احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 21:49
المحور:
سيرة ذاتية
المقدمة: زقاق الذكريات وصوت الشعوب
في زقاقٍ ضيقٍ بمخيم النيرب بحلب، حيث لا يفصل بين البيوت سوى مترين من الحياة المشتركة، كانت الأيام تحمل عبق الطيبة والأمل. هناك، في تلك القرية المتاخمة للمخيم، عشتُ لحظاتٍ لا تُنسى، حين أنهيتُ امتحان الصف التاسع، وكان فتحي جمال، جارنا العزيز، يبتسم ببهجة الشباب. لكن الحياة، بتقلباتها القاسية، فرّقتنا. غاب فتحي إلى الدنمارك، واستشهد أخوه جمال تحت قذائف إرهاب الجولاني، وودّعتُ أمس أستاذنا أبو حسين عزام، والبارحة زميلنا الصحافي بسام رجا، ذلك الخريج الوفي لكوبا الثورة. إنها قصة شعبٍ مشتت، لكنه متجذر في الأمل، قصةٍ ترويها ذكريات النيرب، وتكتبها دماء المقاومة ضد الإمبريالية.
أكتب هذه المادة لأروي قصة النيرب، قصة أفرادٍ كانوا رموزًا للطيبة والصمود، وقصة شعبٍ فلسطيني يواجه الشتات والإرهاب والحصار الإمبريالي. إنها ليست مجرد ذكريات شخصية، بل تأملٌ في مصير أمة، ودعوةٌ لاستعادة فلسطين، البلد الذي كان يمكن أن يجمعنا.
زقاق النيرب، مرآة الحياة
في زقاق النيرب، حيث البيوت تتكئ على بعضها كأنها أخوةٌ في الشدائد، كانت الحياة بسيطةً لكنها عميقة. عام 1988، حين أنهيتُ امتحان الصف التاسع، كان فتحي جمال يقف هناك، بابتسامته التي تحمل شغف الشباب. عائلته، أم جاسر وأبناؤها، كانت رمزًا للطيبة. لم تكن المسافة بين بيتنا وبيتهم سوى مترين، لكنها كانت كافيةً لتكون مساحةً للذكريات. كانت أم جاسر تزورنا، تحكي عن فتحي في الدنمارك، وعن ابنتها في ألمانيا، بنبرةٍ مليئة بالحب والفخر. كانت عائلةً تجسد الكرامة، تحب الحياة وتتشبث بالناس الطيبين.
لكن الحياة في النيرب لم تكن دائمًا هادئة. بعد عام 2012، ضرب إرهاب الجولاني المخيم. استشهد جمال، ابن أم جاسر، تحت قذائف العصابات المدعومة من واشنطن ومحميات الخليج. كنتُ قد التقيتُ به عام 2004، خلال زيارتي لسوريا. كان يحمل نفس الطيبة التي عرفتها في عائلته، نفس الشغف بالحياة. لكن الإمبريالية، بأدواتها القذرة، لا ترحم الطيبين. إن استشهاد جمال لم يكن مجرد خسارةٍ شخصية، بل كان جزءًا من مشروعٍ إمبريالي يهدف إلى تدمير سوريا وتشتيت شعبها.
فتحي جمال، رمز الشتات والكرامة
فتحي جمال، ذلك الشاب الذي غاب عن النيرب بعد امتحانات الصف التاسع، حمل معه حلمًا فلسطينيًا إلى الدنمارك. لم يكن مجرد جار، بل كان رمزًا للشباب الفلسطيني الذي اضطرته ظروف الشتات إلى البحث عن حياةٍ جديدة. لكن، حتى في الغربة، ظلّ فتحي جزءًا من ذاكرة النيرب. أم جاسر، بقلبها المليء بالحنان، كانت تحكي عنه بفخر، كما تحكي عن ابنتها في ألمانيا. كانت عائلته تجسد الإنسانية في أبهى صورها: طيبةٌ لا تعرف الحدود، وكرامةٌ لا تنحني.
