أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - ناضل حسنين - كلمة وفاء لصديق سوري راحل..















المزيد.....

كلمة وفاء لصديق سوري راحل..


ناضل حسنين
الكاتب الصحفي

(Nadel Hasanain)


الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 00:08
المحور: سيرة ذاتية
    


كلما سمعت خبرا آتيا من سوريا، قفز إلى واجهة ذهني ما كان يردده امامي من حكايات شيقة عن الشام، صديقي السوري، الدكتور عبد الرحمن الهاني، الدمشقي الذي تزاملت وإياه في الاذاعة البلغارية لخمس سنوات.
كنت في البداية أتلقى كل ما يقوله الدكتور عبد الرحمن على مسمعي عن العيش في سوريا بكثير من التشكيك والاستهجان ولم أكن أبخل على توصيفه لسوريا ببعض التهكم معتبرًا اياه جائرًا في أحكامه على وطنه وأنه يبحث لنفسه عن مبررات لبقائه ما استطاع من الوقت في أوروبا بعيدا عنه.
تزوج الدكتور عبد الرحمن من إيليانا وهي فتاة بلغارية تعرف عليها في جامعة الطب في صوفيا وتخرج الاثنان معا فبدأت هي العمل في أحد المستشفيات في صوفيا بينما تقدم هو لاستكمال دراسته العليا لنيل شهادة الدكتوراه في علوم الطب (تخصص التخدير). لم يمر وقت طويل حتى جاءت الى الدنيا ناديا، ابنتهما الوحيدة، فكان لا بد له أن يجد مصدر رزق إضافي الى جانب راتب زوجته، لإعالة الأسرة، فالتحق بفريق عملنا في الاذاعة البلغارية بالتوازي مع دراسته.
حين تلتقي الدكتور عبد الرحمن يجذبك فيه خجله الشديد اولا ثم ثقافته المترامية الاطراف ثانيا، ولا يطول الحديث بينكما حتى تكتشف انه يتقن اللغة العربية بكل مشاربها وجمالياتها حتى انه ينظم الشعر ويعشقه ويعتز بمعرفته الشخصية بالشاعر الكبير نزار قباني. عودنا الدكتور بوجبة فطور شعرية يلقيها على مسامعنا قبل البدء بالعمل فكان يقول: "هل اسمعك ما كتبت هذه الليلة؟". سؤال كهذا لا يقبل سوى اجابة واحدة فكان يسمعني ومن معي في المكتب ولو بيتاً او اثنين من قصيدة لا تزال في الفرن منذ زمن طويل تأبى ان تستوي.
كان انسانا لطيفا جدا وكان حين يتحدث لا يستخدم سوى النبرة الهادئة حتى أحبه كل من عرفه، وكان يتمتع من الخلق ما يجعلك تخجل أحيانا من فظاظة الفاظك على مسمعه، فتسارع الى خفض صوتك وكأنك في حضرة قديس دون ان يطلب هو ذلك. الى جانب ذلك فقد كان متحدثا لبقا لا يدعك تتململ وهو يسرد امامك حتى اتفه الامور، وكان يتقن اختيار النكتة حسب مستوى ذكاء المتلقي. راق لي جدا انه كان عروبيا حتى النخاع يحب عبد الناصر ويتوق الى ارتقاء القومية العربية الى اعلى المراتب، ورغم ذلك كان يكره البعث والبعثيين في سوريا والعراق وكل ما له علاقة بهذا الحزب من مفردات.
كنت اعارضه وأناقشه بأن سوريا بوصفها حاضنة العروبة وبأن حافظ الاسد سند القومية العربية الاخير في هذا العالم بعد ان كان السادات قد انعطف بمصر نحو أمريكا، فكان يرد علي بهدوئه المعتاد: "احترم هذا فيك عزيزي ناضل، واحترم جدا الآمال التي تعلقها على زعاماتنا، وليتها كانت كما تحسبها لنلت انا قبلك قسطا من تحقيق هذه الآمال".
تخرج الدكتور عبد الرحمن، الشاعر عبد الرحمن، الانسان الراقي والرقيق والخجول، وحصل على لقب "الدكتوراه في العلوم الطبية"، فاصطحب زوجته وابنته ورحل الى الشام الى بلاده بعد ان أقمنا له حفل وداع أدمعت خلاله عيون معظم الحضور على فراقه.
بقينا على تواصل عبر رسائل البريد وأحيانا الهاتف، وكان لا يفوت مناسبة دون ان يرسل الينا البطاقات مرفقة بصور عائلية له وبصور من عيادته الخاصة في دمشق او من عمله في المستشفى.
ترك فينا هذا الانسان كثيرا من الدفء والحب والتعلق .. بخجله وبصوته المنخفض وطابعه الهادئ .. علمنا ان بوسع المرء ان يعبر عن غضبه الشديد بنصف ابتسامة، فيفهمها في الحال من حوله.
بعد ان نزفت سوريا دما واعتصرت ألما، عاد بي شريط الذاكرة الى يوم وداعه الاخير في صوفيا، حين كنت انا الوحيد من بين الحضور على ثقة تامة بأنني لن اراه مهما تقلب التاريخ وتضاربت الجغرافيا، فأنا لست كبقية الزملاء في تلك الاذاعة آنذاك من سوريين وعراقيين ولبنانيين، ممن قد يلتقونه في بلادهم ذات يوم. انا من بلاد مغلقة لن تفتح ابوابها لي او له كي نلتقي، ولن يأبه احد بصداقة خارجة عن القانون في تلك السنين.
مر عام ونصف على انتقاله للعيش في وطنه سوريا التي لطالما تغنى بحبه لها. ابنته دخلت مدرسة ابتدائية قريبة من البيت في دمشق، وكانت آنذاك في السابعة من العمر، اما زوجته فكانت تترقب فرصة سانحة للبدء بالعمل هي الاخرى، فكان عليها الاكتفاء بوظيفة ربة منزل بصورة مؤقتة. ثم سرعان ما اضيف الى هذه الوظيفة صفة "أرملة".. بدون مقدمات.
نعم قتل الدكتور عبد الرحمن بدون مقدمات. قتل الدكتور الخجول الرقيق الهادئ الذي كان يصمت ويبتسم نصف ابتسامة حين يغضب. قتل بلا سبب تعرفه امه، قتل اثناء ممارسة عمله في عيادته الخاصة التي كانت في الطابق الاول من عمارة سكنية. بكل بساطة مر أحدهم بجوار نافذة العيادة وفتح نيران رشاشه باتجاه الدكتور وأسقطه فوق أحد مرضاه.
عادت الزوجة الشابة الارملة مع ابنتها الى بلغاريا تجرجر مأساتها. التقيناها وحدثتنا فقالت: "انهم الجالسون في الأعالي. لقد هددوه عدة مرات بأن يصمت وان يكف عن التذمر والانتقاد. انتم تعرفونه وتعرفون مدى حبه لبلده وانتقاده لسوريا كان نابعا من حبه لها ولم يفهمه الآخرون هناك".
وأضافت الأرملة الغضة: "السبب المباشر هو أنا. لقد رآني أحدهم في الحي الذي نسكنه، فأرسل عند المساء رجاله ليصطحبوني الى حضرته، وكان ذا منصب رفيع في المنطقة، بحجة أنه سيرتب لي مكان عمل في المستشفى ويريد مقابلتي قبل ذلك. عبد الرحمن ادرك ما المقصود بهذه الدعوة ورفض ان اذهب كما رفضت انا كذلك. وها هم انتقموا منه".
منذ ان توفي الدكتور عبد الرحمن الهاني وأنا اشعر بدين تجاهه ولو بكلمة أمانة انقلها عنه لمن يعرفه في عصر الانترنت. من يدري، فمن الممكن ان نلتقي ذات صدفة ابنته ناديا (وعمرها الآن يقارب 44 عاما)، او زوجته الطبيبة ايليانا الهاني.
من يدري فقد يطالع ما اكتب هنا احد افراد "الشلة" من سوريا والعراق ولبنان: يدكار (لاجئ كردي عراقي انتقل للعيش في لندن)، طالب، بشار، غسان، خضر، فاروق، وجميعهم اطباء والباقون غيرهم ممن أصبحوا مشاهير وليس بمقدوري ذكر اسمائهم كي لا يتعرضوا للسوء، سواء ممثلين أو مخرجين وغيرهم ممن كانوا فارين من بطش أنظمة بلادهم، لاجئين في صوفيا يترقبون ساعة الفرج.
كان هذا في سنوات الثمانينات وما اشبه اليوم بالامس.



