أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - ضُبَاح















المزيد.....

ضُبَاح


عبد الله خطوري

الحوار المتمدن-العدد: 7578 - 2023 / 4 / 11 - 16:42
المحور: الادب والفن
    


يَعْبُرُ الشارعَ الناسُ.في الكيس، أسفل الكرسي، سمكةٌ ماتتْ غَلاصمُها، فهي تتنفسُ بلا فائدة أو كذلك بَدَتْ لي.شاردٌ على كرسي من خشب جامد.بضع أعقاب سجائر مَرمية في مرمدة من زجاج شفاف يُظْهِر كتابة بأحرف لاتينية"ميدْ إينْ شَايْنَا".كأس قهوة سخيفة.كوز ماء مَوبوء بحياده.تُحملقُ فيَّ حروفُ جريدة بلهاء لم أتشرف بقراءتها .. تستفزني .. لا أبالي .. أرنُو أمامي .. يعبرالشارعَ أناسٌ لا أعرفهم .. لا أعرف هنا أحدا ..لا.. لا.. أعرفُ البعضَ، لكنهم قلة قليلة، وعلى الطريق الآن يمر أناسٌ لا أعرف منهم أحدا، وحتى الذين يُصادف أني أعرفهم، فلا تَعْدُو علاقتي بهم أنْ تكونَ عبارة عن سويعات خاطفة في الأسبوع، في الشهر أو ما شابه ذلك.تتلاقى نظراتنا ليس إلا. السلام السلام ثم لا شيء.وقد لا نتبادل السلام مطلقا..

_ سْلَمْ وْلاَ كْفَرْ .. أنْتَ وْدِينَكْ...

قال النادل في وجه أحدهم ثم أردف

_صَبَّحْنَا على الله يا لطيف...

أنا جالس على كرسي بمقهى، والشارع صفيق هذا الصباح والوجوه هي الأخرى "مَا فيها ما يَتْشَافْ"على حد تعبير النادل. كان متجهما صفيقا هو الآخر، ربما لم ينمْ ليلة أمْسِ بشكل جيد أو لم ينمْ مطلقا، نظرا لسهرة البارحة أو لسهرة الزبائن إلى ما بعد منتصف الليل وآضطراره خدمتهم مرغما وهم غارقون يتناقشون في مخلفات الجلدة المنفوخة بالهواء وما تركت في رؤوسهم وجيوبهم من خواء مبعوج لا يرتقه حظ ولا يخيط فجواته قانون .. تبا.. شدق خبز هذي الأيام أصبح له حِكمة وحُكْما جائرا على أمثاله وأمثال غيره.هو يتأفف يتبرم ينفخ شدقيه ربما لخصومة يمكن أن تكون قد آندلعت مع رفيقته في الحياة التي ظلتْ طيلة النهار وجزءا غير يسير من الليل تنتظر أوبته على حَرٍّ من جمر اللوعة والتوجس والخوف والقلق .. هي تُصَرِّحُ له بمشاعرها وهواجسها دائما وهو ينفر من مثل هذا النزوع الى تضخيم الأشياء التي آعتاد الناس العيش معها حتى ألفوها ألفتهم وأضحت جزءا لا يتجزأ من حيواتهم المترعة بالفتن والشكوك والريَب؛ ربما قد آضطر للنوم وحيدا، فصداع الدراري الملاعين لا يُطاقُ وكثرة آلحاح مطالبهم لا تنتهي الا لتبدأ من جديد، والقُفَّة هي القُفَّة، قفة السبعينيات والثمانينيات مع أبيه وقفة جده قبل ذلك .. قميئة دائما لا ينقطع جشعُها .. "هل من مزيد؟!" .. تشحج دائما .. وهو منهار في خدمته العَسيرة الفَقيرة التي لا تُسْمنه ولا أفواهه المُلقاة على عاتقه ولا تغنيهم من جوع .. كذلك كان والده والذين قبله .. للي ما يشبه لمواليه بلاش منو .. لقد فكَّر كثيرا في البحث عن عمل آخر بديل أو مُواز، لكن ما باليد حيلة، كل الطرق، كل الأبواب موصدة، وليس له إلا وجوه الخدمة الصفيقة التي يُصَبِّحُ عليها يمسي كأنها المشيئةُ المشؤومة تلعب لعبها السمج دون هوادة.

_صبحنا على الله وآخلاص...

