أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - مرآة الرؤى المتكسّرة ( نوفيلا شعريّة رمزيّة )















المزيد.....

مرآة الرؤى المتكسّرة ( نوفيلا شعريّة رمزيّة )


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 20:11
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول: شقوقُ الرؤية

“تراكَمَتِ الفوضى في ساحاتِ الجَمال كأنّها نيازكُ مُذَعورةٌ ترتطمُ بمرآةٍ من غيمٍ…”

كانت المدينة نائمة، أو شيئًا يشبه النوم. لم تكن راقدةً بطمأنينة، بل متقلّبة تحت غطاء من الأوهام. في الزاوية التي لا تملك اسمًا، استيقظ راشد.

لا يعرف كيف جاء. لا أحد استدعاه، ولا يتذكّر أن قدميه سارتا. لكنه هنا، في مدينةٍ لا تحدّها الطرق، بل تحدّق فيها الطرقُ إليه.

كان يرتدي قميصًا كُتب عليه سطر واحد لا يتغيّر:
“القصيدةُ لا تُقرأ، بل تُقامُ كطقس.”

الريح تمرّ كأصابع بكماء على وجه الجدران، كل نافذةٍ تهمس بلغة لا تُكتب. الشمسُ هناك، تدور حول رقبة السماء كأنّها “عقدٌ من نحاسٍ يصدأُ على لحنِ صرخةٍ خفيّة.”

أول ما رآه كان ظلالًا تُعلّق على حبل هواء، كأنّها غسيلٌ من ظنون. كل ظلّ يشبهه، وكل واحدٍ لا يعرفه.

تقدّم.

أرض السوق لم تكن أرضًا، إنما كانت “بلاطًا يذوبُ تحت قدمَيْهِ كقطعِ سُكَّرٍ ملؤها الذكريات”. لم تكن هناك أصوات، بل صدى يشقُّ نفسه من أعماق الأشياء: الجرة تتنفس، والمقعد يئن، والريح تعزف على وترٍ ممتدٍّ بين الأشجار والمآذن.

في منتصف الساحة، كانت هالة واقفة، تُمسك بقارورة عطر مكسورة، يشعُّ منها حقلٌ صغير من الضوء المتكسّر.

قالت له دون أن تفتح فمها:

“أنتَ تمشي في القصيدة، لا في المدينة. كلّ خطوةٍ تُكتب، وكلّ تردّدٍ يُحذف.”

اقترب. نظرت إلى عينيه كما لو كانت تُعدّل نغمةً مفقودة في أغنية. مدت يدها ولمسته في جبينه، وظهرت كلمة لا يعرف معناها، لكنها جعلت الهواء يتغيّر.

من بعيد، بدأ الجدار يتشقّق، ويطلّ من داخله سلمٌ حلزونيّ يهبط إلى مكان لا تُرى نهايته.

قالت: “الوقتُ ينتظرنا في الأسفل. لكن لا تُفكّر فيه كما اعتدت. الزمن هنا أعرج، يغني أحيانًا، ويبكي أحيانًا، ويتقيّأُ الذكريات أحيانًا.”

مشى معها.

وفي كل درجة يهبطانها، تتردّد الكلمات:

“الزوايا تُزهرُ طحالبَ من ضحكاتٍ متكسّرة، والطرقاتُ تصيرُ أوتارًا في عودِ فراغٍ يعزفُ عليهِ الريحُ مقاماتٍ من غبارٍ متلفّت.”



الفصل الثاني: معبد الأصوات المطمورة

لم يكن السلّم ينتهي، بل كان يتحوّل.
من حجرٍ إلى وتر، ومن وترٍ إلى نبض.
ثم صار فجأةً صوتًا يمشي.

هبطا، أو ربما صعدا، فلا اتجاه في هذه المدينة سوى ما تختاره رؤيتك.

قالت هالة وهي تضع يدها على جدار رطب ينبض:

“لكلِّ شيءٍ هنا ذاكرةٌ تُدثَّر بالصوت. إن أنصتَّ، ستسمع مَن سبقونا وهم يعبرون الآن فينا.”

