ابراهيم زهوري
الحوار المتمدن-العدد: 8201 - 2024 / 12 / 24 - 11:24
المحور:
الادب والفن
إلى روح الشهيد حسن أبو الليل
في هذه المناطق الجبلية الوعرة التي تشكل خط المواجهة الأول لمواقع سورية محتلة من قبل الأعداء ... وهي جبهة الخط الأمامي المتقدم في مواجهة موقع مرصد جبل الشيخ الذي يشبه قلاع القرون الوسطى حيث جرى تناوب السيطرة علية في معارك عنيفة أثناء حرب تشرين .
جنود جيش التحرير الفلسطيني وأنا كنت واحدا منهم خدموا في هذه المواقع المتقدمة وهي مواقع بدائية مهملة وفقيرة التجهيز من ناحية عسكرية ومعيشية .. وهي أشبه بدشم محفورة على جوانب السفح في بطن الجبل بأمتار قليلة على الهضاب الجبلية يسورها خندق إسمنتي إذا وجد في بعض المواقع .. أظن أنها من مخلفات حرب تشرين .
تبدأ من قطنا المركز الرئيسي للقوات و قلعة جندل .. ثم تأتيك قرية " بقعسم " و هي موقع خدمتي و هو عبارة عن سرية دفاع جوي تحتوي على ٦ رشاشات ١٤.٥٠ م.ط وصواريخ سام ٧ المحمولة على الكتف .. تتموضع فوق بيوت القرية الوادعة على السفح المترامي أسفل الموقع الذي يشبه مساحة دائرية تكسوها حصى من حجارة الصخر المفتتة بفعل عوامل التعرية الطبيعية . ويتبعها قرية " ريمة " ثم قرية " عرنة " وخلفها المرصد ( الإسرائي......لي ) .. أما أعلى نقطه في سلسلة الجبل هي موقع القمة من جهتنا ( ٢٨١٤ ) م . وكان يشغله سرية من الدفاع الجوي المجهزة بسرية صواريخ " سام ٧ " وعناصر من المشاة تدعمه سرية رشاشات شيلكا من الخلف التابعة لجيش التحرير الفلسطيني المنضوي بدوره للفرقة السابعة للجيش السوري المنحل حاليا ... طبعا قوات أجنادين هي التي كانت تخدم في جبل الشيخ ومن موقع خدمتي الإلزامية زرت كل خطوط الجبهة وهي كلها كانت تحت سيطرة السيادة السورية حسب إتفاق الهدنة المعروف حينها . أما موقع المرصد السوري المحتل من إسرا....ئيل يبلغ إرتفاعه ( ٢٢٣٦) م فقط، محصن جيدا كما يبدو من المشاهدة عبر المنظار و مجهز بتقنيات الكشف عن بعد .. ليلي نهاري .. وأجهزة المراقبة الحديثة وخصوصا المنارة الضوئية التي تنير المواقع المحيطة ليلا و تكشفها بغمضة عين فهو يقع خلف هذه المواقع وتفصله عنها أيضا المنطقة العازلة ويقابله موقع المرصد المقابل ويتألف من سرية مشاة طبعا من جيش التحرير وكانت قوات الأمم المتحدة تشرف على هذه المنطقة وتأتي بدوريات منتظمة لمواقعنا ونحن كنا نخفي الكثير من الجنود ولا نصرح بالعدد الحقيقي لعناصرنا .
لا ننسى تقليدنا الشهير بشراء الفول والحمص من دكان قريب حين وصولنا في الصباح الباكر لوسط مدينة عريقة تستيقظ بنشاط قاطنيها و غمامة التلوث القاتم وكثرة ضجيج القادمين إليها ،
كان سائق الحافلة ( الميكروباص ) وهو من سكان ( قلعة مجدل ) المعروفية ينتظرنا أو ننتظره في نقطة التجمع في كراج البرامكة ليأخذنا إلى قطنا حيث نسلك طرقا جانبية و بساتين أودية عامرة بأشجار الكرز والتفاح و كروم العنب والحقول حتى نصل إلى موقع نسميه ( البحرة ) و هي نقطة فسيحة من الماء واليابسة مستوية محاطة بعدة قمم شاهقة ومنها أعلى القمم التي تسمى شارة حرمون والتي أسميتها أنا من باب التندر و الدعابة عمامة الشيخ البيضاء وليس لحيته .. وفي البحرة سرية هاون ١٦٠ من جيش التحرير على أهبة الإستعداد دوما أو هي من المفترض أن تكون هكذا .. بعد النزول المكروه المتهادي من ضجيج الحافلة نجهز أمتعتنا وأغراضنا نقضي بدقائق معدودة إجتماع أخذ التفقد الإسمي ، ألملم شتات هواجسي و أتعجل اللقاء واتجه نحو مقصدي _ ينال مني التعب والإرهاق _ إلى خيمة جهاز الإرسال التي كانت من مسؤولية الشهيد حسن أبو الليل عليه رحمة الله إبن مخيمي نعانق بعضنا بالضحكات وآخر الأخبار .. يجهز إبرق الشاي ومائدة الفطور وأنا من شدة خجلي أتفق معه أن يأتي لزيارة موقعي للإستجمام والإستحمام بعد عناء إصلاح خطوط الإتصال المترامية على سفوح الشعاب التي عملنا على تجهيزها سويا ً ، يودعني بحلاوة حفاوته المعتادة ،أجهز جعبتي الظهرية على عجل وعصاتي الغليظة وأجمع عناصر مجموعتي لتنصرف كل مجموعة إلى مواقعها حيث نكرر صعود هذا الجبل مع مجموعة القمة بعد انتهاء إجازتنا الشهرية وهي مدة ٦ أيام نحن أبناء المحافظات البعيدة أما عناصر مدينة دمشق فمن حقهم المبيت وسط أهلهم أسبوعيا.