خبر وفاة فتحي اليوم كان كالصاعقة. بعد خمسة وأربعين عامًا من آخر لقاء، كنتُ أتمنى أن أراه، أن أتذكر معه أيام النيرب، أيام الزقاق الضيق الذي كان يجمعنا. لكن الحياة، بمشاغلها في أوروبا والبلاد التي شتتتنا، فرّقت بيننا. إن فتحي لم يمت وحده، بل مات معه جزءٌ من ذكريات النيرب، جزءٌ من حلم العودة إلى فلسطين، تلك الأرض التي كانت ستجمعنا.
أبو حسين عزام، معلم الأدب والكرامة
في المدرسة الإعدادية بالنيرب، كان أبو حسين عزام أكثر من مجرد معلم للأدب الإنجليزي. كان رمزًا للعلم والإنسانية. كان يعلمنا كيف نرى العالم من خلال الكلمات، كيف نفهم الجمال في الأدب، وكيف نحمل الكرامة في مواجهة الظلم. كان صوته يملأ الصف بالحيوية، وكانت نظرته تحمل حكمةً تجمع بين العقل والقلب. وفاته، اليوم، ليست خسارةً للنيرب وحدها، بل لكل من عرفه، ولكل من آمن بأن العلم هو سلاح المقاومة.
أبو حسين لم يكن مجرد معلم، بل كان جزءًا من نسيج المخيم. كان يمثل تلك القيم التي تجعل الفلسطيني يصمد: العلم، الكرامة، والأمل. لكن الإمبريالية، التي دمرت سوريا بإرهاب الجولاني، لم تترك النيرب بعيدًا عن نيرانها. إن وفاة أبو حسين هي تذكيرٌ بأن الصراع ليس مجرد حربٍ عسكرية، بل هو هجومٌ على القيم التي تجعلنا بشرًا: التعليم، الطيبة، والأمل.
بسام رجا، الصحافي المبتسم من كوبا
بسام رجا، زميل العمل في مجلة "الحرية" والإعلام المركزي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، كان رمزًا للإخلاص. خريج كوبا الشيوعية، حمل حبًا عميقًا لتجربتها الثورية، رغم الحصار الإمبريالي الوحشي الذي طالها. كان مبتسمًا دائمًا، يحمل في قلبه أمل الثورة، وفي قلمه قوة الحقيقة. لقد آمن بكوبا، ليس فقط كبلدٍ درس فيه، بل كرمزٍ للصمود في وجه الإمبريالية. وفاته البارحة كانت خسارةً لكل من عرفه، ولكل من آمن بأن الصحافة هي سلاح الحق.
بسام لم يكن مجرد صحافي. كان صوتًا فلسطينيًا يتحدى الظلم، يكتب من أجل شعبه، ويحلم بالعودة إلى فلسطين. آخر لقاء معه كان قبل خمسة وثلاثين عامًا، لكن ابتسامته ظلت محفورةً في الذاكرة. إن وفاته تذكيرٌ بأن الإمبريالية لا تستهدف الأجساد فحسب، بل القيم التي تجعلنا نصمد: الإخلاص، الأمل، والثورة.
الإمبريالية وأدواتها القذرة
إن الإمبريالية ليست مجرد قوةٍ عسكرية، بل نظامٌ يهدف إلى تدمير الشعوب من الداخل. في سوريا، تُمثل عصابات الجولاني أداةً من أدوات هذا النظام. هؤلاء القتلة، المدعومون بريالات الخليج وأوامر واشنطن، يستهدفون المدنيين، يدمرون المخيمات مثل النيرب، ويحاولون تمزيق نسيج الأمة. إن استشهاد جمال، ومعاناة عائلة فتحي، هي جزءٌ من هذا المشروع الإمبريالي الذي يسعى إلى تشتيت الشعوب العربية.
