أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - قصص قديمة















المزيد.....


قصص قديمة


أحمد عبد العظيم طه

الحوار المتمدن-العدد: 7506 - 2023 / 1 / 29 - 18:58
المحور: الادب والفن
    


^_~
الودودون

رجرجة العربة الأخيرة من القطار تجعله يتوتر أكثر والصداع النصفي الذي يتسلل إلى رأسه مثل عقرب بطيء.. يُزيد من سرعة شريط الهواجس الدائر في عقله عن هذا الشخص الجالس قبالته في المقعد يتبسّمْ له ببلاهة.. منذ خمس محطات كان يقعد وحده والقطار شبه خاو.. ورغم هذا جاء ذلك المريب حاملاً لفة كبيرة من الشطائر وجلس أمامه.
في البداية ألح عليه إلى حد الإصرار أن يشاركه الطعام.. بعد فراغهما طلب شايًا من البائع الجوال.. حاول أن يرفض عزومته الثانية.. لم يُفلح.. كان يتكلم في غير تكلف كلامًا فارغًا ويضحك دون داع حاكًّا أرنبة أنفه من آن لآخر بشيء من العصبية.. عرّف نفسه باسم لطيف ثم سأله عن اسمه.. تذكّر قبضته المرتعشة تمسك بيده حين أراد أن يدفع حساب المياه الغازية.. وحديثه الطويل عن عشقه للفتيات الممتلئات مُخرجًا ألبومًا للصور الشخصية التي أراها له مع إسهاب في شرح مواقف وإحداثيات كل صورة على حدة.. صداع.. حاول إقناع نفسه بأن هذا الغريب من الناس الودودين أكثر من اللازم ليس إلا.. بيّد أن الشك والصداع كانا قد استوليا عليه تمامًا و..