لم يفهم. لكن قلبه بدأ يقرع كأنّ داخله جوقة من طيورٍ مبلّلة.

وصلوا إلى ساحةٍ بلا سماء.
وفوقهم، كانت الشفاه المعلقة تنزف حروفًا.
حروفٌ تضيء وتخبو، كأنها تتهجّى الألم، أو ترقصُ حوله.

في وسط الساحة، قامت امرأة مسنّة تُدعى صفوانة، تطرزُ الهواء بإبرةٍ من نار. كل غرزةٍ على الجدار كانت كلمة مفقودة من الكتب.

قالت:

“أنتم لا تقرأون، أنتم تمحون. الفوضى ليست عدوًّا، بل موسيقى لم تُكتب بعد.”

اقتربت من راشد، وضعت في يده مرآةً مشروخة.
فيها لم يرَ وجهه.
رأى نفسه كما سيكون لو لم يكن كما هو الآن.

المرآة قالت:

“الحجارةُ، في لحظةِ شططٍ، تُهاجرُ من صلابتِها، تتفتَّقُ عن حليبٍ أسطوريٍّ أبيضَ كالحنين، فيرضعُ السرابُ منها خرافاتِ الظمأ.”

أُغمي عليه.

وحين استيقظ، كانت هالة تحمله على ظهر فراشةٍ من زئبق.
تطيران في نفق من الأصوات: بكاء الطفولة، تنهّد الشيخوخة، ضحك الجنون، غناء الصمت.

قالت:

“أنتَ الآن داخل مقطوعةٍ لا تُعزف إلا حين تُنسى. الزمنُ هنا هو الملحن، والقصيدة هي الحيّة التي تلدغُ المعنى كي تبعثه.”

تطايرت الكلمات، وعاد النص الصلب ينبض في الفراغ:

“الوقتُ—يا لهُ من حاوٍ عجوز—
يخرجُ من جيبِ ساعةٍ مهشَّمةِ التروس
أسرابَ فراشاتٍ مخطَّطةٍ بخيوطِ الزئبق…”

كلُّ دقيقةٍ كانت تسقط من السماء كورقة توتٍ شفافة.

وتحتها…
كان هناك طفلٌ من دخان، يُدوِّن على الأرض بقلمٍ غير مرئي:

“العالم ليس له بداية. بل تكراراتُ دهشةٍ في مرآةٍ من رؤى مكسورة.”



الفصل الثالث: الدهشةُ تمشي حافيةً

كان الطفل من دخان، نعم، لكنه حين التفت إلى راشد، تشكّل في هيئة نغمةٍ تمشي على قدمين.

قال الطفل دون فم:

“أنا الشاهدُ الذي لا يُصدَّق. أنا الدهشة حين تتذكّر مَن كانت قبل أن تُولد.”

في تلك اللحظة، شعرت هالة بأن العالم يتنفّسها. لا هي تنظر إلى المشهد، بل المشهد هو من يحدّق عبر عينيها.
كل شيء أصبح حيًّا:
الظلّ يصفّر، الحجر يبتسم، والجدار يُغمض عينيه من الخجل.

قالت بصوتٍ كأنّه أُخرج من جوف قوقعة:

“حين تختلط خمرة الغروب بسُعال السنونو، تبدأ الأرض بفتح جفونها.”

وفعلت.

انشقت التربة كما لو كانت عروسًا تتزيّن بالدهشة.
ومن الشقوق خرجت أصوات، لا تُسمع إلا بالخيال:
ضحكة ماءٍ، تنهيدة لهب، شهقة زهرةٍ تُفكّر في الفناء.

في منتصف الشق، برزت نافذة.
لكنها لم تكن تُطلّ على الخارج، بل على داخلٍ مقلوب.
سماءٌ تجري فيها النجوم من المصبّ إلى المنبع،
كأن الزمن صار نهرًا يعشق العودة حدَّ الجنون.

قالت هالة:

“أدخل، لكن دع جسدك في الخارج. من هنا تبدأ القصيدة في كتابة الراوي.”