يَعْبُرُ الشارعَ أناسٌ لا ملامحَ تُميزهم.إنهم يَمرون وكفى كما مَرَّ قبلهم الكثيرون وكما سيمر بعدهم الكثيرون في سلسلة لا تنتهي تكتكاتُها الرتيبة .. وجوه لا تعبيرَ فيها .. حيادية .. خالية من كل إشارة تدل على عوالمهم ودواخلهم.. يعبرون ثم يغبرون .. يتناسلون في عبورهم .. يتواترون رغم قلتهم .. رتل من مخلوقات بشر الكارطون أو كاغيط النيلون...

في الأسفل، داخل كيس البلاستيك الأسود، سمكةٌ ماتت غلاصمُها منذ مدة لا أستطيع تحديدها بالضبط، قد تكون طويلة، قصيرة .. لا أدري .. المهم أن النَّفَسَ آنْحَبَسَ، لا شهيق فيها لا زفير، وقلبها لم يعدْ يدق تلك الدقات العجيبة الصاخبة بشيء عزيز آسمه:الحياة .. لا أعرف أحدا.الوجوه باردة.لا أعرف منها إلا القليل، لكن معرفة عابرة في أويقات خاطفة.المقهى فارغة الآن إلا من نادل يتلكأ في فتور مُتبرم بين الكراسي المنضدة بشكل غير مرتب.من مُكبر صوت المذياع صوت شيخ عتيق يَصيح على طريقته...

_ يالْحُوتَة شَوَّقْتِنِي بالشْقَا .. يَا الْعَوَّامَة..

صُرَاخ أطفال لَفَظتهم المدرسة يزعقون...

_الدِّيطَايْ .. كَازَا مَارْكيزْ .. كَـارُّو...

في السماء، طيور آحترفت ارتياد المَطارح تقتات من الجيف وبقايا النفايات .. طيرُ البقر، طير البُغاث، دجاج الماء الموسخ بمستنقعات فضلات البشر.. أسراب تحلق جماعات وفرادى في آتجاه خارج المدينة في موعد لا تخلفه مع مُخَلفات يستغلها الفلاحون والأهالي سمادا لغرس النعناع والشيبا والقصبر والمعدنوس وهلم جرا من البواقل التي يجمعونها يوميا يبيعونها بثمن زهيد في أسواق الجوار.فكرتُ، لو أني طلبتُ شايا، هل أستطيع تجرعه؟؟ لست أدري .. ولماذا لا أستطيع؟ كل شيء قابل للاستهلاك، إننا نقتات أي شيء .. المهم أن تظل الأسنان مشتغلة .. وهذه الآلة الطاحنة مُستمرة في علكها الممكن والمستحيل، سيان عندها مادام هذا الجسم قابع على هذ البسيطة يطلب يلح في طلب المزيد من أجل المضي في المسماة حياة .. وهذا السائل الحانق في الفنجان تُرى ما قصته؟ يجب أن لا أولي الاهتمام لمثل هذ التفاهات .. نعم.. سخافات .. استهلكْ اصمتْ .. لا تفكر .. لا تثرثر .. لا تتكلم ..!!.. فذباب نفايات المزابل يترقب فقط يتحين فرصة آنفتاح الأفواه...
يعبر الشارعَ الناس.أعرف بعضهم، لكن لا أعرف أكثرهم.المقهى فارغة إلا مني ومن نادل يتلكأ بين الكراسي المَصفوفة ببلادة .. ربما يفكر في آخر الشهر وحياة التقسيط الموزعة هنا هناك عبر حوانيت ومتاجر الحي وغير الحي .. لا حياة لديه تستحق أن تُعاشَ .. إنه يعدو يركض طيلة النهار والليل ليصور بضع أشداق من الخبز لا تكفي الأفواه المُشرعة لأفراد عائلته الصغيرة والكبيرة .. أطفال الديطاي يترقبون فرصة ما لبيع سلعهم. يتحركون بالعَرَّام.يعيشون بالفتات. يموتون بفوضى .. كل شيء خاضع للتقسيط هنا .. السلع، بنو البشر، الأشياء وحروف الجريدة البلهاء، حتى نسيم الصباح هذا، يخرج مُعلبا مُصفحا مُجزءا مشتتا من ثنايا أو من ثغرات حواف غير مرئية ليصطدم آرتباكه بجدران بلون صلف البرص، يطوف هنا هناك في رصيف المقهى وداخلها، يصعد الى فوق عبر الدرجات مستندا على الدرابزين كعجوز مهترئ يهاب السقوط، يصل إلى لا تيراس فوق.يجد الفراغ والتبلد فيقصد مباشرة بالوعة المرحاض يغرق فيها دون أوبة...

