أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - ناضل حسنين - حكايتي مع المجرمين..















المزيد.....


حكايتي مع المجرمين..


ناضل حسنين
الكاتب الصحفي

(Nadel Hasanain)


الحوار المتمدن-العدد: 8365 - 2025 / 6 / 6 - 11:30
المحور: سيرة ذاتية
    


كانت تلك الفترة تعرف بسنوات الانتقال من الاشتراكية الى الرأسمالية، فلا تمكن المواطن من التخلص من الاشتراكية وقوانينها ومظاهرها ولا تمكن من اتقان الرأسمالية وأركانها ومتطلباتها.. فكانت الفوضى سيدة الواجهة في كل مناحي الحياة، وكان كل يبحث عن طوق النجاة لنفسه بنفسه.. الشرطة وضعت القانون داخل الدرج وخرجت فقط بالمسدسات تبحث عن اقوياء الساعة لتنضم اليهم. وأقوياء الساعة في ظل غياب القانون، كان الرياضيون ولا سيما فئة المصارعين، أولئك الذين اطلقنا عليهم تسمية "الرقاب الغليظة"، لأن المصارع عادة رقبته غليظة.
اتحدث عن السنوات الأولى التي تلت سقوط الاتحاد السوفييتي وانعكاسه على بقية دول المعسكر الاشتراكي، وكيف تهاوت الأنظمة في كل دول حلف وارسو الواحد تلو الآخر.
اتحدث عن بلغاريا التي كنت أعيش فيها منذ نحو 14 سنة في تلك الأيام، وكيف بدأت الأرض المستقرة تهتز تحت اقدامي وبدأ القلق يصاحبني أينما ذهبت وحيثما تواجدت بعد ان سحب غورباتشوف غطاءنا، نحن مبعوثي حركات التحرر الوطني والأحزاب الشقيقة من على رؤوسنا، بأن فكك المنظومة وأزال المظلة التي كانت تقينا شر الاعتداءات وسوء الظروف وكنا الأبناء المدللين القادمين من خارج المنظومة، ينظر الينا العامة بكثير من الحسد، لكوننا ولدنا وترعرعنا بعيدا عن الاشتراكية.. ولأن حريتنا كانت تتخطى الجدار الحديدي المفروض كالطوق على الدول الاشتراكية، ولأننا كنا نسافر كل صيف الى اوطاننا الرأسمالية ونعود حاملين ما يثير الاعجاب والحسد معا من رموز العالم الآخر.. ذاك العالم الذي نشتمه في النور ونتمناه في الظلام.. نظام يتوق اليه كل "سجناء" الاشتراكية، كل أولئك الذين كانوا يتباهون بصوت مرتفع بالوطن، وبالاشتراكية، ثم يميل عليك احدهم هامسا يطلب جرعة من الويسكي او سيجارة مالبورو!
اتحدث عن هؤلاء الذين كانوا يتعاطون الاشتراكية كالخدمة الإجبارية ويمارسون طقوسها باحتجاج صامت لا يمكن ادانته ولا يمكن تمجيده.. فهؤلاء لم يكونوا يعملون بل كانوا يذهبون الى العمل كل يوم، يقضون ساعات الدوام وقبل انقضاء الوقت بنحو ساعة تجدهم يقفون في طابور عند بوابة المصانع والمؤسسات في انتظار ان تدق الساعة الرابعة او الخامسة ليختم كل منهم بطاقة الدوام ويغادر الى بيته او الى الحانة المجاورة ليبدأ يومه خارج المنظومة.
هؤلاء كانوا يمارسون حياة بائسة بسيطة بلا تعقيدات وبلا قلق. كانت حياتهم مرتبة من المهد الى اللحد يلازمها الفقر والقهر كل أيام السنة فكان يستعين الجميع بالقناعة والاستسلام لعلمهم بأن الأسوأ يقف خلف الباب.