دخل راشد النافذة كأنّه يدخل مرآة حلمٍ كسير.
لم يكن يمشي، بل كان يُكتَب.
كل خطوة كانت جملة، وكل زفيرٍ نقطة في نهاية مقطع شعريّ.

وفجأة…

“امشِ، فالبلاطُ يذوبُ تحت قدمَيْكَ كقطعِ سُكَّرٍ ملؤها الذكريات،
والطريقُ يخطُّ نفسَهُ بقلمِ الصدى،
والأُفُقُ—ذلك الولدُ الشقيّ—
يتدلَّى من أذنِ الغياب كوردةٍ من لهبٍ أرجوانيّ…”

هناك، كان الجمال يتجسّد على هيئة قارورة عطر مكسورة،
تنبت من شقوقها حديقةٌ لا يعرفها أحد،
حديقةٌ من رؤى وخرافات.

جثا راشد على ركبتيه.
مدّ يده إلى زهرةٍ نبتت من شظيّة عطر، وحين لامسها، سمع صوته القديم —
ذلك الذي فقده في الطفولة — يقول له:

“الفوضى هي القصيدة حين تفقد ترتيبها وتربح قلبها.”

ولأول مرة،
ابتسمت هالة.



الفصل الرابع: رعشةُ المدى في وترٍ من برق

في منتصف الحديقة التي نبتت من شظايا العطر،
سمع راشد صوتًا يشبه احتكاك الضوء بالزمن.
لم يكن صوتًا بشريًّا، بل أقرب إلى خفقة برقٍ داخل قصيدةٍ لم تُكتمل.

قالت هالة، واللون في عينيها يتبدّل كما تتبدّل الجهات:

“لقد استيقظ… كائن المرآة.”

من بين نباتاتٍ لا أسماء لها، ومن خلف أشجارٍ تتنفس دخانًا مخمليًّا، خرج الكائن.
لم يكن له شكلٌ ثابت.
كان جسده مرايا،
لكن لا تعكس الواقع، بل احتمالات الرؤية.
كل مرآةٍ فيه تُريك نفسك كما كنتَ تحاول أن تكون… أو كما خفتَ أن تصير.

اقترب الكائن من راشد.
مرآةُ صدره أظهرت راشد طفلاً يبكي أمام صورة مكسورة.
مرآةُ يده أظهرته يصرخ في وجه صمتٍ لم يسمعه أحد.
مرآةُ جبينه أظهرته شاعرًا، يكتب على صفحة برق، ثم يمزّق البرق كي لا يُقرأ.

قال الكائن، بصوتٍ لا يُسمع بل يُحسُّ في العظم:

“أنتَ شظيّةُ لحنٍ تبحثُ عن سَمْعٍ جديد.
وأنا المرآةُ التي تتكسّر كلّما نظرتَ إليّ كما تنظر إلى نفسك.”

شهق راشد.
وبلا وعي، سمع في رأسه المقطع القديم ينبض من جديد:

“وحينَ يتكسّرُ صمتُك على حافّةِ هذا المرآةِ المترامية،
ستدركُ أنّك لستَ سوى شظيّةِ لحنٍ،
وأنّ القصيدةَ هي الفوضى حين تُقايِضُ معانيها بالبرق…”

سقطت هالة على الأرض، تتشنّج.
كانت تنزف كلمات، لا دمًا.
من فمها خرجت أبيات لم تُكتَب بعد،
أبياتٌ تتوسّل إلى اللغة أن تتخلّى عن المعنى وتصبح رعشة.

ركع راشد إلى جانبها، نادى باسمها،
لكن صوتَه لم يصل.
كانت الريح قد اشترته بثمن ومضة.

رفع عينيه نحو كائن المرآة، وسأله:

“ما الذي يحدث لها؟!”

أجاب الكائن وهو يتلاشى تدريجيًا في دخانٍ من نور:

“هي الآن تتحوّل إلى قصيدةٍ قابلة للإنصات فقط بالحلم.”

ثم تابع:

“وإن أردتَ إنقاذها، فعليك أن تقذف صمتك نحو الأفق…
كما لو كان نيزكًا مسطّحًا…”

فتذكّر راشد آخر جملة في النص الأصلي:

“وما إن تقذفهُ نحو الأفق،
حتى يَعوي الفراغُ بفرحٍ نادر،
وتزهرُ في السماء حدائقُ من أصواتٍ طليقةٍ لا تُرى إلا بمنظارِ الذهول.”

