أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - كتابات نقدية















المزيد.....



كتابات نقدية


أحمد عبد العظيم طه

الحوار المتمدن-العدد: 7538 - 2023 / 3 / 2 - 07:04
المحور: الادب والفن
    


• "حدوتة وحاجات وأنا" من وجهة نظر آدائية*...

* "ورقة نقدية من ثلاث محاور" حول المجموعة القصصية "حدوتة وحاجات وأنا" للقاص أحمد مطاوع, والصادرة عن مركز "المحروسة" للنشر للعام 2009م.

1- الحوارية كمُكون سردي.
2- استعمالات اللغة وأثرها على التلقي.
3- محاولات الرؤية المتصوفة في التشكل "الملمح الرئيسي."


مقدمة:
بداية, كان من المهم وجود نوع من التمهيد المسبق – ولو بشكل عام – للدخول إلى "المفهوم النقدي" المنوط بالتعامل مع الآداب والفنون على كثرة تطبيقاتها المختلفة. فالنقد باعتباره علمًا مركزيًا في إطار كوكبة "العلوم الإنسانية", قد يحمل من وجهة نظر البعض شيئاً من التقعر الفكري الذي ينحو إلى تعقيد الأمور وفلسفتها بأكثر مما تحتمل. ولكي نتمكن من محاولة التعريف بأهمية النقد, فقد يتوجب علينا – كأقرب مثال – أن نتصور الحالة العامة لـ "دولةٍ" ذات حزبٍ واحد وبلا معارضة تقريبًا. فإلام ستؤول؟. حتمًا ستأتي الإجابة المنطقية بأن الحالة العامة لهذه "الدولة" سوف تؤول عندئذ إلى الأحادية, والاستبداد, والركود. ذلك أن انعدام وجود كيان معارض سيحذف إمكانية وجود قطبية مقابلة, وهذا بدوره ما سيكون سببًا في انحسار وازع المنافسة, وهو الوازع الذي يمثل الفعل الإنساني الأقوى والأهم في دفع البشرية باتجاه التقدم والارتقاء. فإذا ما اتخذنا المثال السابق كمقابسة بسيطة لدور النقد بالنسبة للفنون والآداب تحديدًا, فلسوف نجد أن النقد هو الكيان الموكل إليه القيام بدور المعارضة نسبة إلى الدولة, وأنه لولا ديناميكية الحركة النقدية المتواصلة منذ فجر التاريخ بقطبيها الرئيسيين – أفلاطون/ أرسطو – لما حدث هذا التفاعل الأبدي المستمر بين الإنسان وما يبدعه, ولما تطور هذا الإبداع في درجته "القيمية" إلى ما وصل إليه العالم الحالي من سمو وازدهار في شتى المناحي. بل باعتقادي أنه ما كان سيصبح لفنان مثل "فان جوخ", أو أديب مثل "نجيب محفوظ", أية قيمة على الإطلاق.

نبذة عن "مفهوم الأدائية":
تعتبر "الأدائية" كمصطلح معاصر, هي النظرة الأحدث على المستوى الفلسفي – العالمي – من بين الرؤى التنظيرية المعنية بالنقد الأدبي. وقد أصبحت تمثل البديل الآني الأكثر خطرًا ومصارعة لرؤية "ما بعد الحداثة" في كيفية النظر إلى العالم والتفاعل معه. لذا فقد آثرت طرح تلك النبذة المختصرة بغرض التنويه عن "المنهج النظري" الذي أحاول اتباعه من خلال هذه "الورقة النقدية", فمن الشروط واجبة التوفر بالنسبة لمسألة "النقد" أن يتم الاعتماد على أدوات نقدية واضحة ترتكز إلى فكرة مركزية متكاملة, وذلك بغية الحصول على النتائج في صورة محددة, غير مشوشة أو مجانية.
ولكي نتعرف بشكل صحيح على الماهية "الأدائية" لابد أولاً من إلقاء الضوء حول "الحداثة" و"ما بعد الحداثة" كنظرتين فلسفيتين متأخرتين إلى العالم, مع ضرورة التنويه بأن علوم النقد قد أفادت من كلاهما كثيرًا بشتى المجالات النقدية. فإذا تكلمنا عن "الحداثة" فلربما يمكننا القول بأنها تمثل النظرة "الشكلية" إلى العالم, أو بالأحرى فهي محاولة العمل على تغليب الشكل بما يتفوق على الجوهر الذي يحتويه هذا الشكل. وقد يعلل "الحداثيون" هذا الميل الشكلاني بأنه دائمًا ما يكون "الشكل" هو الأصدق من "الجوهر" في عرض "الحقيقة", أو بعبارة أبسط فهم يقولون للمستفسر: "لنا الظاهر والخفي على الله".. فمعرفة هذا "الخفي" ليست مهمة من وجهة نظرهم طالما هو "ظاهر" بالنتائج والأفعال. وقد تنوعت تطبيقات "الحداثة" منذ أواخر ثمانينيات القرن المنصرم إلى مطلع الألفية الثالثة, فعلى سبيل المثال ظهرت القصيدة الهندسية الشكل, والرواية التي لا يستطيع مؤلفها الاقتراب من دواخل – أو نفسيات – أبطال روايته فيقف عند حدود وصف أفعالهم. كذلك فقد تأثرت العمارة – الأوروبية بالطبع – بتلك النظرة الحداثية إلى العالم, فظهرت الزوايا شديدة الحدة بواجهات المباني, وعلت ناطحات السحاب مخروطية التصميم.
أعقب ذلك مجيء نظرة "ما بعد الحداثة" إلى العالم, كيما تنقض هذه النظرة الظاهرية المبالِغة في تقديس الشكل بل وفي وإعفاءه من استحقاقات الجوهر عند مواجهته بالنقد. ولكن ذلك لم يكن أبدًا بهدف استرجاع الدور التقليدي لقيمة الجوهر وتغليبها على قيمة الشكل, وإنما كان فقط لدحض المفهوم القائل بأن الشكل هو الأكثر تحديدًا والأعلى صدقاً من الجوهر, فالشكل بالنسبة لمنظري "ما بعد الحداثة" هو الطرف الأكثر مخاتلة والأكثر خداعًا بما يتفوق على الجوهر, إنه الفخ الكبير لإخفاء الحقيقة على حد تعبيرهم, فهو بالنهاية يخضع في تشكلِهِ للأهواء والتفضيلات والمصالح النابعة من الجوهر بالأساس. فظهر الـ "ما بعد حداثيين" لكأنهم يقولون لنا: "إن الجميع على خطأ".. ذلك أن طرفي الحقيقة – الشكل/ الجوهر – مندمجان إلى حد استحالة فصلهما والتعامل مع كل منهما على حدة. ولهذا فقد ظهرت "القصة" غير المعنونة. و"القصيدة" شديدة السطوع والمباشرة كمحاولة لتهميش أهمية الشكل, الغامض, المُفبرك. كذلك ظهرت "العمارة" التي تخلط بين الدوامات والزوايا الحادة في تهكم صارخ على مفهوم التصميم الحداثي في البناء. لقد عملت النظرة الـ "ما بعد حداثية" جاهدة على اختراق القيمة الشكلانية التي حققتها "الحداثة" بالفنون والآداب.
في العام 2011 أصدر المفكر الأمريكي, ألماني الأصل "راؤول إيشلمان" كتابًا بعنوان "الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة" ويحتوي الكتاب على السمة الرئيسية التي تنشأ بواسطتها نواة أية محاولة تنظيرية ناجحة على المستوى الفلسفي, ألا وإنها النظرة المتكاملة إلى العالم. ويمكن تلخيص ما يعنيه مصطلح "الأدائية" بأنه يمثل النظرة العقلانية المتوازنة باتجاه الحقيقة, على اعتبار أن "الحداثة" و "ما بعد الحداثة" هما طرفي نقيض متعصبين بمعادلة جدلية لم تنته سابقاً, حتى تنتهي حاليًا. فالصراع بين الشكل والجوهر هو صراع استمراري يُعد من سنن الكون منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة. فما الجديد بـ "الأدائية" إذن!.. إنها تلك النظرة الواقعية الصارمة إلى الأشياء دون تزيد ودون نقصان, إذ يقول مؤلف الكتاب ما مفاده أنك إذا نظرت إلى عمل فني, فليس من العقلاني أن تنظر له أو تتعامل معه إلا باعتباره عملاً فنيًا, وليس كقنبلة أو كوحشٍ أسطوريٍ. فالإغراق الفلسفي لا مجال له بـ"الأدائية", ولا حيثية معتبرة لأي تطبيق سوى بالنتائج المتحصل عليها جراء وقوع هذا التطبيق. فإذا كنت بصدد إبداع عمل ما فإن قيمة هذا العمل من وجهة النظر "الأدائية" هي حقيقته, التي هي أثره المباشر على من يتلقاه. وهكذا سنجد أن "إيشلمان" يقول بما يعنيه القول الشائع: "الكرة أهداف". وعلى الرغم من كم "التجرد" الزائد الذي تحتويه "الأدائية" إلا أنني أعدها من "الأساليب" النقدية القليلة التي يمكن الوثوق بنتائجها, فهي تنحو كـ "فلسفة" باتجاه العلمية الشديدة, وغالبًا ما يكون هذا هو الشرط الذي يبتغيه السواد الأعظم من الباحثين عن الحقيقة عند رصد وتحليل أي طرحٍ فلسفي جديد, بهدف تفعيل هذا الطرح نقديًا والعمل على تجريبه لتحقيق الإفادة التنظيرية بشكل عملي.

1- الحوارية كمكون سردي.
منذ التصفح الأولي لعالم المجموعة عبر أول قصصها "ونلتقي في المساء" سيبدهك أن الحوار له دور بازغ في الشكل الكتابي للقصة, بل يمكن القول أنها قصة حوارية بامتياز, فهي تفتتح بالمحادثة (- سيبوه ينام. قالت: لازم يصحى, لازم يصحى, بينادي عليكم وهو نايم..).. وهذا ما يجتلبك كقارئ إلى داخل المشهد القصصي بلا جهد تمهيدي يذكر. ثم يأتي السرد كمكمل للحوار فيتضح العالم شيئاً فشيئاً ( أدخل عليه مستترًا ببشاشتي وتهليلي وابتسامتي العريضة, أقبل قبضتي ثم أفردها للسلام فيمد أطراف أصابعه بنظرة من نصف عينه الأعلى, وكانت له براعة في إخفاء بريق عينيه حين يريد.. – تاخد واحدة بيضة ولا تجيب واحدة بيضة؟).. هكذا عبر تلك التبادلية ما بين الحوار والسرد يستمر المشهد القصصي في تصاعده الدرامي إلى النهاية (فرغ الشيخ سيد من تلاوته وقام.. وضعت في كفه جنيهًا.. وضعه في جيبه بعدما تبينه بطرف عينه في اللحظة الأخيرة.. استأذنا للانصراف).. ولا يسعنا القول إلا أن استخدام ذلك التكنيك الشكلي – الكلاسيكي – في كتابة القصة, قد جاء على نحو جيد لم يخل ببنائيتها, فلم يتلاحظ وجود تزيد بالحوار بما يمكن أن يعد طغيانًا على السرد – الإجمال – والذي هو ديدن أي عمل حكائي مكتوب.

غير أن الأمور سوف تتغير عن وجهة النظر هذه بأكثر من عمل قصصي لاحق من أعمال المجموعة, فعلى سبيل المثال سوف تصطدم شكليًا كقارئ بقصة من نوع "الغرفة صفر" صـ89, إذ ستجد نفسك أمام حوارية كاملة "dialogue"لا يقطعها أي تنويه سردي شارح يشي بوجود القاص..
(أمي, معقول, إزيك, إنتي أحلى كتير عن زمان.. وحشتيني. وانت كمان يا حبيبي واحشني قوي. أبويا قاعد بعيد ليه, هو زعلان مني؟! أبدًا انت عارف بيحبك قد إيه, بس هو قلقان عليك, كلنا جايين نطمأن عليك ونكون جنبك, إحنا دايمًا جنب...).
فقط بوح ثنائي – متعدد أحيانًا – منتظم وله بداية ونهاية. الأمر الذي يمكن قبوله في إطار روائي محيط, وليس مفردًا باعتباره شكلاً قصصيًا تامًا ومفصومًا عن إطار محدد! ذلك أنه يوجد اعتقاد عام – بما يوازي العرف – لدي المنظرين والمشتغلين بالنقد الأدبي, مفاده أن "الحوار" يُعد جنسًا أدبيًا قائمًا بذاته, ولا يمكن الاعتماد عليه بالأشكال الحكائية الأخرى كالرواية والقصة بنوعيها, إلا إذا كان واقعًا تحت سلطة السرد, فالأخير يكون بمثابة الحيز الطبيعي الضامن لسلامة البناء – السردي بالأساس – من التشتت أو المجانية. وقد يتسائل البعض عن الخطأ الكامن وراء استخدام الحوار "المجرد" في طرح رؤية ما؟.. فأجيب بأنه لا يوجد بذلك أي خطأ, إنما سيتوجب الإيضاح بأننا سنكون عند هذه الحالة بإزاء التعامل مع نوع أدبي آخر بخلاف "القصة القصيرة" ألا وهو "الحوار". كذلك فلا يمكن الاتكاء على ما يخص الرؤية في محاولة تفسيرية لضبط الشكل, مثلاً كالقول بأن هذا العمل القصصي أو ذاك يؤدي رؤية فانتازية, أو رؤية مركبة, تتيح له التملص من تقليدية القوالب المتعارف عليها. وهنا يمكننا الرد بأن مدى مشروعية ذلك تتوقف على إصرار الكاتب – المجرب – في إيضاح التجربة عبر مشروع تجريبي متكامل.

في قصة "تولِّ" صـ85 قد يجوز التوقف قليلاً أمام "أدائية" مغايرة للحوار بداخل المتن القصصي, والتي قد لا تظهر بجلاء أثناء القراءة الأولى..
(ابتلت جفونها فلمعت بضوء الشرفة الخافت, فبدت من بين ثنايا أعوامها ومسحة الحزن الشارد في ملامحها الرقيقة كتلة تحترق بين الخوف والرجاء. شريفه.. شريفه, ما بترديش عليا ليه يا بنتي؟ فين شايك الجميل؟ الله.. جرا إيه يا شريفه؟! دموع يا بنتي.
ليه يا با............؟!
ليه إيه يا بنتي؟! ليه إيه يا شريفه بس؟!
ارتمت بين ذراعيه طفلة بريئة تحاول إيقاف نزيفها من الدموع والبكاء المكتوم فربت على ظهرها بحنوه المعتاد..).
لقد امتزج الحواري بالسردي في مزيج فريد يصعب فصله على مستوى التحليل الشكلي للقصة, فنحن بصدد مشهد درامي رصين على الرغم من بساطته, ويعمل به السرد عملاً إضافيًا فوق عمله الأساسي كإطار شارح ومجمل, السرد يعمل ككاميرا ناقلة للصمت المحيط بالحوار في أمانة تامة, تاركًا للحوار مهمة التقدم بالمشهد نحو نهايته في سيولة مدهشة.
في الأخير قد نتمكن من الخلاص إلى نتيجة نهائية بهذا الملمح النقدي, والمتمثل بالحوار كمكون سردي فاعل بأغلب أعمال المجموعة, فنحن أمام محاولات جيدة ومحكمة لصناعة بنية نصية – قصصية – جديدة, تتسم بنائيًا بالإعلاء من "ثيمة الحوار" على حساب "ثيمة السرد", أو بالموازاة بين الثيمتين على أقل تقدير, وذلك مما يضفي على الشكل الكتابي للقصة القصيرة منحىً جماليًا لا أقول جديدًا, وإنما هو متفرد إلى درجة كبيرة.

