ناضل حسنين
الكاتب الصحفي
(Nadel Hasanain)
الحوار المتمدن-العدد: 8360 - 2025 / 6 / 1 - 09:13
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تُطرح أمامنا إشكالية فلسفية عميقة، تتجذر في صميم الوجود الإنساني وتلامس أوتار الأخلاق والمعنى: أيهما أعظم قيمة، حياة الفرد أم حياة الجماعة المتمثلة في الوطن؟ هل تُقاس القيمة بالكمّ أم بالكيف؟ هل يمكن للمجموع أن يطغى على الجزء الذي يؤلفه؟ إن التضحية بالنفس فداءً للوطن، هذا الفعل البطولي الذي يتردد صداه عبر التاريخ، يضعنا وجهًا لوجه أمام هذه المعضلة الوجودية. فالشهيد، في جوهر فعله، يقدم حياته الفردية، الفريدة، التي لا تُعوّض، من أجل استمرارية حياة الآخرين وتحسين نوعيتها ضمن إطار الوطن.
قبل الخوض في ميزان القيمة، لا بد من تفكيك مفهوم "الوطن" ذاته. هل هو مجرد رقعة جغرافية ذات حدود مرسومة؟ أم أنه يتجاوز ذلك بكثير؟ يرى مفكرون أن الوطن هو نسيج حي يتكون من خيوط بشرية تتشابك على أرض مشتركة. هو بوتقة تنصهر فيها الذكريات المشتركة، الآمال المتشابهة، والأهداف الجمعية. إنه فضاء للعيش معًا، للسعي نحو الازدهار، لبناء صرح يحمي أفراده ويوفر لهم سبل العيش الكريم. الوطن، بهذا المعنى، ليس مجرد مكان، بل هو حالة وجود جماعية، هوية مشتركة، وشعور بالانتماء يترجم إلى مسؤولية متبادلة. إنه "البيت الكبير الدافئ" الذي يمنح الفرد سياقه ومعناه الاجتماعي والثقافي.
هنا تكمن قيمة الوطن العميقة لدى الفرد. إنه ليس مجرد مُزوّد بالاحتياجات المادية، بل هو مصدر للهوية، للغة، للثقافة، وللتاريخ الذي يربط الفرد بماضيه ويمده بجذور تمسك به في وجه عواصف الزمن. الفرد، حتى في أكثر لحظاته فردانية، هو نتاج هذا السياق الجمعي. اللغة التي يفكر بها، القيم التي يؤمن بها، الطموحات التي يسعى إليها، كلها تتشكل وتُصقل ضمن هذا الإطار الوطني. إذن، الوطن ليس شيئًا خارجيًا عن الفرد تمامًا، بل هو جزء من تكوينه الداخلي، جزء من "الأنا" الموسعة.
إذا كان الوطن بهذه القيمة التكوينية للفرد، فإن التضحية من أجله تكتسب بعدًا آخر. إنها ليست مجرد إيثار أو عمل خيري، بل قد تُقرأ كفعل وجودي عميق. الفرد الذي يضحي بحياته لا يلغي ذاته بقدر ما يرى في استمرارية الوطن امتدادًا لقيم يؤمن بها تتجاوز حياته البيولوجية المحدودة. إنه يرى في صون الوطن صونًا للمعنى الذي عاش من أجله، صونًا للمستقبل الذي سيحيا فيه أبناؤه وأحفاده، صونًا لذاكرة جماعية هو جزء منها.
فعل التضحية هنا يصبح بمثابة الإسهام الأقصى في الحياة الجماعية. هو إدراك بأن قيمة الحياة لا تكمن فقط في استمراريتها الفردية، بل أيضًا في جودتها ومعناها ضمن السياق الأكبر. عندما يدافع الجندي عن حدود وطنه، فهو لا يدافع عن مجرد أرض، بل يدافع عن منظومة حياة، عن كرامة جماعية، عن إمكانية أن يعيش الآخرون أحرارًا وآمنين. إنه، بمعنى ما، يستثمر حياته الفردية في رصيد الحياة الجماعية، مؤمنًا بأن هذا الاستثمار سيعود بالنفع الأكبر على الكل، وبالتالي، بشكل غير مباشر، على المعنى الذي تمثله حياته هو.
