|
زيــارة إلــى بــلــزاك
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 7610 - 2023 / 5 / 13 - 12:21
المحور:
الادب والفن
كان كاتب الحكايات العالمي هانز كريستيان أندرسن مولعا بأدب بلزاك، وعده أعظم أدباء القرن 19، ومن ثم قرر في مارس 1857 أن يزور بلزاك في بيته، وكان المتفق عليه أن لا تطول الاستضافة عن أسبوع واحد، لكن أندرسن بقي خمسة أسابيع كاملة، مما أدى – ليس إلى توطيد العلاقة كما كان مرجوا – بل إلى تدهورها بين الكاتبين، مما يبين أن الإفراط في المودة قد يؤدي إلى النفور، خاصة أن بلزاك كان حينذاك غارقا في بناء رواياته التي وضعت أساس الواقعية في الأدب الروائي، ولم يكن لديه فسحة من الوقت للثرثرة. وتوقفت المراسلات بين الكاتبين بعد تلك الزيارة الودية. ولم تكن تلك فقط إحدى عجائب بلزاك، ذلك أنه كان أديبا ثوريا وهو يصف الواقع ويرسم الشخصيات والأحداث ويستقرئ الواقع، لكنه – سياسيا - كان من أنصار النظام الملكي وهيمنة الكنيسة. ساقتني إلى تلك الذكريات أنني أعيد الان قراءة الروائي العظيم، ذلك أنك في العشرين تقرأ بلزاك، وفي الخمسين تقرأ بلزاك آخر، في سنوات الشباب تقرأه بعاطفة متقدة، في ما بعد تقرأه مثل زواج عماده الفهم وليس الشعور. ومن البدهي الآن ألا نتقبل في أدب بلزاك الاسهاب و الإطالة في وصف مكان ما أو وجه شخص ما ، أو الاستشهاد بنصوص قوانين القضاء في شأن أو آخر، لكن ذلك لا يسقط القدرة العبقرية على تحليل الشخصيات، ووضع اليد على التناقضات داخلها، وابتداع الأحداث من منظور تقدمي مدهش. وفي روايته البديعة " الأوهام الضائعة" بأجزائها الثلاثة الصادرة ما بين 1837 و1843، تطل علينا عباراته الموجزة البليغة مثل قوله : " هل ينتصر مرض الإنسان؟ أم إنسان المرض؟"، وقوله : " الفن مجال مثل الشمس تنبت الغابات العظيمة والذباب والبعوض". وفي" أوهام ضائعة " يلقي الروائي العظيم من خلال شخصية " لوسيان" الضوء على القوانين التي حكمت وتحكم عمل الصحافة منذ نشأتها وربما حتى الآن. فيها يسعى " لوسيان" الشاعر لشق طريقه إلى العمل الصحفي فيرتطم بواقع ذلك المجال القائم على المصالح المتبادلة والخضوع للسلطة، إلى أن يصرخ: " باريس مجد فرنسا. باريس عار فرنسا " ! يوضح أحدهم للوسيان ما يجري قائلا : " الصحفيون يكررون المواضيع الممجوجة أو يكتبون عن ترهات باريس في الصحف، أو يعدون كتبا حسب طلب تجار الكتب السوداء، أو يتبجحون بموهبة وليدة بناء على أوامر من أحد باشاوات صحيفة ما، وسوف يجعلونك تكتب المقالات عن الكتب، وتكتب المقالات ضد نفس الكتب" ، وهو ما قام به " لوسيان " لاحقا في رحلة الصعود التي تتبدد فيها أوهامه المثالية عن العمل الأدبي والصحافي، بينما تتحطم أحلام صديقه " ديفيد سيشارد" في أن يقدم اكتشافا علميا جديدا. وعن انكسار الأدب والعلم في قبضة الرأسمالية الصاعدة يقول جورج لوكاتش : " تصور رواية الأوهام الضائعة مجرى رسملة الذهن أو الروح وتحويل الأدب إلى سلعة في كل شموليته بدءا من صناعة الورق وصولا إلى مشاعر وأفكار الكتاب، حيث يصبح كل شيء سلعة ( الصحف والمسارح ودور النشر) ويغدو المجد كما يقول أحدهم هو : " اثنا عشر ألف فرنك من عائد المقالات، وألف فرنك وجبات عشاء فاخر"، وتمسي قدرات الصحفيين والأدباء سلعة ومادة للمضاربة في سوق الرأسمالية ". ولكن رواية بلزاك بحد ذاتها تؤكد أن هناك دوما أصواتا تظل تنطق بالحقيقة التي جسدها بلزاك فنيا قبل أن يجسدها فكريا وفلسفيا.