هؤلاء كانوا يتوجهون الى العمل عند الصباح، ولا أقول انهم يمارسون العمل، فقد كان العمل ساحة لممارسة لعبة الورق والشطرنج والاحتفال بأعياد الميلاد واعياد أسماء القديسين المطابقة لأسمائهم.. حياة تتراوح بين قضاء ثماني ساعات في مكان العمل وبين قضاء عدة ساعات امام التلفاز لمتابعة مسلسل سوفييتي يحكي بطولات العمال والفلاحين.. او مسلسل محلي يسرد للمشاهد بطريقة مشوقة تفاصيل مقاومة الحكم العثماني مؤلف من عدة اقسام، وكل قسم مؤلف من ثلاثين الى أربعين حلقة.. لا عجب في ذلك فتكلفة مثل هذه المسلسلات التلفزيونية تكاد تكون صفرا لأن الممثلين والمخرجين وكل من له صلة بعالم السينما والمسرح والتلفزيون كانوا يتقاضون رواتب شهرية سواء عملوا ام لم يعملوا.
اتحدث عن الامسيات في تلك البلدان التي لا تحمل أي مفاجأة سوى الموت من حين لآخر، بلدان تعيش حياة رتيبة تتكرر يوميا بنفس اللون والصوت والحركة والحوارات.. من رنين ساعة المنبه صباحا ولغاية "تصبحون على خير" مع ختام البث التلفزيوني للقناة التلفزيونية الوحيدة التي لا قناة سواها.. لم يكن احد ينتبه الى هذا الملل إلا بعد ان يتناول عدة كاسات من مشروب "الركية"، وهو مشروب كحولي كالعرق محلي الصنع، مع بعض المخللات، فتتوهج شهيته لحياة مختلفة الى ان يغفو ويفيق صباح اليوم التالي الى العمل، وهكذا..!
تلك كانت حياة الناس اليومية، حياة المواطن العادي البعيد عن أروقة السلطة سواء على الصعيد المحلي او على الصعيد القطري. هؤلاء كانوا يتجنبون كل شيء يثير شكوكهم، لدرجة ان الأشد خوفا من بينهم كانوا يخشون ارتداء بنطلون "الجينز" لأنه صناعة رأسمالية.
وسط هذا السواد الأعظم من العامة، كان الشيوعيون بمثابة النخبة التي تتمتع بالسلطة وبما لا يحلم به المواطن العادي. وكان يكفيك ان يكون لك صديق عضوا في الحزب الشيوعي الحاكم لتنال أكثر ممن حولك ولتتمتع ببعض الميزات او تحصل على ما هو غير متاح للعامة.. كأن تحصل مثلا على وظيفة رفيعة أو أن تشتري سيارة تنتظرها منذ سبع سنوات في طابور الانتظار وهي عادة فيات 124 صناعة سوفيتية تسمى "لادا" وينتظرها الراغبون سنين طويلة حسب سجلات قد تموت قبل ان يحل دورك. وكذلك الامر بالنسبة للشقق السكنية، فكان الأهل يسجلون أسماءهم كمحتاجين لشقة سكنية بمجرد ولادة ابنهم او ابنتهم علهم يحصلون على الشقة مع بلوغ ابنهم سن الزواج..
في المقابل كانت النخبة تقبض على السيف فوق رقاب المتمردين وكانت متأهبة طوال الوقت لقطعها لمجرد التحرك في الاتجاه الخطأ. ولذا كان يتباهي كل من لديه صديق من هذه النخبة فذلك بمثابة "بوليسة تأمين" لحياة مقبولة، بل كان شخص كهذا يبث الرعب في نفوس من حوله حين يلوح بهذه الصداقة وكأنه يقول "احذروني وإلاّ سأطلب من صديقي فلان ان يرسلكم الى ما وراء الشمس".. لم يكن هذا مشهدا من سينما الخيال.. فالمنافي المنتشرة في الارجاء كانت خير شاهد على ذلك.. يكفي ان يكتب احدهم تقريرا يذكر فيه أنك عدو الاشتراكية وتخطط للفرار من البلاد متسللا عبر الحدود الى تركيا او اليونان.
هكذا كانت الحياة خلف "جدار برلين"، في كل دول حلف وارسو، دول مجلس التعاضد الاقتصادي.. او ببساطة دول المنظومة الشيوعية التي كانت تخوض حربا باردة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ولغاية عهد ميخائيل غورباتشوف.