_ رَانِي مْحَيَّارْ .. يا ناس ما فَادْ صْبَرْ .. عَقلي تْوَدَّارْ في البحور زينْ الموجات...

غَنَّى الشيخ .."يالعوامة..!!.." السمكة تَعُومُ.تَعُبُّ الحياةَ من الماء في الماء. ترمق شيئا أبيض مُغريا يثير الاشتهاء. تدنو.تحرك زعانفها بحيوية .. تترقب .. تقترب .. تتناول الطعم من الشص .. هووب ..تقع.. تتحرك في ردود فعل سريعة .. تتخبط يمينا شمالا دون هداية .. لقد وقعت .. الصياد في مكانه ينتبه .. يتحرك هو الآخر .. يجذب .. هي لا تستطيع فكاكا .. "حب أم فجيعة؟؟" .. لا تقدر فعل شيء .. تنتفض دون جدوى .. "أظنه حبا.." .. تَمُرُّ لحظات.تصمت فيها غلاصمُها.تجمد الزعانفُ لتستقرَّ في الأخير في ميكا سوداء أسفل كرسي من خشب في مقهى بلا حياة ..لا.. إنها فجيعة بالتأكيد...
من بعيد، يظهر أطفال آخرون يتسابقون على أكل أشياء غريبة ساخنة وباردة. يلقمون أفواههم حُبيبات الفول والحمص الدكناء وشرائح البطاطس المغلاة في زيت رخيصة آستعملت أكثر من مرة آختلط زُعافها بزعاف الأيام والليالي بالغبار بيحموم عوادم محركات الحديد المتسارعة اللاهثة عبر الطرقات .. كانوا رغم كل شيء يضحكون يزعقون يُقْبِلُون يدبرون غير مبالين بكل هذا السخط الذي يُطَوِّقُ حيواتهم من بدايتها الى نهايتها .. أما هؤلاء الذين أمامي، فيتربصون بنادل يتربص بهم .. أدْعَكُ ذبابةً آستقرتْ صُدفة على جبهتي.أنظرُ لبقايا الدم مُختلطا بأمعائها وأشيائها الصغيرة في يدي.أضحكُ.أمسحُ بطن راحتي على مؤخرة بنطالي.أتجرعُ ماء. أتمضمضُ.أبصقُ أمامي كيفما آتفق دون مراعاة أي أحد ..لا يهم.. فالمقهى فارغة وفي الشارع يَعْبُرُ أناسٌ لا أعرفهم، وليس هنا إلا نادل يتلكأ وأطفال يتربصون .. إني أثرثر .. أعرف ذلك .. سَجين كلمات حديدية تسلبني حريتي وآنطلاقتي المنشودة. سجين قراءات بليدة.سجين حروف جرائد مرصوصة بصفاقة.سجين جمل طويلة أو قصيرة، كتب، مجلات .. يطوقني الحصار، يطوقني الزيف.أغِيبُ. لا أقدرُ سحب البساط من تحت رجليَّ المتنملتيْن.اِعتدتُ جلستي المرتخية تحت تأثير مخدر الكافيين ومغص النيكوتين.يحرقني الدخان.يجرفني اليحموم.أُسْتَهْلَكُ.كما البضائع المُكدَّسة على قارعة الطريق أذوبُ، أتلاشى.أفقدُ السيطرةَ على قدراتي الخائرة.سحن خاثرة متآكلة.تأكلني المساحيق في وجوه أقنعة الذاهبين والآئبين عبر الشارع .. أتقلصُ .. أتضاءلُ .. يتكاثرون .. تتكاثرُ النعوت الملغومة لتحبس نشوتي في التغلغل داخل غور المجادلات اليومية وخرافات العنائس والعجائز اللائي روى الزمان لهن حكايات عشن تفاصيلها وأجزاءها الصغرى والكبرى وأخرى صنعنها من خيالهن، شَكَّلْنَ شخوصها وأحداثها ومحاور تعرجاتها وآمتداداتها وتقلصاتها في الزمن والمكان .. تلك السيولة، ذلك الذوبان ينقصني.لَدَيَّ آهاتُ كلمات عَرجاء بالكاد تزحف على رِجل واحدة، لا تصل الى غاية أو هدف، يتيه المعنى، يحضر الخواء، يُطَوِّقُ البياضُ عَتمات الصدور المنحورة.تَفرُّ الكتابة من أنساغ لا سبيل لها في الخلاص من البوار الا بممارسة مزيد من البوار .. ليستْ هناك آفاق رحيبة لعوالم النفس المبهمة.الكلمات تظل جوفاء كما الحروف في الجريدة، ضئيلة القد والحجم.أما السحر، كل السحر فهو خارج أسوار الرأس المُغلف بتاريخ مزيف بال رغم عمره القصير...
إني أثرثرُ لا محالة .. أعرف ذلك .. قهقهَ الفمُ للريح، فدخل للتوِّ الفمَ الذبابُ والغبارُ والباعوضُ، ذاك الذي حَثَّ خطاه سريعا من مستنقعات خارج المدينة وداخلها ومن كل الأنحاء .. مهترئ أنا على كرسي متخشب أرنو الى الوجوه التي تمر من هناك صبيحة أحد فارغ. المقهى متصلبة لا إحساس فيها، فقط صوت الشيخ يئن...