- (إمسكْ سيجاره).. تلك هي السيجارة السادسة التي يحييه بها.. صمم ألّا يقبلها متعللاً بعدم القدرة..
- (الشباب يقدر على أي حاجه.. إمسكْ).. أخذ السيجارة وأشعلها دون وعي.. مست كلمات الرجل منطقة حساسة في نفسه.. فكّرَ لمَ لا يكون الغريب هو زوجها العائد وأنه يتبعه حتى ينتقم لشرفه الذي ضاع، إن عبارته تحمل رائحة هذا المغزى.. يده المرتعشة وحركاته العصبية تدل على شيء في دخيلته، أنها في معْرض حديثها عنه كانت تنعته بأوصاف تكاد تنطبق على هذا الغريب.. لا.. أراد أن يطرد هذا الهاجس الجديد إلّا أن الزحام المُتناسل في غزارة مع كل توقف للقطار والجو الخانق وعقله المزركش بالصداع تُوجد بيئة مثالية لنمو الخواطر السوداء.. ارتكن برأسه إلى إفريز النافذة.. المناظر المتسارعة تصيبه بمزيد من الدوار.. أغمض عينيه فأحس أنهما تتآكلان بفعل حصيلة الغبار التي اكتنزها جفناه من الجو المُتْرب.. فتحهما ثانية.. رآه منشغلاً بالحديث مع الجارين الجديدين عن شيء فيه شيكات بدون رصيد.. فوجئ حين حول الرجل إليه وجهه قائلاً: (وللا إيه رأيك)..
- ارتبك وغمغم ببعض كلمات تفيد بأنه لم يكن متابعًا الحديث، أغمض عينيه ثانية وخاطر آخر قد بدأ ينخر في ذهنه المتشقق.. لابد أنهم هؤلاء الملاعين هم الذين استأجروه ليتعقبه وينبئهم بمكانه فيأتون لتمزيقه جرّاء مخادعته لهم.. أكيد.. تسائل في نفسه عن الشيء الخفي الذي يُلصقه بالمقعد، لماذا لا يُغادر ذلك المريب إلى إحدى العربات الأخرى أو حتى يُغادر القطار بأكمله.. إنه يريد ذلك لكنه يشعر بالشلل التام.. الصداع النصفي والطقس الساخن ليسا السبب.. تصرفات الغريب وكلامه يجعلانه يشعر بأنه ينتظر محاكمة..
- (شكلك تعبان.. تاخد برشامة).. قالها وهو يُخرج شريطاً من جيب قميصه ويقتطع له قرصًا منه مادحًا في هذا النوع من (الأسبرين).. قال للغريب أنه ليس معتادًا على تناول المسكنات وأنه صداعٌ بسيط سيذهب بعد حين.. أخذ الرجل يتحدث في رغي متواصل عن مخاطر أدوية عديدة أوصلته لإدمانها و.. أيكون قريبًا لزبونه الذي مات حين أعطاه جرعة كبيرة من المزيج؟.. هل هل.. تقاذف إلى ذهنه كل ما اقترفه في حياته.. إن هذا الشخص يجعله على وشك البكاء.. يحطمه من الداخل.. الصداع أصبح كليًا يملأ رأسه الساخن والهواء يصل إلى رئتيه بصعوبة.. ما الذي يحدث؟... أفاق على هزة القطار وهو يتوقف بإحدى المحطات.. باق حوالي نصف ساعة ويصل إلى محطته.. لن يتحمل.. هب من جلسته وأسرع يجاوز الزحام حتى وصل إلى الباب.. نزل.. التعب يُثقل خطواته الهاربة، أحس أن الرجل لابد سيتبعه.. التفت ورائه كان الرجل قادمًا نحوه من بعيد مشيرًا له أن يتوقف.. غمغم "الأمر هكذا إذن".. أخرج من جيبه الخلفي مدية رفيعة.. فتحها وراء ظهره بسرعة، سمعه يتشوش ونبضه يتسارع.. انتظر حتى أصبح الغريب على بعد خطوتين فقفز طاعنًا إياه عدة طعنات نافذة.. الصراخ يعلو والرجل يسقط.. المدية في يده اليمنى تتقاطر منها الدماء في بطء مكونة على الرصيف نجومًا صغيرة تتواصل فيما بينها لتصنع شمسًا حمراء تقترب من النهر المحيط بالجسد المُسجى.. نظر له الغريب قبل أن يلفظ أنفاسه وهو يفتح يده الممسكة بحافظة جلدية سوداء متمتمًا بصوت متقطع.. (مح فظ تك وقع ت) تحسس بيده القابضة على المطواة جيبه الذي يحوي الحافظة..
كان شاغرًا..