تفككت المنظومة الاشتراكية، لأنك لا تستطيع ان تستهلك اكثر مما تنتج، ولأنك لا تستطيع ان تدعم كل أنواع السلع بأموال الميزانية العامة لكي ترضي المواطن وتتباهي برخائه المصطنع بينما تتكدس الديون الداخلية على الدولة لدرجة تصبح عاجزة عن تحمل هذا العبء فينفجر اقتصادها في تضخم مالي يذيب كل مدخرات الشعب فيتبخر الأمان في لحظات ويهيم كل مواطن على وجهه بحثا عن لقمة عيش لا يستطيع شراءها لأنها بأسعار اليوم بينما راتبه من يوم أمس، لأن العملة فقدت قيمتها وصارت علبة السجائر تساوي نصف الراتب، وعلاوة على ذلك فهي مفقودة من الأسواق.. كنا نقف في الطابور منذ ساعات المساء لنحصل على رغيف الخبز مع ساعات الفجر الأولى، وكان سعيد الحظ منا من لديه صديق يعمل في مخبز أو فرن. كان فنجان القهوة أمنية لا تتحقق سوى لدى بعض المواطنين من ذوي العلاقات الخاصة مع أقوياء الزمن.. وأذكر أن أخي ارسل لي في تلك الفترة طردا بريديا يحتوي على ورق تواليت من إسرائيل، رغم انني لم اطلب شيئا، متدثرا بالكبرياء الفكري.
عاثت الفوضى في تلك البلاد وتمت تنحية رئيس الجمهورية تودور جيفكوف عام 1989 بعد ان حكمها منذ عام 1956، منذ ذاك التحول الذي حفظناه عن ظهر قلب، "بلينوم ابريل" والاطاحة بالرئيس السابق، تشيرفينكوف.
انطلقت المظاهرات في الشوارع تطالب بلقمة العيش.. تماما كما كان يدور في بقية الدول الاشتراكية، فبمجرد ان اعلن غورباتشوف اتباع الشفافية "غلاسنوست" وإعادة هيكلة النظام "بريسترويكا" بدأت كل دولة من الدول الاشتراكية ترتب امورها كما تراه مناسبا. وكانت احداث رومانيا في تلك الفترة ملفتة للنظر بإعدام تشاوشيسكو وزوجته بعد محاكمة شكلية بربع ساعة.
حالة من الهيجان كانت تعم كل عواصم الدول الاشتراكية وكان ذلك مخاضا عسيرا لنظام جديد لا احد كان قد استعد له ولا أعد الكوادر الضرورية لإدارته، فأنت لا تستطيع الانتقال من الاشتراكية الى الرأسمالية بينما الدولة العميقة مرصعة بالمسؤولين والقيادات الاشتراكية.. من رئيس المجلس المحلي الى سائق القطار ومدير السوبرماركت لغاية مدير الجامعة والمدرسة والحضانة.. كلها كانت مناصب غير متاحة لعامة الناس.. وكان كل من يتولاها لا بد ان يكون عضوا في الحزب الشيوعي او على الأقل مر عبر غربال الحزب الشيوعي، او الحزب الحليف الشكلي له في السلطة، الاتحاد الشعبي للفلاحين البلغار.
هكذا كانت الأجواء من عام 1989 ولغاية منتصف التسعينيات.. فوضى عارمة وفيها يبحث كل مواطن عن طريقة للنجاة من الفقر المرابط عند مدخل بيته، الفقر الذي أذل الناس لدرجة انتشار التسول والدعارة وعمليات السطو في وضح النهار.. انتشرت الجريمة الاقتصادية بسرعة البرق، وتمكن الكثيرون ممن كانوا في مناصب رفيعة من الاستيلاء على الموارد التي كانت تحت تصرفهم وإختلاسها، في حين نقل الكثيرون منهم أموالا الى خارج البلاد فقط لأنهم كانوا بحكم مناصبهم ووظائفهم أصحاب حق التصرف بمثل هذه الأموال، ثم فروا بعد ذلك من البلاد الى حيث حولوا الأموال المختلسة.
الى جانب انتشار الجريمة الاقتصادية التي خلقت بين ليلة وضحاها أصحاب ملايين يركبون سيارات المرسيدس "مايباخ" الفارهة وحتى "الفيراري" و"الرولس رويس". اعرف من هؤلاء واحدا كان يعمل في محطة وقود وأعرف آخر من أصحاب الملايين يعمل قبل ذلك حاجبا عند بوابة مصنع.
