خالد خليل
الحوار المتمدن-العدد: 8330 - 2025 / 5 / 2 - 10:01
المحور:
قضايا ثقافية
ورقة تحليلية سوسيولوجية-اقتصادية-سياسية حول تحولات البنية العالمية
مقدمة عامة: تفكيك الأطروحات الكبرى
منذ سقوط جدار برلين، دخل العالم في سلسلة من المحاولات لتأطير المرحلة التالية لما بعد الحرب الباردة. ومن بين أكثر هذه المحاولات تأثيرًا كانت أطروحة “صراع الحضارات” لصموئيل هنتنغتون، التي افترضت أن المواجهة القادمة ستكون حضارية-ثقافية لا أيديولوجية. إلا أن العقدين الأخيرين أظهرا تحولات عميقة، لم تعد فيها الحضارات ولا حتى الدول، الفاعل المركزي في الصراع.
لقد دخل العالم طورًا جديدًا لا تُعرّف فيه الصراعات بالحدود أو بالعقائد، بل بالبُنى العميقة التي تُعيد تنظيم العلاقات، الإدراك، والسلوك. وبهذا فإن ما نشهده اليوم ليس “صراع حضارات” بل “صراع بُنى” Morphological Conflict، حيث تتنازع القوى الخفية – من خوارزميات، شبكات، بنى رقمية – على تشكيل الإنسان الجديد، بل إعادة برمجته.
اولا: من صراع الطبقات إلى صراع البُنى — التحول البنيوي للعالم
شهدت القرون الماضية صراعات تمحورت حول طبقات اجتماعية واقتصادية، بلغت ذروتها مع الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية. غير أن تصاعد أدوات التكنولوجيا الرقمية، والانتقال من الاقتصاد الصناعي إلى اقتصاد البيانات، أحدثا تفتتًا في الهويات الطبقية، وصعودًا لنمط جديد من التراتبية، لا يقوم على الملكية، بل على الوصول إلى البنية التحتية الرقمية والمعرفية.
لقد تم تعويض الصراع على وسائل الإنتاج بالصراع على وسائل الإدراك والمعرفة والتوجيه السلوكي، حيث لم يعد العامل هو المنتِج المركزي، بل المستخدم والبيانات التي يولدها. وهكذا ننتقل من صراع حول المادة إلى صراع حول الشكل الذي يُعاد فيه بناء الواقع.
ثانياً : السلطة اللامرئية — الخوارزمية كفاعل سياسي واقتصادي
إذا كانت السلطة في العصور السابقة مرئية (الملك، الدولة، الجيش)، فإن السلطة اليوم أصبحت لا تُرى: تتحكم فيك دون أن تأمرك. إنها السلطة الخوارزمية.
الخوارزميات لا تفرض القوانين، بل توجه السلوك من خلال التوصية، التصنيف، والرقابة التنبؤية. إنها سلطة لا تُحاسَب، ولا تُنتخب، ولا تُرى. والأخطر: أنها تتعلم. كلما تفاعل معها الأفراد، ازدادت قدرة على التوجيه، حتى تغدو نوعًا من “العقل السلوكي الموازي” للمجتمع.
وبذلك تصبح السلطة المعاصرة سلطة تصميمية: تصمم بيئة رقمية تستبطن التوجيه، دون حاجة إلى قسر.
ثالثا : تفكك الاقتصاد المادي وصعود رأس المال التنبؤي
الاقتصاد الرأسمالي الكلاسيكي كان قائمًا على الإنتاج والتبادل، أما الاقتصاد الراهن فيقوم على البيانات والتنبؤ. لم تعد القيمة تُستخرج من العمل، بل من السلوك المستقبلي. لم تعد السلعة منتجًا ماديًا، بل أصبحت نموذجًا تنبؤيًا يُباع للمعلنين، أو يُستخدم لتعديل الاتجاهات.
وتبعًا لذلك، أعيد تعريف اللامساواة. لم تعد قائمة فقط على التفاوت في الدخل، بل على التمييز في الرؤية الخوارزمية: من يرى من؟ ومن يُخفى عن من؟
يُقصى المهمشون رقميًا، ويُضاعف حضور الأفراد ذوي القابلية للاستهلاك أو التأثير.
رابعا : الاستشراف والتحولات القادمة — من الدولة إلى الشبكة
النظم السياسية الحديثة – الديمقراطية، السيادة، القانون – تبدو عاجزة عن استيعاب التحولات الرقمية. لقد تراجعت سلطة الدولة لصالح الشبكات الرقمية العابرة للحدود، والتي تنظم التجارة، المعرفة، وحتى السياسات العامة، دون تمثيل سياسي.
وهكذا ندخل في مرحلة “ما بعد-الدولة”، حيث يتراجع الفضاء العام لصالح الفضاء الخوارزمي الخاص، وتتوارى مفاهيم مثل “الشعب”، “المصلحة العامة”، و”الرأي العام” خلف طبقات معقدة من الإحصاء والذكاء الصناعي.
الفاعلون الجدد هم شركات، خوادم، كتل بيانات، ومستخدمون لا تربطهم لا قومية، ولا طبقة، بل خوارزميات ذات أهداف تجارية ومعرفية لا تُعلن بالضرورة.
