ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8363 - 2025 / 6 / 4 - 16:48
المحور:
الادب والفن
ضحى عبد الرؤوف المل
تبدأ "إيما باور" كتابها "كيف نبني علاقات ناجحة"، الصادر عن دار الساقي، بعاطفة جياشة ومقدمة شاعرية تؤسس لطرح فكري عميق، يتناول حب الذات كركيزة للنجاح في العلاقات. لكن ما يُميز هذا الكتاب ليس لغته المحفّزة فقط، بل محاولته سدّ فجوة تربوية ونفسية ضخمة: أننا ببساطة لم نُعلَّم كيف نُحب أنفسنا. فالفكرة الجوهرية في النص أن حب الذات ليس رفاهية شخصية أو ترفًا تنمويًا، بل هو الأساس النفسي والاجتماعي الذي تقوم عليه جميع العلاقات الناجحة. ويمتد هذا المفهوم من الداخل (العلاقة بالنفس) إلى الخارج (العلاقات بالآخرين). فالكتاب يشكل سردًا عميقًا ومتكاملاً عن المفاهيم الأساسية التي تُبنى عليها العلاقات الإنسانية الناجحة. إنه مزيج من علم النفس العاطفي، والحكمة العملية، والتأمل الروحي. فالكتاب ليس مجرّد تعليمات سطحية حول "كيفية تحسين العلاقات"، بل هو عمل تأمّلي فلسفي وعاطفي يعيد صياغة معنى العلاقة نفسها. إنه نداءٌ إلى حضورٍ إنساني أعمق، يدعو القارئ لإعادة النظر لا فقط في "الآخر" بل في "نفسه" من خلال الآخر، وعبر ثمان لُبنات تأسيسية من المغفرة، إلى الاستقلالية، مرورًا بالتجلي، وأخيرًا الحبّ، بتجلياته الأكثر نضجًا وتجردًا.لكن هل يصمد هذا الطرح في وجه النقد؟ وهل يتوازن بين المثالية والواقعية؟ وهل العلاقات ميتافيزيقية؟
الكتاب يقدم سردية تصحيحية ضد مفاهيم مغلوطة ترسخت ثقافيًا، أبرزها: أن حب الذات أنانية، وأن التضحية الدائمة فضيلة، وأن الكمال قابل للتحقيق، وأن قيمتنا تُحدَّد بنظرة الآخرين. هو دعوة للعيش العاطفي العميق، أن نحب بحضورٍ ونيّة. كما أن اللغة غنية بالعاطفة، مشحونة بالصور والمجازات. الجمل الإيقاعية ("تخيل لو أننا سكبنا في علاقاتنا مقدار الطاقة نفسه الذي نضعه في هواياتنا أو عملنا") تعمل كدعامات بلاغية لتحفيز القارئ. فمنذ الفقرة الأولى، يعيد الكتاب بناء العلاقة العاطفية من منطلق إنساني-روحي، أقرب إلى الطرح البوذي أو الصوفي منها إلى علم النفس التقليدي. العلاقة ليست تبادلًا نفعيًا، بل تجلٍ لنور داخلي، ومجالًا للارتقاء الإنساني. هذه المقاربة تنطوي على جرأة مفهومية في عالم طغت عليه المقاربات البراغماتية: النجاح في الحب مرتبط بالعطاء، بالمرونة، بالغفران، وبـ"رؤية الجوهر" لا السلوك.
لكنّ هذا الطرح، رغم جماله الأخلاقي، لا يخلو من مشكلة: هل هو ممكن التحقق؟ التجلي الواعي مثلًا — أن ترى الآخر "كما هو في عيني الله"، كما يقول توماس ميرتون — يفترض قدرة ذهنية وعاطفية هائلة على فصل الجوهر عن القناع. لكنه، في الوقت نفسه، يُبقي العلاقة في فضاء مقدّس يبتعد كثيرًا عن تشابك الرغبات والأنانية والضعف البشري. إذا: هل نحن أمام نموذج مثالي مُلهِم أم مطالبة أخلاقية قد تكون فوق طاقة البشر العاديين؟ وهل كل هذا يصب في خدمة النضج العاطفي؟
لكن يُسجَّل هنا أن الإفراط في البلاغة قد يُخفي التفصيل التحليلي أحيانًا. بعض العبارات تعمل كمقولات ملهمة لكنها لا تُحفّز التفكير النقدي أو توفّر إطارًا معرفيًا عمليًا، وهو أمر قد يُضعف الأثر لدى القارئ الأكثر عقلانية. فماذا عن البنية الفكرية والنفسية؟
فالكتاب يتمتع بلغة شاعريّة عذبة، مليئة بالصور الحسية والوجدانية. التشبيهات مثل: "حين تصير المغفرة مثل منح الطفل عناقًا بعد شقاوته"، أو "حين نرى الآخر كما يراه الله"، تنطوي على قدرة تصويرية مؤثرة. اللغة هنا ليست ناقلة للفكرة فقط، بل مشاركة في تشكيل التجربة العاطفية. لكنّ المشكلة تكمن أحيانًا في فائض اللغة على الفكرة. فبين الدعوات للتأمل، والنصائح المتوالية، والقصص الموحية، يضيع القارئ أحيانًا بين التأمل والتطبيق. فهل النص دليل عملي، أم كتاب في التصوف الحديث؟ هل نحن نقرأ موعظة قلبية أم خطة منهجية؟ وهل الاندماج بين الاثنين جميل، أم أنه يحتاج لتوازن أدقّ؟
يمتاز النص بإدراك نفسي ناضج، يُعرّف حب الذات بطريقة غير تجريدية، بل من خلال سلوكيات محددة قابلة للقياس (اختبار مستوى حب الذات). يربط بين الطفولة، الإعلام، العلاقات السابقة، والبيئة كعوامل مؤثرة على تصور الذات. يدعو إلى مراجعة ذاتية مستمرة، ويقترح ممارسة التأمل اليومي وإعادة الاختبار شهريًا، مما يعكس فهمًا عميقًا لآليات التغيير النفسي.