^_^

الذي يأتي

"تأخر ذلك الوغد في المجيء".. يداه تنقبضان وتنبسطان في تتابع مخيف والرعشة الممتزجة بأعصاب دماغه مازالت تتغلغل هابطة إلى ركبتيه الخاويتين.. "من المفروض أن نُصفْي ما بيننا".. القميص الأبيض المُتسخ يلتصق بظهره ويشف عموده الفقري بوضوح.. ارتكن إلى الباب الخشبي السميك عابثًا في أكرته أنه مقفلٌ بإحكام فشرع ينظر إلى الحوائط المبرقشة بمغارات سوداء صغيرة يأوي إليها البق السمين.. الشروخ يفوح منها رائحة جبس تم إعداده حديثًا.. متوجسًا داس فوق البلاطات الباهتة وهو يحاول تثبيتها بقدمه.. ثمة مسمار طويل مدقوق في وسط الحجرة ويرتفع عن البلاط قليلاً.
"قال سأعود.. تأخر.. وغد".. الأنسجة الحمراء تفترش بياض عيونه المحتقن في حدة دعك عينيه واتجه بخطواته المتداعية نحو المقعد القصير الذي يحتل الزاوية.. لامس قطعة البارود الكبيرة بقلق متزايد وبهدوء ضرب على جيب بنطاله فسمع خشخشة الثقاب.. تنهد وهو يرفع بصره إلى السقف محدقًا في عروقه الخشبية المقوسة إلى أسفل مثل مناقير الشياطين.. الألواح الخشبية المتلاصقة يُثقل ظهرها ائتلاف الكراكيب المرمية على سطح الحجرة.. اصطدمت عينه بالمصباح المُدلى من العرق الأوسط وضوئه المخنوق من محاصرة بقع الذباب لزجاجه الرديء ولفت انتباهه بشدة ذلك الهباب المُكثف في الركن الأيسر من السقف صانعًا شكلاً دائريًا من السواد "يا الله.. ذلك من آثاره.. لم أنتبه"..
أمسك دماغه بيد وبالأخرى لوح أمام وجهه عدة مرات وكأنه يهش سربًا من الصور الوهمية مُعلّيًا صوته بغمغمة أنهاها بـ "هو أجبرني على هذا.. هو أجبرني".. موقد الجاز النحاسي المُمتلئ إلى نصفه يقبع كشاهد الزور أسفل النافذة المُغّبرة.. افترش الأرضية مُتحفزًا في مواجهة الموقد وهو يحاول إيقاف حركاته المشحونة بانتظار الذي سوف يحدث.. "لابد من التماسك.. يأتي وينتهي كل شيء كل شيء".. سرير خشبي قديم موقع بخدوش كثيرة على جانبيه ويكاد يهتز عندما تعبره الأنفاس القصيرة رأى قصعة العدس الكبيرة ذات الغطاء الموارب.. "قال الشيخ لابد من سكبها فوق المسمار دفعة واحدة عند.."
هب من جلسته واقفًا حين سمع عواء لكلاب تقترب.. حاول وهو يجز على شفتيه المدمتين أن يوقف الرعدة التي تناور أوصاله بالمزيد من التخشب.. همّ أن يفعل شيئًا لولا أن أوقفته همهمة العيال الضاحكة وهم يجرون خلف الكلاب.
اتجه نحو الحائط الغربي وشرع يخبط رأسه عدة مرات حاول أن يجعلها قوية ووجهه المتحول تنحفر عليه علامات التداعي بقسوة.. "أنا أنتظرك فتعال افعل معروفًا وتعال إنك أنت المُخطئ.. من قال أن تسلبها وأنت تعرف أنها.. قلت سترجع فتعال وسأفعلها ثانية.. أنت المخطئ".. لم ينتبه إلى الدم النازل إلا عندما تقاطعت أهدابه مع إحدى القطرات الغامقة فجلب قماشة يتخللها اللون البني كانت تتكور فوق علبة ورنيش صفيحية.. سد بها الجرح فامتزج الأحمر بالبني وتحولت القماشة إلى لون أسود مغبش حين توقف النزف فألقاها.. تقلصت أعضاؤه مرة أخرى وهو يرى عنكبوتًا كبيرًا يركض بخطوات هاربة باحثًا عن أي فتحة إلى الخارج وعلى نفس الحائط تنتهج نهجه سحلية صغيرة تزحف باهتمام..