_"يا ميمونة ضياف رَبِّي، وإلَى بْغَاوْ الْوَالْدِينْ..."

ماذا أفعل هنا وفي هذا الوقت ؟؟ كل شيء فارغ، حتى القلب الذي يسكن أحشائي المهترئة...

_"...والْعِينْ للِّي هَوْلَتْنِي فِي ديكْ الدَّارْ سَاكْنَا..."

مُهترئ أنا .. متيبس .. لاعواطف في الداخل .. لا إحساس في الخارج ..جاف .. قديم مثل...

_جَورب عتيق،
_عَجوز فقدتْ عُمْرَهَا قبل أن يحلَّ حينُهَا الأخير،
_قُلامة أظافر،
_تجمعات ديدان في أمعاء مريضة،
_كُثلة روث يكورها بمهارة خنفس يحاول عبثا الصعود الى نهايات هي في نهايات المطاف مَهاوٍ تَتْلوها مهاوٍ في سباق محموم حول النهايات غير السعيدة ،
_أشياء كثيرة موجودة في المقهى وغير المقهى ،،،
_ إلخخخخخ....

تستقر فراشة صغيرة على ساعدي.أحْدبُ عليها برفق.أحاولُ إمساكها، فتتحول بسرعة خاطفة برغوثةً في حجم حَبة حَلْبة تغرس في مَسامي خرطومها اللاذغ ثم تثب هاربةً.أحسستُ عضتها ثاقبة بحموضة غير محتملة.حككتُ المكان الذي آستقر فيه آلخرطوم، فتحول للتو بقعة حمراء، جلطة داكنة تتوسطها حبة دقيقة تميل الى بياض شفاف .. نظرتُ إلى السماء.طيور طير البقر لم تعد تظهر للعيان.قد تكون الآن في المستنقعات، هكذا خمنتُ.هي ذهبتْ هنالك وهذي الهوام اللاذعة جاءت هنا.تبادل غريب للمواقع كنتُ ضحيته هذا الصباح .. أتجرعُ القهوةَ المحروقة.غشني صانعُها.. هي الآن، بعد أن ذهب نصفها الى جوفي، تخرم المعدة المهيضة، فتخلف إفرازات كوليك قادم.لم أخشَ على السمكة المستسلمة وسط الكيس الأسود من النتن.فقط خشيتُ على معدتي.لم أفطرْ بعدُ.لقد صَبَّحْتُ عليها بهذا السائل الحَرْطَانِي كالقطران الذي يلفظ سُمَّه داخل أحشائي، فتصعد على الفور الى الرأس زبانية من نهيق من صُداع من دُوار من بَارَزيطْ المُورُو...