الكتاب يُخاطب القارئ ككائن مسؤول. لا يلقي اللوم على الآخرين، ولا يسمح باستسهال دور "الضحية" في العلاقة، بل يطالبه بالشفافية، وبأن يكون حاضرًا، وأن يصغي، وأن يبني الطقوس والحميمية، ويغذي "خزان الحب" باجتهاد ومثابرة، كما لو أن العلاقة مشروع إبداعي يستحق التدريب والمهارة. إنه توجه ناضج يذكرنا بطروحات إريك فروم في كتابه فن الحب، حيث يؤكد أن الحب ليس شعورًا، بل فعلٌ وموقف ونضج داخلي. وهنا يمتاز الكتاب بأنه يدمج بين البُعد الروحي والبُعد السلوكي: فهو يطالبك بأن "تحضر"، أن تضحك، أن تلمس ذراع صديقك، أن تتابع مواعيده المهمة، أن تخفف من قناع المثالية... إنه حبّ يتجلى في الصغير والكبير معًا.ولكن، ما الذي ينقص هذا الطرح؟
الإجابة: الاعتراف الكافي بالعجز الإنساني. فبينما يطلب النص من القارئ أن يكون دائمًا محبًّا، شفافًا، كريمًا، رحيمًا، ومستجيبًا، فإنه يُغفل لحظة الإنهاك، لحظة أن لا تكون "مستعدًا". فهل يوجد هامش للتعب؟ للخطأ؟ للأنانية العابرة؟ هذا البعد، رغم أن المغفرة تتطرق إليه، يظل أقل وضوحًا، مما قد يشعر بعض القرّاء أنهم ليسوا "جيدين بما فيه الكفاية" لأنهم فقط لم يكونوا على الدوام مستنيرين.
نقطة القوة الكبرى في الكتاب هي محاولته دمج الشفاء الشخصي والتطوير الاجتماعي. فحب الذات ليس مفهوماً داخلياً فقط، بل له نتائج ملموسة على نوعية العلاقات. ومن هنا تأتي أهمية مفهوم: "أنت تُعلّم الآخرين كيف يعاملونك من خلال الطريقة التي تتعامل بها مع نفسك." هذه العبارة وحدها تختزل فلسفة سلوكية كاملة. فهل التوازن بين النظرية والممارسة يحتاج لتوجيهات فاعلة تركتها إيما باور في كتابها؟
من أجمل أجزاء الكتاب هو تفكيكه للعلاقات في عصر التكنولوجيا. لقد أشار بدقة إلى كيف أن "الاقتراب الرقمي" لا يعني اتصالًا حقيقيًا، وأننا نتبادل الصور بدلًا من الأرواح. هذا التحليل يعكس وعيًا اجتماعيًا بالغًا، في زمنٍ باتت فيه العلاقات تحكمها الإشعارات أكثر من الحضور. لكن يبقى أن نُسائل الكتاب: هل هو ناقد للتكنولوجيا أم رافض لها؟ في زمن يصعب فيه اللقاء الواقعي، هل يمكن للتكنولوجيا أن تكون منصة أصيلة للتواصل إن استُخدمت بوعي؟ النص يُغفل قليلاً هذا الجانب، فيرفض الاستبدال الرقمي دون أن يمنحنا أدوات التكيّف معه.
يُتوج الكتاب فكرته في "اللبنة الثامنة: الحب". الحب هنا ليس عاطفة متهورة، بل قرار نابع من الوعي الكامل: أن أحبك لأنك أنت، لا لأنك تجعلني أشعر بشيء جيد. وهذه رؤية ناضجة جدًا، تدفع بالعلاقة نحو التضامن والرحمة، وليس التعلّق أو التملك.