هنا تبرز الجدلية الفلسفية الكبرى. هل الفرد هو الغاية النهائية، والوطن (الجماعة) هو مجرد وسيلة لتحقيق رفاهية الأفراد؟ أم أن للجماعة (الوطن) قيمة أسمى تتجاوز مجموع قيم أفرادها، وتستحق التضحية الفردية؟
من منظور الفردانية (Individualism): تؤكد هذه الرؤية على القيمة المطلقة للحياة الفردية. كل فرد هو عالم قائم بذاته، له حقوقه وكرامته التي لا يجوز انتهاكها. من هذا المنظور، تبدو التضحية بالنفس مشكلة أخلاقية عويصة، إلا إذا كانت خيارًا فرديًا حرًا تمامًا، نابعًا من قناعة شخصية عميقة بقضية تتجاوز الذات. إن استخدام حياة فرد كوسيلة لتحقيق غاية جماعية، حتى لو كانت نبيلة، يثير تساؤلات حول مبدأ "الإنسان كغاية في ذاته" (كما عند كانط).
من منظور الجماعية (Communitarianism): ترى هذه الرؤية أن قيمة الفرد ومعناه يتحققان بشكل أساسي ضمن الجماعة. الهوية والقيم والفضائل تتشكل وتُمارس في السياق الاجتماعي. الوطن، كأرقى أشكال الجماعة المنظمة، يكتسب قيمة جوهرية لأنه يوفر الإطار اللازم لازدهار الحياة الإنسانية بمعناها الكامل. من هذا المنظور، قد يُنظر إلى التضحية من أجل الوطن كواجب أسمى، كضرورة للحفاظ على الكيان الذي يمنح الحياة الفردية معناها وقيمتها. إنها تضحية بالجزء للحفاظ على الكل الذي بدونه يفقد الجزء الكثير من معناه.
ربما لا تكمن الإجابة في تفضيل طرف على آخر بشكل مطلق، بل في فهم العلاقة العضوية والتكاملية بينهما. الوطن ليس كيانًا مجردًا يطير فوق رؤوس الأفراد، بل هو تجسيد لحياتهم المشتركة، لتاريخهم ومستقبلهم. وقيمة الوطن الحقيقية لا تُقاس إلا بمدى قدرته على صون كرامة أفراده وتمكينهم من العيش حياة ذات معنى. في المقابل، الفرد لا يحقق ذاته الكاملة في عزلة، بل من خلال انتمائه ومساهمته في هذا الكيان الجمعي.
إذن، التضحية بالذات من أجل الوطن يمكن فهمها ليس كإلغاء لقيمة الفرد، بل كأعلى درجات الإيمان بقيمة الحياة الجماعية التي تمنح الحياة الفردية سياقها الأعمق. إنها ليست معادلة صفرية (إما أنا أو هم)، بل قد تكون تعبيرًا عن إدراك بأن "أنا" و"هم" متشابكان بعمق، وأن ازدهار أحدهما مرتبط بازدهار الآخر. الشهيد، في لحظة تضحيته، قد يرى أنه لا يموت، بل يذوب في جسد الوطن الأكبر، ليمنحه القوة والاستمرارية، وليضمن أن يعيش الآخرون حياة أفضل، حياة تستحق أن تُعاش، وهي ذات الحياة التي كان هو جزءًا منها ويؤمن بقيمتها.
إن السؤال عن أولوية القيمة بين حياة الفرد وحياة الوطن سيبقى سؤالًا مفتوحًا، يتردد صداه في ضمير كل إنسان وفي مسار كل مجتمع. لا توجد إجابة سهلة أو نهائية. لكن التأمل العميق في هذه العلاقة يكشف لنا أن القيمة الحقيقية قد لا تكمن في الاختيار بينهما، بل في السعي الدائم لخلق وطن يحترم قدسية حياة كل فرد فيه، وطن يستحق بحق أن يُفدى بالأرواح لأنه يوفر لأبنائه الكرامة والحرية وفرصة تحقيق ذواتهم. عندها فقط، تصبح التضحية، إن اقتضت الضرورة القصوى، فعلًا مأساويًا ونبيلًا في آن، شهادة على عمق الانتماء وقوة الإيمان بقيمة الحياة المشتركة.
#ناضل_حسنين (هاشتاغ)
Nadel_Hasanain#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