*** د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
زيارة إلى بلزاك د. أحمد الخميسي كان كاتب الحكايات العالمي هانز كريستيان أندرسن مولعا بأدب بلزاك، وعده أعظم أدباء القرن 19، ومن ثم قرر في مارس 1857 أن يزور بلزاك في بيته، وكان المتفق عليه أن لا تطول الاستضافة عن أسبوع واحد، لكن أندرسن بقي خمسة أسابيع كاملة، مما أدى – ليس إلى توطيد العلاقة كما كان مرجوا – بل إلى تدهورها بين الكاتبين، مما يبين أن الإفراط في المودة قد يؤدي إلى النفور، خاصة أن بلزاك كان حينذاك غارقا في بناء رواياته التي وضعت أساس الواقعية في الأدب الروائي، ولم يكن لديه فسحة من الوقت للثرثرة. وتوقفت المراسلات بين الكاتبين بعد تلك الزيارة الودية. ولم تكن تلك فقط إحدى عجائب بلزاك، ذلك أنه كان أديبا ثوريا وهو يصف الواقع ويرسم الشخصيات والأحداث ويستقرئ الواقع، لكنه – سياسيا - كان من أنصار النظام الملكي وهيمنة الكنيسة. ساقتني إلى تلك الذكريات أنني أعيد الان قراءة الروائي العظيم، ذلك أنك في العشرين تقرأ بلزاك، وفي الخمسين تقرأ بلزاك آخر، في سنوات الشباب تقرأه بعاطفة متقدة، في ما بعد تقرأه مثل زواج عماده الفهم وليس الشعور. ومن البدهي الآن ألا نتقبل في أدب بلزاك الاسهاب و الإطالة في وصف مكان ما أو وجه شخص ما ، أو الاستشهاد بنصوص قوانين القضاء في شأن أو آخر، لكن ذلك لا يسقط القدرة العبقرية على تحليل الشخصيات، ووضع اليد على التناقضات داخلها، وابتداع الأحداث من منظور تقدمي مدهش. وفي روايته البديعة " الأوهام الضائعة" بأجزائها الثلاثة الصادرة ما بين 1837 و1843، تطل علينا عباراته الموجزة البليغة مثل قوله : " هل ينتصر مرض الإنسان؟ أم إنسان المرض؟"، وقوله : " الفن مجال مثل الشمس تنبت الغابات العظيمة والذباب والبعوض". وفي" أوهام ضائعة " يلقي الروائي العظيم من خلال شخصية " لوسيان" الضوء على القوانين التي حكمت وتحكم عمل الصحافة منذ نشأتها وربما حتى الآن. فيها يسعى " لوسيان" الشاعر لشق طريقه إلى العمل الصحفي فيرتطم بواقع ذلك المجال القائم على المصالح المتبادلة والخضوع للسلطة، إلى أن يصرخ: " باريس مجد فرنسا. باريس عار فرنسا " ! يوضح أحدهم للوسيان ما يجري قائلا : " الصحفيون يكررون المواضيع الممجوجة أو يكتبون عن ترهات باريس في الصحف، أو يعدون كتبا حسب طلب تجار الكتب السوداء، أو يتبجحون بموهبة وليدة بناء على أوامر من أحد باشاوات صحيفة ما، وسوف يجعلونك تكتب المقالات عن الكتب، وتكتب المقالات ضد نفس الكتب" ، وهو ما قام به " لوسيان " لاحقا في رحلة الصعود التي تتبدد فيها أوهامه المثالية عن العمل الأدبي والصحافي، بينما تتحطم أحلام صديقه " ديفيد سيشارد" في أن يقدم اكتشافا علميا جديدا. وعن انكسار الأدب والعلم في قبضة الرأسمالية الصاعدة يقول جورج لوكاتش : " تصور