"إنه هروب، هل هو.." قبل أن يفعل شيئًا توقف ناظرًا إلى السحلية التي بدأت تلوك وجبتها في هدوء بعد انتهاء المطاردة العادية.. "يومان.. كثير أنت سافل".. برواز متفسخ ينام على ظهره في أقصى اليمين من أرضية الغرفة تتوسطه امرأة في العقد الثالث ذات وجه مُثقب بفعل كومة الزجاج المُتكسر التي تعتلي الصورة.. خطا تجاه البرواز ثم هز قدمه المكدودة من ضغطة الحذاء ووضعها على الكومة فاردًا الزجاج على جسد المرأة بأكمله.. داس بقوة وشفته العليا تزداد تشنجًا والصورة تزداد ثقوبًا.. "أيتها الـ.. يا الله.. حتى لعنتك لا أقدر عليها.. شرهة" ركل الزجاج بيأس فتناثرت حوله شظيات متباينة الحجم ارتدت من الحائط.. انهار جالسًا في مكانه غير مُكترث للشظية الصغيرة عندما تخللت لحم فخذه في سلاسة متناهية تنم عن شفافية الجلد الذي بدأ في الانصياع لأوامر الذبول.. "قال عليك الشيخ لن تهدأ حتى تجيء إفعل شيئًا يشي بقدومك.. إفعل.. مخطئ" جفناه شرعا في الاستسلام للإنهاك الذي يقيم المناوشة منذ بضع ساعات وليس ثمة صوت غير وش أذنيه وهرولة أنفاسه المصاحبين للصمت المسيطر.. "إذن فقد جئت أخيرًا.. عيناك مجمرة متصلة ووجهك مشطوب التفاصيل.. احتراق.. عظمك الأسود يتطاير وجلدك المنكمش يساقط الموقد.. لا تقترب أنت مخطئ مخطئ سأفعلها.. أين الأشياء.. الأشيااااااا".. أفاق من غفوته التي استغرقت لحظات قصيرة ممسكًا عنقه بكلتا يديه ومتلفتًا حوله في دوائر متداخلة.
بشرته النافرة بدت رمادية وهي تُسقط آخر ما بحوزتها من العَرق الأزرق حين أحس بوخذة الشظية المستنيمة بفخذه فانتزعها بيد شاحبة تتماهى مع اللون الفراغي للأظافر.. "لم يقل الشيخ أنك ستأتي على هذا النحو.. لا تأتي على هذا النحو.. فهمت" رأى دمه المُتخثر فوق الشظية الصغيرة فازداد ارتعادًا لقتامته التي تقارب التفحم و.. هب قائمًا على صوت اهتزاز بطيء ينتج عن النافذة في حين بدأ غبارها الرفيع يتسلل منحدرًا إلى شهيقه المتتابع.. صدرت تكة خافتة من المصباح المُترجرج قبل أن ينقطع التيار وتقع الحجرة في سواد هائل..
"هو.. تماسك تماسك تماسك".. النافذة تزداد ارتجاجًا ورائحة البارود المختلطة بالغبار تحتوي أنفه المتوتر.. بحث عن المسمار بقدمه ثم سكب فوقه القصعة دفعة واحدة.. ملامحه تبدو على ضوء اللهب المتراقص مثل أحجار صغيرة تلاصقت لتصنع وجهه المُتجمد و "تماسك تماسك تماسك تماسك".. تحول اهتزاز النافذة إلى ضجيج حين عبر قطار سريع على مقربة بالخارج ثم خف الضجيج رويدًا رويدًا وتحول إلى صمت مع ابتعاد القطار.. تصاعدت قهقهاته في تتابع يصعب سماعه داخل مكان مغلق وتقوس مرتميًا جهة البرواز المُحطم.. "ليس أنت.. بل أنت.. أنت القطار والحريق.. أنت السماء وهي والبحر أنت أنا.. كل شيء كل شيء"..
الماء المُنحسر عن العدس يتخلل ملابسه مترسبًا على جلده المفتوح ووهج الباروده يزداد دنوًا من خشب المقعد.. "أنت هنا وأنا هنا.. إذن نحن غير موجودين.. واضح"..
تحولت قهقهته إلى صوت شبيه بمواء قط أصيب في الحرب عندما شق ظهره عمود من الهواء اللزج فتطوحت أطرافه إلى جميع الاتجاهات في حركات غير إرادية حتى أن قدمه المصابة قد قلبت الموقد النحاسي الذي خرج منه سائل مميز الرائحة.. يبدو أنه أتى..