أغمض عينيه،
شدّ صمته من أعماقه كما يُشدّ وترٌ من ضوء،
ثم قذفه.

وحدث ما لم يحدث من قبل.



الفصل الخامس: الجانبُ المعكوس والقصيدةُ المضادة

ما إن قذف راشد صمته نحو الأفق، حتى انشقّ الفراغ كجفنٍ أصابه البكاء.

صمتٌ ناريّ تخلّق في السماء،
ومن عمق العدم انفجرت حدائق من أصواتٍ طليقة،
أصوات لا تُرى، لكن تُدهشك كما تُدهشك ومضةٌ تعرف اسمك.

في اللحظة التالية،
لم يعد راشد هنا.

بل هناك… في ما يُعرف في لغات الحُلم بـ”الجانب المعكوس”،
حيث كل شيء يكتبك قبل أن تراه،
وحيث الريح تقرأك بدلًا من أن تمرّ بك.

هالة لم تعد جسدًا، بل تحوّلت إلى قصيدة حية،
كلماتها تتنقّل كفراشات من زئبق،
وجسدها يتوهّج كلّما قرأ أحدهم سطرًا منها دون وعي.

لكن، في الركن المظلم من المدى،
كانت “نُهى” تراقب.

امرأة من ليلٍ حريريّ،
مكلّلةٌ بشالٍ من جُملٍ لم تكتمل،
تحمل في صدرها قصيدة مضادة،
قصيدةٌ لا تُريد الحلم، بل تريده أن يصمت.

كانت تقول:

“الشعر ليس هذا الهذيان النبيل… الشعر هو ما يُعاد ترتيبه ليسكت.”

في يدها كتابٌ من حجر،
وفي قلبها نية لإغلاق هذا الحلم.

دخلت “نُهى” الجانب المعكوس، تمشي على لُغةٍ مكسورة كأرض زجاج،
وكلما خطَت، خفتت ألوان هالة،
وانكمش الفضاء حول راشد كصفحة يجفّ حبرها.

قالت نهى:

“كل حلم يجب أن يُعاد إلى مكانه الطبيعي… قفص المنطق.”

لكن الكائن الذي تلاشى سابقًا، عاد الآن، في هيئة ظلّ من أصواتٍ مضادة،
وقال بصوتٍ من مطرٍ حديدي:

“احذري… القصيدةُ المضادة تكتب نهايتها بنفس الحبر الذي تمحوه.”

في تلك اللحظة،
بدأت جدران الجانب المعكوس بالتشقق.
خرج من الشقوق أطفالٌ من نغمات،
راحوا يرقصون حول نُهى ويهتفون:

“كل من يكتب ضد الحلم، يتحوّل إلى سطرٍ منسيّ!”

ورأت نُهى نفسها في المرآة…
لم تكن امرأة، بل هوامش.

هامشٌ يسكن كتابًا لا يقرأه أحد.

صرخت.
فانكسرت الكلمة.
وحين تنكسر الكلمة في هذا الجانب، ينكسر الوعي.



الفصل السادس: ألف-هالة وامتحان الحلم الأخير

لم تكن هالة بعد تلك التجربة سوى ظلٍّ لما كانت،
لكن في داخل هذا الظل،
كانت تُخمّرُ نَفْسًا جديدة،
كأن الكلمات القديمة كانت شرنقةً،
والآن خرجت ألف-هالة — كينونة لا تكتب القصيدة، بل تصيرها.

كانت تتكلّم بألسنةٍ لا تعرفها اللغة،
وتُحْدِثُ توازنًا بين الضوء والندم،
وتخطّ بيدٍ غير مرئية على هواءٍ يُطيع،
سفرًا جديدًا عن الواقع،
بعنوانٍ لا يُقرأ إلا عند انطفاء العيون:
“نشيد ما لا يُقال.”