انتشرت في نفس الوقت الجريمة الجنائية البشعة.. الجريمة التي انخرط فيها الرياضيون قبل غيرهم ممن اصطلحنا على تسميتهم في مطلع هذا السرد بـ"الرقاب الغليظة"، من مصارعين وملاكمين.. أي من يمارسون الرياضات التي تعتمد القوة الجسمانية. هؤلاء راحوا يعملون كحراس لدى أصحاب الملايين من الأثرياء الجدد. وكان المليونير يتجول محاطا بعدة اشخاص يبدون كأنهم كائنات من كوكب آخر من حيث البنية الجسمانية، فكانوا يمنحون المليونير هيبة وقوة تفوق كل سلاطين الدول الاشتراكية. وصار هذا المليونير صاحب مصرف وصاحب شركة بناء او انه اشترى مصنعا من النظام الاشتراكي المتساقط بثمن بخس.. ومنهم من انشأ شركة حماية للشخصيات الهامة والمصالح العامة.
وصارت سيرة "شركات الحماية" تتوسط كل حوار وكل حديث بين اثنين، ذاع صيت العاملين في هذه الشركات لدرجة انك بمجرد ان رأيت شابا بعضلات بارزة تتجنبه ظنا منك انه ينتمي الى هذه الفئة من الجماعات.. شركات الحماية. وكان هؤلاء الشباب يشعرون بزهو اللحظة فيبرزون اجسامهم وعضلاتهم بصورة واضحة من اجل الإيحاء للآخرين بانتمائهم الى فئة اقوياء الساعة الذين عليك تجنبهم والسعي لإرضائهم.
إن توجهت الى مطعم فاخر تجد بعضهم داخل المطعم يأكلون ويشربون ويتلقون افضل خدمة في المطعم ثم ينهضون ويغادرون بينما يرافقهم صاحب المطعم وهو يغدق عليهم بالشكر والثناء ويذكرهم بأنه في انتظارهم غداة ذلك.. لأنه يدرك جيدا ان مجرد وجودهم في مطعمه يعتبر حماية له وان حسابهم لما يستهلكونه من طعام وشراب يمكن اعتباره تكلفة الحماية "المجانية".. نوع من الاتفاق الصامت المفهوم ضمنا بين صاحب المطعم وبين افراد هذه المجموعات.
كان أصحاب "الرقاب الغليظة" يركبون ارقى السيارات ويضعون في معاصمهم اغلى الساعات وترافقهم اجمل الفتيات وتعزف لهم الفرق الموسيقية في الحانات او في "تافيرنا" راقية الموسيقى التي يحبونها دون حتى ان يطلبوها. هؤلاء تحولوا وبسرعة من حراس للأثرياء الى أثرياء هم أنفسهم.. وراحوا يسيطرون على مرافق الاقتصاد بالقوة تارة وبنعومة تارة أخرى.
وهكذا الى أن وصلوا اليّ..
مع الانتقال من الاشتراكية الى الرأسمالية، اشتريت منزلا في وسط المدينة قريبا من كلية الطب التي تعتبر اضخم مستشفى في المدينة، وكان منزلي مؤلفا من طابقين وساحة خلفية وأخرى امامه تفصله عن الشارع العام الحيوي، فقررت بناء محلات في الساحة الامامية لاستفيد منها للإيجار او حتى لتشغيلها بنفسي، رغم انني كنت اعمل في الإذاعة في تلك الفترة، ولست ممن يتقنون التجارة او إدارة الاعمال.
وبعد مشاروات عديدة، رسا قراري على انشاء مبنى يحاذي الرصيف على ان نقرر ما سنفعل به. وهكذا فعلت وإذا بي املك مطعما جديدا فاخرا اسميته "نادونا" وهي المقاطع الأولى من اسمي (ناضل) واسم زوجتي (دورا) واسم ابنتي (ناديا)، وكان ذلك في مطلع التسعينيات.
كان يؤم المطعم طلاب في ساعات النهار، ويؤمه أهالي الأحياء المحيطة عند المساء، وكان أول مطعم يقدم الشوارما في المدينة، فاشتهر بسرعة وصار الزبائن يأتونه من كل حدب وصوب فاستعاد استثماره في أقل من سنة.
كان دوري كدور "المعلم" في الأفلام المصرية القديمة، إذ كانت ست فتيات وشاب هم من يعملون كل شيء. من اعداد الأطعمة في المطبخ ولغاية تقديمها للزبون وحتى غسل الأواني. ولكثرة الرواد سمحت لشركة خاصة بنصب ماكينة للقمار في احد اركان المطعم، من تلك الماكينات التي تضع النقود بنفسك فيها ثم تدير العجلة عل حظك يبتسم لك.
