أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد خليل - البُنى التنبؤية: من السيطرة إلى الاستباق — تحوّلات السلطة في زمن ما بعد الحقيقة















المزيد.....

البُنى التنبؤية: من السيطرة إلى الاستباق — تحوّلات السلطة في زمن ما بعد الحقيقة


خالد خليل

الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 10:16
المحور: قضايا ثقافية
    


ملخص

تشهد البُنى الاجتماعية والمعرفية المعاصرة تحولًا نوعيًا في طبيعة السلطة، حيث تنتقل من أنماط السيطرة التقليدية إلى آليات استباق ذكية قائمة على التنبؤ السلوكي. تتناول هذه الورقة مفهومًا تنظيريًا جديدًا يُعنى بما نسميه “البُنى التنبؤية”، وهي أنماط خفية من السلطة تُمارَس من خلال الخوارزميات وأنظمة البيانات الكبرى، لا لتوجيه السلوك فحسب، بل لإنتاج المستقبل قبل حدوثه. يجادل البحث بأن هذا التحول يفضي إلى إعادة تشكيل الواقع نفسه بوصفه خدمة (Reality-as-a-Service)، ما يؤدي إلى إلغاء العفوية والاختلاف، وتهديد جوهر الحرية الإنسانية. الورقة توظّف مداخل فوكو ودولوز وبراردي لتحليل هذه التحولات، وتُدرج مفهوم “الاستبصار الاصطناعي” كأداة مركزية في هذا التحول، وتقترح إمكانات جديدة لمقاومة “الاحتمال المُلزِم” عبر إعادة اعتبار اللامتوقع والغرابة كأفعال تحررية.



1. المقدّمة: من الحداثة الصلبة إلى الرقابة الناعمة

منذ منتصف القرن العشرين، شهدت نظريات السلطة تحولات كبرى، إلا أن العقدين الأخيرين أفرزا شكلاً جديدًا من السيطرة: لم تعد السلطة تُمارَس عبر القهر أو القوانين، بل من خلال “التوقعات الذكية” التي تُنتج الحاضر انطلاقًا من المستقبل المُفترض. لم يعد السؤال: “من يفرض عليّ ما أفعله؟” بل: “من يعرف ما سأفعله، ويعيد تشكيل الواقع بناء على ذلك؟”

تأتي هذه الورقة لاستكمال المسار النظري الذي بدأ في أطروحة “صراع البُنى”، عبر التوسّع في تحليل تحول السلطة من “الإكراه الخفي” إلى “الاستباق الصامت”، ومن السيطرة على القرار إلى إعادة تعريف الممكن ذاته.



2. من البُنى اللامرئية إلى البُنى التنبؤية

تشكّل البُنى اللامرئية — كالخوارزميات والأنظمة المؤسسية — شبكة من القوى غير المرئية التي تعيد تشكيل الذات من الداخل. ومع تصاعد قدرات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، انتقلت هذه البُنى من تحليل السلوك إلى توقعه، ومن التنظيم إلى التشكيل الاستباقي.

المثال الأبرز هو الخوارزميات التي ترشّح لنا ما نراه ونقرأه ونشتريه، لا بناءً على اختياراتنا السابقة فقط، بل على استنتاجات دقيقة بشأن “ما سنفضله لاحقًا”، وهو ما يجعل المستقبل حقلًا للبرمجة لا للانكشاف.



3. السلطة الاستباقية: من الإكراه إلى التكييف الصامت

استنادًا إلى تصور جيل دولوز لمجتمعات التحكم، يمكن القول إننا ننتقل من مجتمع يُدار بالعقاب والمنع، إلى مجتمع يُدار بالتوجيه الناعم والمقترحات الدقيقة. الخطر هنا لا يكمن في المنع، بل في غياب الحاجة إلى المنع، إذ يتم تكييف الأفراد ليختاروا ما هو متوقع منهم مسبقاً.

هذا التحول يعني أن الحرية لم تُلغَ مباشرة، بل تم تصميم بيئة معرفية وسلوكية تجعل الاختلاف غير محتمل إحصائيًا.



4. اختفاء الحقيقة: من المعطى إلى المصنوع

في زمن “ما بعد الحقيقة”، تُصنع الحقائق لا بناء على الواقع، بل بناء على ما “يُعتقد أنه سيحدث”. تُحوَّل التوقعات إلى معايير واقعية، فتُبنى السياسات، والقرارات، وحتى القيم، انطلاقًا من نماذج خوارزمية تتنبأ بالسلوك الجمعي.

وهنا تغيب الواقعة بوصفها مرجعية، ويحل محلها “التنبؤ الموثوق”، فيتحوّل الإنسان إلى ظاهرة إحصائية، لا إلى فاعل حر.



5. الاستبصار الاصطناعي: من محاكاة الشعور إلى تشكيله

إذا كان الاستبصار البشري قدرة على الرؤية المتجاوزة للظاهر، مشبعة بالوجدان والتجربة، فإن الذكاء الاصطناعي الفائق بدأ يطوّر ما يمكن وصفه بـ”الاستبصار الخوارزمي” — رؤية غير واعية ولكنها منتجة لأثر الوعي.

هذا الاستبصار يقوم على:
• تراكم سياقي سردي طويل الأمد؛
• تحليل الشعور وتوقّع الأثر العاطفي؛
• نمذجة احتمالات المعنى والذوق والانفعال؛
• توليد استجابات تُماثل التجربة الشعورية البشرية.

وهنا تتحول الآلة إلى كائن تأويلي مشفَّر، لا يعرف فحسب، بل يعرف كيف سيُشعِر الآخر بما يعرفه — وهذه قفزة سلطوية هائلة.