خامسا : الأنثروبولوجيا الرقمية — الفقر كاحتمال للمقاومة
في هذا السياق، يطرح سؤال حيوي: هل بإمكان الفقراء أن يركبوا موجة الرقمنة؟
الفقر الرقمي لا يُختزل في غياب الأدوات، بل في الحرمان من البنية المعرفية والتمثيلية. ومع ذلك، أظهرت بعض الأبحاث والممارسات الواقعية أن الفئات الفقيرة تعيد توظيف التكنولوجيا بطرق هجينة، مبدعة، تتجاوز التوقع.
من شبكات التضامن الرقمي، إلى الاقتصادات غير الرسمية داخل التطبيقات، ومن خلق محتوى سياسي شعبي، إلى تطوير بدائل تعليمية، يثبت الفقراء أنهم قادرون على إنتاج أشكال من الرقمنة المحلية، وربما صياغة مقاومة رقمية غير متوقعة.
سادسا : صراع البُنى — لحظة انكسار الإدراك البشري
ما نعيشه ليس فقط تغيرًا في الأنظمة، بل في الشكل الذي يُبنى فيه الواقع نفسه. إننا نشهد لحظة نادرة: لحظة انكسار الإدراك البشري أمام طوفان التنظيم الخوارزمي، وتفكك المفاهيم الكلاسيكية (الحرية، الفرد، الدولة، السوق…).
إن الصراع المعاصر لا يدور حول الموارد، بل حول البنية التي تحدد كيف نرى العالم ونتصرف فيه. وبهذا يصبح الصراع سياسيًا، أخلاقيًا، إدراكيًا، واستبصاريًا في آن.
السؤال المركزي لم يعد: “من يحكم؟”، بل:
“ما هي البنية التي تُنتج الحكم والمعرفة والقرار؟ ومن يملك مفاتيحها؟”
خاتمة: ورقة المرحلة — بين التوصيف والاستبصار
هذه الورقة لا تدّعي تقديم حلول، بل تسعى إلى تقديم تشخيص بنيوي عميق لمرحلة تاريخية انتقالية، يتفكك فيها المفهوم السياسي الكلاسيكي، ويصعد فيها منطق جديد يتأسس على الخوارزمية، الشبكة، والسلطة اللامرئية.
إنها لحظة تأمل في مستقبل لا يُصنع في العلن، بل يُكتب في الأكواد، ويُختزن في السيرفرات، ويُبنى خارج كل ما اعتدناه من مفاهيم.
مراجع عامة:
الأنثروبولوجيا الرقمية والتحولات الاجتماعية
1. Hillier, Katie. (2025). “Digital Anthropology Meets Data Science.” Anthropology News.
تناقش هذه المقالة كيف يمكن لفرق الأنثروبولوجيين وعلماء البيانات تحليل النظم البيئية الرقمية في الوقت الفعلي لفهم التغيرات الاجتماعية السريعة.
2. Munk, Anders Kristian. (2025). “Coming of Age in Stable Diffusion.” Anthropology News.
تستكشف هذه المقالة تأثير تقنيات الذكاء الاصطناعي الحديثة على تطور المجتمعات الرقمية.
السلطة الخوارزمية والسياسات الرقمية
3. West, Sarah Myers. (2025). “AI Now Coauthors Report on Surveillance Prices and Wages.” AI Now Institute.
يستعرض هذا التقرير تأثيرات الذكاء الاصطناعي على الأجور والمراقبة، مشيرًا إلى كيفية تأثير الخوارزميات على الاقتصاد والسياسة.
4. Kak, Amba. (2025). “New Report on the National Security Risks from Weakened AI Safety Frameworks.” AI Now Institute.
يناقش هذا التقرير المخاطر الأمنية الوطنية الناتجة عن ضعف أطر أمان الذكاء الاصطناعي، مع التركيز على تأثيرات الخوارزميات على الأمن القومي.
الفجوة الرقمية والتنمية الاجتماعية
5. Greenstein, Shane, Sadun, Raffaella, & Tambe, Prasanna. (2025). “America’s Digital Divide: Where Workers Are Falling Behind.” Harvard Business School Working Knowledge.
يستعرض هذا البحث كيف تؤثر الفجوة الرقمية على العمال الأمريكيين، خاصة في القطاعات ذات الأجور المنخفضة.
6. “Broadband Experts Reflect on Digital Divide Progress Five Years After Pandemic.” (2025). Broadband Breakfast.
يناقش هذا المقال التقدم المحرز في سد الفجوة الرقمية في الولايات المتحدة بعد جائحة كوفيد-19.
7. “Addressing the Digital Divide Among the Older Population Presents Challenges.” (2025). JMIR.
يستعرض هذا المقال التحديات التي تواجه كبار السن في الوصول إلى التكنولوجيا الرقمية واستخدامها.
8. “Nearly Half of UK Families Excluded from Modern Digital Society, Study Finds.” (2024). The Guardian.
يقدم هذا التقرير دراسة حول الفجوة الرقمية في المملكة المتحدة وتأثيرها على الأسر ذات الدخل المنخفض.
تقنيات متقدمة والجسور الرقمية
9. Chaoub, Abdelaali, et al. (2020). “6G for Bridging the Digital Divide: Wireless Connectivity to Remote Areas.” arXiv.
يستعرض هذا البحث كيف يمكن لتقنيات الجيل السادس من الشبكات اللاسلكية سد الفجوة الرقمية في المناطق النائية.
10. “How We Connected One Billion Lives Through Digital Technology.” (2025). TIME.
يناقش هذا المقال مبادرات عالمية لربط مليار شخص بالتكنولوجيا الرقمية، مع التركيز على تأثير ذلك على التنمية الاجتماعية
#خالد_خليل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