2- استعمالات اللغة وأثرها على التلقي.
اللغة الإشارية.. أو أنها اللغة الباطنية إذا جاز التعبير, وهي اللغة التي تعتمد على اكتناه القارئ للمعنى المستتر عبر المعنى الظاهر, فيغدو الأمر كإنتاج لـ "تعدد دلالي" يرتبط بكيفية استخدام اللغة. وتتعدد المستويات في هذا المبحث, بداية من وجود إشارة لغوية يتعقبها القارئ وتوحي له بما يتوجب البحث عنه, ووصولاً إلى أن يتحول النص الأدبي – من خلال كيفيته اللغوية – إلى نص مزدوجٍ على مستوى التأويل. وقد تكون قصة "حتى فار التنور.. قعدنا" صـ71, صالحة كمثال أولي في شأن ما يُعنى اللغة الإشارية.. (فلما كان على فوديه إكليلان من البياض يُجلاه رغم أي شيء آخر.. ظننت أنه في العقد الخامس..). حين تتأمل في العبارة السابقة, ربما سوف لن تجد شيئاً مستترًا للوهلة الأولى, غير أنك إذا دققت قليلاً فستجد "يُجلاه رغم أي شيء آخر".. هذا ما قد يجذبك إلى التساؤل: ما هي الأشياء الأخرى التي قد تدعو إلى عدم إجلال شخص بالعقد الخامس؟ وما سيحفزك على المضي قدمًا بالقراءة بغية اكتشاف ما قد تخمنه من أسباب.. (مددت يدي.. صافحني فشد عليها رغم ما يبدو من انشغال مجهد.. لفت نظري أكثر نظارته السوداء اللامعة التي ربما اتخذها ليواري ما فشلت عبقرية عينيه في مواراته إثر موقعة الخامس من يونيو وكان جاكته الأبيض الشهير النصف الكم غير الوافر بهيًا أيضًا..) مرة أخرى ستصطدم بإشارة لغوية من نوع آخر, ولكنها إشارة محددة عن سابقتها بعض الشيء "موقعة الخامس من يونيو" هذا أن كل ما يحمل تاريخًا أو اسمًا هو بالتأكيد أسهل كثيرًا في معرفته مما لا يحملهما. (وكم كان صدام حسين مهابًا أكثر مما تصورت.. صافحني بزيه العسكري وطوله الفارع فاعتقدت أن هذا الرجل حين نغض النظر عن أشياء وأشياء كأنه ولد حاملاً معه جينات المهابة كرافد من روافد الزعامة.... ثانية التقيت البكباشي بزيه العسكري يفترش حصيرًا من البلاستيك الملون أمام مسجد أبو محمود بعزبة الصحة بالقنطرة شرق وبرفقته بعض صحبه ونفر من العامة.. أذكر أنه بغير تكلف تناول إبريقا فشرب حتى ارتوى.. عبقرية عينيه والسعادة كانتا صنوين من المستقبل.. لم نتحادث أيضًا..).. إذن يتضح الآن أن المجموع الكلي لإشارات لغوية من قبيل "يُجلاه رغم أي شيء" + "موقعة الخامس من يونيو" + "صدام حسين" + "البكباشي" = جمال عبد الناصر. هذا المحكي عنه والذي لم يُذكر صراحة, فأضحى اكتشافه عبر دلالات اللغة الإشارية المتعاقبة أمتع كثيرًا بالنسبة لمن يتلقى العمل القصصي بهذه الكيفية مما لو كان قد ذكر صراحة. (وكان لي جد شيخ صالح وكان له ولدٌ مولعٌ بالجمال فتعددت زيجاته فحرصت حرصًا على الإسراف في الحلال حتى يشبع جدي المولع بالجمال فيرسو فيتنفس جدي الشيخ الصالح.. فطنت أنا إلى هذا منذ أن بادرني سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام: هل تعلم أن جدك كان كثير الزواج؟ وكنا في صفين متقابلين بصحراءٍ وكنت في صف سيدي رسول الله عليه الصلاة والسلام..).. إذن ها نحن بشأن إيجاد نوعٌ آخر من الإشارية قد ابتدأ في الظهور تباعًا, ألا وهو توالي ذلك الخط الزعامي كلما تقدمنا قراءة بالنص القصصي "صدام – جمال – الجد الصالح – الجد المزواج – الرسول عليه الصلاة والسلام" وباعتقادي أن ذلك قد جاء للتدليل على تلك الاستمرارية الزعامية بل وتأكيدها, بغرض التمهيد لشخص القصة الذي يأخذ دور الراوي بالظهور في ذلك السمت القيادي المراد بالتكرار.. (لم آبه لذلك النصل المسموم.. قاتلت قاتلت حتى تكسر سيفي فهممت أن أكر بغيره لولا أن طوح لي سيف فالتقطته ولم أتبين مِن غبار المعارك, فعاودت الكر حتى انصهرت كخط في لوحة شرسة).. من الأشياء المدهشة بهذه القصة أنها تحتوي حبكة درامية واضحة, على الرغم من أنك قد تظن لبعض الوقت أنها فقط "أجواء الحلم" هي التي تسمح بحرية الانتقال من حدث لآخر, كما أنها التي تتيح لهذا المزج بين الواقعي والسحري بالسطوع. ولكن إذا ما أردنا التدقيق من خلال قراءة ثانية, فسنجد أن الحبكة الدرامية – والتي تعني "وحدة العمل القصصي" رغم توزعه على أكثر من حدث – ظاهرة بجلاء عبر هذا التتابع الإشاري الواصل بين البداية والنهاية.. (تقافز بذهني قول بعض أصحابي: إن بك لخطورة. قلت: في أيٍ؟! قالوا: سمتك يوحي. قلت: لا أدرك.. أيقظني جوادي يحدث جلبة بقوائمه, يحمحم يحدثني.. استدرت.. ربتّ على جلده الذهبي حتى هدأ.. قلت وأنا أبتسم: إن أصحابي أعبط مني.)

الدمج اللغوي..
في قصة بعنوان "المرعوش" صـ31 , سوف نكتشف كما في أغلب قصص المجموعة, أن الكتابة تتخذ ذات "العالم الذهني" الواقع بين الوهم والحقيقة للعمل من خلاله. وهو من العوالم الكتابية المطروقة والفريدة بآن واحد خاصة بفرع "القصة القصيرة", وسبب ذلك أنه "العالم" الذي يعطي القدرة على تفجير طاقة اللغة بتحريرها من الالتزام بنسيج معين, هذا الالتزام الذي قد يعيق "فكرة ما" من التداعي أو التمدد, مما يجعل من "العالم الذهني" وسطًا خصيبًا تتدفق به تطبيقات اللغة السردية المتنوعة.. (كنت أجهد كثيرًا حتى أستقر على بقعة مثلى للتسديد حسب رؤى معلميّ الذين أهلوني لذلك. يرقص قلبي حين يرى الهدفَ يتمطى أمامي بخيلائه وغروره.. يرافقني اعتقادي بأني مسئول عن وأد فرحتي هذه وتبرعُم خيبة الأمل التي تكاد تندلع من صمتهم ولمعة أعينهم.).. إلى هنا وربما لن تستطيع كقارئ أن تتبين سوى هذا الأثر البادي للغة "المعقول", "المنطقي", فلا شيء غير طبيعي حتى نهاية فقرة الاستهلال. غير أنه في حال التوغل قليلاً بالمتن القصصي سوف نستوضح أننا ننحدر تدريجيًا بدرجات "المعقول", وصولاً إلى "اللا معقول" أو"غير المنطقي" بعبارة أخرى. فإذا شئت سَمّهِ حُلمًا.. إطارًا فانتازيًا.. تشظيًا... ستتعدد التأويلات والقراءات بما يأتي في صالح العمل القصصي أو ضده. ولكن الأهم من ذلك والأجدر ذِكرًا أنه لا يتم الحصول على ذلك النسق – القالب – المخاتل إلا عن طريق اللغة, والتي تستخدم عندئذٍ بكيفية شبه حسابية للوصول إلى نتيجة مرجوة.. (مرائي مشوشة, غير واضحة المعالم تبادل الهدف رقصًا برقص, رقصة الخيلاء والغرور برقصة الانكسار والإحباط, تنقشع المرائي رويدًا رويدًا, يتحصحص الهدف فيصير مجافيًا للمنطق, رأس الأستاذ فوزي مدرس العلوم بالصف الثالث الابتدائي).. بالتأكيد أنه قد لوحظ بالنسبة لقارئ متمعن جودة هذا الانسراب السلس من استواء رؤيوي إلى آخر مغاير عبر اللغة. فقد جاءت البداية "المعقولة" قيد بطل القصة الذي يروي عن إجهاده في البحث عن بقعة مثلى للتسديد, ثم تأتي عبارة قصيرة كـ "المرائي المشوشة" تلك التي ستبادل الهدف رقصًا برقص, لتصنع تحولاً شديد الانسيابية باتجاه "اللامعقول" لما سوف يأتي بعدها من أحداث.. (غبشة الفجر تستشعر خيانة الصباح فتبطئ السير, جدي يغذ السير من خلال الطابور المنسحب مكورًا عمامته السوداء على رأسه وكتفيه, لا يبدو سوى وجهه الذي تشبهه كسرة الخبز الجافة, عزمه الفولاذي المتكسر بفعل الانسحاب والدهشة.. جدتي في آخر الطابور تحاول أن تجد وسيلة لإحكام ملائتها اللف لمواصلة السير, لا أحد يلتفت لأحد فالطابور طويل والدخان كثيف وغبشة الفجر آنئذٍ كان لها رهبة.).. على سبيل التنويع الآدائي للغة سوف نلحظ أن الشِعرية تتخذ دورها الهام في حسم الأمور دلاليًا وتوجيهها إلى صيغة الحلم, فعبارة مثل "غبشة الفجر تستشعر خيانة الصباح فتبطئ السير" هي الكفيلة وحدها بالتمهيد لهذا الظهور المفاجئ للجد والجدة, والطابور الطويل, والدخان الكثيف. وبصرف النظر عن التأويل التاريخي لمجمل القصة, وما تكرس له من عذابات فترة ما بعد "النكسة" والمعروفة تاريخيًا بـ "حرب الاستنزاف", فما يعنينا بهذا الملمح هو ما أوردته القصة من إمكانية تباين "أنسجة اللغة" المستعملة في إطار عمل سردي قصير, بل والإفادة من ذلك فنيًا إلى أقصى درجة.. (.. "تذكر دائمًا قواعد التنشين. لا تطل مدة التنشين, اكتم نفسك لحظة الإطلاق, أطلق".. تجندل كالثور من فوق التبة تتبعه خوذته, تتدحرج بنجمتها الغبية..)..

التفلت الآدائي للغة..
في بعض الأحيان قد يخدعنا السرد كآلية حكائية, فيعمل على جرنا إلى ما يدعى بـ "التجريب" والذي قد يكون خاصية محمودة على مستويات عدة كالرؤية والشكل, غير أنه في حالة اقتراب "التجريب" من اللغة فإن الأمور قد تأخذ منحىً آخر من ناحية النظرة النقدية. إذ يصبح الأمر عند هذه النقطة مشابهًا للعب في نسبة الحديد المخصص لإقامة بناءٍ ما – زيادة ونقصاناً – وبمعنى أكثر مباشرة يمكننا القول بأن "اللغة" هي الأداة القياسية الوحيدة التي يحملها أي عمل كتابي بين ظهرانيه, سواءًا أكان سردًا, أو شعرًا, أو حتى بحثاً علميًا. لذا فقد يَعتبر الكثيرون أن الخروج عن الأنساق اللغوية الفصيحة والمتعارف عليها عند ممارسة العملية السردية, هو نوع من التفلت الأدائي للغة, والذي هو من ذات وجهة النظر يُعد مؤثرًا قويًا على درجة الرصانة المقرونة بالسرد, والمفترضة به تراكميًا. خاصة أن وجود "الحوار" كمنفذ لـ"الغير فصيح" من اللغة لا يعطي ذريعة لطرحه من خلال الصياغة السردية, إلا إذا قد جاء الأمر ضمن تجربة شاملة ككتابة "القصة الدارجة" أي المكتوبة كليًا على شاكلة غير فصيحة, وهو الأمر الذي لم يلق استحساناً أكاديميًا في الأغلب الأعم. وكمثال نوعي على ما سبق فقد ورد بقصة "عناقيد رطب أخضر" صـ 49 ما يفيد هذا التفلتُ المعنِيَّ باللغة في أكثر من موضع.. (توارت به خلف عيدان الهيش وكانت هادئة, كان يريد أن يستمتع بكل شيء في آن, ذراعاها أطول وخدها بيلمع زي بلح بنت عيشة.. تحسست كله من شعر رأسه إلى أطراف أنامله وهو منتشيًا واقفاً مفعولا..) في موضع آخر سنقرأ.. (يغمره طيبها الطبيعي فيكبش ويمر من غير ما يرتبك ارتباك مالوش داعي.).. وسوف تتكرر الملاحظة على مدار بضع قصص من أعمال المجموعة, أحياناً على هيئة مفردة دارجة بسياق فصيح, وفي أحيان أخرى على هيئة عبارة تامة. ففي قصة "حلاوة زمان" صـ55 يظهر هذا التحلل من سطوة اللغة الفصيحة عبر مفردة واحدة.. (أنتبهُ فجأة على حالة من الفرح والانشراح والخفة غير المبررة أيضًا.. ولأنني متشعبط بأمور التحليل وربط العلاقات وادعاء العبقرية في استنباط النتائج حاولت جاهدًا تتبع هذه الظاهرة المتكررة).. كذلك في قصة "حدوتة وحاجات وأنا"صـ75 وهي القصة الرئيسية المعنونة للمجموعة سوف يبزغ الملمح المشار إليه آنفاً, لكأن القاص يريد التنويه عن قصدية هذا التفلت الأدائي للغة, ربما باعتباره ملمحًا تشكيليًا خاصًا.. (يعجبني صوتي فأصير أروع لحظتئذ من حليم ذاته, أصير عبد المنعم رياض, جول جمال, جمعة الشوان.. حاجات كتير بتحصل لا أجد لها تفسيرًا).. ولأن "النسبية" هي ميزان الأشياء الناجع في الكون, خاصة النظرية منها كالفنون والآداب بشكل عام, فليس من المحبذ إبداء رأي صارم حول هذه الملاحظة المشار إليها بـ "التفلت الأدائي للغة" فلقد يراها البعض باعتبارها مزية جمالية/ تجريبية, وينظر لها البعض الآخر باعتبارها مثلبًا من المثالب, لذا فكل ما سيمكنني الإدلاء به هو انتمائي للبعض الآخر.

أثر "الأداء اللغوي" في تشكيل "رؤيةٍ ما" من خلال السرد..
ولإضاءة هذا المعنى بصورة أكبر, يمكننا أن نسوق مثالاً بملاحظة اختيار "السارد" لكلمة معينة من بين عدة مترادفات والتي قد يكون منها ما هو أسهل وأكثر شيوعًا من الكلمة المختارة. ومثال آخر بملاحظة الطريقة التي المتبعة في صياغة الجملة.. جملة طويلة/ قصيرة؟. ذات تراكبية لغوية مقعرة/ مسطحة/ عادية؟. مباشرة الدلالة/ مضللة الدلالة؟. مرنة إيقاعيًا/ جافة إيقاعيًا؟.. وهكذا إلى آخر التخريجات الجمالية المعتنية بالتحليل اللُغوي للخطاب. وتعد قصة "إنهم أقوى مما كنت أظن" صـ67 هي الأكثر مناسبة لملاحقة أثر "الآداء اللغوي" في تشكيل رؤية عمل سردي.. (ذبل أريجها.. تساقطت وريقاتها وريقة وريقة.. تسللت بذورها قطارًا من النمل منسحبًا إلى الغرف المظلمة بذاك الخُرج اللعين. مهيئة لنفسها استقرارًا دائمًا بعد محاولاتها البائسة للتسلل عبر نوافذها العديدة.. تلك المحاولات التي كانت دائمًا ما تترك لدي شعورًا باللذة والفخار بعد خنقي إياها مدعيًا صمودًا عبقريًا أمام سقوط مذهل.).. أعتقد بأننا قد انتبهنا لهذا التدرج المتسارع في بناء الجملة القصصية على مقياس طول الجملة. فالقصة تبدأ بجملة إخبارية من كلمتين, تليها جملة أطول قليلاً, ثم يندفع السرد بقوة في جمل ملحوظة الطول, مما يمهد بشكل عملي لطرح رؤية "عبثية" تسعى إلى تجسيم حالة من حالات "اللاوعي" في مشهد ذاتي محمل بالرمز. وبناءًا على ذلك المعنى فقد يمكننا الخلوص إلى نتيجة مؤداها: أنه لولا هذا الاتكاء على كيفية معينة لـ "الأداء اللغوي" ما كان سيتحقق لدى القارئ مثلَ هذا القدر من الإحساس بالتوافق بين نوع القصة وثيمتها السردية. (قسم النمل نفسه إلى فيالق يستطيع كل فيلق أن يحمل مربعًا كاملاً إلى الغرف السوداء بالخرج.. وأنا الآن أحاول الاتصال بي عبر عدة غرف مقسمًا خلالها).. إن ما يجتذب الانتباه بالفقرة السابقة من هذا الملمح الأدائي للغة, هو مفردة "فيالق", والتي أتت كبديل عن مفردة "أسراب" المقترنة دائمًا بوصف تشكيلات النمل. فهل وقع الإبدال مجانيًا؟.. أو بالأحرى, هل جاء فقط كتعبير مغاير للشائع؟.. من الإنصاف القول بأن اختيار المفردة البديلة قد أتى مدروسًا بعناية, فقد ركز الضوء على بعد صادم من أبعاد الرؤية, والذي تمثل في تحميل حشرة دقيقة كالنمل بـ "الوعي" الكافي لكي تتشكل في تنظيمات حربية منضبطة كالفيالق.
في قصة أخرى بعنوان "تجربة" صـ 79 ستجري الأمور على ذات الوتيرة المنتفعة بأثر أداء لغوي معين في تكوين رؤية العمل.. (ليلة باردة جدًا وشتاء قاسٍ هذا العام, شيء غير البرودة بدأ يسري بأنامل قدمي طارحًا نوعًا من الكسل اللذيذ والدفء الذي لا يعرف قيمته سوى أمثالي من أصحاب العظام الجريئة التي تحتل خطوط الدفاع الأولى, وبينما أنا متكور بوضع رحمي مكين لم يجل بخاطري أبدًا أن يطرقنا مثل هذا الزائر.).. لقد أتى التعبير عن الجسد بفنية كبيرة, إذ يصف بطل القصة عظامه بالجريئة كتصور ينم عن النحافة, أيضاً هو يتكور بوضع رحمي مكين للتدليل على الإحساس بطفولة شديدة في مواجهة الشتاء القاسي, البرودة القارسة. إن السرد يصنع أجواءه العامة, عبر التصوير تارة, والتلميح تارة أخرى. وهما من الخواص السردية التي تعتمد الأسلوب "غير المباشر" في إيصال المعنى, فها نحن نكتشف أن "الزائر" المذكور ما هو إلا واحدًا من "زوار الليل" في مهمة ضبط وإحضار, بيد أن الاكتشاف لا يأتي صريحًا عبر معلومة محددة, بل فقط يتضح الأمر من خلال السياق.. (يبدو أن الوقت كان متأخرًا فأنا لم أنظر إلى ساعة الحائط التي أهداها لنا خال زوجتي بمناسبة الزفاف والتي تعتز بها زوجتي جدًا جدًا جدًا).. سيأتي الاهتمام بتفصيلة ثانوية كـ "ساعة الحائط", اهتمامًا مستغربًا أثناء وقوع ظرف عصيب كالاستدعاء بواسطة "زائر ليل". الأمر الذي سيعد مفهومًا عند تناولنا لشخصية البطل الغريب بالتحليل, واصلين إلى كونها شخصية مذهنة إلى حدٍ بعيد. فما هو دور "الآداء اللغوي" يا ترى في إظهار تلك الذهنية؟!.. إن الدور يتضح عبر تكرار مفردة التأكيد "جدًا" لثلاث مرات متوالية, هذا "التأكيد" المبالغ فيه لأهمية "شيء ثانوي" لن يتأثر الحدث في حال لم يُذكر نهائيًا. ولكن تأكيد أهميته قد ورد – بل وبمبالغة – كي يضيف النسبة المطلوبة لوجود "منطق مغلوط" لدى المؤكِد, وبدوره سوف يعمل هذا "المنطق المغلوط" على إبراز المنحى الذهني المشار إليه آنفاً, مما يعضد كثيرًا من تدخل "الآداء اللغوي" في تكوين رؤية عمل سردي ما.