بدأتِ المقهى تعـج بالوافدين.النادل تمطى حتى شبع، وبدأ يشمر على ساعديه لخدمة الزبائن .. ربما يفكر، سيشد همتَّه جيدا لإتمام جل المهام المنتظرة في الصبيحة على أساس يقصد فيه البيت عشيةً يكمل يومه مع أولاده وزوجته، أكيد سَيُفَاجِئُهُمْ، هو يريدها مُباغتَة غير منتظرة، سوف لن يُخْطِرَ أحدا، فقط زميله في العمل سيتولى مهمة خدمة الزبائن.إنها عادة عند أهل المقهى أن يتبادلوا نوعية مهامهم وأزمنتها وأمكنتها فيما بينهم، وصاحب المحل لا يعارض ذلك مادام كل شيء يسير على ما يرام .. آه.. عليه أن يخبر الرئيس إذن ،، كيف نسي هذا الأمر المهم .. لكنه ليس هنا، وعَبثا سَيسأل عنه. لم يحضر بعدُ، سيقصد منزله على عجل ثم يعود، وفي المنزل لن يجدَ أحدا ،، لكن لا بد له من تنفيذ مفاجأته، الرئيس لن يعارض مادام غيابه لن يعرقل سير العمل، سيعوض هذه العشية بعشيات أخريات وأماسٍ وصبيحات كثيرات، المهم الآن، أن يسرع خطاه الى مفاجأته السارة .. ازداد صراخ الصبية، وآزدادت جرأتهم على الاقتراب من الكراسي التي لم تعد فارغة، خصوصا بعدما لاحظوا سهو النادل وآبتسامته التي طفق يوزعها عليهم على غير عادته...

_"...البحر غَمَاقْ
مَنْ زادْ دَخْلَهْ غْرَقْ
يَبْقَى مْشَوَّاقْ
يْحَوَّسْ على النَّجَاةْ..."

المذياع يصدح دائما .. تركتُ المقهى. تركت الجريدة بحروفها آلبلهاء على المائدة. الكيس الأسود في يدي.السمكة داخله .. ذات يوم .. كانت تزحف زعانفُها، تخترق عباب البحار الزُّرْق مفعمةً بالحياة لتستقر في نهاية المطاف في كيس بلاستيكي أسود مصنوع من ميكا مغشوشة.مررتُ بالحديقة.فارغة هي الأخرى إلا من بعض القطط يطارد بعضها بعضا وسط كازون أصفر.الجو جميل هذا الصباح، هكذا فكرتُ .. نسيم الحشائش والزهور الصغيرة يتلاعب في الأجواء كما الرغبات بين الأضلع أثناء الانتشاء في الحلم، هكذا تخيلتُ .. ذكَّرني هذا الحال بصيفيات بلدة أطلسية جميلة.لكن، بضع سجائر وقهوة رخيصة كاف بأن يفسدَ كل شيء ...

رغم ذلك، سيتجه النادلُ إلى مفاجأته مُسرعا، ولا بأس وهو يخبُّ في الطريق أَنْ يقتنيَ وردةً حقيقيةً هذه المرة بَدَلَ تلك الحزم من ورود البلاستيك الفظيعة التي تؤثث بصلافة وزيف المنزل الصغير الذي لا تحيطه المروج، تحيطه بيوت واطئة مثله .. سيُسْرع، فساعات الآحَاد أكثر سرعة، عَلَيْهِ آستغلال كل لحظة تَمُرُّ، سيعيشُ اللحظة كيفما تَرِدُ وليكنْ ما يكون .. سَيركب سيارة الأجرة .. عاطفته الآن فوق كل آحتمال في التفكير في التدبير أو غير التدبير .. سيصل متلهفا.. سَيدَوِّرُ المفتاح في خُرم قفل الباب، المفتاح لا يدور .. سيدق لاهثا بعد أن تجرع ويلات مصائب الدروج الذي لا يرحم ،،لا يهم،، سيعاود دق الباب بعد أن لم يستجب المفتاح ،، سيدق يدق .. رأسي يدق .. إني أثرثر لا محالة .. كثرة الكلام تُذْهب رجاحة العقل تنهك الصحة، رغم ذلك فأنا كثير الطنين.إن الذباب شأنه الطنين مذ خلق الله الذباب .. فيما يخصني، سأغلق فمي، لأن الفم المغلق لا يدخله الذباب.سأفتحه فقط لأتجرع السائل المحروق كالمازوط كالكازوال ولإخراج بقايا النيكوتنين الذي نَجَتْ من آبتلاعه معدتي المنهوكة بالكوليك .. الباب لا يُفْتحُ .. الجيران أخبروه أنهم شاهدوها تأخذ الأولاد الى جهة ما ثم عادت الى الدار .. إنها بالداخل .. الباب موصد مِنَ .. يَدق يَدق .. يبدأ صراخه يصرخ بحدة .. سيجتمع الآن الجيران، الجيران كلهم .. الكبار والعيال .. عِـيلَ صبرُه .. لا بد أن أمرا ما قد حدث .. لا مجال للانتظار .. سيحطم الدفة .. سَــ.. سَــ ... إن بضع سجائر وقهوة رخيصة تكفي لإفساد القلب والعقل .. شعلتُ لفافة.أخذتُ نَفَسا عميقا .. سَيُحَطم الباب .. سيدخل ويَدخل معه كل الجيران والعيال والنساء ومن لا شغل لهم .. ثم.. هوووب .. كانت هناك مُكَوَّمَة في ركن من غرفتهما الحَميمية خائفة وجلة متوجسة ولم تنبس ببنة شفة ولم تكن وحدها .. لقد كان هناك .. نظرتُ في الكيس الأسود.السمكة لازالت هناك .. هو كذلك كان هناك .. ذلك الأشيب صاحب الرقبة العريضة الذي يتحكم في رقبته في العمل واقفا متوجسا ينظر الى وجوه المجتمعين في صمت وترقب .. سَــ .. سَــ ... القطط التي كانت تنط قبل قليل آختفتْ.دَخَل بَشَرٌ المنزل .. دخل بشر الحديقة .. لا أعرف أحدا .. تعابير وجوههم حيادية.خرجتُ.قصدتُ غرفتي.نظرتُ الى الساعة في يدي، فآنتبهتُ أني لا أملك ساعة.ضحكتُ بعض الشيء أو كثيرا ما عدت أذكر .. سَـ.. سَـ.. سَوفَ لن يفعل شيئا .. سَيصرخ ويعاود الصراخ، لكنه لن يفعل أي شيء .. فقط سيسأل عن أولاده، سيُخْطَرُ بمكانهم، ثم بكل ببساطة سينصرف، سَينكس رأسه سيخطو خطوات عرجاء تطأ ما تبقى من لفافة أزهار كان قد أحضرها معه للمناسبة .. بصقتُ لستُ أدري لماذا، وأكملتُ طريقي وفي أذني صَدى نغمات تنبعث من بَعيد من مُكبر صوت مذياع المقهى...