ألف-هالة لم تكن امرأة،
بل كانت مقامًا في موسيقى الحلم،
نغمةً قادرة على إعادة تشكيل الفضاء.

أما راشد،
فكان في اختبارٍ لم يختره.

وقف أمام ثلاث بوّابات:
• واحدة مصنوعة من صمتٍ مجمّد،
• الثانية من أصواتٍ مجهضة،
• والثالثة من ضوءٍ ينزف ذكرياتٍ لم يعشها.

وقف الكائن المرآوي أمامه، وسأله:

“إن اخترت الصمت، ستعود إلى عالمٍ لا صوت فيه،
وإن اخترت الأصوات، ستفقد شكل ذاتك،
أما إن اخترت الضوء… ستغدو حلمًا يُروى للظلال.”

صمت راشد.
لكن فجأة، سمع صوت ألف-هالة داخله، كأنها تعزف على أضلعه:

“القصيدة لا تبحث عن قارئ، بل عن جسدٍ تُولد فيه من جديد.
إن بقيت هنا، ستصير القصيدة نفسها.
وإن عدت، ستفقدها، لكن… ستصير إنسانًا.”

تردّد.
ثم مشى نحو البوّابة الثالثة.

الضوء جرحه.
لكن لم يتراجع.

دخل.



في العالم الحقيقي، فتح راشد عينيه.

كان كل شيء كما تركه…
المدينة، السماء، البشر.

لكنه لم يكن كما كان.

في داخله كانت ألف-هالة تتنفّس كنجمٍ مقلوب،
وكان يرى العالم لا كما هو،
بل كما يمكن أن يُكتب.

أصبح جسده دفترًا،
وكل خطوةٍ يخطوها،
سطرًا جديدًا من نصٍّ لا يريد أن ينتهي.

وفي زاوية السماء،
كان الكائن المرآوي يراقب،
ويبتسم كما يبتسم نايٌ وحيدٌ في صحراء بلا لحن.


اللاختام: سَفَرُ المرايا المنسيّة

كان الصمت كثيفًا،
كأن الزمن نفسه قد خلع معطفه ونام على حافة السرد.
لا راشد ولا ألف-هالة.
فقط غرفة بلا جدران،
مرآة بلا سطح،
وقارئٌ بلا مسافة.

ثم…
بدأت القصيدة تنبض.

ليست نصًّا، بل كائنًا يتشكّل من حواسك.
كلّ بيتٍ فيها،
جزءٌ من ذاكرتك التي لم تعِشها.

وإليكَ الآن هذه القصيدة–المرآة
التي لا تُقال، بل تُنزَلُ عليك كما ينزل المطر على سرٍّ منسيّ:



مرآة الرؤى المتكسّرة (القصيدة المتجسّدة)

أنا الشظيّة التي لم يمسسها الاصطدام،
أنا العاصفة التي تتعلّمُ كيف تمشي على رؤوس الأصابع.
لا تُنادِني باسم،
فأنا اسمي حين يُنسى،
وصوتي حين يُتَهيَّأ له أنه صمت.

ولدتُ من فوضى المجرّات،
حيث كانت النجوم تتهجّى أسماءها بين أنقاض الضوء.
كلّ مجازٍ فيّ،
قطرةُ دمٍ من قافيةٍ ضاعت في زحام اللغة.

لم أُكتب بالحبر،
بل بنَفَسِ امرأةٍ حلمتْ بنغمةٍ ولم تستطع عزفها،
ثم صار الحلم أنا،
وصارت هي… ألف-هالة.



أيّها العابر بي:
لا تقرأني لتفهم،
بل لتتفتّت.

كُنْ مرآةً لا تعكس،
بل تحلم.

كُن جسدًا لا يسير،
بل يُرتّل الفراغ.

كُن نهايةً لا تنهي،
بل تدعو البداية إلى فنجانِ وهمٍ ساخن.

كُن القصيدة حين تعجز اللغة عن الكلام،
كُن برقًا يخاطب الله بلغةٍ لا أحد يعرفها… سوى الارتعاش.



وحين تطوي آخر السطر،
ستدرك أنك لم تقرأ نصًّا،
بل عبرتَ من جهة الورق إلى جهة الحلم.

