عبد الله خطوري
الحوار المتمدن-العدد: 7450 - 2022 / 12 / 2 - 18:30
المحور:
الادب والفن
مازلتُ أذكرُ تلك آلطقوس كما لو أنها وقعت بالأمسِ فقط؛طقوسُ حفظ القرآن في بلدة واد الجبل دي تيمورا نغ(١).لقد أوصى والدي الفقيهَ وصاية خاصة.. الولَدُ أحَرّودْ (٢) مُقْبِلٌ على آمتحان الشهادة الابتدائية، ولا يمكن نيلها إلا إذا أتقنَ التلميذ حفظ "الرحمان"و"الواقعة" والحديد وما أدراك ما آلحديد"سبح لله..."؛ لذا فـ"تْهَلَّا..!!.." (٣) قال أبي للفقيه..مما يعني أنَّ الطالَبْ الشيخ (٤) في محراب تعليمه لي حُرٌّ في تصرفاته، له كامل آلصلاحية يفعلُ ما يشاء، إنه الأب والأم والآمر الناهي السيد المطاع وكل شيء؛ ومن حُسن حظي أني لمْ ألْتَقِ بفقيه من النوع الصعب الجهم الغاضب السريع البطش والفتك بمريديه المْحَضْريا (٥) ،بل كان_والحق يقال_من أطيب آلخَلْق سمتا وخُلُقا وتعاملا وأريحيةً وحُسْنَ مُدارسة ...
لقد كان لزاما عليّ أنْ أخصص معظم الوقت في الجامع دي تْمَزْڭيدَا (٦) من أجل إنهاء تلك المهمة الاستثنائية الصيفية قبل آنتهاء العطلة، فأنا مُعَرَّض_في نهاية المطاف_إلى ثلاثة آمتحانات لا لامتحان واحد فقط؛ الأول سينجزه فقيه الدوار في القريب العاجل بشكل مياوم في كل أصيل عصر وكل صباح باكر، والثاني سيتكلف به الوالد الحافظ للقرآن عن ظهر قلب، وهنا لا مهرب لا غش لا منجاةَ إلا بحفظ حقيقي عن ظهر قلب وإلا...والثالث سيُتْرَكُ للمدرسة للامتحان النهائي الرسمي الكتابي دون آلحديث عن الاختبارات الدورية طيلة الموسم الدراسي...
إذًا، بما أن الأمر جادٌ فعلا، فما عليَّ إلا أنْ أتوغلَ في الجد وآلمواظبة وأترك اللعب جانبا إلى حين، ثم إن الأمرَ لم يك يخلو من حبور آخر من نوع آخر، ففي الكُتّاب دِي تاخَرْبيشْتْ تاقْدِيمْتْ نَتْمُورْتْ نغْ (٧)، ملتقى ماتع للعديد من فتية إتَرَّاسَنْ دَالواشونْ (٨) الذين يلجون عوالم الحفظ كعادة من عادات البلدة، فعَيبٌ أنْ يوجدَ أحدهم ضمن المجموعة غير حافظ لكلام الله، إنه ناقص أمي جاهل، غير مكتمل المروءة والشخصية؛ وبينما كانت الأغلبية الساحقة تجأرُ بآيات من البقرة الكبيرة والصغيرة وآل عمران والمائدة وقُلْ أوحيَ وألم أقلْ وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى وقال كم لبثت ولن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون وباقي السور الطوال الصعبة العجيبة..كنتُ أكررُ في تسرع لاهث فاصلة"فبأي آلاء ربكما تكذبان.."تحت وقع سياط ألسن ساخرة جارحة للمتعلمين المْحَضْرَا(٥)الذين تجاوزت همتهم هذه السور القصار السهلة_في رأيهم_منذ وقت سحيق،وهم في أغلبهم على أهبة ختم مجمل القرآن والسلكة كاملة ليصبحوا فقهاء كآبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم.الحفظ مسألة متوارثة في البلدة، ويجب أن تتم هذه الإراثة على أكمل وجه وأحسن طريقة، وإلا كان المُقَصِر مخروم الرجولة غير مكتمل المروءة والبلوغ...