رواية الأوهام الضائعة مجرى رسملة الذهن أو الروح وتحويل الأدب إلى سلعة في كل شموليته بدءا من صناعة الورق وصولا إلى مشاعر وأفكار الكتاب، حيث يصبح كل شيء سلعة ( الصحف والمسارح ودور النشر) ويغدو المجد كما يقول أحدهم هو : " اثنا عشر ألف فرنك من عائد المقالات، وألف فرنك وجبات عشاء فاخر"، وتمسي قدرات الصحفيين والأدباء سلعة ومادة للمضاربة في سوق الرأسمالية ". ولكن رواية بلزاك بحد ذاتها تؤكد أن هناك دوما أصواتا تظل تنطق بالحقيقة التي جسدها بلزاك فنيا قبل أن يجسدها فكريا وفلسفيا.
*** د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
زيارة إلى بلزاك د. أحمد الخميسي كان كاتب الحكايات العالمي هانز كريستيان أندرسن مولعا بأدب بلزاك، وعده أعظم أدباء القرن 19، ومن ثم قرر في مارس 1857 أن يزور بلزاك في بيته، وكان المتفق عليه أن لا تطول الاستضافة عن أسبوع واحد، لكن أندرسن بقي خمسة أسابيع كاملة، مما أدى – ليس إلى توطيد العلاقة كما كان مرجوا – بل إلى تدهورها بين الكاتبين، مما يبين أن الإفراط في المودة قد يؤدي إلى النفور، خاصة أن بلزاك كان حينذاك غارقا في بناء رواياته التي وضعت أساس الواقعية في الأدب الروائي، ولم يكن لديه فسحة من الوقت للثرثرة. وتوقفت المراسلات بين الكاتبين بعد تلك الزيارة الودية. ولم تكن تلك فقط إحدى عجائب بلزاك، ذلك أنه كان أديبا ثوريا وهو يصف الواقع ويرسم الشخصيات والأحداث ويستقرئ الواقع، لكنه – سياسيا - كان من أنصار النظام الملكي وهيمنة الكنيسة. ساقتني إلى تلك الذكريات أنني أعيد الان قراءة الروائي العظيم، ذلك أنك في العشرين تقرأ بلزاك، وفي الخمسين تقرأ بلزاك آخر، في سنوات الشباب تقرأه بعاطفة متقدة، في ما بعد تقرأه مثل زواج عماده الفهم وليس الشعور. ومن البدهي الآن ألا نتقبل في أدب بلزاك الاسهاب و الإطالة في وصف مكان ما أو وجه شخص ما ، أو الاستشهاد بنصوص قوانين القضاء في شأن أو آخر، لكن ذلك لا يسقط القدرة العبقرية على تحليل الشخصيات، ووضع اليد على التناقضات داخلها، وابتداع الأحداث من منظور تقدمي مدهش. وفي روايته البديعة " الأوهام الضائعة" بأجزائها الثلاثة الصادرة ما بين 1837 و1843، تطل علينا عباراته الموجزة البليغة مثل قوله : " هل ينتصر مرض الإنسان؟ أم إنسان المرض؟"، وقوله : " الفن مجال مثل الشمس تنبت الغابات العظيمة والذباب والبعوض". وفي" أوهام ضائعة " يلقي الروائي العظيم من خلال شخصية " لوسيان" الضوء على القوانين التي حكمت وتحكم عمل الصحافة منذ نشأتها وربما حتى الآن. فيها يسعى " لوسيان" الشاعر لشق طريقه إلى العمل الصحفي فيرتطم بواقع ذلك المجال القائم على المصالح المتبادلة والخضوع للسلطة، إلى أن يصرخ: " باريس مجد فرنسا. باريس عار فرنسا " ! يوضح أحدهم للوسيان ما يجري قائلا : " الصحفيون يكررون