~_~

لَبْس الفراق

شيئًا فشيئًا يدنو من حيّز حرارتها.. الحجرات كلها مُطفأة الأنوار إلا من بصيص أغبش ينسل خلال النوافذ المفتوحة والمواربة والمغلقة فيظهر الأشياء على هيئة أشياء سوداء ذات لمعان أزرق مختلط بالسواد شيء آخر أو بالأحرى شيئين يبرقان بصورة مشتتة للذهن ومتقطعة هما عينا القطة المذعورتان حقيقة وهو يدنو منهما شيئًا فشيئًا مُلبسًا ذلك البطء المُتعمد لخطاه المنفرجة الضيقة يريد أن يضفي عليها هاجسًا فيما يلوح يسراه تقبض على نصل طويل محدب الآخر يرشح منه ذات اللمعان الأسود المزرق المعتلي للأشياء بينما يمناه تتدلى إلى جواره في ارتخاء أقرب إلى الشلل أراده كذلك فيما يلوح حتى يوطد هاجس ما الآن تقنفدت القطة في ركن عميق وعسير الزاوية فعلى شمالها حائط وعلى يمينها حائط وأمامها هو كحائط يدنو شيئًا فشيئًا وعيناها تزدادان اتساعًا وذعرًا وابرقاقًا يفضحها كما أن برقشاتها البيضاء بشعرها الرمادي الغامق تفضحها عندما فح وأوسع عينيه اللتين لا تبرقان وحرك فكه في لفات عشوائية وئيدة ودفع نواجذه إلى الأمام بدا أنه يشاء إتمام مشهد ما، حتمًا هومضطرب على ما يتضح وغير مستتب الأمر والنفس.. يظهر هذا جليًا بسلوكه المريب.. و
ألقى بالقلم فوق الورق المُتشعث عند ذلك الحد من قصته وبان عليه التعب المُرقع بزهوة نافرة لا تخفى تمطى وأطلق وجهه على السقف مدة طويلة ثم اعتدل بغتة وخط على هامش إحدى الورقات "أنا أعظم".
استدار بجذعه وهو ضاحك الفم نحو قطة رديئة النوع تقف على مبعدة وتتثاءب بكثرة...

- أليس كذلك يا مجدولين أشاحت عنه متمادية في التثاؤب.
- ردي يا ابنة الكلب.. أليس كذلك صوته زاعق جعلها تشخص بأذنيها إلى أعلى وتهتز متوقفة عن التثاؤب.
- مزاح.. لا تخشي شيئًا.. أنت جميلة صوت هادئ رصين لا تخشي شيئًا.. صوت سريع زاعق ثم قهقه فرحًا مواصلاً الكتابة..

ولابد أن تلك الرعشة المتنامية بذيل القطة وتوتر فرائها وفكها الذي ينفتح وينغلق بمواء قصير ضعيف كأخرس يتضرع، أقول لابد أن ذلك كله يُشعره بنشوة أو بهجة أو مسرة أو معنىً من هاتيك المعاني الرائقة وكنتُ أنا الذي أحكي معذرة لدخولي غير المُمهد – استوى على مقعد مريح في إحدى الأركان المُعتمة المُتيحة لي أن أرى ما يجري بجلاء وهدوء دون أدنى تدخل أو حس أو نفس مني فأنا مثله تمامًا متمتع جدًا وهو مقدر لمتعتي ويفتعل عدم إدراكه لوجودي فيتصرف على طبيعته – أقصد اضطرابه – ويرفع نصله إلى لأعلى ويصدر حشرجة أرادها ضخمة خشنة لكنها خرجت رفيعة وعنيفة – فيما يلوح – فتبدلت المواءات القصيرة للقطة إلى أنات مزدوجة الرنين واشتد تحفزها..
تعّرق القلم بين أصابعه فألقاه ومسح يديه برأسه ثم التفت إلى قطته وتبسْم راقب فرائها النافش الذي يستنيم بقلق ويشرئب بسرعة فأمسك الورقات وأخذ يقرأ عليها ما كتبه مخطئًا كثيرًا في نحو وصرف الكلمات بينما أنا الراوي – عذرًا لدخولي المُباغت أنا الآخر فهو ليس أكثر مني حنكة – كنتُ أفترش حجرة أخرى من بيته صنعتُها لي خصيصًا أشاهد من ثقب بابها ما يحدث بانفعال لطيف وممتع لكنني غير متمتع البتة بما يفعل ويكتب ومرعوب وشاجب لما يحدث – هذا للتخلص من المرضيّة والتهم المُعقدة – أنا أُشاهد فقط ولا أشتبكُ مع أفعاله نهائيًا فهو لا يستشعر وجودي حقيقة لذا هو غير مقتنع بي..