القراءة دي تمزڭيدا تكون مباشرة علي يد الشيخ عن طريق لوح الخشب سماعا مشافهة وكتابة وحفظا وعرضا ومكابدة بواسطة التكرار والإعادة والاستعادة والترجيع والسماع مباشرة من الفقيه صاحب المكانة المحترمة، منه يسمع الناس الآذان بحرص وروية ورصانة في أوقات معلومة مضبوطة لا آجتهاد فيها يصلي بالمصلين الفرائض يقود قراءة راتب الفجر وشفق المغيب.منه يضبط المريدون طريقة نطق أصوات الحروف ومخارجها وكيفية ترخيمها وتفخيمها ومواضع آلمماثلة والإدغام والإبدال والإعلال وطرق الإشباع والإشمام والقلقلة والمُدود ومتى يجب الوقف ومتى يجوز ومتى يمتنعُ وكيف يتم التمييز بين المتشابه من الآيات ووو.. يعلمهم ما كان يُطلق عليه أنصاصا كمفاتيح تسهل عملية المراجعة وتثبت تركيز المحفوظات في الأذهان..كنا نجاهر نتلاسن نتفاخر بالتراشق بها في المجامع أمام الآخرين كطريقة تظهر الفرادة والتميز رغم أن جل الصغار مثلي لم يك يميزون من تداعياتها غير سلاسة تكرار حروف كلمات مقفاة موزونة نقلد الفقيه ما أمكننا في طريقة القائه بها وتلقينه الفتية الكبار الذين سلكوا أشواطا غير يسيرة في مسارهم الدراسي العتيق..(الحمد لله أتى في الذكر..كنا ننشد جماعة ثلاثة وعشرين فادر ثلاثة في النمل ثم في الزمر ثلاثة كالنمل فيها تستقر آثنان في الأنعام ثم في فاطر كمثلها وواحد في غافر ويونس والنحل والأعراف والكهف والخليل باعتراف والعنكبوت ثم في الإسراء وسورة اليقطين عن القراء وفي الفلاح و سبإ لقمان ختامها في الحمد فخذ بياني)...
كل ذلك كان يتم سماعا دون إدراك أو وعي أو إشهار للقواعد أو تصريح بها علنا؛ كانت القراءة المطلوبة تُلَقَّنُ مباشرةً من لسان من حَنجرة لآذان لحفظ لاسترجاع وإعادة حفظ كما سُمعتِ السُّوَرُ والآياتُ والفواصلُ والجمل والحروف تُعادُ دون تغيير أو تبديل أو تحريف، وأي زيغ أو ميل عن هذه القواعد يُعَدُّ إخلالاً بالعملية كلها، وعلى صاحبها أَنْ يكرر من جديد كتابة الثمن نفسه أو الربع غير المتقن حفظه ليعاودَ عرضه مرة أخرى، وكل فشل أو تقصير يُعرض صاحبه لعقوبات يشهدها الجميع يشارك فيها الطلبة ويتواطأ لإنجاحها الكبار ضد الصغار والصغار ضد الأصغرين سنا وهكذا...كنا نجتهد كي لا نقع في المَحضور ونتعرض للعقوبة والسخرية والتوبيخ، ثم كنت أدرك أني كلما تمكنتُ من إتقان إنجاز العملية المنوطة بكاهلي، كلما آستطعتُ التخلص من الذهاب المياوم إلى الجامع، فالأمر بسيط بالنسبة لي على الأقل، فأنا لستُ مطالبا بإخراج السلكة كاملة وإتمام الستين حزبا حفظا، وإنما إتقان ترديد آيات سُور الامتحان لا غيرَ، وهذا هو الاتفاق الثنائي الذي كان بين الوالد والفقيه والذي آستطعتُ إنجازه في ظرف قياسي كي أتفرغَ لشغب مخيلاتي ومغامراتٍ كنتُ أترقبُها على أحر من الجمر في قرية آلجبل مع الأطيار والأمواه الغزيرة والماعز والخرفان الثاغية في رواب طافحات بآلدَّعَة تحرسها رعونة رعاة طليقين يظلون طيلة الأوقات أحرارا في آلغابات وقيعان آلأودية وآلأجمات...
☆ إشارات أمازيغية:
١_تِيمُورَانَّغْ:بلداتنا
٢_أحَرُّود:الطفل
٣_تْهَلَّا:أكرمه بعنايتك
٤_الطالبْ:تطلق على الفقيه معلم حفظ القرآن في الكتاتيب القرآنية
٥_المحَاضْرا المحاضْرِيَا:المتعلمون المريدون الذين يحضرون دروس الفقيه المعلم
٦_تْمَزْڭيدا:الجامع
٧_تاخَرْبيشْتْ تاقْدِيمْتْ نَتْمُورْتْ نغْ: ملحقة آلجامع العتيقة بقريتنا
٨_إيتَرّاسَنْ:الاولاد البالغون.
_الوَاشون:الأطفال الصغار
#عبد_الله_خطوري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