_"...شيوخ جاحُوا...
باعوا كلامهم وآنفضحوا...
بالحديث ضَبْحُوا...
دايْرينهم في الهَوَاتْ..."

_ تَمَّتْ



#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عَنِ آلْهِرَرَةِ وأشياء أخرى
- خَرَجَ وَلَمْ يَعُدْ
- رَذاذُ نِيسَانَ
- اَلْحُوذِيُّ وَآلْحِصَانُ
- ذُهَان
- تَادَوْلَى(العودة)
- عَطَبُ آلْوُجُودِ في قصيدة بَكيتُ عَلَى أَحِبّةٍ بَكوا عَلَي ...
- سلااااام
- ديستوبيا الحاضر
- قَلَانِسُ نِيسَانَ
- وَجَدْتُهَا
- رَحِيقُ آلْجِبَالِ
- تِيفْسَا
- قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ
- حُرَّةٌ هِيَ أمِّي هُناكَ
- يا رُوحَهَا
- مَرَاقِي آلْمَمَاتِ
- بِيبِي عِيشَا مَاتَتْ
- تَبْقَى عَلَى خِيرْ يَا صَاحْبِي
- نَزْعٌ أَخِير


المزيد.....




- الوثائقي جسور (الجزائر) يحصد جائزة مهرجان زيلانت الدولي  
- ترامب بعيون صناع السينما.. أعمال تروي حياة الرئيس الأكثر إثا ...
- تحديث تردد قناة كوكي كيدز 2024 على النايل سات وعرب سات بجود ...
- وفاة عملاق الموسيقى الأمريكي كوينسي جونز عن عمر يناهز 91 عام ...
- شيماء سيف: كشف زوج فنانة مصرية عن سبب عدم إنجابهما يلقى إشاد ...
- فيلم -هنا-.. رحلة في الزمان عبر زاوية واحدة
- اختفى فجأة.. لحظة سقوط المغني كريس مارتن بفجوة على المسرح أث ...
- رحيل عملاق الموسيقى الأمريكي كوينسي جونز عن 91 عاماً
- وفاة كوينسي جونز.. عملاق الموسيقى وأيقونة الترفيه عن عمر 91 ...
- إصابة فنانة مصرية بـ-شلل في المعدة-بسبب حقن التخسيس


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبد الله خطوري - ضُبَاح