية، يبحث عن ما يشبه الكونسيبت لفيلمه التالي. كل شيء حوله يدور، يتداخل، يتفتت، لكنه لا يجد الخيط الناظم. إلى أن يصل، في المشاهد الأخيرة، لا إلى حل، بل إلى استسلام شعري، فيرتجل. لا لأنه يملك الجواب، بل لأنه لم يعد قادرا على انتظار الوحي. هناك وفي تلك الدوامة الفلينية يتكون شبه كونسيبت: عمارة غير مرئية من لحظات بشرية متداخلة.
وفي كل هذه الالتواءات شعر أن العبارة التي كتبها عن إصغاء الفراغ لم تكن استعارة، بل مفتاحا لمعجم آخر: عمارة تفكر، لا تقرر، تجرب، لا تعلّب، تنصت، لا تتكلم كثيرا!
وفجأة عاد الصوت.
لم يكن نداء، بل ارتدادا ناعما لما قيل سابقا.
قال رايت:
-إذا هل غيرت الجملة العالم؟ أم غيرتك أنت فقط؟ كان في صوته شيء من التهكم لكنه لم يكن ساخرا. كان كمن يختبر النبض بعد العملية الجراحية.
قال لو كوربوزييه، وهو يدور حول الفكرة كما يدور الضوء حول منحنى: -الجملة لم تكن تصميما، لكنها حفرت لنفسها فراغا. هذا يعادل ساعات من الرسم!
وأضاف، وهو يتأمل ملامح المنسي كما لو أنه بصدد رسمها:
وربما، هذا ما نسيناه. أن العمارة لا تولد دائما في المساقط، بل أحيانا تتسلل من وراء الكتفين، أو من بين فوضى جملة لا نقصدها! أما آينزمان، فبدا أقل عدوانية هذه المرة. قال بصوت خافت، فيه شيء من فك المفهوم، لا تفكيك الفكرة: -لا زلت أظن أن الجملة رخوة. لكن أحيانا الجمل الرخوة تترك آثارا لا تمحى بسهولة!
ثم أضاف: -أنا لست ضدك. أنا فقط لا أثق بالجمل التي تقال دفعة واحدة. فالمعنى يحتاج إلى فوضى كي يولد.
قال المنسي بهدوء، وكأنه يخاطب صدى داخليا:
على الأقل أنا الآن أملك جملة ما، وفراغا صادقني قبل أن أحاول احتلاله. وحين بدا أن الجدال انتهى، وأن المنسي عاد إلى وحدته، ظهر ستيفن هون من جديد، لا كمن ينتظر دوره كي يتحدث، بل كمن خرج من ظل الجدار لا من الباب.
لم يقل رأيا ولم يدل بحكم. بل اكتفى بأن وضع حجرا مائلا فوق الطاولة. حجر صغير، ليس منحوتا، بل مأخوذ من حافة نهر ما.
قال بهدوء: أحيانا لا نحتاج إلى كونسيبت. نحتاج إلى زاوية ميل فقط!
ثم نظر إلى الضوء وهو ينساب من خلال فراغ بين الستائر وأضاف: -المفاهيم concepts تبنى نعم، لكنها أحيانا تُترك، مثل فسحة بين نغمتين.
لم يكن أحد بحاجة إلى أن يعلق. كان كأنه أعاد توزيع الصمت بين الجميع!
لم يكن المنسي قد قال كل ما عنده، ولم يكن يحتاج إلى ذلك.
فالعبارة التي كتبها لم تغلق شيئا، بل فتحت احتمالا: أن تكون العمارة أحيانا ما يتبقى بعد أن تسكت النظريات. أن يكون الفراغ، لا ما يبنى، بل ما يسمع حين يتوقف البناء عن الكلام.
ربما لم يكن الكونسيبت فكرة، بل توقيتا. كجملة موسيقية لا تُكتب، بل تظهر حين يعاد الإصغاء إلى الصمت!
لم يكن ما قاله المنسي فكرة تصميمية، ولا كان كونسيبتا جاهزا للعرض. بل كان مجرد جملة قالها ليملأ الصمت، ففضح الفراغ.
وبينما كان الكبار ينقبون عن المفاهيم بين الطوابق، كان هو قد عبر الطابق الأول وخرج، لا بشهادة ولا بسيرة ذاتية، بل بعبارة وحيدة حدثت خارج البرورتفوليو، داخل الاستعارة!
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أعرب هذا المبنى (خارج الإدراك، داخل الاشتقاق)
-
افتح الكتالوج (خارج اللعبة، داخل الخطة)
-
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
-
خطة الله في غزة
-
سأم مع سبق الإصرار
-
غزة: مشهد إضافي
المزيد.....
-
رجل يدّعي هروبه من سجن بأمريكا يتوسل لترامب ومشاهير لمساعدته
...
-
خريطة توضح موقع -جسر القرم- الذي فجرته أوكرانيا.. ومدى أهميت
...
-
التونسي هشام الميراوي... رجل -طيب سخي- راح ضحية جريمة عنصرية
...
-
-نريد لقمة العيش بكرامة-.. فلسطينيون يتحدثون لـCNN بعد مقتل
...
-
القصف الإسرائيلي يستهدف الأبراج السكنية في غزة | بي بي سي تق
...
-
ما هي مراحل توسعة الحرم المكي عبر التاريخ؟
-
أمين عام الناتو: مسألة انضمام أوكرانيا للحلف لا زالت مطروحة
...
-
غزة: مقتل العشرات وإستهداف مستشفى في دير البلح والحصيلة الإج
...
-
تركيا تثبت أقدامها في سوريا.. دعم للقوات الحكومية وانتشار طو
...
-
الحكومة الإسرائيلية مهددة بالانهيار بسبب خلاف الخدمة العسكري
...
المزيد.....
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|