– ما رأيك يا مجدولين "صوته مُتزن بينما التقلص يطغى عليها فلم تستطع إكمال تمطيها".
– أنت حيوان أعجم وأبله وأخرس أعلم.. ولكن هذا لا يمنعُك من أن تقولي رأيك وبصراحة.. هه "صوته ثائر ومتهدج مما زاد تقلصها وألمها حتى أنني لمحت في موائها دمعًا".
– آآه.. الثبات يوجعك ويؤثر على نباهتك.. عفوًا أنا غبي لم أفهم.. ومع ذلك لا تأملي الآن في الفكاك.. فأنت رائعة هكذا
قام من جلسته إلى اللوح الخشبي الواقفة القطة بمنتصفه وحمله من جانبين لم يطلهُما الصمغ الكثيف متجهًا صوب أحد الأركان العميقة عسيرة الزاوية وهي تنتفض جزعًا ثم أطفأ الأنوار جميعًا وقرب طاولة الكتابة ومقعدًا إلى نافذة يدخل منها ضوء أغبش ذو أوان مشتبه ثم جلس وأخذ ينقر بأصابعه نقرات ليست منتظمة قبل إمساكه بالقلم مرة أخرى.
عند ذلك هوى بنصله إلى أسفل هوّية ًخاطفة وفاه صرخة واسعة الصوت لكنها في اعتقادي أنا الحاكي ليست صرخة فوز وظفر بل صرخة وجع قاس إذ أن النصل قد انغرس عميقًا في آخر بطن ساقه وقطع شرايين مهمة – فيما يتجلى أثر لدونة القطة التي تقرفصت لحظة أن هوى فعبرتها الضربة سالمة نزع النصل من لحمه بصعوبة وسرعة مُتأوهًا وباسم الفم في آن واحد لم يرفعه لأعلى في هذه المحاولة إنما جعله بموازاة جذعه فقط مكث قليلاً يتطلع وأنا معه – وأنا معهما – إلى النصل الذي تخضب وزالت عنه لمعة تميز النصال في الظلام قبل أن يعيد الكرة ولكن في عُنقها – القطة – هذه المرة فقد كانت المسافة قريبة والضربة عمودية القوة لا مقوسة كسابقتها صوت واحد أغنج أصدرته القطة مرغمة وقت موتها – ذلك أنه يُزحزح النصل في عنقها من الداخل بتمهل – وهو ليس مواء قطط على الأرجح ربما هو عواء قطط أما عنه فقد تداعى بمكانه متمددًا على ظهره ومُنفرج الأرجل من أثر جرحه البشع الغائر النازف كالغيث بيّد أنه للمتفحص بقسمات وجهه عن قرب – وهذا متاح لي – يتبدى كشخص مصاب بأقصى طاقة له من المتعة والرضا عن النفس حتى أن عينيه اللتين تنكمشان بتؤدة مسممة بانتا في منتهى الارتياح.. ولما التحم دمه الأحمر بدم قطته الأحمر مات.
كان قد أتم قصته – أتمها تمامًا – بان لي ذلك واضحًا بعد أن غادرت غرفتي التي صنعتها لي خصيصًا في منزله وقعدت بمطرحه على طاولة الكتابة مُدنيًا عيني من الصفحات وقارئها بصوت مرتفع ولكن من دون قطط تسمع – فأنا الراوي سويٌ جدًا وأكرهُ المرضى والمرض جدًا أيتها الحثالات – لذا فإنه عندما ضربت أذني أنة خفيضة لم ألق بالاً وواصلتُ القراءة على الرغم من احتمال كونه حيًا لا يُرزق ويحتاج إلى ربط ساقه النازفة على الأقل.. لم أُلق أدنى اهتمام فهو ليس مقتنعًا بوجودي وهذا آلمني كثيرًا أثناء الكتابة كما أنني أمقُتُ مرضه وتفضيله القتل بالنصل على الحرق باللهب – فالحرق سريع ولا يُعذب الضحية – حتى عندما ناداني بالاسم وبحس محبوك غاية الروعة والضعف والامتاع تلاشيت سماعه وواصلت قراءتي بصوت عال وطاغ مليء بالحرارة ومتلبسًا الأحداث فما دام هو يئن وينادي فمن الأكيد أنه يسمع وأنا أحب السماعين حتى ولو كانوا ذي سيقان مجروحة البطن كنتُ أقرأ هكذا بنفس الطريقة التي كان يكتب بها "الغامق تفضحها.. عندما فح وأوسع عينيه اللتين لا تبرقان وحرك فكه في لفات عشوائية وئيدة ودفع نواجذه إلى الأمام بدا أنه يريد إتمام مشهد ما.. حتمًا هو مضطرب على ما يتضح وغير مستتب الأمر والنفس يظهر هذا جليًا بسلوكه المريب..