وذات يوم.. جاءتني احدى الفتيات العاملات تبلغني بأن ثلاثة اشخاص يجلسون على الطاولة رقم 8 ويريدون التحدث اليّ، توجهت على الفور نحو الطاولة المذكورة، فلاحظت منذ الوهلة الأولى انهم ينتمون الى فئة "الرقاب الغليظة" ورغم ذلك ظننتهم يريدون وجبة خاصة او ان شيئا من الخدمة لا يروق لهم.. ولكنهم كانوا غير ذلك.
تحدث احدهم وكان يبدو متكلما هادئا وواضحا لا يتأتئ ولا يتلعثم، يعرف ما يريد وكيف يريد فقال: مساء الخير سيد حسنين، جئنا نزور مطعمك لكثرة ما سمعنا عنه من اطراءات ومديح للخدمة ولأنواع الطعام ولا سيما "ديونر كباب" (الشوارما)، وكذلك حتى نرى بأنفسنا هل حقا ان المطعم يبرر سمعته الجميلة.
قلت: اشكرك، فهذا من حسن ذوقكم، تفضلوا اطلبوا ما تشاؤون لتتحققوا بأنفسكم من الطعام لذيذ المذاق، وهذا على حساب المحل، فأنتم ضيوفنا.
قال ذو الرقبة الغليظة: لعلك تعلم ان الاشتراكية سقطت في بلادنا، وأصبحت الفوضى تعم كل مكان..والناس يعانون الجوع، ونرى انك تأوي عدة اشخاص يعملون في المطعم، هذا يعني انك تعيل عدة عائلات بفضل هذا المطعم، وهذا ما نريده نحن ويريده كل من يحب بلاده، المحافظة على المحلات التي تساعد الناس وتضمن لهم لقمة العيش كهذا المطعم الجميل الجديد.
قلت: اشكرك، فانا أحاول ان ارضي كل الاذواق وان احافظ على مطعمي وعلى عماله لنتمكن جميعا من العيش بكرامة، لأن الشوارع مليئة بالجوع والفقر.
قال: هذا بالضبط ما اقصده.. الشارع مليء بالفقر والجوع وهذا يدفع الكثيرين من اولاد الشوارع الى ارتكاب الحماقات، فيعتدون على المصالح الناجحة مثل هذا المطعم، ولا يجدون من يردعهم عن ذلك إلا اذا عرفوا مسبقا ان لهذا المطعم من يحميه.
وتابع بنبرة تتسم بالحدة: لهذا نحن هنا بصفتنا شركة لحماية المصالح الاقتصادية في بلدنا، ونحن شركة معروفة في السوق، ومجرد ان تذكر اسم شركتنا سيبتعد الجميع عنك ولن يجرؤ احد على ايذائك او إيذاء المطعم. لأنه يكفي على سبيل المثال ان يحضر عدد من الزعران هنا ويفتعلون شجارا يهشمون خلاله المطعم على من فيه خلال دقائق معدودة لتفقد كل ما انشأته بأموالك وعرق جبينك.. يكفي ان يخطف هؤلاء ابنتك الصغيرة مثلا ثم يطالبونك بالفدية الباهظة أو أن يلقوا بزجاجة "مولوتوف" (حارقة) عبر نافذة بيتك ويحرقون بيتك او يضرمون النار بسيارتك او إحراق المطعم بكامله.. هذه الاعتداءات لن تحدث بمجرد ان يعلم هؤلاء المعتدون ان شركتنا "777" هي من تتولى حماية هذا المطعم، وهم يدركون انه في حال اعتدوا على المطعم او على أصحابه سنصل اليهم ولن يبقى منهم شخص سليما.
تصبب العرق من جبيني دون ارادتي، وشعرت انني تورطت في ما كنت اخشاه، وان مشروعي ينهار امامي، لكثرة ما سمعت عن هذه الشركة سيئة الصيت "777".
قلت: الفكرة ممتازة فعلا ويجب حماية هذه المصالح لانها تكلف أصحابها كل ما يملكون، ولكن دعوني ادرس الفكرة جيدا لأنني وبصراحة تلقيت عرضا من شركة أخرى لحماية المحل، وأريد التشاور مع بعض الاصدقاء، حول الموضوع.