3- محاولات الرؤية المتصوفة* في التشكل "الملمح الرئيسي".

* نبذة عن التصوف:
"التصوف" هو مصطلح حمال أوجه, تندرج أسفله عشرات وربما مئات التعريفات مما يدل على هيولية المعنى المراد به. فمن وجهة نظر معتدلة غالبًا ما تنبع من الدين وتقول بأن "التصوف" هو نزوع بشري بحت نحو الكمال الأخلاقي, إلى وجهة نظر أخرى متعصبة ترى أن "التصوف" هو علم قائم بذاته يختص بمعرفة أحوال النفس والعمل على الإفادة الروحية منها, وأنه لابد من التعامل معه بأساليب منهجية (معطيات/ نتائج) كما يتم التعامل مع العلوم المنطقية كالرياضيات والفلك... لذا أرى أن تعريف "التصوف" فلسفيًا هو الأجدر بالاعتماد عليه في حال استخدامه كأداة استكشافية لنص أدبي. فلقد يمكننا استخلاص التعريف الناجع للتصوف من بين براثن الفلسفة بما ورد على لسان نيتشة: إن التصوف هو فعل بشري إرادي يبنى على القوة, وينحو باتجاه التوحد مع الوجود – الإله – لاكتساب صفاته المطلقة.

المحاولة الأولى/ الكشف.. قد يكون في قصة "طيف" صـ37 ما هو صالح للعمل عليه كبداية توضيحية لما يُقصد بمحاولة "الرؤية المتصوفة" في التشكل, فالقصة تحمل بين ظهرانيها ما يأتي صريحًا كنوعٍ من "الكشف", والذي هو يُعدُ لب أي عمل أدبي يشتمل نزوعًا صوفيًا. تفتتح القصة بالتسبيح ثم يلتحم به الحكي في استهلال قصصي أقل ما يقال عنه أنه استهلال رائع..

(سبحان الله, سبحان الله, سبحان الله.. يأتنس بها.. يتدبر الأمر.. يقلبه على أوجهه جميعًا.
- الأمر جاد
- أوهام! تموت بوهمك
- وما عليّ أن أيقن؟
- سنرى إن كان.. أم لا

أوحت إليه بشريته أن يكون أنيقاً.)

إننا حينما نتصدى لـ "الحوار" من حيث هو مادة لاكتناه "الرؤية", إنما نحن نحاول سبر أغواره, هل هو حوارٌ سطحي مباشر؟ أم فلسفيٌ مركب؟ أم أنه حوارٌ كشفيٌ قد صيغ بكيفية "كتابية" معينة لإضفاء مثل هذا الحس الكشفي؟!.. لعدة أسباب كان لي أن أعتقد أن "الحوار" بهذه القصة ينتمي إلى النوع الأخير, فبالإضافة إلى كونه حوارًا "ذاتيًا" كما يستنبط من السياق, سنلحظ قدرًا مضبوطاً من الغموض الذي يكتنفه. وهو ما لم يأت على سبيل المجانية الكتابية, لقد جاء الأمر بالعائد المرجوِّ منه إلى حدٍ بعيد, ذلك أن الغموض يحتاج إلى العمل على إزالته كي يصرح بمكنونه ويمكّننا من فهم ما يكتنزه من "دلالةٍ" منقوصة. أيضًا على خلاف باقي قصص المجموعة فقد جاء الحوار فصيحًا, وهذا ما يُعد تأشيرًا "شكليًا" هامًا للتنويه بعمق "رؤيويٍ" مغاير يتم صقله عبر استخدام "اللغة الفصيحة" في صياغته..

(قبيل الغروب دخل ملابسه التي استلهمها, بنطاله الجينز وقميصه النصف كم ذا الأقلام الملونة.. كانت بغداد في المساء عروسًا مجلوّة.. هكذا هي دائمًا وبخاصة في ليالي الصيف, حلوة دائمًا ومُهيأة دائمًا.. سار في شوارعها كأنه غريب عنها وكأن الناس جميعًا قد انصرفوا عن بهاء بغداد إلى بنطاله الجينز وقميصه ذي الأقلام الملونة.. قلبُه يَدق بسرعة. – ما الأمر قلبي يدق بسرعة, إنه يغلب ضجيج بغداد!)..

إذن لقد جاء السرد كي يأخذ دوره في فقرة وصفية كاملة بما يتعدى ظهوره الخافت في أول القصة. ولتستتب من خلاله ثيمة حكائية مناسبة لإحاطة الحوار, ألا وهي "الثيمة المشهدية" والتي تُعنى بالتفاصيل الدقيقة مقتبسة خواص الكاميرا, فمهما كان "المشهد" الذي يتم رصده محتويًا من أحداث فهو بالنهاية قصير تبعًا لآلية صناعته كمشهد, لذا سوف نجد أن أشياءًا من قبيل/ البنطال الجينز/ القميص النصف كم ذا الأقلام الملونة/ هي من صميم المشهد ولم ترد تزيدًا أو لمجرد الدفع بنوع من زركشة السرد, كما أنك كمتلق لن تشعر بتنافرها كمفردات سطحية عن العمق الوصفي لبغداد وشوارعها واغتراب السائر بها. كذا سنلحظ في آخر الفقرة القصصية المذكورة عاليه, بأن "السرد" يُسلم "الحوار" في سلاسة متناهية – إذا جاز التعبير – حتى أنه قد يُظنُ وقوع الامتزاج بين الراوي والمروي عنه/ قلبه يدق بسرعة./ - ما الأمر قلبي يدق بسرعة/ وهو الأمر الذي يُحمد للقاص بدرجة كبيرة, إذ سيأتي معبرًا عن ماهية العمل القصصي ومؤكدًا لطابعه الكشفي..

(هي استعادت ثباتها أو هكذا بدت وهي تتلقى ما كان
- هاتِ ما عندك.. ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن
- إنكِ مقصودة فاحذري واثبُتي.. ورّدُكِ ورّدُكِ تستشفي, ورّدُكِ ورّدُكِ لا تبوحي.. إذا حارت ألبابٌ تفتحت ألبابٌ فلا تبوحي
- إن كنت مُكلفاً فأنت أمين وإن كنت أمينًا فاعطِ الأمانة حقها حيث أول ولا آخر, إذا كان ذلك كذلك فلا تفقد الوصل.
مدت يدها بالسلام فمد يده فدست بها وريقة صغيرة).

الغموض يُزاح شيئاً فشيئاً بحرفية كتابية, وببطء تدريجي يصب في صالح العمل, حيث لن تأتي النهاية بالصورة الكلاسيكية الصادمة على الرغم من قوتها. فقد شكلت ثنائية "السرد/ الحوار" بهذه القصة نموذجًا أدائيًا شديد التناغم والاتصال, أدى إلى أن يصبح المنتج النهائي من النجاح بمكان, على المستويين "الدلالي" و "التشكيلي"..
(
- أريني صنع الله
- قد لا تُطيق
- بل أريني
- أنا مشفقة عليك
ثم برفق كأنها هي أيضًا اختارت البوح.. أزاحت عن مُحيَّاها فتجلت, جل من خلق وصور فشهق هو شهقته التي انخلعت لها بغداد قاطبة فبكته الأشياء كلها, بكاه الرشيد, طفت على صفحة الفرات أحرفٌ ووجوهٌ اصطفت حدادًا وحزنًا دريًا).

لكأن القاص يصنع حلاجًا جديدًا في مخيلته ثم يهبه إلى الورق كتابة, فالمكان هو ذاته "بغداد" ذات الفرات. والمتناص معه هو "عبد الله حسين بن منصور الحلاج", وبطل القصة يحمل اسم "عبد الله منصور". وقد مات الحلاج مصلوبًا على نخلة وكانت جريرته هي في اختلاف إحساسه بالجمال الإلهي عن قتلته, ومات بطل القصة شاهقاً شهقته التي خلعت قلبه من فرط تذوقه لما أبدعه الله من الجمال.

المحاولة الثانية/ التحول.. لعلنا عند تناول هذا "المقام" لن نجد من هو أحق من "فرانز كافكا" كي نمرُ من خلاله كمدخل إلى ما أمكننا الاصطلاح عليه بـ "الذهنية", وتعد "الذهنية" ضربًا رئيسًا من ضروب "الذاتية" والتي تعد بدورها عمود الخيمة عند المتصوفة. كما يجدر بنا تفسير "الذهنية" بأنها الخاصية "البشرية" التي تعمل على صياغة الشعور "النفسي/ الروحي" غير المحدد, إلى نسق "عقلي/ علاماتي" محدد. مثلاً كأن يتجسم الإحساس – غير المرئي/ غير الملموس – بالضيق أو الفرح, في عبارة تتكون من كلمات مرئية ومقروءة. وقد عد كثير من النقاد "كافكا" متصوفاً, ولكنه تصوف من نوع شديد الخصوصية, فكان من وجهة نظرهم أنه ليس معنى عدم السعي إلى الحقيقة المطلقة "العليا" بكتاباته, ما يَمنع أن يُخلع عليه لقب "متصوف", هذا أن السعي وراء حقيقة النفس البشرية ومحاولة إحاطتها وسبر أحوالها ضمن إطار فني, هو قطعًا ليس أقلَ بميزان "القيمة" من السعي وراء الحقيقة المطلقة أو الحق الأعلى. وفي قصته الأشهر المعنونة بـ "التحول" والتي يتحول بطلها في النهاية إلى حشرة خنفساء, يؤسس "كافكا" لمنهج كتابي جديد عرف نقديًا بعد وفاته باسم "الكابوسية", وقد ترك ما أبدعه "كافكا" من أعمال قصصية وروائية أثرًا مطردًا على الحركة الأدبية المعنية بالسرد في جميع أنحاء العالم – فصار الحيز "الكافكاوي" الذي عُرف باسمه وميزه كبؤرة مجمعة, اتجاهًا كتابيًا متعارفٌ عليه ولا يُعد تقليدًا أو محاكاة. فكما ابتدع "جابرييل ماركيز" لاحقاً "النسق" الأدبي الأمثل متأسيًا بما شاعت ترجمته بتيار "الواقعية السحرية" أو تيار "القنبلة" بتعبير اللاتينيين, فقد سبقه "فرانز كافكا" ابتداعًا نسقيًا بتظليل هذا الحيز المشمول بعناية أحكام "الكتابة الكابوسية".
لقد كان المرور عبر ذلك المدخل حتميًا للتعامل مع قصة من نوع "كان هناك" صـ59 فالقصة تأخذنا صراحة إلى أجواء ذهنية شديدة التراكبية, ومخاتلة إلى الحد الذي لا تترك معه مجالاً لأي تأويل قاطع, باستثناء تأويلها كـ "كتابة كابوسية" بحتة, فهي تأتي مختلفة كثيرًا عما ورد بباقي المجموعة من أحلام...

(صفير دافئ يداعب أذنيه فيتمطى في مساحة من الانتباه.. مشاهد تترىَ.. سرعة الهبوط تفوق قدرته على الملاحقة والتمييز, بيد أن المشاهد يستشعرها تطرق أشياءَ داخله, تتلمس انبعاثات وإشارات يفكُّ بعضها ويروغ من بعضها.. لا شيء أوضح من الظلام اللانهائي والصمت الدامس.. يزداد الصفير سخونة في أذنيه فتزداد سرعة الهبوط.. تتسع مساحة انتباهه فتتسع مساحة خوفه.. تنتظم سرعة الهبوط فتثبُتُ المشاهد بإخراج أوضح يصاحبها صوت صبية تنوح بغنائية مُرةٍ..)

دائمًا ما تنبئ بداية القصة عن سمتها الداخلي – أجواءُها – ولكن البداية ههنا لا تعطيك نفسها بيسر, فلقد تتسرع بالحكم قائلاً: إنه حلم بكل تأكيد. بيد أنك عندما ستتوغل قليلاً بالمتن القصصي سوف لن تجد ما يقطع قطعًا بائناً بهذا الحكم المريح. فالقاص له دور رئيسي في جعلك معلقاً بفضاءات التأويل لأطول وقت ممكن, بل لا نبالغ إذا قلنا باستمرارية هذا التحير إلى نهاية القصة. إذ أن ميزان العمل لا يختل يمينًا أو يسارًا بما يحسم الأمر لصالح رؤية بعينها.. هل هو واقع؟ هل هو حلم؟ هل الأمر لا يعدو كونه ضربًا من الهذي والتشوش؟!.. عندئذٍ يصبح القاص كالسائر على سراط لا يحيد عنه, بغرض عدم إعطاء المتلقي عُقادًا نافعًا للقطع بنوعية "الرؤية" الضالعة في العمل, وهذا بالضبط ما قد تمت الإشارة إليه آنفاً بـ "الذهنية"..

(توهة وذهول غير مستوعب.. سؤال لا ينتهي فلا يبدأ.. ماذا يكون ما أنا فيه؟! بينما هو في ذهلته هذه لائذاً ببكاء غزير عصي حار أتاه صوتها بعدودتها وكورالها المصاحب, تزداد أصواتنا طولاً وعرضًا, تزداد حدة, تحدث أصداء ترتج لها الغرفة بعنفٍ.. تميد الأرض من تحت قدميه, تتشقق تشققاً فيهب واقفاً فتنحشر قدمه الأخرى, يقفز من موضع إلى موضع.. تتسع الشقوق وتضيق كأنها تلاعبه فتجعله يرقص رقصًا إفريقيًا عنيفاً)..

الأحوال الغرائبية.. الزمن المتقافز.. الغرفة.. التلميح بنوع من "فوبيا" الأماكن المغلقة... هذا ما يتفصد تباعًا من بين السطور, وهو ما أجاد القاص كثيرًا في إبرازه دونما أن يشعرك كقارئٍ بوجود آثار فجة للصنعة, فالتصاعد الدرامي لأفعال بطل القصة تُسردُ باندفاع محسوب عبر طرف آخر, وهو الراوي الذي يبدو للوهلة الأولى أنه قد أتى في صورة محايدة, فهو فقط يمارس الحكي من خلال وصف مشاهداته الرأسية للبطل.. ولكننا كلما خطونا حثيثاً إلى الأمام فسنكتشف بأننا إزاء راوٍ مخادع ولا يتسم بالحيدة الوصفية في كثير من الأحيان, وذلك بغرض الاستيلاء على الزمن الحدوثي لمجمل العمل, الزمن الذي أراده الراوي زمنًا مقطعيًا, متوترًا, كي يأتي إيقاعه المتقافز مؤكدًا للتملك والسيطرة, هذين المضاهيين السينيمائيين لدور الإخراج في التحكم بالممثلين. فالراوي يتحكم كليًا بأفعال بطل القصة.. يُسرعه.. يُبطئه.. يجعله صامتاً أو يستخرج عبارة من فيه متى شاء...

(أراحه ذلك قليلاً.. فرك الشوكة بين أصابعه وجدها لدنة غير مطاوعة للفرك.. اتسعت حدقتاه ثم زاد اتساعهما لما أحسها ترعص..
- شوكة ايه دي؟! شوكة موسى, عصاية موسى؟!
هب واقفاً, دنا بكفه, صرخ فلم يصدر عنه سوى فحيح, قفز كطفل لدغه عقرب, جن إذ لم يكن بطاقة تخيله أن يجد أصابعه التي كانت للتو تفرك السِلة اللعينة التي وقعت على الأرض في مفاجأة ليست أقل وطأة, فإذا هي دودة زجاجية خضراء تسعى تضيء ضوءًا فسفوريًا خفيفاً أينما سعت..)

إن الأجواء الكابوسية تحضنا على الإعلاء من سقف التأويل, حتى نصل إلى تذكر الموت في أخيلتنا, فقد تكون الغرفة قبرًا, وبطل القصة قتيلاً يواجه ما يعقب الانتقال إلى العالم الآخر. إنما هل يكفي ذلك لانتزاع تأويل نهائي من بين براثن الراوي الذي يقبض بقسوة على حكايته؟! بالطبع ستجيء الإجابة قاطعة بـ "لا". هناك شيء يتضاد دلاليًا مع الموت (شوكة موسى/ عصاية موسى) الرمز الذي يقترن بالحياة للإفادة من المقدرة, والذي بالتأكيد لم يأت كرمز مرسل لا طائل من ورائه, لقد ورد لصناعة هذا التضاد بين الاستسلام للموت والقدرة على الحياة, أيضًا ورد للتنويه بعدم محاولة استباق الرؤية في إنتاج المعنى الكلي. إن القارئ يواجه راويًا متعصبًا لأدواته السينيمائية, ويرى الأخير بأنه لن يستقيم الاشتغال على "ثيمة دلالية" واضحة – غير مركبة – قيد العمل على توكيد "خواص سينيمائية" كالتشويق والإثارة على سبيل المثال.