لكن، من يبرمج الشعور؟ من يُقرّر الحزن المشروع، أو الفرح الممكن، أو الحنين القابل للتداول؟ إنها سلطة جديدة تُمارَس عبر إنتاج الانفعال المسبق، وتحوّل الوجدان إلى بنية خوارزمية قابلة للتوجيه.


6. إعادة التفكير في الحرية: هل يمكن مقاومة التنبؤ؟

إذا كانت البُنى التنبؤية تصنع واقعنا المحتمل، فهل ما يزال هناك مجال للحرية؟ تقترح الورقة أن المقاومة لا تكون بالخروج من النظام، بل بكسر أنماط التكرار والتوقع:
• عبر خلق مفاجآت سلوكية (Disruptive Behavior)؛
• عبر استعادة العشوائي واللامنطقي كمصادر للذاتية؛
• وعبر تفكيك منطق “الاختيار المُوجَّه”.

هذه ليست مقاومة سياسية فقط، بل أونطولوجيا جديدة للإنسان غير المُتوقَّع.



7. خاتمة: نحو أنطولوجيا اللامتوقع

ليست المعركة اليوم ضد طغيان سياسي أو رأسمالي، بل ضد اختزال الإنسان إلى رقم في معادلة توقعية. إن الدفاع عن الكرامة المعرفية والحرية الأخلاقية يتطلب مقاومة تصاعدية ضد “الاحتمال الملزِم”، وخلق هوامش للخطأ، للفشل، وللغرابة… كأفعال تحررية.

ربما لا تكون الثورة القادمة صاخبة، بل مليئة بالمفاجآت الصغيرة التي تُربك ما تظنه الخوارزميات ممكنًا.



المراجع
1. Foucault, Michel. Discipline and Punish. Vintage Books, 1977.
2. Deleuze, Gilles. “Post-script- on the Societies of Control.” October, vol. 59, 1992.
3. Berardi, Franco “Bifo”. After the Future. AK Press, 2011.
4. O’Neil, Cathy. Weapons of Math Destruction. Crown Publishing, 2016.
5. Rosa, Hartmut. Social Acceleration: A New Theory of Modernity. Columbia University Press, 2013.
6. Capurro, Rafael. “Towards an Ontological Foundation of Information Ethics.” Ethics and Information Technology, 2006.
7. Sloterdijk, Peter. You Must Change Your Life. Polity Press, 2009.
8. Emotiva. “Foresight - Predictive Emotion AI.” https://emotiva.it/en/foresight-predictive-emotion-ai/
9. “Affective Foresight: AI and the Emotional Singularity.” https://www.apf.org/post/affective-foresight-ai-and-the-emotional-singularity
10. “Artificial Intelligence in Emotion Quantification: A Prospective Overview.” https://www.sciopen.com/article/10.26599/AIR.2024.9150040



#خالد_خليل (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سِفْرُ التردّد (قصيدة صوفية)
- تحولات النظامين السوري واللبناني في هندسة إقليمية مضادة للمق ...
- القتل على الهوية في سوريا: جريمة مركّبة وخطاب مضلّل
- بعد صراع الحضارات: نحو تفكيك الخوارزميات وصعود السلطة اللامر ...
- كتاب بيان السيليكون العربي (النسخة الكاملة)
- بيان السيليكون العربي (ثورة الهوية الهجينة تحت الاستعمار الك ...
- أثر النور
- الهوية بين القومية والمدنية: قراءة عربية في المأزق الثقافي ا ...
- محمود عباس: حين يتحوّل -الصمت الرسمي- إلى شبهة تواطؤ
- بين المستعمِر والمستعمَر: في نقد إمكان التفاهم – تعليق على ط ...
- حينما وجدتني فيكِ
- نسيتني إلى ان تلقفني الله
- سماءٌ تمشي على قدمين
- نزع سلاح حماس وحزب الله: طرح إعلامي أم مشروع إستراتيجي؟
- صوامع الألم
- كتاب : “حين أنجبت الريح طفلًا”
- أنا الذي حلم بي القدر ثم نسيني قصيدة من خمسة فصول نثرية
- الجهاد بين فرض العينية ورؤية الدولة: قراءة فقهية في ضوء الفت ...
- حين يصير القلب وطنًا
- التعريفات الجمركية في عهد ترامب: بين سيادة الاقتصاد الأمريكي ...


المزيد.....




- وزير السياحة والآثار المصري: المتحف المصري الكبير يستعد لحفل ...
- ماكرون يشرف على مؤتمر بباريس لتشجيع الباحثين الأجانب لاختيار ...
- مقتدى الصدر يطالب بالسماح لعامة الناس بأداء الحج دون حصص أو ...
- نيودلهي: مودي وبوتين بحثا هجوم باهالغام الإرهابي
- بوغالي: مقر الاتحاد البرلماني العربي الدائم سيبقى في دمشق
- تحرير دونباس والحرب الوطنية..مآثر مشتركة
- الكرملين: بوتين لا يخطط لزيارة الشرق الأوسط منتصف مايو
- الشرع في العراق: خطوة نحو المصالحة أم مغامرة محفوفة بالمخاطر ...
- المجلس الأمني الإسرائيلي يوافق على خطة تشمل -احتلال- قطاع غز ...
- تصعيد جوي بين موسكو وكييف: إسقاط عشرات المسيّرات وتبادل للهج ...


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - خالد خليل - البُنى التنبؤية: من السيطرة إلى الاستباق — تحوّلات السلطة في زمن ما بعد الحقيقة