قال: سنعود اليك بعد أسبوع نأمل ان تكون قد قررت اختيارنا نحن وليس تلك الشركة.
شكرتهم .. نهضوا وغادروا وبقيت انا جالسا مذهولا.. فمر امامي شريط انشاء المطعم من مجرد فكرة مرورا بمرحلة من التخبط والتردد حول كيفية توفير المال الضروري لإقامة المشروع وكيف اضطررت للتوجه الى البنك ورهنت منزلي لسحب قرض بفائدة مصرفية تعادل فوائد القروض في السوق السوداء بسبب التضخم المالي الذي كان يتصاعد مع صبيحة كل يوم.. لدرجة ان الفائدة المصرفية بلغت 200% سنويا لمدة ثلاثة أسابيع، ثم اعادوها الى قيمها العادية من 22% سنويا، في محاولة للجم التضخم ووقف ارتفاع الأسعار.. للتوضيح فقط: بلغ سعر الدولار آنذاك حوالي 7 آلاف ليفا، مع انه كان في عهد الاشتراكية يساوي 87 اغورة (لم يكن متوفرا في الأسواق – ممنوع)، ولكني حين كنت ادفع ثمن تذكرة الطائرة بالدولار، كانوا يحسبون الدولار بهذه القيمة 87 اغورة، بينما في السوق السوداء الممنوعة كان يباع الدولار بثلاثة ليفا آنذاك.
لم يكن لي أي علاقة او عرض مقدم من شركة حماية أخرى كما ادعيت امامهم، ولكني كنت اسمع عنها أشياء مهولة في قسوة تعاملها مع كل من يقع بين فكيها، واردت بهذه المناورة ان اردعهم بأن هناك من هو اقوى منهم يتطلع الى المطعم لافتراسه. ولكن في الواقع لم يكن لدي أي عرض من أي شركة أخرى.
تخيلت في هذه اللحظات كيف سيستولون على المطعم خلال عدة اشهر وسأخرج انا حافي القدمين منه وقد يستولون على البيت والسيارة كذلك، واتحول تدريجيا الى مشرد مع عائلتي.
تذكرت ما شاهدته بأم عيني قبل ذلك بنحو شهرين، حين كنت في وسط المدينة، ولاحظت كيف توقفت سيارة جيب اسود اللون ضخم الحجم، بجوار احد الأشخاص على الرصيف، وكيف ترجل من الجيب شخصان من ذوي "الرقاب الغليظة" وزجوا بذاك الشخص بقوة الى داخل الجيب، واغلقوا الأبواب، وقبل ان ينطلق الجيب، فتح احدهم النافذة والقى عبرها شيئا صغيرا، ثم اختفى الجيب بمن فيه. سارعت انا وغيري لاستطلاع ما الذي القوه عبر النافذة، فرأينا اصبعا بشرية تقطر دما ملقاة على الارض.. قال أحد الواجمين من حولي، يبدو أنهم قطعوا اصبعه منذ الآن، وقد يقطعونه اربا اربا.
من عادة شركات الحماية هذه ان تطلب رسوم حماية تفوق قدرة صاحب المصلحة على سدادها، او اذا تمكن من سداد مستحقات شهر او أثنين، فإنه لا بد سيتعثر في الشهر الثالث وما يليه. لأنها رسوم غير معقولة تقوم على تعاقد تجاري بين قوي وضعيف، وهي رسوم اقرب الى الابتزاز، الغرض منها اخضاعك وجرجرتك نحو الهاوية.
ستدفع الرسوم بكثير من التأفف والامتعاض في الأشهر الأولى، وستعجز عن سداد الرسوم بعد ذلك لتتراكم الديون عدة اشهر دون ان يطل عليك أي من هذه الشركة ليطالبك بها.. ولكن وبعد تراكم مبلغ لا بأس به من الديون غير المسددة، يأتيك أصحاب "الرقاب الغليظة"، يطالبون "بحقهم" وهم غاضبون، فتحاول استرضائهم والحصول على مهلة لتسديد المبلغ، فيرفضون. وبينما تتمثل امام مخيلتك صورة بيتك المشتعل او مطعمك الذي تأكله النيران او طفلتك المخطوفة تصرخ عبر الهاتف.. يتقدم احدهم اليك بعرض لا تملك حرية رفضه: سجل باسم شركتنا 25% من ملكية المطعم بدلا من الديون المستحقة. لا تفكر كثيرا، فتوافق وتتنهد بمرارة لأنك خسرت بسبب ضعفك امام الأقوياء.