(حاصرته حتى تمكنت من التقامه محتفظة به بين فكيها.. انتظر حتى تبتلعه فلم تفعل.. ظلت تلوكه في تلذذ حتى امتزج بلعابها الأخضر.. حاول أن يقفز من خلال سياج فكها لما هدأت حركتها لكنه فشل في استخلاص قدميه.. لعابها اللزج أفقده القدرة على تحريك ولو إحدى قدميه فجعل شغله الشاغل إزاحة هذا السائل اللزج عن فمه حتى يتمكن من التنفس.. ظل كذلك حتى اصطدم بجدار الغرفة لما بصقته بعنف ثم أخذت في الضمور والتضاؤل حتى اختفت تمامًا مخلفة ضوءًا فسفوريًا خفيفاً لم يزل كأنه صدى الضوء).

ولقد يسأل أحدنا نفسه عما هي العلاقة بين نصٍ شديد التعقيد كهذا "النص", وبين ما سيق مقدمًا حول محاولات تشكل الرؤية المتصوفة؟.. هنا لن نستطيع الإجابة بصورة مباشرة إلا مسترشدين بالمتاح أمامنا من "سيميولوجيا النص" – أي العلامات والرموز الدالة المتوفرة في خلاله – ولقد يتسنى لنا التقاط بعض الأمثلة والتي تصبح بدورها أكثر قدرة على التعبير عن "الأداء السيميولوجي" بثنايا النص. فإذا قمنا بتجميع ما يلي من علامات ورموز كـ (الغرفة المغلقة قرينة الـ "فوبيا" – موسى وعصاه – الدودة الزجاجية الخضراء التي تسعى وتتعملق وتلتهم وتلفظ).. حينئذٍ سنجد أننا إزاء ما يمكن تسميته "تناصًا" خافتاً يتوكأ على قصة نبي الله "موسى" و "فرعون مصر", وذلك بقصد التنبيه على أن النص يتمحور حول ثيمة "المخلّص", وبالتبعية سيكون لما يواجهه هذا "المخلّص" من وقائع مخصوصة, دورًا هامًا في إظهار ما يقاسيه من اغتراب وعذابات لتحقيق غاية "الخلاص", حتى وإن لم تكن هذه الغاية قد طرحت بصورة معلنة.. فالمخلص قد جاء على شاكلة عادية, عبثية, وليس مثقلا أو مؤطرًا بأعباء السماء. إذن وعبر تلك الزاوية من زوايا "الرؤية الأدائية" يجري التأكيد على نزوعٍ صوفيٍ أصيل يربض بأعماق "النص", إذ يمثل مفهوم "الخلاص" جوهر "الصوفية" في عمومها, وهذا باعتبارها "فلسفة روحية" تضطلع بتحرير الإنسان من الذنوب والخطايا...

(..اعتدل تمطى.. راقب ضوء النهار من خلال الشيش كمخلوق تنزل من كوكب آخر ففوجئ بأعجوبة النهار.. جال ببصره يتلمس معالم غرفته التي كان بابها غير محكم الغلق.. نهض تناول منشفته, وضعها على كتفه.. ابتسم لمقبض الباب.. تلمسه يناجيه.. خرج باتجاه الحمام. صفر بفمه كعادته غير أنه تراجع.. حاول أن يتذكر لون بيجامته بعد أن أحالها السائل اللزج إلى اللون الأخضر.)

أتت النهاية أخيرًا, ولكنها لم تأت بالحل كما يُنتظر من النهايات بشكل عام. فبطل القصة يستيقظ من النوم ولكنه يكتشف آثار الحلم في واقعه, إذن لم يكن يحلم! أو أنه ما زال يحلم!!. لقد أبدع "القاص" في إحياء هذه المخاتلة والمحافظة على درجة حضورها منذ بداية الحدث وحتى نهايته مرورًا بتطوره الدرامي. الأمر الذي يضفي على هذا العمل القصصي بامتياز, قيمة استثنائية من بين أعمال المجموعة. فهو يعد نموذجًا قويًا لتظليل دور"الأداء الذهني" في إنجاز عملٍ فني ما.

المحاولة الثالثة/ التماهي.. في قصة "حتى عرفت أن للفيروز طعم آخر" صـ11, سنلحظ أن هناك ركيزتين مؤسستين في بنائية هذا العمل على المستوى الأدائي. أولهما: أن "الراوي" هو ذاته "شخص القصة", ذلك الذي "يصف" و"يبوح" في آن واحد وبلا ازدواجية تقريبًا. وثانيهما: هو تحول ضمير "الراوي" من مخاطبة المستمع – القارئ – إلى مخاطبة "المروي عنه" على نحو يحمل طابع المفاجئة. وتأتي هاتان الركيزتان للإشارة بجلاء إلى حال من التماهي الحادث بين "شخص القصة" وما يرويه, ولكنه حال شديد التعقل والخصوصية, إذ يقترن فيه الروحي – التأملي/ غير المحدد – بوجود نشوة حسية – مادية/ محددة – إلا أنها من الرقي بحيث تنسجم قيد هذا الإطلاق التصوفي في إطار واحد.

(كان الليل ساحرًا صحوًا تداعبه نسمات أذن لها أن تصالح خلق الله وأذن لها أن تصالح خلق الله على خلق الله.. حتى النجوم تلألأت تستعرض سحرها وفتنتها وانفرادها بنثر الجمال بلا تمييز وبلا استثناء. نامت على فخذي بطرحتها التُل, قبلتها واحدة لم ترو غلتي بعدها قُبل.

لما هالني الخراب المنتظم زادني إصرارًا فآثرت مواصلة الصعود غير آبه بذلك التراب الناعم المنبعث مع الخطو.. كان الجدار الأيمن مقوسًا تجاهي لم يتبق منه سوى هذه القشرة الجيرية الصلبة.. بالجدار كوة وحيدة دعتني فلم أفكر ولم أتردد, دنوت حتى اقتربت حتى صرت في القلب.. عالم آخر من النور المكثف يكتنف الموجودات وينفذ إلى القلب.. واقفة لها صلوات سلام وطمأنينة يلفها بهاء الفيروز وانعكاساته من أقصاها إلى أقصاها.)

كان من الأكثر موائمة اجتزاء الفقرة السابقة على هذه الشاكلة المطولة. ليس فقط كي تفي بإيضاح ما أشير إليه آنفاً بحدوث حال من "التماهي" المتباين سطوعًا وخفوتاً بثنايا السرد, وإنما أيضًا كي يُرَىَ من خلال الإطالة مدى هذا التوافق الواقع بين اللغة المستعملة وموضوعِها, وذلك في تضمين "أدائي" للجانب الآخر من المعنى الثنائي لحال "التماهي", وهو الجانب الشكلاني.

(كنتُ وأنا أخطو متثاقلاً على السلم الترابي يحضرني هذا العطش الممتد حتى وأنا أستمتع بصلواتها, فأظن أن من فرط قسوته لا سبيل إلى الفكاك منه.
صلواتك كانت تملأني أمنًا ورغبة في البكاء.. كان وجهكِ ولم يكن هو.. تبدل ثم تبدل ثم أطل.. أعرف وجوههن جميعًا لكنهن وجهكِ وصوتكِ وصلواتك)

على حين غرة يتغير الضمير من المبني للمجهول/ الغائب (بصلواتها), إلى المبني للمعلوم/ الحاضر (صلواتك). وهو ما جاء فريدًا إلى حد كبير, مقارنة بالمتعارف عليه من وحدة الضمير السارد على المستوى البنائي لعمل سردي واحد, لاسيما وإن كان هذا العمل متخذاً لقالب "القصة القصيرة" فالأخير لا يفسح المجال بصورة كافية لهذا النسق من التجريب البنائي!.

(جثوت أتضرعكِ أن تأتيني فأنا أحتاج إليكِ, إلى حنانها وعطفها وحدتها, أمد لكِ يدي, تمدين يدك.. لامستي أطراف أناملي.. لو أنكِ قبضتي على أصابعي كانت ستكون برودة الراحة, لامسني صدركِ كان أحلى من فرط خيالي حين تصورت الحور العين, بكيت حتى نسيت أن أتوقف عن البكاء فبكيتِ معي)

هنا يبلغ "التماهي" ذروته, حيث تمتزج الضمائر, والأجساد, والدموع, في نهاية ذات حسٍ مأساوي شفيف. فلم يكن من المفاجئ أن يُستدعى هذا الضمير الجديد (حنانها وعطفها وحدتها) والذي قد يحتوي في باطنه منحىً "أوديبيًا" مقتصدًا يرمي إلى اجتلاب صفات أمومية بعينها وخلعها على شخص الحبيبة. وذلك للتوكيد بأن العمل سينتهي على خلفية نفسية, لا روحية, بغية الانتصار للوجه الأهم من وجهي "التماهي" ألا وهو الوجه البشري.


ختامًا:
لقد سعدت كثيرًا بقراءة هذه المجموعة القصصية, وبالتعامل معها نقديًا. فقد أتاحت لي فرصة الوقوف على زاوية جديدة من زوايا النظرة النقدية إلى الفن. الأمر الذي لم يكن ليتاح تجريبه إلا في ظل وجود المادة الفنية الجيدة. لذا أرجو من الله أن أكون قد وفقت في تناول ما ورد من عناوين, ولو بقدر من الحياد والموضوعية.

4 / 213




• الحركة إلى جوار عمل سردي...

"نقد تطبيقي" لمجموعتين قصصيتين:

1- "أشياء لا تجلب البهجة" مجموعة قصصية. للقاص/ عبد الله السلايمة.
2- "بائعة المناديل" قصص قصيرة للناشئة. للقاصة/ سهير درويش.


تمهيد:
«وكما أن الذكاء ليس وظيفة الحياة، كذلك الجملة الذكية ليست طبيعية أيضًا»(1). وردت الجملة الذكية بكتاب "إنريكي أندرسون إمبرت" الشيق "مناهج النقد الأدبي" في معرض حديثه عن ضرورة وجود الناقد نسبة إلى وجود المبدع. وأعتقد بأن كل شكل أدبي (يُعنى فيه بارتكاب السرد تحديدًا) لابد وأن يكون كاتبه حريصًا على معرفة "قيمته الأدبية" – قياسًا على ما تم إنجازه تراكميًا بذات الشكل. ويُستكمل الاعتقاد بأن هذه "القيمة" قد تصبح نسبية، ومؤقتة، بمجرد أن تنشأ. ذلك أن فعل "التقييم" هو فعل "فردي" بالأساس، يتغير كلما تواجه ما يُعمل على تقييمه بفعل "تقييم" جديد. لذا فلقد قدرت أن التمهيد سيكون واجبًا لتمرير "اتفاق افتراضي" حول فحوى عدة مفاهيم؛ هي بديهية التواجد عندما سيتعلق الأمر بممارسة نقدية في شأن "عمل أدبي" ما. ويكون ذلك بهدف ضبط وتوحيد هذه المفاهيم على مستوىً معرفي ثنائي (كاتب/ قارئ)، بما لا يُحدث نوعًا من ازدواجية "الدال المعرفي" – على الأقل – في خلال هذا الخطاب النقدي؛ الانطباعي بقدر لازم، والذي أريد به أن يكون خطابًا موضوعيًا، لا ينحو باتجاه التعقد غير المبرر، أو التبسط بتفريط – في تناول ما سلف ذكره من "أعمال أدبية". خاصة وأن "النقد" كمكون عقلي، سليقي (يخضع بتفاوت نسبي لمعاملات الكافة، ولا يقتصر على فئة بعينها في فصل وتصنيف وإنتاج الرسائل البشرية)، بدا وقد أفاد كثيرًا من منظومة "العلوم الإنسانية" بشقيها، الكلاسيكي، والمحدث.. لكنه الذي حصَّل أيضًا قيد هذه الإفادة، ما هو بالغ من التراكبية، والمذهبة، والعصبية الفلسفية.. الأمور التي لا يتحملها أي من محددات "المعارف الإنسانية" الأخرى؛ بذات درجة "نقد الأدب".
1- مفهوم الأدب: هو ليس "كل شيء" يتخذ شكلاً أدبيًا.
2- مفهوم السرد: السرد اصطلاحا: حكاية الأحداث بحيث يتّصل بعضُها ببعض مع مراعاة التسلسل الزمنيّ لحدوثها(2).
3- نمط السرد: السمة البنائية الغالبة على السرد (وليس البنية في ذاتها)، والتي رأى السارد أنها الضامن الأمثل للمرسل منه، باتجاه المرسل إليه. فإذا قلنا أن الماء هو السرد، يكون شكل الإناء هو نمط السرد، وتكون مادة الإناء هي بنية السرد.
4- الأسلوبية: كيفية صياغة "المادة" عبر "اللغة". (كيفية صوغ اللغة عبر كتابتها).
5- الكتابية: جملة معرفة الكاتب بفعل الكتابة.
6- مفهوم النقد التطبيقي: هو مواجهة النص مواجهة شاملة بقدر ما استُدعي، أو تُوفر، من "رؤية نقدية". وفي نطاق ما يقتضيه النص من تطبيقات هذه "الرؤية".
انطلاقًاً مما تحدد، سيمكن القول بأن الحديث عما يُقصد بـ "الرؤية النقدية"– سيكون حديثاً ذا وجاهة اعتبارية، كذا مفترضة. فالـ "رؤية" للوهلة الأولى قد تبدو مفردة مطاطة، وعمومية، من حيث قابليتها الإفضائية للتأويل، فهي ليست بالقطعية الموكلة لمفردات من قبيل "منهج".. أو "طريقة".. أو "نظام"، هذه المفردات الحاسمة باتجاه التدقيق، والتأطير، والعلمية الشديدة. فعلى سبيل المثال، سيصلح أن نقول: "منهجًا قانونيًا"، أو "طريقة كيميائية"، أو "نظامًا إلكترونيًا".. لكن ما لن يصح هو أن نقول: "رؤية رياضياتية". كما أن المثال معكوسًا يطرح ذات النتيجة. من هنا يتضح أن تلك المرونة والمشاعية – المشروطتين بوجود "الرؤية النقدية" لدى الرائي – هما الحيثيتان اللتان يتحتم توفرهما عند القيام بأي ممارسة نقدية تجاه مادة كتابية ما (الآداب تحديدًا). بيد أن كل ما سبق لا ينفي، أو يراوغ، في وجود معايير معتبرة للقياس النقدي، هي عصارة جهد إنساني حثيث في مسعاه، بغية الارتقاء بما اصطلح عليه عموميًا بـ"وجهات النظر"، إلى ما سما من "توجهات التنظير".


• "أشياء لا تجلب البهجة" وإحداثيات البداوة بالقصة القصيرة.

عند التصفح الأولي للمجموعة القصصية "أشياء لا تجلب البهجة"، وهي الواقعة في قسمين رئيسيين يحتويان تسع عشرة قصة، قد يقف القارئ شيئاً عند عنوان "قبل الإهداء"، وهو بيت لـ"أبي الطيب المتنبي" يقول فيه: "حسن الحضارة مجلوب بتطرية / وفي البداوة حسن غير مجلوب". الأمر الذي ارتُجيَ منه أن يهيئ مدخلاً جيدًا لعالم قصصي متفرد السمات، وهو ما قد حدث بالفعل، إذ يَخلص القارئ نهاية، إلى نتيجة كلية؛ مؤداها: أنه قد طالع (بغالبية القصص) عالمًا فريدًا، بمواضيعه، وبيئته، وطبيعة علاقاته الاجتماعية. ألا وإنه عالم البادية، المُعَايَن، المحدد، الصارم، اللصيق بذهنية البدوي كمضاهٍ لوجوده. أيضًا هو العالم الذي يستحثه أن يخوض صراعًا صيروريًا، بهدف تطويع مجريات الحضارة (اللعينة)، لصالح البداوة (المقدسة)، وأحيانًا ما يحدث النقيض، ليكون تنويعًا على ذات المعادلة الاستمرارية (البدوي = الحضاري). ولقد تتجلى طبيعة ذلك الصراع واضحة – أو لنقل تُختزل– بإحدى قصص المجموعة؛ على لسان شخص القصة "المروي عنه" عندما يخاطب "الراوي" بـ: { أنهم لا يروننا غير كائنات صحراوية متوحشة، يجب عليهم ترويضها...} (دعني أحبك صـ77) ولكن: هل يكون هذا هو كل شيء؟. والإجابة هي أنه: بالقطع لا.
بالقسم الأول، وهو بعنوان "بدويات"، سنقرأ فقرات من عدة قصص:
{ رأى أن من الغباء التفريط في فرصة اعتبرها نادرة، ووجدها مواتية تمامًا لتصفية كل حساباته القديمة، ليس معي فقط، بل مع شجرة الجميز الماثلة على الدوام أمام عينيه كعقاب على ذنب لم يرتكبه! ولأنه – بحكم منصبه كزعيم قبيلة – يمتلك كل أساليب العقاب الكافية لردع كل من تسول له نفسه مثلي على رفض قانون القبيلة وفلسفتها، أصدر أوامره لرجاله المرابطين حوله بربطي إلى جذع شجرة الجميز، مؤكدًا عليهم ضرورة اتخاذ كل الأجراءات اللازمة لمعاقبة كلينا..} (الآخرون صـ11)

{ ربما بعد أن توطنت المدينة واستوطنتني، أتعامل بلامبالاة، يسمونها في البادية "همالة"، مع قضية يعتبرها البدو حساسة ومصيرية، ويرونها لا تحتمل التأجيل، بل إلى ترجمة فورية وحاسمة لمقولة "هاملت": "أكون أو لا أكون"..} (دعوى لا تحتمل التأجيل صـ 15)

{ يتعثر في خطاه، وهو يهم ليدرك خفة عمته "كما يطلقون على زوجة الأب في البادية"، بينما كانت تتعثر في مطبات حظها العاثر، الذي تجلى في أسوأ صوره، يوم أجبرها أبوها على الزواج من ابن عمها.} (أحزان جائعة صـ41)

ربما يُتصورُ أن البداوة كـ"هوية مجتمعية" قد تشكل محورًا أساسيًا، يفرض نفسه بقوة عند تناول قصص المجموعة بقراءة أولى (بحثًا عن سمة غالبة تصلح كمنطلق نقدي)، وهو تصور له مسوغات فائقة أهمها كون "القاص" منتسبًا إلى ذات الهوية الاجتماعية، مما سيجعله وسيطاً قياسيًا عند إضاءة عالم غير مطروق – وإن بشكل نسبي. عندئذٍ قد يُشتق بأذهاننا تصور آخر، إجرائي، ويدور حول حتمية حدوث التقاطع بين "نقد الأدب" و"علم اجتماع الأدب"، عند تناول تجربة أدبية ذات مرجعية اجتماعية بالنقد.. ولاسيما وأنه التقاطع الذي قد يطول مداه بما يعمل لصالح الأخير كناتج منطقي مؤكد، فهو بدوره ما سينشط في تضليل الغاية النقدية المأمولة من هذا التناول. عدا أن قراءة أخرى، متمعنة، قد تفكك هذا التداخل "المعرفي"، فتجعلنا نولي اهتمامنا الأكبر بـ "نمط السرد"(3) المتبع في بناء المتن القصصي، ليس بنية الوقوف على جمالياته، بقدر التعرف على تسميته، وكيفيته البنائية، مع العلم بأن ديدن النجاح في ذلك برأيي؛ قد يتأتى من خلال وجهة نظر "جيرار جينيت" في كتابه الهام "مدخل لجامع النص" حيث يقول: «وهكذا نرى أنه لا يوجد بشأن ترتيب الأنواع الأدبية موقف يكون في جوهره أكثر "طبيعية" أو أكثر "مثالية" من غيره، ولن يتوفر هذا الموقف إلا إذا أهملنا المعايير الأدبية نفسها، كما كان القدماء يفعلون ضمنيًا بشأن الموقف الصيغي»(4).