لكن هذا التعريف للحب يتطلب – لكي يكون قابلاً للتطبيق – بيئة من الأمان العاطفي والاستقرار النفسي، وهو ما لا يتوفر لكل الناس، خاصة من لديهم تجارب مؤلمة أو صدمات تربوية. تجاهل هذا الواقع قد يجعل من النصّ نخبويًا – موجهًا للناضجين أصلاً، لا لمن يبحثون عن النضج.
يوفّر الكتاب أمثلة وتوجيهات عملية (مثل الحد من الوقت مع الأشخاص السلبيين، أو الاحتفاء بالذات)، لكنه لا يغوص كثيرًا في أدوات العلاج السلوكي أو المعرفي. ما يعني أن القارئ المحتاج لأدوات تطبيقية معمّقة قد لا يجد بغيته الكاملة هنا، بل مداخل فقط. إذ يعترف الكتاب ضمنيًا أن ثقافتنا تسلبنا حب الذات عبر: الضغوط الاجتماعية لتكون "مثاليًا"، واستهلاك إعلامي يشوّه صورة الجسد والعلاقات، وتربية قائمة على الطاعة والتقويم لا الاحترام المتبادل. وهو بذلك يحقق ميزة مهمة: تفكيك البنية الاجتماعية المسببة للخلل دون الوقوع في الشعور بالضحية. فهل يمكن تقديم النقد البنّاء لهذا الكتاب المهم للكثيرين ممن يحتاجون معرفة كيفية بناء العلاقات؟
رغم استحضار مرجع (Donald Baucom)، فإن العمل ينقصه دعم نظري أعمق من علم النفس الإيجابي أو علم النفس العلاجي السلوكي. فأحيانًا تُعاد الفكرة ذاتها بصيغ مختلفة، مما يُشعر القارئ المُتمرّس بأن هناك رغبة بالإطالة. كما أن الحديث النظري رائع، لكن كان يمكن إضفاء صدقية وعاطفة أكبر لو وُضعت قصص حقيقية أو نماذج استشارية مختصرة – بمعنى آخر: أمثلة واقعية.
الكتاب دعوة صادقة للتحول الداخلي، يدمج بين الفكر والإلهام. إنه ليس فقط مادة للقراءة، بل ورشة عمل للنفس، ومحرّك لتأمل العلاقة مع الذات كجذرٍ لكل العلاقات. لكن جماله لا يُخفي حاجته للمزيد من التحديد في المنهجية، والانفتاح على الحقول العلمية الداعمة. ومع ذلك، يُحسب له أنه يقود القارئ من خلال دربٍ واضح، خطوة بخطوة، ليُدرك أن الحب الحقيقي يبدأ من الداخل، وأن العالم يتغير حين نغيّر علاقتنا بأنفسنا.
كما أن هذا الكتاب رحلة إلى عمق الإنسان، محاولة جادة لتأسيس نمط علاقة لا يقوم على التوقعات أو المشروطية، بل على الوعي والمحبة والممارسة المستمرة للانكشاف. إنه نصّ موجه إلى الباحثين عن علاقة تكون منبرًا للنمو الروحي، لا فقط للراحة أو المتعة. لكنه في الوقت نفسه، كتاب مثاليّ أكثر مما هو واقعيّ. إنه يطلب منا أن نغفر بوعي، وأن نستقلّ بمحبة، وأن نرى التجلي خلف القناع، وأن نحبّ دون شروط، وأن نمارس كل هذا ونحن حاضرون دومًا، لطفاء، كريمون، مصغون، متيقظون. هذه دعوة عظيمة، لكنها تتطلب طاقة بشرية فوق المتوسط.
هل نرفض الكتاب إذا؟ إطلاقًا. بل نحتفي به كخارطة طريق، ونتعامل معه كما نتعامل مع الفن: كضوء نهتدي به، لا كمعيار نحاكم أنفسنا عليه. نأخذ منه ما نقدر عليه، ونسامح أنفسنا على ما لا نقدر. فهذا الكتاب ليس دليلاً سريعًا للعلاقات، بل هو عمل وجداني تأمّلي يستحق القراءة والتأمل بعمق. إنه يعلّمنا أن العلاقات القوية ليست تلك التي لا تُكسر، بل تلك التي نملك فيها الشجاعة لنراها على حقيقتها، ولنعيد بناءها، مرة بعد مرة، بمحبة ومغفرة وتجلي.
هذا الكتاب، رغم كل التناقضات التي تشعر بها وأنت تقرأ، تحتفظ به قرب وسادتك لتقرأ من صفحاته كل يوم ما يجعلك أكثر ثقة بخارطة بناء العلاقات. فهل نتقبّل ما نرفضه ونرفض ما نتقبّله في حيواتنا؟
بيروت - الأربعاء 4 حزيران -2025الساعة الثانية والنصف بعد الظهر
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