+_+

قصور ذاتي

فرك عينيه بشدة محاولاً إزالة آثار النوم.. أخيرًا نجحفي فتحهما فتثاءب ناظرًا إلى الساعة عتيقة الطراز المعلقة في مواجهته على الجدار.. كانت تشير إلى السادسة صباحًا.. أخذ يرقب بندولها الذي يتحرك جيئة وذهابًا مثل رجل موتور.. رغم مرور نصف قرن إلّا انه لم يهدأ ولم يقف حتى لالتقاط أنفاسه.. ارتسمت في ذهنه علامة استفهام مفاجئة.. متى يخمد هذا البندول؟ هل هناك مقدمات لتوقفه.. يقدم استقالته للزمن مثلاً أم يسكن فجأة مثل قلب (معتوق) الكُمساري الذي قضى ربع قرن بالخدمة ثم مات جريًا حين أراد اللحاق بالقطار أو مثل..
أخذ يُعدد أمثلة التوقفات حتى قفز سؤال آخر إلى رأسه.. متى يحين دوره هو في التوقف.. قبل أم بعد البندول؟.. إنه من طول أمد العشرة بينهما يشعر بأن أحدهما انعكاس للآخر.. الرجل الموتور انعكاس له أو هو انعكاس للرجل الموتور.. تواردت الأفكار إلى رأسه في غزارة حتى ارتسمت على شفتيه ابتسامة حين تذكر رد بائع الأنتيكات وقت أن عرض عليه شراء الساعة بقوله (دي تعملها حصاله أحسن).. تذكر غضبه وقتما أعاد الساعة إلى وضعها القديم على هذا الجدار المُشوه معلقًا إياها بمسمار صدئ لم يذكر من رشقه.. أبوه.. جده.. جد جده.. لعن الجميع حينها على هذا الخواء الذي أورثوه إياه متمثلاً في هذا المكان و...
كادت الذكريات تجرفه فانتفض من نومته قائلاً بصوت مسموع كمن يُحادث أحدًا (سته ونص.. الميعاد تمانيه) أخذ يُقلب في الجرائد المرصوصة بعناية فوق الكنبة التي ينام عليها والتي تأخذ دور الملاءة باحثًا عن جريدة الأمس إلى أن وجدها.. قلّب صفحاتها في سرعة حتى وصل إلى (وظائف خالية) دار بعينيه في الصفحة.. توقف عند علامة (x) التي خطها فوق أحد إعلانات الوظائف.. ردد عنوان الشركة بضع مرات إلى أن حفظه.. أطلق ضحكة وهو يعيد الجريدة إلى مكانها الأول متذكرًا صورة ما حدث في المرة الأخيرة حين تقدم لشغل إحدى الوظائف فسمع فردًا ممن رسبوا معه يردد أحد أبيات الشعر صائحًا بصوت خطابي..
(وما نيّل الوظائف بالتمني بل بالرشا أو الوسطة).. فتح زجاجة الكحول التي يملأها يوميًا من الجامع القريب.. عب منها بعض جرعات المياه ثم شرع في تناول نصف الشطيرة التي استبقاها من الليلة الماضية.. بعد فراغه أمسك بيده مشطاً تساقطت معظم أسنانه فبدا مثل عجوز أهتم وفي اليد الأخرى أمسك بمرآة مكسورة الحواف تصنع شكلاً هندسيًا يُقارب الشبه منحرف..