نمط السرد: ملمح رئيسي.
{ ربما منحتني نشأتي البدوية الحساسية الكافية، يسميها البدو "فراسة"، لتكهن ما سوف يسفر عنه غضبه، لذا حاولت احتواء الأزمة بلباقة تحفظ له كبريائه، وتضمن لي تفويت الفرصة على الجميع من وضعنا في موقف محرج، لو حدث، من المؤكد سوف يخصم من رصيد مكانتنا في القبيلة. تفاديًا لذلك لجأت على الفور لاستخدام براعتي في امتصاص ثورته، مؤكداً في حذر حقه المشروع فيما طلب، غير مدرك أن إعلاني نسف الكثير من طموحات إخوتي، أو ما يمكن تسميته أطماعهم المستقبلية.} (أمنية أخيرة صـ 19)
{ اتسعت حدقتا عينيه دهشة، ثم سألها بصوتٍ لا تخلو نبرته من استنكار قائلاً: لم؟! تصاعد دم الحياء إلى وجهها، وفي رد اختزل كل مرارتها وسخطها، أجابته، قائلة في حيرة: لأن أهل الصحراء لا يفضلون مصاهرة الغرباء..! وبشيء من الدهشة، قال متعجباً: لكنهم يتزوجون منهم!! ولما لم تجد ما ترد به عليه، أشاحت بوجهها عنه للحظة، ثم طلبت إليه في رجاء، منحها الفرصة الكافية لتدبر أمر قضية، تعي تمامًا مدى خطورة الخوض فيها..} (إنهم لا يفضلون الغرباء صـ23)
{ ولأن تلك عادات أهل الصحراء، ويحفظونها، كانوا قد أوكلوا قبل مجيئهم لواحد من بينهم بتلك المهمة، لذا ما أن أتم الشيخ مطلبه، حتى وقف الرجل معلناً أمامه، عن استعداده التام لتحمل كافة ما يراه من شروط، تضمن "لطنيبته" حقوقها، وسلامتها بعد عودتها إليهم.} (رغبة عدوانية صـ28)

{ كان يمكنه التراجع عن قراره، لو لم يكن لدى أبيه من المال ما يسمح بعرض مكافأة أكثر سخاء، ولم يتعجل في اتخاذ ما اعتبره إجراءاً احترازياً، اعتقد أن من شأنه كسر حدة عداء خصومه، وبالتالي خفض سقف مطالبهم، أثناء جلسة قضاء عرفي، تتخذ أطراف محايدة التدابير اللازمة لعقدها بين الطرفين. اعتقد أبوه أن أية زيادة في عرضه، كانت ستدفع "جماعة نعمة" للظن بأن قلبه يدمي حزناً لغياب ابنه، فيغنمون الفرصة للنيل منه، لذا تعمد الإقلال من قيمته في نظرهم، واكتفى بعرض مبلغ ضئيل من المال، أعلن عنه في مجالس البدو، مكافأة لمن يعيده إليه.} (عبث صـ35)
أول ما يلحظ المُدقق بالمجتزءات النصية السابقة، هو سرد غير متكلف لأن يكون سلسًا، وبلا تعقيدات بنائية تذكر، مجرد حكي بسيط عبر راو لـ "أحداث خبرية" – كانت لَتحتمل الأعمق من المشهدية، أو الوقوف الوصفي بالأقل (ناهيك عن تكثيف تحليلي قد يسهم بفلسفة هذه الأحداث)، المكونات الحكائية التي لم تؤثر استعمالاتها سوى بأضيق الحدود، وأوضحها تقريرية، فتسبب ذلك بتمييز نمط سرد "إجماليٍ"، وهو النمط الذي يُعد محوريًا في سرد الرواية (كونها عالمًا كليًا بالأساس)، وهو ما ليس كذلك بالنسبة للقصة القصيرة (كونها في طبيعتها كجنس أدبي ليست مرادة بالكلية، بل العكس يكون الصحيح). ولكن النقطة الإشكالية لا تقع ههنا، إذ أن "الإجمال" كـ"نمط سرد" بالغ المركزية، والتطور، والشيوع، هو بالطبيعة لا يُعد حكرًا على نوع أدبي بعينه، كما أنه كأداة شكلية؛ فقد يكون مضطلعًا بمهام من قبيل تكثيف أو ضغط موضوع النص. إن النقطة الإشكالية بتفسيري تقع عند: كيفية استخدام هذا "النمط" بعملية البناء السردي، ومدى إمكانية تطويعه وفقاً لمجريات القص (وليس الرواية)، أيضًا مدى قابليته لاحتواء – دمج – أنماط شكلية أخرى كـ "النمط التفصيلي" و "النمط الحواري". جملة المعطيات التي قد تحضنا على طرح هذا التساؤل: عن: ماذا يكون الفارق بين الإجمال والتقرير بعمل سردي؟. يقول "إمبرت" في كتابه "القصة القصيرة – النظرية والتقنية": «ومن خلال البعد الاجتماعي نجد أن الكلمات تحمل معاني لا تشير إلى خبرة معينة بل تشير إلى عناصر تم انتقائها من تلك الخبرة.»(5)، وبحسب ذات المصدر ولكن في سياق منفصل، يقرر: بأنه توجد أشكال متعددة من السرد تشبه القصة، لكنها ليست هي، ومن بين تلك الأشكال قد نقف حيال ما أَطلق عليه اسم "مقال التقاليد"، وعرفه بأنه: «نوع يقع بين علم الاجتماع والخيال، وبه يتم رسم لوحات تتضمن مشاهد أصلية مأخوذة من الحياة.»(6). وأقول في ملاحظة جانبية: ربما لو أن "القاص" قد أولى العناية الأكبر لتغليب "الإنساني" المعني بتظليل دواخل الشخوص القصصية، على "الأدائي" المشغول بترسيم أدوار ذات الشخوص بمساحات سردية محصورة بين الغاية والوسيلة، لكانت الأمور قد اختلفت ومن ثم اتجهت بأكثر إلى حيث ما هو منشود، أي أنه ذلك الاختلاف الذي تبدى (بقدر ما) في قصة "خطاب ناسف": { ولأن وجه المرأة في عرف البادية عورة، ولا يجوز كشفه على رجل غريب مثل المصور "ضرغام" الذي سوف يجيء من المدينة في صباح اليوم التالي، لكي يلتقط لهم صورة عائلية تلبية لرغبة ابنه القابع في غربته، قضى الرجل ليلته يبحث عن حل مناسب لمشكلة ظهور زوجته في الصورة!} (خطاب ناسف صـ33)
برغم أنه لم يطرأ سوى تغير بنائي طفيف على "نمط السرد" المشار إليه آنفاً، إلا أنه قد أُوجد ما صنع معادلاً قصصيًا ناجزًا، وهو ما يمكن تمثله في تلك المتابعة النفسية، "التفاصيلية"، لشخص القصة من قِبلِ "الراوي"، ما أودى بالحدث إلى تسارع درامي جيد من حيث تناميه الارتقائي، وأعطى حيوية مشهدية للسياق ككل، أو هي بالأحرى حيوية قصصية تخص القصة القصيرة – وتمنحها من التوتر ما هو مميز لها عما عداها من أجناس أدبية مجاورة. ولقد يجوز أن يذكرنا ذلك بالمتتالية النفسية التشيكوفية – نسبة لأنطون تشيكوف – في قصته التقعيدية "وفاة موظف"(7): { فمن يضمن له إذا ما وافق على ظهور وجه زوجته في الصورة مكشوفاً، ألا يعطي المصور لنفسه الحق في الاحتفاظ بنسخة أخرى منها، يمارس في خلواته متعة الفرجة على جمال وجه زوجته الصحراوي، وربما دعى أصدقاءه لمشاركته تلك الوليمة!.} (خطاب ناسف صـ33)

المقابسة: ملمح جانبي.
إن حيلاً "كتابية" من قبيل "التناص"، أو "الاستلهام"، بالاتكاء على الميراث الإنساني الأدبي، أو تمثله، لهي حيل مشروعة إذا شُفعت بتخريج الجديد، حتى وإن يكن ذلك الجديد شكليًا – لا جوهريًا، وهو الشيء الذي حدث مع بضع من قصص المجموعة: { توارى الشيخ خلف إجابة ضبابية، ثم لاذ بصمته القاتل، حتى لاح له شبح شجرة "السدر"، شعر برعدة باردة تسري في أوصاله، ومن خلف دموع خبيئة في زاويتي عينيه، قال لابنه في مرارة: قف. أنزله الابن مرتبكاً، ثم أدار عنان جواده، وقفل عائداً. فيما كان الشيخ يخطو بتثاقل وخوف باتجاه السدرة، ولما بلغ جذعها، لم يكن يرى من عتمة تفزع لها الأفئدة، غير ملامح وجه أبيه الغابرة، الذي كان قد تركه من قبل، وبلا شفقة بجوار تلك الشجرة.} (للماضي أبعاد أخرى صـ31)
{ مرض منح الشيخ نهاية كان يتمناها، ولم يمنحني غير فرصة المشاركة في تشييع جنازة، ما أن أتم أولاده طقوس مراسمها، حتى جاءوني كذئاب جائعة! وكأنني لا أعرفهم، وبطريقة فضحت رغبتي الشديدة في الخلاص منهم، جئت لهم على الفور بصندوق، ما كاد أكبرهم يفتحه في لهفة، حتى صدمهم جميعاً مرأى جلباب أبيهم المتسخ...} (الوديعة صـ40)
{ ولم يجد بدوره أمامه من خيار آخر، غير الموافقة على نصحهم له بتقريب السائس منه، ليكسب وده، وبالتالي ولاءه. لكنه لم يكن يعرف أن السائس كان قد غادر المكان تاركاً خلفه رسالة، لم تنكر أم الثرى السابحة في لذة زمنها الغابر ما جاء بها، وأكدت له صدق فراسة سائسه، قائلة: أن أباه كان بالفعل – في يوم ما – شحاذاً...} (فراسة صـ40)
{ وقبل أن أهم بالنهوض تاركاً له المكان، لطمني بسؤال ماكر لم أتوقعه، قائلاً: هل تقايضني؟! فرددت في دهشة تملكتني وأنا التفتُ إليه، قائلاً: علام!
قال وهو ينحرف بزاويتي عينيه قليلاً: على حلمك!!
وكأنه يبرم صفقة، ويثق في إتمامها، مضى قائلاً بصوت تراوحت نبرته بين الصفاقة والتهكم: كم يكفيك من المال لتتنازل عن حلمك..؟!} (استباحة صـ53)
باشتقاق "أبي حيان التوحيدي" في كتابه "المقابسات"، سنجد بأن ما جرى إحداثه على القصص المجتزأ منها فقرات بعاليه (عدا الأخيرة منها)، ما هو إلا نوع من المقابسة البنائية، الشكلية – لقوالب أدبية، تراثية (شفهية في غالب الحال)، والتي يمكن دعوتها بقوالب "الوعظية/ الحكائية". وتجدر الإشارة إلى تراوح أن تكتفي المقابسة بالمنحى الشكلي المجرد، أو تَدفع إلى ما يعرف بالاقتباس الكامل. القصة الأخيرة بعنوان "استباحة"، يوجد بها مقابسة ذات نوع مختلف بدرجة ما، إذ أنها تعمل في وسط مغاير عن الشكليات السابقة، وهو وسط الثيمات، فالثيمة "الفاوستية" لو جاز التعبير، هي بالأساس ثيمة وجودية كبرى، تُعنى برصد الصراع الأزلي ما بين الإيمان واللا إيمان، والذي تجسد بأجلى صوره في رائعة "جوته" الملحمية: "فاوست"(8).

الرمز: ملمح أخير.
«إن اكتساب المفردات المعجمية يطرح ما تدعى أحياناً "معضلة أفلاطون" بشكلٍ حادٍ جدًا. فهي، كما يعي أي شخص حاول أن يؤلف قاموسًا أو أن يعمل في علم الدلالات الوصفي، مسألة صعبة جدًا أن نصف معنى كلمة، وهذه المعاني تكون ذات تعقيد كبير وتنطوي على المفاهيم الأكثر أهمية، حتى في حالة المفاهيم البسيطة جدًا، مثل ما يعتبر بمثابة شيء قابل للتسمية.»(9)، هكذا تحدث "نعوم تشومسكي" بكتابه "آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل"، عن كيفية اكتساب الإنسان لما يمكن دعوته بـ "اللغة الكاملة"، دائرًا في محيط الحوزة الكبرى لأطروحته المركزية عن "البنى العميقة للغة".
بالقسم الثاني من المجموعة وهو يحمل ذات عنوانها " أشياء لا تجلب البهجة"، قد يحدث أن تتبدى فرادة "أسلوبية" لا ينبغي إغفالها. وعلى الرغم من كون هذا الملمح منتميًا بالأكثر إلى "عالم اللغة" عن عالم "النقد الأدبي"، فالأكيد أننا سوف نعثر بما يمكن قراءته على مستوى الأخير: { كأنها تشاطره أحزانه تخلت الشمس عن بريقها، وزحفت متثاقلة باتجاه الغروب، حينما كان يعاني أحد نوبات اشتياقه إلى "شمس"، ولما حل الظلام، ولجأ إلى مخدعه، رأى فيما يرى النائم أن كبير القبيلة يشير إليه بإصبعه، فحاصرته على الفور كل جنود آلهة الغضب، وأخذوا يقرعون حوله صنج الثار بوحشية أفزعته..} (أن تكون أحمقاً صـ61)
بلا اجتهاد في الملاحظة، سوف يُستشعر أن نوعًا من الرمز قد نشأ، وذلك عبر ذكر "الشمس" لمرتين، الأولى معرفة كحقيقة، والثانية مُنَكَّرة كإسم. فبوجود هذه القطبية الدلالية، يؤسَس لغطاءٍ رمزي متصل ما اتصل السياق، ويتمدد هذا الغطاء بمعدل تنازلي للغموض كلما تقدمنا قراءة بالمتن القصصي، فيَقسم ذلك الغموض عقلنا التأويلي إلى قسمين فاعلين: الأول سطحي يأخذ بالظاهر ويستند إلى عدم وجود فراغ حقيقي يُمَكّننا من الدوار حول "الحقيقة". والثاني بحثي يستبطن كل ما هو محل تأويل مستدلاً بكافة النتائج للوصول إلى العمق المتكرر/ الصحيح: { فيما كان "سيد" غارقاً في لذة حلمه الموشى بالأمل، يتابع في استغراق تام مراقبة الدخان المتصاعد من الموقد. كان يدرك أن مجرد التفكير "بشمس" يعد مغامرة غير محسوبة العواقب، لكن ثمة شعور طاغ تكون بداخله، لم يستطع تجاهله، وبدا يدفع به بقوة للإعلان بلا خوف: أن حلمه بها ليس جريمة، بل حق مشروع، ولن يتخاذل في الحصول عليه..} (أن تكون أحمقاً صـ61)
لا تفاصيل عن "شمس" عدا مشاعر "سيد" تجاهها، وذلك ما يحقق المعدل المطلوب للشفِ عن جوهر الرمز، الحل، لحظة التنوير، أو أيٍ من المسميات المضطلعة بمهام الإيضاح. فهكذا يستمر الحال (الترميزي) متدرجًا بكينونة الرمز (شمس) صعودًا وهبوطًا، ولا يعطي الفرصة باجتراح دلالة قاطعة، إذا نحن لن نحصل على إجابة واحدة بشأن هذه السؤال المركب: هل "شمس" هي الشمس التي نعرفها، ومكانها السماء؟. أم أن "شمس" هو اسم لضمير غائب، فمن ثم يعرفه فقط "المروي عنهم" من شخوص القصة؟. هنا تكمن أسلوبية ناجحة تخص "القاص"، كفل من خلالها الحفاظ على/ والدفاع عن: هذه المخاتلة التخليقية، المتصلة، والقصدية، بآن واحد. وبعيدًا عن أن القصة في ثلثها الأخير قد أُسقطت إحاليًا على الواقع (عبر تلبسها لوقائع حادثة شهيرة)، فقد أصابت نهاية ازدواجية تأويلية، تتماهى وفق نوع (أو غموض) عالمها: { ثمة شعور غامض سيطر عليه، ما لبث أن تبدل إلى خوف يشع من عينيه، حول ما إذا كان بإمكانه عقد لقاء عاجل مع كبير قبيلة، كان قد حصل من قبل على وعد من أعوانه بتحقيقه، لكنه ما أن تقدم الحشد في خطى حذرة، حتى استل واحداً من حرس كبيرهم بندقيته، صوبها في لحظة سقطت من حسابات الجميع إلى رأس "سيد"، فسقط على الفور في بركة دماء متخثرة، فيما مضى موكب زعيم القبيلة..، يشق طريقه دون اكتراث....} (أن تكون أحمقاً صـ63)
نهاية؛ أدهشتني قراءة هذه المجموعة القصصية، الحافلة بما يمكن تناوله "تطبيقيًا" عبر أوجه نقدية مختلفة. وقد ارتأيت أن ثمة مشابهة فيما بين كاتبها "القاص/ عبدالله السلايمة"، وعددًا من حكائي أفريقيا المعروفين أمثال: النيجيريان "تشنوا أتشيبي" و"سبريان إكوينسي" والجزائري "مولود فرعون"، ولم تأت المشابهة بالطبع من حيث حرفية الشكل الكتابي (الأسلوبية)، ولكنها أتت من حيث واحدية العالم الذي يطرحون للآخر – البعيد – رؤاهم في ثناياه، ألا وهو العالم ذو الطبيعة القبائلية، أو العشائرية، والذي يُكرز لرصد تحولات هذه المجتمعات المغلقة – الصغيرة – في ظل واقع دَوَامي التغير، سيان أكان هذا التحول "ذاتيًا" فيتم رصده بالتركيز على "الفرد" إزاء القبيلة، أو "جمعيًا" فيتم رصده من خلال الحديث عن "القبيلة" كوسط جامع لأفرادها.. كتلة الأمور التي عادة ما تعطي هؤلاء الكتاب من "التمايز الأدبي"؛ الكثير مما قد لا يتاح لغيرهم من الكتاب.