تمر عدة اشهر، وتواصل دفع رسوم الحماية ولكن بتخفيض 25% هي حصتهم من المحل، ولكن يفوتك ان يوما يأتي وسيحضر هؤلاء مجددا يطالبون بـ 25% من أرباح المحل عن الفترة منذ اصبحوا شركاء في المشروع.. عندها تسقط مغمى عليك لأنك بالكاد كنت تسدد رسوم الحماية، فما بالك نصيبهم من الأرباح التي كانت بالكاد تغطي المصاريف. في مثل هذه الحالة يستولون على حصة إضافية من المشروع وهكذا الى ان تتحول انت صاحب المشروع الى موظف لديهم، ثم لا يمر شهر او شهران حتى يلقون بك الى قارعة الطريق، لأنهم ليسوا بحاجة لخدماتك بعد الآن.
هذه الصورة القاتمة تسلسلت في ذهني منذ ان نهضوا وغادروا المطعم. لا مخرج من هذه الورطة، والدمار حتمي.. وعلي ان اسارع الى التخلص من هذه الورطة بطريقة ما.
في اليوم التالي توجهت الى شركة عقارات وكلفتها بالعثور على مستأجر للمطعم، لأنني انوي السفر الى بلادي. مر أسبوع ولم يتم العثور على مستأجر، مما اضطرني الى خفض قيمة الايجار الذي كنت قد أعلنته في بادئ الامر.
في هذه الاثناء كان قد مر اكثر من أسبوع منذ زيارة "الرقاب الغليظة" للمطعم.. وبينما كنت اجلس في صالون بيتي قرابة منتصف الليل اتابع برنامجا تلفزيونيا عبر صحن الساتيلايت الذي كنت قد اشتريته حديثا وذلك عام 1993، اخترقت قنينة زجاجية بقوة زجاج نافذة الصالون الكبيرة وتهشمت على الجدار المقابل اعلى جهاز التلفزيون فاغرقت المكان برائحة البنزين بل ورأيت عنق الزجاجة الذي بقي على سلامته، وقد دست فيه قطعة قماش غارقة بالبنزين، وما كان على راميها سوى اشعالها لتحرق المنزل على من فيه.
نظرت عبر النافذة فرأيت احدهم ينطلق بدراجته النارية، دون ان المح أي من ملامحه لا سيما وانه يضع الخوذة.
ادركت انني في دائرة الخطر. وأن الدوامة انطلقت.. وبعد ان هدأت من روع اهل بيتي قدر المستطاع، وبعد جمع شظايا القنينة وفتح كل النوافذ لتتبخر رائحة البنزين، توجهت الى مخفر الشرطة للإستعانة بخدمتهم. استقبلني شرطي نعس، أخذ يحدثني من خلف زجاج شباكه الذي يشبه شباك التذاكر، ترى الموظف خلفه ولكنك لا تسمع ما يقول.
واذكر انني صرخت بعصبية وغضب وانا أحاول شرح قضيتي، ولكن الشرطي المناوب كان مشغولا بالكلمات المتقاطعة في الصحيفة امامه، الى ان خرج من باب فرعي ضابط عند سماع صراخي بعد منتصف الليل في المخفر، وطلب مني اصطحابه الى مكتبه.
بعد ان ناولني كأسا من الماء لأشرب، شرحت له ما القضية منذ بدايتها وأوضحت له كل مخاوفي واستبشرت خيرا بابتسامته العريضة التي أدخلت الاطمئنان الى قلبي، ولكن وبعد ان انهيت كل ما لدي، بكثير من الغضب والانفعال.. قال الضابط بالحرف: سيدي العزيز، انت تعرف اننا نعيش مرحلة انتقالية تتسم بالفوضى وفي هذه الاثناء استولى على الحياة العامة رجالات العصابات التي تتخذ من شركات الحماية شكلا قانونيا لها.. ولهذا انصحك ان تتعاون معهم لأنه لا احد يقدر عليهم.. حتى انا الضابط لا انسى أن لي عائلة ولي بيت وأطفال وسيارة ولا أريد أن أخسر شيئا من كل هذا.