حاول أن يصفف شعره الخشن بقدر الإمكان.. صادف محاولته بعض النجاح ألقى بالمشط والمرآة فوق المنضدة ذات الثلاثة أرجل الملاصقة للجدار.. نظر مليًّا إلى الكتب والمجلدات الكبيرة التي تصطف أسفل المنضدة.. ثم رفع يده ملقيًا السلام عليها واستدار متجهًا صوب الباب.. كاد يفتحه لولا أنه رأى أنه لم يُصلح من وضع ثيابه ولم يرتد حذائه بعد.. تراجع إلى الوراء قليلاً ونزع البنطلون الذي يرتديه وارتداه على الوجه الصحيح.. كذلك فعل مع القميص.. مد يده أسفل الكنبة متناولاً حذاءً رمادي اللون يذكرحين اشتراه أنه كان ذا لون أسود.. أخرج قدميه من الخُف ودسهما بالحذاء في سرعة واتجه ثانية نحو الباب.. التفت قبل أن يفتحه إلى الساعة كانت قد بلغت السابعة وعشر دقائق.. كاد البندول بحركته الآسرة مثل منوم مغناطيسي محترف أن يسحبه في جولة أخرى من الذكريات إلا أنه أفاق بسرعة ففتح الباب وهبط إلى الشارع مقتنعًا من داخله بعبارة واحدة "هذه المحاولة آخر أمل في العيش"... مضت بضع ساعات قبل أن يعود إلى بيته منفرج الملامح.. عيناه تحويان بريقاً غريبًا.. فتح الباب مطلقاً ضحكة عالية.. وثب وثبتين فوصل إلى الكنبة المغطاة بالصحف.. اعتلاها بحذائه.. نظر إلى البندول.. مازال يتحرك.. هل خفتت حركته قليلاً؟.. أصدر صوتًا أشبه بالنحيب تاركًا حذاءه فوق الصحف ووثب نحو المنضدة ذات الثلاثة أرجل.. تربع في المكان الخاوي للرجل الرابعة.. مد يده ممسكًا بأحد الكتب المرتصة جانبه.. قرأ عنوانه.. "الموتى الأحياء.. ترجمة..".. أطلق مزيجًا من الأصوات.. ضحك.. نحيب.. صراخ.. خفت بريق عينيه وسرت قشعريرة باردة في جسده.. حاول رفع رأسه لينظر إلى البندول لم يستطع..



#أحمد_عبد_العظيم_طه (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- استزاف القلم الأحمر حتى يجف
- الغواية
- عقدة الذنب
- الفجيعة الخالدة
- معتقل الأرواح
- بانج بانج كراااك طك
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/30
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/29
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/28
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/27
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/26
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/25
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/24
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/23
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/22
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/21
- بازل لزهرة الخشاش - رواية - 30/20
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/19
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/18
- بازل لزهرة الخشخاش - رواية - 30/17


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد عبد العظيم طه - قصص قديمة