• "بائعة المناديل".. عندما يصبح القص لعبة.

بداية سيتوجب التنويه عن "أدب الصغار" كضرورة تضمينية لازمة، عند التصدي لما يخص هذه المرحلة العمرية في شيء. فالقراءة الموضوعية بالتفصيل الواقع أدنى عنوان المجموعة القصصية "بائعة المناديل" – ألا وهو "قصص قصيرة للناشئة"، تقتضي الوقوف على ما يحتويه جوهر هذا التفصيل، بقصد التعمق، وإلقاء الضوء على ما قد يكون مشوشاً من مفاهيم نوعية، ولو كان ذلك بشكل مختصر.
باعتقادي أن الكتابة للصغار حاليًا تعد من المغامرات الإبداعية المحفوفة بالمخاطر، فعندئذٍ: إما أن المبدع سيكون مضطرًا إلى العمل بذات الحيز الرؤيوي الكلاسيكي بقطبيه الأبويين: "كليلة ودمنة" و "ألف ليلة وليلة" في الجانب الشرقي، ثم في الجانب الآخر تجيء "خرافات لافونتين" و "حكايات الأخوان جريم" و "حكايات أندرسُن" وما شابه ذلك من محاولات مكتوبة للتراث الشفهي الأوروبي وغيره.. وإما أن المبدع سيتحرر من أسر الحيز المذكور باختلاق حيز جديد للرؤية، وهو في اعتقادي ما لم يتحقق إلى اليوم (محليًا على الأقل) سوى بالقدر الضئيل، وذلك لصعوبة استيفاء شروط هذا النوع شديد الخصوصية من الأدب. مع التشديد بأن تطبيقات أدبية من قبيل "الأدب البوليسي" أو "أدب الرعب" أو "أدب الخيال"، هي تعامل كأجناس أدبية قائمة بذاتها، ولكل منها خصائصه ومقوماته المتعارف عليها بالمراكمة، كما أنها ليست مقرونة بمرحلة عمرية محددة تُؤْثر على غيرها بالتلقي، لذا فلربما لا يساغ تضمينها بالإطار المفاهيمي لـ"أدب الصغار"، ذلك الإطار الذي يحتوي بين جنباته – تبعًا لعلم النفس – مرحلة "المراهقة" أو "الناشئة"، بمستوياتها الثلاث، المبكرة، والوسطى، والمتأخرة. ولكل ما سلف، فقد عمدت إلى الاطلاع على العديد من التعاريف المتخصصة بالمصطلح "أدب الصغار" – ولم أجد أوفى من ذلك التعريف اليسير، والواضح، الذي ورد بكتاب "أدب الأطفال بين أحمد شوقي وعثمان جلال" لمؤلفه "د. أحمد زلط"، مع التنويه بأننا سنقوم بإبدال "أدب الصغار" بـ "أدب الأطفال" حال القراءة. يقول: «وعلى أية حال، فإن الإبداع المؤسس على خَلقٍ فني، والذي يعتمد بنيانه اللغوي على ألفاظ سهلة، ميسرة، فصيحة، غير حوشية تتفق والقاموس اللغوي للطفل بالإضافة إلى خيال ومضمون...، وقصر مقصود للنص الأدبي الموجه للطفل – كل هذه وتلك – عناصر دالة تدل على اقترابنا من تحديد مفهوم أدب الطفل»(10)، ويكمل "زلط" بذات السياق مع إغفال عدة أسطر: «ومن الخطأ البين، القول بأن مضامين أدب الأطفال (منفصلة عن أدب الكبار، أو أنها نشأت منعزلة عن التيار الأدبي العام، أو يُظن أنها تقوم بمقاييس تختلف عن أدب الكبار)... فقد يَختلف أدب الصغار عن أدب الكبار في تلك الأمور التي لا مفر منها من أن تختلف فيها "العقليتان" و"الإدراكان". ومن ثم فنتاج الذهن من أدب الأطفال يستحق أن يواجه نفس المستويات من النقد.»(11). ومما لا شك فيه أننا حينما سنعرض لمجموعة قصصية ذات توجه فئوي (سني) بعينه – له أبعاد شكلية تختلف إحداثيًا عن السائد، لابد وأن نكون حريصين على عدة أمور، أولها هو عدم الخلط ما بين مفهوم القصة القصيرة (والذي طار إلى سماوات بعيدة) ومفهوم الحكاية (البسيط والسلس)، وثانيها محاولة استثناء الغرض "الإرشادي/ التعليمي" ومعاملته كغرض "جمالي" ما دام قد امتزج بسياق " العمل الأدبي"، وثالثها أن يكون التناول النقدي موازيًا (أدائيًا) لطبيعة ما هو قيد التحقيق. لذا فقد فضلت قسمة هذه القراءة الموجزة للمجموعة إلى قسمين رئيسيين، يشتملان ملاحظات شكلية وأخرى مضمونية، وذلك بهدف إحداث تكامل نظري؛ يرجى أن يصبح منهجيًا.

القسم الأول: تعقيبًا على "الأداء الشكلي".
يُعنى هذا الملمح بتقييم كل ما هو شكلي في حدود "المجموعة"، بغية الوصول إلى ماهية شكل قصصي أمثل يمكن أن يندرج تحت المسمى: "قصص قصيرة للناشئة". وكإجراء تطبيقي سوف نذهب سريعًا للاقتطاف من عدة قصص: {قالت الكاف: ما مصيرنا إن أرادت هذه الشقية أن تُكَوِّن من بيننا كلمة: (خمار) بعد أن ضاعت نقطة الخاء ستكون النتيجة أن تصبح الكلمة: (حمار) وإن أرادت أن تُكَوِّن اسم أخيها (مزار) سوف تكون النتيجة أن تصبح الكلمة: (مرار).} (أروى والحروف صـ 14)
{اجتمعت الأعداد من واحد إلى عشرة؛ لمحاولة الصلح بين بعض الأرقام المتخاصمة. العدد واحد يريد أن يضع صفرا أمامه مثل العدد عشرة، والعدد اثنين يريد النظر إلى شماله بدلا من يمينه} (الأعداد المتخاصمة صـ 15)
{ تسلل عمر إلى الحجرة الصغيرة التي تحتفظ جدته فيها بالأشياء القديمة التي استغنت عنها، ظل يلعب باللعب القديمة وكل الأشياء الموجودة حتى شعر بالنعاس يداعب جفونه. من فوق سطح المكتب القديم كانت تصله أصوات تتحدث، كانت الأقلام الملونة مضطربة، تسأل كراسة الرسم الملقاة على الأرض في إهمال، هل من الممكن إنقاذ الحصان الخشبي؟!} (شقاوة عمر صـ 19)
باعتبار أن "المجموعة" موجهة بالأساس إلى مرحلة النشء – وهي المرحلة الواقعة بين سن 13 و 21 من العمر– إذن فلا غضاضة من إدماج الغرض "الإرشادي" بسياق قصصي، بل إن الأمر سيعد من "جماليات القص" عند هذه الحالة كما نوهنا سابقاً، ولكنه سيُبقى لنا سؤالاً ثنائيًا محيرًا: فعلى أي مستوىً ينبغي أن يكون ذلك الغرض "الإرشادي" المراد بالتلقين.. ثم بأي مزيج ينبغي له أن يذاب عند الطرح؟؟. ومنطقيًا تجيء الإجابة: بأنه لا مناص عن وجود توافق مستوياتي ما بين "المادة الإرشادية المُضمنة" و "المُسترشِد المفترض"، بسبب أن أي إخلال بهذا التوافق قد يعطي نتيجة انطباعية سالبة لمعادلة (الإرسال/ التلقي). ولا يُسَوَّغ القول أن مجرد "القص" بمعرفة لغة فصيحة؛ مناسبة، قد يكفل للموضوع القصصي ذات الفصاحة؛ والتناسب.
{يا صفصافة نبتت في جنات الرب، حملتها مناقير الطير، غرستها في أرض الرب، لتنبت رحمة ترحم من في الأرض. أسكنك الله فسيح الجنات، وسقاك من نبع الفردوس الأبدي، يا من جعل الجنة تحت أقدامك، اشتقت إليك يا أمي في الزمن الصعب.} (رسالة إلى أمي صـ 61)
إن المحافظة على الإطار النوعي – الشكل – الذي يحدده الأديب لنفسه، وبكامل إرادته، يُعد من القواعد التقاليدية غير المكتوبة بـ "الحقل الأدبي"، خاصة إذا ما تعالق الأمر بتوثيق المبدع لإنتاجه في صفحات كتاب. وأعتقد أن "العمل" المقتطف من متنه بعاليه، لا ينتمي إلى "عالم القصة" من قريب أو بعيد، إذ هو ينتمي كلية إلى "عالم الشعر" وتجري عليه معاملة "القصيدة".
{وابتدرني الضابط قائلاً: إنه يقوم بتخدير المهر، ثم ينقله في (الكارتة) إلى فيلا جاركم، ويسقطه في حوض السباحة الذي يستخدمه في تربية أسماك (الباراكودا) المفترسة!} (مزرعة الخيول صـ 36)
{إن إيماننا بالله أقوى من وجودك، ولن يسكت كلمات الحق فناء البشر كلهم، ومع قوة ضرباته انفتح قلب الشجرة... لتسقط آلة مذياع مخبأة بجوفها!} (الشجرة المبروكة صـ 38)
{ووجد نفسه داخل حجرة سرية بها جميع المسروقات المبلغ عنها! فقد كان زعيم العصابة هو نفسه صاحب محل (جوهرة الماس) وأن المحل مجرد ستار للعصابة تتحرك من خلاله.} (ذكاء في غير محله صـ 50)
{وطلب من أحد حراس أحد الحيوانات أن يفتح القفص الخاص بحيوان الكنغر، وأن يضع يده في الجراب الموجود ببطنه، والذي يحمل صغيره داخله، وخرجت يد الحارس بالمحفظة والسلسلة المفقودة.} (حدث في حديقة الحيوان صـ 56)
تعتبر النهاية "المفاجأة" من تراث القصة القصيرة، ولقد تعطيها مذاقاً أدبيًا يميزها عن بقية الأشكال الحكائية، غير أنها برأيي لا تصلح كتبرير لـ "القولبة الشكلية" التي سادت بالقصص المعتمدة في بنائيتها على هذه "الثيمة". فحتى بظل اختلاف مواضيع هذه القصص، والجهد المبذول "جماليًا" في صياغتها، إلا أن تكرارية "القالب السردي" المحدد، والمكون من بداية موجِهة، وعقدة ملغزة، ونهاية مفاجئة، قد أوحت بالتشابه في بعض الأحيان.
{ أخرجت من جيبها كرة صغيرة ألقتها على الأرض؛ فإذ بالكرة تنقسم إلى كرات كثيرة، ابتلعت ما كان على الأرض، ثم انقسمت مرة أخرى، وأخذت الكرات الجديدة ترش الماء وتغسل الأرض} (قارورة العطر صـ 66)
{ في الصباح، توجهت الصديقة لترى ما حدث، وعند وصولها تجمدت في مكانها، وهربت الدماء من عروقها، لقد ماتت صديقتها، وكان وجهها الجامد ينطق برعب مفزع، وعيناها محدقتين في شيء مجهول، وعلى الأرض... آثار أقدام!} (رعب منتصف الليل صـ 34)
{ ممالك الطيور تضم من الأنواع والغرائب ما لا يحصى، وضمن هذه الممالك توجد العصافير، عصفورة كبيرة وحكيمة، جمعت العصافير كي تهدي لهم النصيحة، وخلاصة ما مر بها من تجارب، قبل أن يصبحن أمهات مسئولات} (العصفورة الحكيمة صـ 43)
أثرى ذلك التنويع في الرؤى أجواء المجموعة، وأضفى عليها حسًا قصصيًا نشطاً، متجددًا، ويبتعد بقارئها عن الشعور بالرتابة، أو الثبات على خلفية حكائية جامدة، وذلك بامتياز ما ينبغي أن تكون عليه المادة الأدبية الموجهة للنشء. فالأخير ليس "طفلاً" يمكن ألا يمل من إعادة ذات الحكاية لمرات، وأيضًا هو ليس "ناضجًا" بما يمكنه – مثلاً – من تلقي "مشروع قصصي" عمد مؤلفه إلى العمل بإطار عالم وصفي واحد، وليكن بنية تثبيت حدس معين لدى القارئ. ولكن تظل مسألة الكم والكيف من الأمور الصميمة – عند مناقشة الأعمال الأدبية المركبة على مستوى الشكل، كالمجموعات القصصية، والروايات ذات الأجزاء، والمسرحيات بها أكثر من فصل، والدراما المسلسلة، إذ تتحول أبعاد التقييم عند تلك النقطة إلى ما هو أعقد من الشكل، فيكون المضمون.