#ناضل_حسنين (هاشتاغ)       Nadel_Hasanain#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قيمة الحياة بين الأنا والوطن
- إنه العار وليس الضمير..
- الديمقراطية: بين التقليد والحرية الفردية
- تعال نفكر معاً..!
- حملة الشهادات أم حملة الأفكار؟
- حين يصبح الموت مهنة وطنية


المزيد.....




- رجل يدّعي هروبه من سجن بأمريكا يتوسل لترامب ومشاهير لمساعدته ...
- خريطة توضح موقع -جسر القرم- الذي فجرته أوكرانيا.. ومدى أهميت ...
- التونسي هشام الميراوي... رجل -طيب سخي- راح ضحية جريمة عنصرية ...
- -نريد لقمة العيش بكرامة-.. فلسطينيون يتحدثون لـCNN بعد مقتل ...
- القصف الإسرائيلي يستهدف الأبراج السكنية في غزة | بي بي سي تق ...
- ما هي مراحل توسعة الحرم المكي عبر التاريخ؟
- أمين عام الناتو: مسألة انضمام أوكرانيا للحلف لا زالت مطروحة ...
- غزة: مقتل العشرات وإستهداف مستشفى في دير البلح والحصيلة الإج ...
- تركيا تثبت أقدامها في سوريا.. دعم للقوات الحكومية وانتشار طو ...
- الحكومة الإسرائيلية مهددة بالانهيار بسبب خلاف الخدمة العسكري ...


المزيد.....

- كتاب طمى الاتبراوى محطات في دروب الحياة / تاج السر عثمان
- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - ناضل حسنين - كلمة وفاء لصديق سوري راحل..