المواضيع الممجوجة أو يكتبون عن ترهات باريس في الصحف، أو يعدون كتبا حسب طلب تجار الكتب السوداء، أو يتبجحون بموهبة وليدة بناء على أوامر من أحد باشاوات صحيفة ما، وسوف يجعلونك تكتب المقالات عن الكتب، وتكتب المقالات ضد نفس الكتب" ، وهو ما قام به " لوسيان " لاحقا في رحلة الصعود التي تتبدد فيها أوهامه المثالية عن العمل الأدبي والصحافي، بينما تتحطم أحلام صديقه " ديفيد سيشارد" في أن يقدم اكتشافا علميا جديدا. وعن انكسار الأدب والعلم في قبضة الرأسمالية الصاعدة يقول جورج لوكاتش : " تصور رواية الأوهام الضائعة مجرى رسملة الذهن أو الروح وتحويل الأدب إلى سلعة في كل شموليته بدءا من صناعة الورق وصولا إلى مشاعر وأفكار الكتاب، حيث يصبح كل شيء سلعة ( الصحف والمسارح ودور النشر) ويغدو المجد كما يقول أحدهم هو : " اثنا عشر ألف فرنك من عائد المقالات، وألف فرنك وجبات عشاء فاخر"، وتمسي قدرات الصحفيين والأدباء سلعة ومادة للمضاربة في سوق الرأسمالية ". ولكن رواية بلزاك بحد ذاتها تؤكد أن هناك دوما أصواتا تظل تنطق بالحقيقة التي جسدها بلزاك فنيا قبل أن يجسدها فكريا وفلسفيا.
*** د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تـعــب فــي الــركــبـــة . قصة قصيرة
-
الــســودان .. يــا أخـــت بــلادي
-
مرحبا بالكسل الجميل
-
حـكـايـات مـراسـل إذاعـــة
-
محمد عبد الوهأب .. ميلاد الأغنية العربية
-
في ذكرى والدي
-
أول العشق - قصة قصيرة
-
سيد حجأب .. عيون إيفلين
-
حادثة 4 فبراير .. البكأء على المأضي
-
لماذا ينتحر الأدباء ؟
-
قــصـة انـقـضـى عـلــيــهــا مــئــة عـــام
-
ولــمــاذا نــكــتـــب إذن ؟
-
مــغــالــطــات الــتــرجــمــة إلــى الــعــامــيــة
-
تزييف الثقافة
-
- ربـــمـــا - - قـصـة قــصـيــرة
-
رجــال وســـجــايـــر
-
حـفــيــف صــنــدل - قــصـة قــصـيــرة
-
بــيــن نــجــيــب مـحـفـوظ و يـوسـف إدريــس
-
إدوار الـخـراط .. أنـت مـعــنــأ
-
نــســـاء وحـــب وأزيــــاء
المزيد.....
-
تفكيك مشهد السلطة في الجزيرة السورية
-
تفاصيل حوار بوتين ولوكاشينكو باللغة الإنجليزية في الكرملين (
...
-
الخارجية الألمانية تنشر بيانا باللغة الروسية في الذكرى السنو
...
-
الجيش الباكستاني ينتقد تصريحات نيودلهي: متى ستنتقل الهند من
...
-
انطلاق فعاليات الدورة الرابعة والثلاثين لمعرض الدوحة الدولي
...
-
-الصليب الملتوي-: الرواية المفقودة التي وجّهت تحذيراً من أهو
...
-
بعد 80 عامًا من وفاة موسوليني ماذا نتعلم من صعود الفاشية؟
-
مطربة سورية روسية تحتفل بأغنية في عيد النصر
-
مركز السينما العربية يكشف برنامجه خلال مهرجان كان والنجمان ي
...
-
فيلم وثائقي يكشف من قتل شيرين ابو عاقلة
المزيد.....
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|