القسم الثاني: كيف نزن "قصصًا قصيرة للناشئة" أدبيًا؟.
يرمي هذا الملمح إلى محاولة استقراء منهجي – عبر منظور نفعي متصوَر – لما قد يصيب قارئ "ناشئ" من إفادة، إثر قراءته للمجموعة القصصية "بائعة المناديل". ويكون الهدف من ذلك هو إجراء نوع من التقييم الأدائي، والذي بدوره يعد الأقرب لروح المجموعة، وكذا غاياتها المفترضة.
{ بعث السلطان إلى المعلم للحضور هو والبغل؛ ودع المعلم أهله وجاره، وركب البغل قاصدا قصر السلطان، فوجده يجلس مع كبار رجال الدولة في انتظاره. طلب منه السلطان أن يريهم كيف يقرأ البغل في الكتاب، وكان السياف يقف منتظرًا الأمر بقطع رأس المعلم.} (المعلم والسلطان صـ 8)
{ طلب الهدهد حضور الحمامة واليمامة أمامه. سأل الهدهد كلا منهما، فأصرت كل واحدة على ملكيتها للعش، فلجأ إلى الحيلة وقال: لقد شاهدت العش بنفسي، ووجدت بين القش حبة شعير مخبأة، من تصف لي المكان الذي أحضرتها منه فهي صاحبة العش.} (الحمامة والهدهد الحكيم صـ 22)
{ تجولت عيناي بالغرفة، فإذا عن يميني وشمالي إماء قابضات على مراوح من ريش نعام، وعبيد يدورون بكئوس من الفضة مملوءة بالشراب، وأمامي ما لذ وطاب، وأراني في ثوب حرير مطعم بالياقوت والزبرجد، وأمامي سرير من الذهب، حوله ستائر مجدولة من الفضة، يجلس عليها الملك (شهريار) وكانت عينه تشع وميضا عجيبا!} (معلمة التاريخ صـ 40)
بغض النظر عما قد يجول بذهن القارئ من مشابهات (أو إحالات شفهية) هي بالضرورة لازمة الوجود بشكل أو بآخر – طبقاً لحيثية الفئة المقصودة بالخطاب القصصي، فقد احتوت متون القصص السابقة على فعل "التسلية" بنسبة كبيرة، الشيء الذي سوف يجعلها مادة رائجة على مستوى القراءة، كذلك فإن هذه "التسلية" لم تأت فقط لوجه إحداث "التسلي" بما يجعلها فارغة مضمونيًا، وإنما اكتنزت بين طياتها معان توصيفية رائعة كـ: تحايل الإنسان دفاعًا عن بقائه.. وحتمية أن يكون القاضي بين خصمين متمتعًا بالدهاء والحكمة.. وروعة أن تطلق الذات الحالمة عنان خيالاتها الإطلاقية؛ متعدية بها على الممكن المحدود. وهي معان لم تكن لتتأتى بهذه البساطة التلقائية المتناهية، وهذا التأثير الإدراكي العميق – إذا قيلت بصيغ مقالية مباشرة، أو دون أن تعمل تحت عناية غطاء تصويري ناجع.
{ طالعتني عيناها من الإطار الخشبي جالسة، وبيدها معطف لم يكتمل، وعلى المنضدة (شَلَّة) من الصوف، كلما أمعنت النظر في الصورة خيل لي أن الدمع يرسم طريقا في وجنتيها، أشحت بوجهي بعيدا، رغما عني عاودت النظر إليها، الغريب أن (شَلَّة) الصوف اختفت من الصورة! شعرت بنسمة باردة؛ مددت يدي أغلق النافذة، نظرت تجاه شجرة الليمون بالحديقة، وجدت خيوط الصوف ملتفة حول فروعها.} (شَلّة الصوف صـ 28)
{ لقد دعوت الله أن تفهمني، وقد استجاب الله لدعاء مخلوق من مخلوقاته، أيها الإنسان، أنا أشعر بصداقة وحب تجاهك، وسوف أقص عليك سرا تعلمته من أمي، وهو أن ألتقط من قاع البحر الأسرار التي يبوح بها البشر للأمواج، حتى يخففوا عن كواهلهم الضيق، وكلما التقينا سوف أحكي لك قصة منها، وإلى أن أراك، خذ مني هذه الهدية الصغيرة، إنها من قاع البحر "لؤلؤة" تشع ببريق عجيب، ولكن احذر أن تتفوه بشيء مما تسمعه مني، وإلا لن تراني أبدا، ويكون هذا آخر عهدي بك.} (رسالة اعتذار صـ 90)
خصيبة هي "الفانتازيا" على الدوام، حبذا وإن حُبكت خيوطها كما لو كانت حقيقة معاشة. ويالها بالتأكيد من معادلة بالغة الصعوبة يفرضها المبدع على نفسه، عندما ينتوي محاولة إنجاز ما هو "فانتازي"، بسبب أن تلك المعيارية التخليقية الفاعلة إنتاجًا (كتابيًا على سبيل المثال)، هي تحتاج إلى رهافة "إدراكية" غير عادية، غاية أن تثمر المحاولة في نهايتها عما يمكن استيعابه عقليًا، وتصديقه فنيًا، على الرغم من كون هذا "المعقول الفني" يخضع تمامًا لقوانينه "الفيزيقية" الخاصة. فبالقصة الأولى: سيكون للّوحة (أو للصورة) التي تحمل دلالة ذهنية تنم عن الثبات (أو الجمود)، أن تختفي "تفصيلة" من تفصيلاتها. وأيضًا سيكون لـ "شخصية القصة" التي تأخذ دور "الراوية"، أن تكتفي بنعت ما حدث بـ "الغريب". بل لا يتوقف الإدهاش عند ذاك الحد، فيصير إلى أن تظهر "التفصيلة" المختفية من "اللوحة" آناء الواقع، مشتغلة به، ومكللة إحدى تفاصيله.
بالقصة الثانية: والتي تكمن عقدتها بأن "إنسانًا" قد أنقذ "حوتاً" من ملمة أصابته؛ فكلمه "الحوت" بما كان، سوف نجد أنفسنا إزاء صداقة "عجائبية" تنشأ بين كيانين، ليس ثمة "معقولية" تجمعهما في هذا الإطار. وهنا يأتي دور السؤال التراكبي التالي، كمحاولة لتقصي الحقيقة: فهل تخلقت "الفانتازيا"– فقط بوقوع "الملابسة" غير المنطقية (إنسان/ حوت/ صداقة)؟.. أم أنها تخلقت تبعًا لحدوث هذه "الملابسة" جريًا على قواعد المنطق الطبيعي (جميل/ رد الجميل)؟. في اعتقادي أن أي "الإجابات" لن تحمل صفة "الإجابة القاطعة"، وذلك كون "الفانتازيا" خليطاً سحريًا بالأساس، يتأبى على كل تحليل بنائي، أو استدلال منطقي، لا يجري وفقاً لمعايير "سيميائية" بحتة، تعمل على فصل "البنية العميقة" عن "البنية السطحية" للنص "الفانتازي" عبر اللغة، الشيء الذي لا تتسع له تطبيقات "نقد الأدب"؛ بقدر ما تحتويه تخريجات "علوم اللغة".
{ تلتقي نظراتنا، كلما دلفتُ إلى السوق، أشفق على طفولتها من التشرد، اقتربت منها، تشبثت أصابعها (بالإيشارب) في خوف، ربت على كتفيها؛ استكانت، مددت لها يدي بتفاحة مما أحمله، هزت رأسها رافضة.} (الإيشارب والياسمين صـ 24)
{ دفنت المهرة وعد بالمزرعة، وأقاموا لها تمثالا يشبهها الشبه كله، وكتب تحته: (هنا ترقد... وعد) وكان نور يصحب المهرة الأم إلى مكان التمثال؛ فتظل تدور حوله، وتصهل بصوت حزين.} (وفاء صـ 54)
{ "إن هذه الأم هي المدرسة التي تعلم منها اللص الصغير أول دروس السرقة، وعندما يكبر سوف يسرق ما هو أكبر من التفاحة، سوف يسرق الوطن كله، وسوف يوضع في السجن لأفعاله". والتفت إلى هشام وسألته: "هل ما زلت تحب أن تصبح لصا عندما تكبر؟". هز رأسه علامة النفي، ولكن عينيه كانت تلمع بنظرة غريبة!} (الدرس الأول صـ 60)
{ شكرتها الجارة وهي تثني عليها قائلة: إنه أحلى وأغلى طبق "عاشورة" تناولته في حياتي، سلمت يداك، تفضلي هذا السوار الذهبي، كان بداخل طبق "العاشورة" أظنه سقط من معصمك أثناء الطهي، التفتت "زينب" والتقت النظرات مرة أخرى، ولكن هذه المرة كانت نظرة اعتذار، وأشاحت "إلهام" بوجهها هربا وخجلا من نظرة العتاب بعين زينب.} (عتاب واعتذار صـ 83)
إن قيمًا إنسانية عظيمة كالشفقة/ الرحمة/ الوفاء/ الحب/ الحكمة/ الطموح/ الأمانة/ العدل... لهي أوليات أخلاقية مؤسِسة لمجتمع سوي، يُدعم فيه النشء – تلقائيًا – بما يعينه على تحري الصحيح من الخطأ، والنافع من الضار، وما إلى ذلك من ثنائيات خيارية تقوم عليها الحياة منذ نشأتها. إنما ما يعنينا ههنا هو: كيف تم تسكين هذه القيم بأنسجة النماذج القصصية الواردة؟، وبشكل مجرد: هل ظهر تضمين "القيمة الأخلاقية" المراد إثباتها؛ على فنية "النص القصصي" ذي الحساسية المفرطة تجاه الأساليب الإنشائية والوعظية؟ أم أن ما جرى كان على العكس من ذلك؟. قد يكون القارئ منصفاً إذا قال: بوجود تباين (أدائي) واضح عند النقطة محل التساؤل، والتي تُحتسب من النقاط المفصلية (فنيًا) فيما يجوز أن نطلق عليه "القصص الإنساني". فأحيانًا تصبح "القيمة الأخلاقية" بالغة حد التماهي مع "موضوع السرد"، عندما يتم استخلاصها من "أفعال" و"ردود أفعال" الشخوص، وهو ما كان بقصص مثل: "الإيشارب والياسمين" – "الأرض" – "القناعة" – "الشجرة الأم"... وفي أحيان أخرى يلاحظ أن ثمة توجيه بقدر مُلح لـ"موضوع السرد"، بهدف توكيد "القيمة الأخلاقية" المراد تضمينها، مما قد يعطي انطباعًا لدى القارئ بأن نوعًا من "الفبركة" جرى إحداثه لرفع إنتاجية هذه "القيمة" المنوطة بالتلقي، وهو ما يُلمس في قصص مثل: "الدرس الأول" – "حلم جدتي" – "كذب المنجمون" – "بائعة المناديل الورقية"... وعلى الرغم من أن القصة الأخيرة لم تأت لتكريس (أو الإلحاح على) قيمة أخلاقية – كمتقدماتها، بل لتظليل "صفة إنسانية" راقية كـ "الفراسة"، إلا أنه قد اقتُفيَ في صياغتها ذات "النهج الأدائي" المشار سالفاً إلى حيثياته. ويمكن الاختزال: بأن الشخصية المحورية للقصة – وهي سيدة "كفيفة" تبيع المناديل (بإحدى الحدائق)، تساعد في الإرشاد عن لص سرق هاتفاً جوالاً من طفلة (تقوم برحلة مدرسية)، ويكون ذلك بفضل ما استودعها الله من "رهافة حواسية" تخص غير المبصرين. ولكن ربما يعقب الانتهاء من قراءة القصة، أن تطرأ استفهامات من نوع: عبر أية "تقنية سردية" جرت هذه المساعدة؟، كيف ظهرت المبالغة في توجيه "موضوع السرد" إلى بؤرة بعينها – فنيًا؟، إلى أي درجة وقع منطق "القص" من "القصة"؟. وبالطبع فنحن لن يكون بمقدورنا إيفاء هذه الاستفهامات حقها من الرد، بأقدر مما ستعمل "شخصية القصة" الرئيسة على الوفاء به: { اقترب منها المشرف وهو مندهش، قالت: لقد مر أمامي أحد الأشخاص، يبدو أنه (يزك) بقدمه؛ لأن صوت إحدى قدميه واضحة أكثر من الأخرى على الأرض، وهو قصير؛ لأن مستوى صوته حين ناديت عليه وأجابني كان قريبا من صدري وأنا جالسة، وهو فاقد لإبهام يده اليسرى، لأنه حين طلبت منه أن يناولني زجاجة الماء التي سقطت على الأرض، لم أشعر بوجود إبهام يده، وعلى ما يبدو أنه (أشول) لأنه كان يتعامل معي بيسراه، أما كيف عرفت بأن السندويتشات كانت محشوة بالبسطرمة، فقد ألقى بكيس من البلاستيك، حمله الهواء وحط على طرف الكرسي الذي أجلس عليه، وعندما تحسسته سقطت منه قطعة فاحت منها رائحة البسطرمة، وقد رن المحمول، فسمعت صوتاً على الجانب الآخر يقول: لمياء أين أنتم الآن، ولكنه أغلقه بسرعة ولم يرد، وهو موجود الآن بكافيتيريا الحديقة؛ لأنني أجلس وعن يميني باب الحديقة، وعن شمالي على البعد الكافيتيريا، ولقد سمعت صوت أقدامه وهو يتجه على عجل نحو الشمال.} (بائعة المناديل الورقية صـ 77).
في النهاية سوف لا يسع القارئ – غير المنتمي إلى المرحلة العمرية المعنية بالمخاطبة، إلا أن يثمن هذه المجموعة القصصية عاليًا، فقد جاءت متفردة في نطاق "إقليم القناة وسيناء"، من حيث محابتها لقطاع كثيف وحيوي من "المجتمع"، يعاني فيما يعانيه؛ ندرة "التجارب الأدبية" الجادة في التودد إليه. وحسنًا قد فعلت "القاصة/ سهير درويش" بتوجيه بوصلة طاقتها الإبداعية كيما تؤشر على تلك الندرة؛ غير الجديرة بمجتمع يتألف نصف "ضميره الجمعي" تقريبًا من النشء.

مؤتمر أدباء إقليم القناة وسيناء الثقافي السابع عشر - كتاب الأبحاث – 1 / 2014

الهوامش:
(1) "مناهج النقد الأدبي" صـ 42 تأليف: إنريكي أندرسون إمبرت. ترجمة: د. الطاهر أحمد مكي. دار الآداب.
(2) "معجم اللغة العربية المعاصر".
(3) النَّمَط اصطلاحًا: الصنف أو النوع أو الطراز من الشيء. يقال : عندي متاعٌ من هذا النَّمَط. "المعجم الوسيط"
(4) "مدخل لجامع النص" صـ 76 تأليف: جيرار جينيت. ترجمة: عبد الرحمن أيوب. دار توبقال للنشر.
(5) "القصة القصيرة – النظرية والتقنية" صـ 7 تأليف: إنريكي أندرسون إمبرت. ترجمة: علي إبراهيم منوفي. المشروع القومي للترجمة.
(6) "النقد التطبيقي للقصة القصيرة في سورية" صـ 11 تأليف: د. عادل الفريجات. منشورات اتحاد الكتاب العرب.
(7) "أنطون تشيخوف – مؤلفات مختارة" المجلد الأول صـ 37. ترجمة: د. أبو بكر يوسف. دار رادوغا موسكو.
(8) "فاوست" مسرحية لـ يوهان فولفجانج فون جوته. ترجمة: د. عبد الرحمن بدوي. دار المدى للثقافة والنشر.
(9) "آفاق جديدة في دراسة اللغة والعقل" صـ 148 تأليف: نعوم تشومسكي. ترجمة: عدنان حسن. دار الحوار للنشر والتوزيع.
(10) "أدب الأطفال بين أحمد شوقي وعثمان جلال" صـ 15 تأليف: د.أحمد زلط. مكتبة الوفاء.
(11) المصدر السابق صـ 16.




• هزائم مجانية" والشعر المسرود

بداية يمكننا أن نعرف الشعر الحقيقي - من وجهة نظري – بأنه ذلك المقوم غير المنطقي الذي يمتزج بالأفكار فيحيلها إلى شكل روحي مصور له منطقه الخاص في التسلسل والعمل كانعكاس يغني عن الأصل – الأفكار المجردة – من هذا المدخل المختصر نستطيع الدخول إلى عالم الـ "هزائم المجانية" للشاعرة "سوزان عبد العال" مستهلين بذلك المقطع المتسائل من أولى قصائد الديوان "سيناريو الاعتياد"
هل كانت طنطا في قبحها الوسيم
مدينة للتسكع الليلي – لا أكثر-
والبشر الفاغرين أفواههم من عنف سيدة جميلة
أراقت ملامحها كل نظرة ريفية لردفها البديع
أعتقد أن أول ما يلفت النظر في المقطع السابق هو خاصية الوضوح الصوتي الذي يبلغ حد الإسماع مما يجعلنا نتساءل كف يمكن لنوع من النصوص أن يلجنا صوتيا بقوة تؤثر إيجابيا على إنتاج المعنى فتجعله أشد وقعا وإمتاعا .. كيف هذا ؟ يمكن الإجابة بأن السرد في مفهومه الحكائي هو من أكثر الأدوات التشكيلية اقترانا بخاصية الوضوح الصوتي – أى استعلاء صوت المفردة على دلالتها – مما ينبهنا إلى تلك اللعبة الشيقة في الكتابة وهي تفعيل الشعر سرديا وليس العكس مع التسليم بصعوبتها – اللعبة – ذلك أنه يوجد عدد من الشراك لابد من تجاوزها للوصول إلى صيغة شعرية غير مخلة أهمها شرك الوقوع الكامل في السرد ونستطيع القول بأن الشاعرة قد تلافت غالبية هذه الشراك بمهارة كبيرة ووعي ناضج
تنطلقين رصاصة
وتدخلين في حرب لا قبل لك بها
ثم تدّعين أن البطولة شيمة الأقوياء
وأنت ترتعدين
واتركوني قليلا .. أستخلصني لنفسي ..
المقطع من قصيدة "هزائم مجانية" ولكنه ليس كسابقه فهو يتكأ إلى شعرية محاورة الذات لنفسها وليس الذات مع خارجها هذا من جهة الرؤية أما على مستوى التشكيل – وهو موضوعنا – فسنجد أننا نحتك بنفس نوعية السرد السابقة باختلاف وحيد هو درجة العمق الدلالي للنص باعتباره نص ذاتي لا تأخذ فيه الذات دور الراوي فقط بل المروي عنه أيضا وذلك ما أثر سلبا على خاصية الوضوح الصوتي وكأن هناك علاقة عكسية بين نوعية النص إذا كان ذاتيا صرفا أو متشارك وبين خواص الصوت النصي مما يشي بأن "سوزان عبد العال" تترك كل قصيدة لقدرها بلا تجهيز مسبق كشكل السرد أو صوته حتى تفاجئنا في قصيدة "مراوغة" بهذا الكم من التجرد والاستغناء عن أية أدوات شعرية مساعدة كالتشبيه والاستعارة والتمثل وما إلى ذلك فهي تتحلل تماما جاعلة ما تكتبه يصور نفسه بنفسه معتمدة على إحساس شديد الإدراك في اقتناص الموقف الشعري البالغ الذي لا يحتاج مساعدة من أحد.
في الثالثة فجرا
قررت أن أقطع علاقتي بك
وأتركك وحيدا .. وأعود إلى
أحباري وأخباري وكتبي
ثم أغفو
كما نرى, الموقف مجرد إلى حد العادية ومع ذلك فهو غارق في شعريته دون أدنى جهد فهو مكتف بذاته ويبدو الصوت خافتا وكأنها تجبرنا على القراءة همسا ورغم هذا لا يتعارض الخفوت مع وضوح الصوت كخاصية في النص وحين نتحدث عن الشكل السردي سنجد أن الذات الشاعرة لا تبذل مجهودا في تطويع السرد كأداة تعمل بانفعال الرؤية وهذا من أحد الشراك التي نوهنا عنها آنفا ذلك أنه في بعض الأحيان يمكن أن ينساق المبدع في سرده المجرد منفعلا وغير منتبه لمدى تحققه شعريا ولحسن الحظ لم تقع الشاعرة بهذا الشرك المخاتل وفي "مراوغة" يبدو السرد مختلف قليلا ولكن هذا الاختلاف يعود إلى وجود ضمير المتكلم الفاعل بخلاف معظم القصائد الأخرى التي تعتمد على الحكي الحميم عن آخر, بيد أن جميع الضمائر تجتمع على نفس الطبيعة السردية السلسة ولكن بأردية مختلفة, ونهاية أرى أن "سوزان عبد العال" قد دشنت لعالمها الخاص بهزائمها المجانية مفتتحة هذا العالم بشكل شعري ليس بالجديد ولكنه يحمل نوعا من الشفرة الخاصة كما أنه مضمخ برائحة الأنثى عندما تتحفز للحياة مسلطة بصرها على ذاتها وعلى مايحدث.