عدت الى البيت اجرجر خيبتي ويأسي وضعفي وافكر بحتمية الضياع الذي يطل علي من خلف الباب وسيقتحم مطعمي وبيتي وسيارتي واسرتي وسيسلبني كل ما املك بينما لا اجد حماية من احد.
وفي صبيحة اليوم التالي، توجهت الى شركة العقارات للاستفسار عن آخر العروض المقدمة لاستئجار المطعم، فأخبرتني الموظفة بأن هناك سيدة كانت تعمل "شيف" في احد الفنادق الفخمة في المدينة، وقد طردوها لأن الفندق لم يعد ملكا للدولة، وانما استولى عليه احد الأثرياء، وهي الان تبحث عن عمل.
قلت: ولكني لست بحاجة لعاملات، فلدي ما يكفيني، اريد مستأجرا، يتولى امر المطعم لقاء مبلغ شهري ليس إلاّ.
قالت: نعم.. نعم .. هذا ما اردت قوله سيدي، انها تريد ان تستأجر المطعم، ولكن الايجار يبدو لها مرتفعا بعض الشيء.
استفسرت عمن تكون هذه السيدة وهل هي جدية، فأخبرتني الموظفة ان زوج السيدة شرطي برتبة عالية، وهي تريد ان تقيم مشروعا خاصا بها ولا تريد العمل كأجيرة لدى أحد بعد الآن.
رحبت بالفكرة لا سيما بعد سماعي ان زوج المستأجرة ضابط برتبة رفيعة في الشرطة، وهكذا تخلصت من المطعم وتولت ادارته هذه السيدة وكان زوجها الى جانبها طوال الوقت، احيانا ببدلته الشرطية واحيانا بلباسه المدني، ولكن المطعم بات يعج برجال الشرطة معظم الوقت.
عاد افراد العصابة الى المطعم يستفسرون عني فأبلغتهم المستأجرة بأنه لم يعد لي علاقة بالمطعم وهكذا تخلصت من شركة الحماية ومن ذوي "الرقاب الغليظة".
/ادرك ان هذه الحكاية لا تعني شيئا لأحد.. قد يقرأها البعض من باب الفضول، ولكن مجرد انني سكبت كل هذه الاحداث على الشاشة، فإنني بذلك تخلصت من الانتفاخ الذهني الذي كان يلازمني سنين طويلة.. اردت ان أدوّن هذا في صفحتي، وليس في كتاب على رفوف مكتبة عامة، إنها صفحتي وهي الوحيدة التي تتحمل كتاباتي على ثقلها وسذاجتها أحيانا./



#ناضل_حسنين (هاشتاغ)       Nadel_Hasanain#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لا تأكلوا -صديقها-!
- كلمة لا بد منها..
- وهم الخلود: فكرة اخترعناها فحكمتنا
- مآسينا التي لم نعد نحفظ أرقامها..
- -فما أطال النوم عمرًا..!-
- أميطوا النقاب عن التعليم!
- كلمة وفاء لصديق سوري راحل..
- قيمة الحياة بين الأنا والوطن
- إنه العار وليس الضمير..
- الديمقراطية: بين التقليد والحرية الفردية
- تعال نفكر معاً..!
- حملة الشهادات أم حملة الأفكار؟
- حين يصبح الموت مهنة وطنية


المزيد.....




- أمريكا.. تحويل الطائرة القطرية إلى -رئاسية- يثير انتقادات في ...
- استمرار التصعيد بين موسكو وكييف... وروسيا تعلن قتل شخص كان ي ...
- مقتل أربعة جنود إسرائيليين في غزة وسط نقص كبير في عديد الجيش ...
- حريق هائل يلتهم صهاريج في أوكلاهوما الأمريكية
- وفاة مصري وإنقاذ 36 آخرين بعد احتراق مركب هجرة غير شرعية قبا ...
- مصر.. تعقيب حكومي جديد بعد فيديو العسل الكارثي
- فولودين: الحكومة الألمانية تثير الصدامات بين روسيا وألمانيا ...
- ليبيا.. الدبيبة يوجه بالتحقيق في اشتباكات صبراتة
- روسيا تشن هجوما ضخما على أوكرانيا وتعتبر النزاع -قضية وجودية ...
- محللون عسكريون: المقاومة بغزة تقاتل بطريقة مختلفة ضد جيش يتخ ...


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - ناضل حسنين - حكايتي مع المجرمين..