لكن الجولاني ليس سوى حلقةٍ في سلسلةٍ طويلة من العملاء. قبلَه كان صدام حسين، الذي دفع مليونًا من شعبه ثمنًا لحربٍ عبثية ضد إيران، ليرضي واشنطن ومحميات الخليج. زودوه بالسلاح الكيماوي، ثم ألقوا به في حبل المشنقة عندما انتهى دوره. إن مصير الجولاني لن يختلف. إنه يقتل ويدمر، لكنه لا يدرك أن أسياده سيرمونه عندما تنتهي صلاحيته.
الإعلام وصناعة الأكاذيب
إن الإعلام الغربي، المدعوم بتريليونات واشنطن، هو أحد أخطر أدوات الإمبريالية. إنه يُشوه الحقائق، يُروج للفتنة، ويُخفي جرائم الجولاني وزيلينسكي. قنوات الخليج، الممولة من ثروات الشعوب، تُردد أكاذيب الإمبريالية، لكنها لا تستطيع إخفاء الحقيقة. إن بسام رجا، بقلمه ، كان يتحدى هذا الإعلام، يكتب من أجل الحق، ويُذكرنا بأن الصحافة هي سلاح المقاومة.
إن هذا الإعلام ليس سوى جزءٍ من النظام النيوليبرالي الفاسد، الذي يخدم مصالح الأغنياء، ويُبقي الشعوب تحت نير الجهل. لكن الشعوب، بوعيها المتزايد، تكشف زيف هذا الإعلام. إن صمود اليمن، ومقاومة سوريا، وثبات فلسطين، هي ردٌ على هذه الأكاذيب. إن كل مقاومٍ في النيرب، وكل صحافيٍ مثل بسام، هو صوت الحقيقة الذي يتحدى الإمبريالية.
كوبا، رمز الصمود
بسام رجا، خريج كوبا، حمل حبًا عميقًا لهذا البلد الثوري. كوبا، التي تقاوم الحصار الإمبريالي الوحشي منذ عقود، هي رمزٌ للصمود. إنها تُذكرنا بأن الشعوب، مهما كانت محدودة الموارد، قادرةٌ على تحدي الإمبريالية. إن إخلاص بسام لكوبا لم يكن مجرد ولاءٍ شخصي، بل كان إيمانًا بأن الثورة هي السبيل للتحرر. إن كوبا، مثل اليمن وفلسطين، هي درسٌ للعالم: إرادة الشعوب أقوى من أسلحة الإمبريالية.
إن الحصار الذي يطال كوبا هو نفس الحصار الذي يطال اليمن وسوريا. إنه نظامٌ إمبريالي يهدف إلى خنق الشعوب التي ترفض الخضوع. لكن كوبا، بصمودها، تُثبت أن الإمبريالية ليست قدرًا. إنها تُلهم الشعوب العربية، من النيرب إلى غزة، لمواصلة المقاومة، والإيمان بأن العدالة ستنتصر.
فلسطين، الأمل الذي يجمعنا
إن فلسطين هي الأمل الذي كان يمكن أن يجمع فتحي وجمال وبسام وأبو حسين. إنها الأرض التي شتتتنا، لكنها أيضًا الأرض التي ستجمعنا. إن الحياة في أوروبا، والبلاد التي توزعنا فيها، فرّقت بيننا، لكن فلسطين ظلت الحلم الذي يوحدنا. إن كل مقاومٍ في النيرب، وكل شهيدٍ مثل جمال، وكل صحافيٍ مثل بسام، هو جزءٌ من هذا الحلم.
إن العودة إلى فلسطين ليست مجرد حلمٍ رومانسي، بل هي مشروعٌ ثوري. إنها دعوةٌ للشعوب لتتجاوز الشتات، وتتحد في مواجهة الإمبريالية. إن فلسطين، بصمودها، تُذكرنا بأن الصراع ليس مجرد حربٍ عسكرية، بل هو صراعٌ من أجل الكرامة الإنسانية. إنها الأمل الذي سيجمعنا، من زقاق النيرب إلى شوارع غزة.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