• "فقط آدم آخر" وتحولات الكتابة...

الكتابة بقلم مغاير/ متغير. ذهنية الحداثة. تخليص الشكل من أية حرارة زائدة قد تدعو إلى التمدد. تحميل الفكرة ما لا تستطيعه اللغة في بعض الأحيان. الاشتغال على عكس المعنى الأخير بأحيان أخرى. تلك محاور أربعة قد تطبع ذهن القارئ للمجموعة القصصية "فقط آدم آخر" للقاص شريف سمير. وهي من إصدارات "الهيئة العامة لقصور الثقافة" للعام 2012. فمنذ التقليب الأولي للتصفح سيؤشر "المدخل" على شيء.. ثيمة "وجودية" كافية الوضوح, ومفيدة بالتمهيد إلى عالم المجموعة الواحد/ متنوع الأحداث.

" لا أصدق أني لن أحصل على جائزة نوبل, ولن أقف وسط الثلوج, ولن أتعلم عزف الساكس.
هل أنت حزين؟ " هكذا بقصته "يمكنك" صـ47, يبدهك بالقول المرسل فتنتبه إلى حوارية فانتازيا قصيرة, من النوع الذي لا يحتاج إلى التدقيق بالمعنى لاكتناه التأويل, ذلك أن ما تقرأه هو "رؤية بسيطة للغاية" إذا جاز التعبير, وقد تتسائل كقارئ ما الذي يجعلها مميزة إذن؟.. من وجهة نظر انطباعية أجيب بأن التميز يأتي كنتيجة كتابية, وليس كنتيجة رؤيوية كما هو متداول بنسق الفانتازيا, النسق الذي يعتمد على تحميل الخيالي بالفلسفي في غالب الحال. ما يجري هو فقط أن الكاتب يحاول إدهاشك بتدرج متفاوت للدهشة "كيف كنت تتمناها؟ كنت أتخيل كفيها النحيلتين الهشتين في أحضان كفي الضخمتين السمراوين فأحسد نفسي." الحوار يبدو عاديًا بثنائيته البدائية المعهودة, شخص وآخر, ذكر وأنثى, هو يتكلم, هي تستمع, هي تسأل, هو يبوح "كم عمركِ؟ مائتان, بعد السابعة عشرة." إذن فهي محاولة نظامية مقصودة لاختلاق لحظات مدهشة, بما يصنع من تتابع هذه اللحظات محورًا خفيًا لقصة مألوفة الأطر, فيجعلها مميزة. وذلك ما ينحو كما أشرت سابقاً باتجاه "الكتابية", أي أن يتم تغليظ صناعة الشكل على حساب ما يحتويه هذا الشكل من جوهر, وفي هذه الحالة لابد من التوفر على إيضاح أهم الأبعاد المستخدمة بتشييد العمل القصصي/ الكتابي, ألا وهو البعد القصدي في استخدام أدوات إنشائية بعينها, مثلاً كتغيير قلم أساسي يطبع رؤى معظم قصص المجموعة, بآخر مغاير في درجة اللون " أتعرف؟ يمكنك الآن تحقيق أحلامك, تذهب إلى كل مكان به ثلج في العالم, وتحضر حفل توزيع جوائز نوبل كل عام وتتعلم عزف الساكس, ستجد هذا سهلاً بعد أن تخلصت من الجسد."

للوهلة الأولى عندما تقرأ هذا العنوان "في حقل عبادات شمس عملاقة" صـ11, أنت كقارئ لا إراديًا ستدقق به لبرهة, وقد تخمن أن متن القصة لابد وأنه سيكون من ذات النسيج الصوري للغة العنوان, لكن المفارقة تحدث من وجهة نظري عندما تقرأ الاستهلال "كان يحلم وكان حلمًا منعشًا... كان يحلم أن فتاة تقبله, وجدته فاتناً لا يقاوم فقبلته في فمه, بعدها فتح عينيه وكانت البندقية أول ما رآه, تتمدد إلى جواره على الفراش." هناك تجفيف صارم للغة القص, وذلك بما لا يتناسب مع نوع العنوان الذي أوحى بلغة شعرية فضفاضة سوف تستخدم. إذ أنه حتى بالحلم الذي يحتمل الإسهاب والتصور, فالعبارة تأتي إخبارية قصيرة, ثم يأتي الواقع بعد ثلاث عبارات من البداية الحالمة, يأتي خشناً ببندقية تتمدد إلى جوار الحالم. ما يعنيني هنا كقارئ هو أن العنوان لم تعد له سلطة لغوية على المتن القصصي, فقط هي سلطة رؤيوية, بالتأكيد أنها ستتكشف كلما تقدمت بالقراءة "ماذا أقول لتدرك كم هو شخص عادي؟ تراه في الصباح ماشيًا إلى عمله وبعد الظهر عائدًا, تراه في المساء جالسًا في المقهى المقابل لشقته – ما لم تكن ليلة مباراة فيهرب – يقرأ" إنه تناقض فاعل ما جرى بين لغة العنوان الشعرية ولغة القصة المجففة, هيولية المدخل ومحددات الإخبار. ذلك ما يصنع تشويقاً هادئاً يحفز القارئ على المواصلة للحصول على تفسير مُرضٍ لهذا التناقض "من الغريب أن تصحو فتجد بندقية سنايبرفيلد إلى جوارك على الفراش دون أن تدري مصدرها أو حتى اسمها إلا بعد قراءته محفورًا عليها" لقد أضحت اللغة شديدة الواقعية باستخدام كلمة "سنايبرفيلد" مما يعني نجاح الخدعة إلى درجة كبيرة حتى الآن "يستند على سور سطوح العمارة وخلفه تنبت الأطباق اللاقطة وتبدو في ليل المدينة غير المظلم كعبادات شمس في كوكب سحري" هو ذا إذن مربط الفرس, فالأطباق اللاقطة هي التجريد المراد بعبادات الشمس العملاقة, والحقل هو سطوح العمارة, لكن هل تكفي هذه العلاقة الإحالية ما بين العنوان والمتن كي يصير التناقض منطقيًا؟ بالنسبة لي أقول لا, لابد أن يكون الأمر أعقد من ذلك التسطيح التبادلي فيما بين أسماء ومعاني الأشياء "ينظر إلى المقهى بواسطة تليسكوب السنايبرفيلد يبحث عن المتسول فيراه يطوف بقعة ثقيلة ضخمة من تربيزة لأخرى بهالة الرائحة الكريهة حوله" تتضح حكائية اللغة كلما توغلت بالمتن, تصير لغة أصيلة لا تتناقض مع أخرى, وهو ما ينسيك العنوان في مقابل المتابعة, فتلك السحرية الخافتة تنتشر بمعدلات محسوبة من الراوي طي الحكي, وهو بالضبط ما عنيته في البداية بـ "ذهنية الحداثة", أي أن يكون الانتماء إلى تيار كتابي بعينه موجبًا لفهم نواته الرئيسة أولاً, ومن ثم يجيء اجتهاد التطوير داخل حيز هذا التيار ثانيًا, وإلا لصار الأمر تقليدًا وليس انتماءًا " (هو إنسان) حيوان (مشاعره وأحلامه وأفكاره) خرا (أكون قاتلاً؟) أكون. (مشاعري وأحلامي وأفكاري؟) قد أجد في القتل أفكارًا عظيمة (ومدحت؟ وعبد الحميد؟) الروائي مسعد سيرى الخبرة بركان أفكار هائل (الطلقات يا فالح؟.. لا طلقات)." الحوار الذاتي يتسرب شديد الكثافة إلى مخيلتك كقارئ, أيضًا حاسمًا في وضوحه المَرضي – النيتشوي إذا جاز الوصف – يُصاغ من دون تزيد فلسفي قد يعيق الآداة الأساسية في عملية البناء من التضخم, فالسرد المحكم هو سيد الموقف والآداة الأساسية بعناصر هذه القصة, وليس من المستحب أن يجري تشويشاً من أي نوع قد يحجب التداعي الدرامي للحدث – الواحد – المتنامي باطراد "بحث عن المتسول الذي طالما ابتز منه السجائر والجنيهات بقوة القرف فلم يجده, لأول مرة لا يوجد, سيطر عليه شعور ملح كالذي يسبق لحظة القذف, رأى شخصًا يجلس إلى تربيزته المفضلة, شعر أنه الشخص المناسب للقتل" هناك مواصلة للتداعي في الظاهر والباطن, شخص القصة وما يفعله, استخدام القاص – الراوي – للزمن وجودة توزيعه على النقاط المركزية من فقرات السرد "كان يحلم... رأى أباه طفلاً, لم يكن اسمه (سمير) منذ مولده بل كان يسمى فرج وظل فرجًا حتى سمع الاسم سمير, بعدها صار لا يستجيب للاسم فرج قط" هنا عند تلك الازدواجية المحترفة من دمج الواقعي بالمتخيل يتمايز قاص عن آخر, فأنت كقارئ قد تشعر وكأن بداية جديدة للقصة قد حلت بمنتصفها لقطع تواصل الحدث الشيق "هو نادرًا ما يحلم بأبيه وهي أحلام لا أستطيع وصفها بالمنعشة, كان أبوه في عينيه المغمضتين وحين فتحهما رأى علبة الطلقات على الوسادة." إذن سيتكشف لك أن الأمر لم يأت مجانيًا, أو على سبيل التشتت, فالحلم الثاني هو المكمل للحلم للأول, البندقية, الطلقات, التردد, الحسم " ألقى السنايبرفيلد ووضع يديه فوق تدفق الدماء الغزير من ثقب هائل بأعلى معدته, ظل عقله يبحث عن أية أفكار عظيمة, وظلت عيناه مفتوحتين على حقل الأطباق اللاقطة العملاقة." بهذه النهاية الجيدة سوف تعاد اللحمة مرة أخرى ما بين العنوان والمتن, ليبدو التناقض – المُعاد تذكره – أكثر منطقية عن ذي قبل, لقد زال التناقض تمامًا, فقط كقارئ عليك إفساح مجال التأويل – التحليل – إلى مدىً أبعد, مثلاً كأن تقول أن العنوان يرمز إلى تيار الواقعية السحرية – تيار القنبلة بالتعريف اللاتيني – بكلمة حقل, وأن عبادات الشمس العملاقة ليست سوى عددًا من البنَّائين العظام/ اللواقط العملاقة, يَرسَخون كمستقبِلات البث بلا وعي المؤلف.

لا أعتقد أن الاعتماد على "كيفية قياسية" في تصميم الجملة القصصية لدى المؤلف, قد جاء موفقاً بشكل نهائي, فهناك من وجهة نظري العديد من القصص التي أضيرت جراء هذه الحِمية التكثيفية الصارمة للغة القص – اللغة المتقاربة في غالب متون المجموعة – ذلك أن الاعتقاد الشائع عن كون القصة القصيرة تزداد رونقاً وجمالاً كلما ضُغط حجمها, قد أدى فيما أدى إليه باعتقادي, أن تختصر قصة مثل "تبشيع" صـ 53 على هذه الشاكلة شبه التقريرية "النار تشتعل, تضطرم, تتجمر, تتوهج بها دائرة الوجوه المتراصة المتقاربة, والشيخ يمسك باليد الطويلة للطاسة يلصقها بالجمر, يدفسها, يقلبها, يرفعها في الهواء لتتوهج, ينظر في عيني المتهم, يخترقه, ينحني فوقه, يغرقه بصوته: النار شديدة, تكتشف الكاذب تنتقم من المذنب." لكأن الكاتب يلقي عبئاً عن رأسه ليختزل تفاصيل فكرته بالنهاية في بضعة أسطر خبرية بما لا يسمن من جوع, فعالم القصة غير مطروق بما يكفي أن يكون سببًا لضغطها تقريريًا على هذا النحو, ولا أعتقد أنه ينحصر فقط بإمساك لحظة "التبشيع" كغرض, فهو عالم يختص بالصدق والكذب, مسألة جلب الحقيقة من الجوف, إضافة إلى أنه يمتلئ بالتفاصيل التي جار عليها الاختزال صراحة, فقط جرى هذا – من وجهة نظري – لصالح الجملة الأخيرة من القصة, والتي عندها سيبدو الأمر كما لو أن الفكرة قد حُملت بما لم تستطعه اللغة "يتجه إلى نتيجة الحائط, ينزع الورقات واحدة تلو الأخرى, يتوقف عند ورقة ما, ينظر إليها, يقرأ الحكمة على هامشها السفلي: الواحد أقرب إلى صفر منه إلى ثلاثة. يصرخ."
لكن ما سبق لا ينفي أن تلك الاختزالية "اللغة المقتصدة" قد جاءت في محلها بكثير من الأحيان, مما أضاف قيمة مضاعفة إلى أفكار شديدة العادية والتداول, على سبيل المثال بقصته "عزة قردة" صـ 79 سيكشف لك القاص عن عالم قد ألفته دراميًا على أقل تقدير, فما الجديد عند مشعوذ يا ترى؟.. يمكنني الإجابة بأنها "الحبكة" على الرغم من كون "الحدث" غير معقد تمامًا, إلى درجة أنه قد لا يستدعي حبكًا من الأساس, فهو مجرد نقل أمين لما جرى, إذن فما المقصود بالحبكة هنا؟.. أقول أنها قد تعني دقة التصوير, إحاطة المشهد من جميع الجهات, والقبض عليه حيًا "لنقل أنك لو أغلقت شيش نوافذ غرفتك وبابها ظهر أحد أيام الصيف لوصلت إلى درجة الإضاءة التي أريدك أن تتخيلها..". بداية توجيهية لها مهمة محددة, ألا وهي أن تضعك كقارئ بمنتصف عالم القصة, فهنا لا ضرورة لمقدمات – متشابهة مهما تباينت – بغية الحصول على نتائج "مد يده في الحلة وأخرج (زلطة) ناولها لي, ثقيلة صلبة, عليها آثار إسمنت جاف (إنها زلطة) قلتُ. أخذها, رفعها إلى مستوى وجهي, ضغط عليها بأصابعه وهو يعزم, تفتتت, تساقطت قطعًا صغيرة وحبيبات وظهرت من داخلها ورقة ملفوفة بعناية, فكها, كانت بها فتلة في طول القلم وعظام صغيرة بدت كعقل الأصابع, وعلى الورقة كتابة ورسومات: عزة قردة, عزة عفريتة". اللحظة مشهدية, سينيمائية, تحض على الاختزال – التجفيف – نزوعًا إلى الدقة, التصوير لوجه التصوير, وهو ما جاء موفقاً إلى درجة كبيرة, تجعلك قانعًا بأنه قد صار ما يسد رمقك من قراءة القصة, وأنه من الممكن الاستعاضة باللغة التصويرية عما لم توفره الفكرة "أخذ يهز الطرف الذي يمسكه ويعزم, والعقد تنحل, والفتلة تطول, حتى بلغت عدة أمتار. جمع الورقة والفتلة والعظام, وألقاها جميعًا فوق الجمر."

نهاية, فقد سعدت كثيرًا بقراءة هذه المجموعة القصصية المتميزة – ذات الإخراج الطباعي الجيد – هذا ما حثني على تدوين ما أحسبه "إضاءة انطباعية" عنها, فمن القليل أن أتعثر كقارئ بما يحتوي هذا المزيج المحكم من الوعي والفن, داخل الحيز "الهمايوني" الرتيب لتحولات الحداثة العربية. والذي يشملنا جميعًا.



#أحمد_عبد_العظيم_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نرفانا الليل الأزرق
- من كتاب أركيولوجيا المواقيت
- يا أيتها العارفة...
- نصوص قانية
- مؤتمر الدهماء
- قصتان
- ثلاثية الإيروتيك المُظلل
- قصائد عبر نوعية
- طبيعة صامتة
- قصص متوسطة
- النفق السائر
- قصص قديمة
- استزاف القلم الأحمر حتى يجف
- الغواية
- عقدة الذنب
- الفجيعة الخالدة
- معتقل الأرواح
- بانج بانج كراااك طك
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/30
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/29


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - كتابات نقدية