نصعد بمسير فردي قرابة ٥ ساعات او أكثر نحمل أمتعتنا وجعبنا ونشد الخطى مثل أي وعل جبلي يقفز من حضن صخرة لأخرى .. وأنا أحيانا أسلي نفسي وأواسيها بترديد الشهادة على شكل أغنية مصاحبة كما علمني إياها أبي في صلواته اليومية .. وأنا أنظر بدهشة عجيبة خلفي بعد كل مسافة أقطعها وأشاهد كيف تصغر الأشياء رويدا رويدا وتكتسي طابع العدم أمام عظمة الخالق سبحانه وتعالى .
نفترق عند نقطة معينة من السفح كل في إتجاه انا ومجموعتي نصل إلى موقعنا أولا بينما مجموعة القمة تواصل صعودها تباعا وأنا لا أستطيع المكوث إلى مخدعي حتى أتأكد من سلامة وصولهم ،أجلس فوق إسمنت خندق المنحدر ألتقط أنفاسي وأتمتع بنسيم الهواء القادم من مدينة صفد مدينة أبي وأمي وحسب وصيتهما المعتادة بعد كل إجازة لا تنسى يا ابراهيم أن تدع رئتيك تمتلئآن من هواء صفد.
أراقب بالمنظار خط سيرهم البطيء والمتعرج عندما يختفي المكان فجأة في عباءة ضباب غيمة عابرة وينجلي بأشعة نور الشمس المحتجبة... ليتصلوا بي عبر جهاز اللاسلكي كما أوصيتهم تكرارها ومرارا وخصوصا في أيام العواصف الثلجية العصيبة الطويلة . كل هذا الكلام من أعوام ٢٠٠١...٢٠٠٣حتى ٢٠٠٥ أما عن وسائل وطرق المعيشة فهي كانت متقشفة إلى حد ما ونحن أغلبنا أبناء مخيمات اللجوء في سورية نعتاد شظف العيش ونتحمل الشدائد كنا نعتمد على السخرة أو التموين كل أسبوع وينقسم الى ناشف وأخضر حسب التسمية المتعارف عليها واغلبنا يصنع طعامه منها ومن المواد التي نحضرها معنا او نشتريها من دكان وحيد بالقرية وموقعنا يعتبر افضل من المواقع التي حولنا فيه خطوط الكهرباء تأتينا من القرية تكفي لتشغيل تلفزيون وراديو ومصباح كهربائي واحد .نستخدم الشاحن وقت الانقطاع... في أيام العواصف نغلي الثلج للحصول على الماء .. وقضاء الحاجة خلف صخرة ضخمة حفرة صغيرة وحجرين مسطحين موطأ القدمين ولا ننسى الابريق البلاستيكي والحبل الطويل الذي نربطه حول خصرنا في متاهة الخروج أثناء عاصفة ثلجية رهيبة حيث تنعدم الرؤية ويتعطل السمع وينشر الصقيع مخالبه في لحظة نهش غادرة . كنا نستخدم للتدفئة مادة المازوت حيث نستخدم الوابور مع صفيحة معدنية (تنك) فوق كرة رأسه الملتهبة.. يتعبنا دخانه الأسود ويطلي وجوهنا بلونه الداكن وينشر حرارته السمحة في أرجاء الدشمة لنعتاد صوت صفيره المشتعل في حمأة زخم حديثنا الجماعي كل مساء ، الدشمة عبارة عن مغارة ضعيفة العمق نصف دائرية تشبه أنبوب إسمنت ضخم مقطوع من النصف ومغروس في الأرض وطولها ليس أكثر من عشرة أمتار تتسع لأربعة أسرة فقط. اما عن ماء الشرب ننزل الى ينبوع السفح ونملأ الدلال وأحيانا نستحم عند بركة الينابيع صيفا وحدك واشجار الكرز والتفاح وكروم العنب في وحشة السفح ورؤى التاريخ ولا أحد غير شمس بلادك وعصافيرها وخيالات الماضي البعيد الحافلة بمآثر الدفاع عن الثغور ومواجهة الغزاة .أما ماء الخزان الذي يتوسط الموقع لايعدو عن كونه خزان من الصفيح ملوثا لايصلح للشرب إن كان فيه ماء يملأه صهريج جرار زراعي يأتينا من حين لأخر صيفا .
بعد انتهاء خدمتي بسنوات قليلة جرى إعادة تموضع جديدة للقوات فتم سحب عناصر جيش التحرير من الخط الأمامي الآنف الذكر إلى مواقعها في معسكرات قطنا واستبدالهم بعناصر من قوات المهام الخاصة السورية المنسحبة من لبنان . أما عن الطريق المدني الذي يربط المنطقة الجبلية هذه بالعاصمة دمشق فهو عبارة عن شارع إسفلتي معبد متعرج يربط قرية عرنة بالعاصمة دمشق مرورا بقطنا عابرا كل القرى التي على نفس الطريق والطرق الفرعية الأخرى أما السهل المنبسط التي يشرف عليها الجبل فهي تتشعب وتتواصل بطرق أخرى بداية من ناحية الغرب مع مناطق شبعا اللبنانية حيث تنشط خطوط التهريب وقوافلها الممتدة إلى مايزيد عن مئة بغل وسائسه ومن الجنوب الشرقي مناطق ناحية سعسع لمحافظة ريف دمشق .. أما إذا تحققت سيطرة العدو على هذه المناطق الحيوية والإستراتيجية فالعاصمة دمشق تكون ساقطة عسكريا وهي تحت التهديد المباشر الثابت والدائم لإطلاق النار .
Nürnberg
22.12.2024
#ابراهيم_زهوري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