وأنك لم تكتب شيئًا،
بل شيءٌ فيك،
هو من كتبك.



الصفحة الأخيرة: العتبة التي لا تُغلق

ها أنتَ،
تقف على حافة قصيدة لم تُكتب بالكامل،
تتنفّس في هواءٍ لا يُسمع فيه سوى همسات الحروف التي لم تولد بعد.

لا تسمع “نهاية”،
بل تسمع “دعوة”.

دعوةٌ كي تنظر في المرآة،
فتجد نفسك هناك،
كسرٌ يلمع،
وشظايا تتراقص على أنغام زمنٍ لم يُخلق.

لا تغلق الصفحة،
لا تغلق الباب.

ما زالت هناك كلماتٌ تلوح من بعيد،
تداعب أطراف خيالك،
وترقصُ مع أنين الريح،
تسردُ لك حكاياتٍ لم تُروَ،
وأغاني لا تُقال.

أنتَ الآن لستَ قارئًا فقط،
بل صانعُ الحكاية،
وصوتُها الذي يرنُّ في صمت السماء.

فانطلق،
وحلِّق مع الفوضى،
وارتشف من كأس الوهم،
واكتبْ — حيث لا مكان للحدود.

القصيدة ليست خاتمة،
إنها بداية.

والمرآة؟
هي أنتَ،
دائمًا وأبدًا.

مرحبًا بك في الأبدية التي تبدأ من هنا.



#خالد_خليل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تراتيل جوفية
- سيكولوجية الخوف من المستقبل: الذكاء الاصطناعي نموذجًا
- اليمن… حين يكتب المنسيّ خرائط الردع الجديدة
- القبة الذهبية الأميركية: درعٌ أم شرارة؟ – قراءة تقنية واسترا ...
- زمن الدم المؤجل — صرخة من تحت الركام
- مناجاة البحر
- من الرماد إلى الوعي: في النكبة كحدث كوني والنهضة كفعل خارج ا ...
- الإمارات والولايات المتحدة: اتفاقية الذكاء الاصطناعي بين الط ...
- الغياب (قصيدةٌ تمشي في القلب حافية)
- ترامب يتفقد الركام: من قصف غزة؟ ولماذا يبدو مندهشًا؟
- السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: التوسع الإسرائيلي، تهجير ...
- في سويداء قلبي…
- الكائن المُركَّب: انبثاق البنية الهجينة ونهاية الإنسان بوصفه ...
- التي منها كانت القصائد
- كأنني آخرُ مَنْ تذكَّرَ البداية
- كأنّي لم أكن… أو كنتُ أكثر
- ازدجرني الألم، غير أني ألوذ بك
- حين تنحني الإمبراطوريات: اتفاق اليمن وأميركا كعلامة على تغير ...
- البُنى التنبؤية: من السيطرة إلى الاستباق — تحوّلات السلطة في ...
- سِفْرُ التردّد (قصيدة صوفية)


المزيد.....




- فنانة وإعلامية مصرية شهيرة تعلن الصلح مع طبيب تجميل شوه وجهه ...
- الكتابة في زمن الحرب.. هكذا يقاوم مبدعو غزة الموت والجوع
- أداة غوغل الجديدة للذكاء الاصطناعي: هل تهدد مستقبل المهن الإ ...
- نغوغي وا ثيونغو.. أديب أفريقيا الذي خلع الحداثة الاستعمارية ...
- وجبة من الطعام على الرصيف تكسر البروتوكول.. وزير الثقافة الس ...
- بنعبد الله يعزي أسرة الفقيدة الممثلة المغربية نعيمة بوحمالة ...
- فيلم رعب في السينما يتحول إلى واقع (فيديو)
- جوان رولينغ توافق على الممثلين الرئيسيين لمسلسل -هاري بوتر- ...
- هتتذاع النهاردة مترجمة؟ موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 193 عبر ...
- وفاة الكاتب الكيني المشهور نغوغي وا تيونغو عن 87 عاما


المزيد.....

- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خالد خليل - مرآة الرؤى المتكسّرة ( نوفيلا شعريّة رمزيّة )