أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزان الحسيني - الفارغ والمملوء














المزيد.....

الفارغ والمملوء


رزان الحسيني
كاتبة ادبية وشعرية، ومترجمة.


الحوار المتمدن-العدد: 7266 - 2022 / 6 / 1 - 10:20
المحور: الادب والفن
    


على المملوء أن يكون ممتلئاً، لأن الصفة يجب أن تتبع الحالة، لا من أنتج تلك الحالة بها، ولكن الشعر حارسُ قصرٍ حازم، يجعل اللغة سجينته المُدللة دون حتى أن تعرف أنها سجينة مكانٍ ما، ولا نريد أن نقول أن الشعر سجّانٌ لّلغة لأن ما ينتج عن احتوائهِ لها لوحةً شاسعة بحريّتها، اللوحة نفسها التي اعتدنا –ما إن نرسم أساسها- أن نحرص على تلوين خلفيّتها، كأن بنا حاجة ملّحة على ملء كل ما هو فارغ، على الخلفية أن تُلوّن بشكلٍ تام دون أن تبقى قطرة بياض واحدة من الورقة فيها، علينا أن نجرّد الورقة من أصلها حتى نشعر بأصلية ألواننا. نعلّق -والتعليق من وعلى وفي هي حالتنا شبه المستمرّة- على جدراننا الجديدة ما يُشعرنا بأن البيت مسكونٌ وحقيقي، ولا نكتفي بلوحةٍ كبيرة واحدة، بل لا يسلم حتى الدرج من هوسنا بملء الفراغات، فنطفق ننثر، أينما وقع بصرنا الحزين على بقعةٍ فارغة، اللوحات الطبيعية والأكفَّ الزرقاء وصور الائمة وخطوط البسملة والصلوات وأصص النباتات الصناعية المؤذية للعين بخضرتها، ثم أصبحنا لا نُطيق حتى اللون التقليدي لحيطان البيت، فمسخناه إلى مشجّر ومنقّط ومطوّب وأزرق وبني، كل شيءٍ عدا السادة والأبيض، كل ما لا يُذكرنا بالفراغ والوجود، ولون البداية والنهاية، كل ما يصرف تركيزنا عن شبح المتضادّات. نشعر بضرورة الإفعام لأن الفجوات بداخلنا تتشمّس في التخوم، يهدهدنا الشعور بالدفء الحميمي المزيّف، ويهدّنا البرد القاحل في الفراغ، لأن الفجوات خاليةٌ، وشبيه الشيء هنا -عكس ما هو شائع- لا ينجذب إليه، بل يكرهه وينبذهُ ويتوحّش حين يواجهه. ولو لم يكن الخلو الذي تواجههُ الأشجار في الخريف يتبعهُ امتلاءً تدريجياً لجزع الإنسان وجُنّ، وما أكثر رعباً من رؤية غاليتنا شجرة السدر خاليةً من أوراقها، كابوس!
حين يرتبط رؤية الفراغ بوداع المنزل، ومنظر المصطبة بخلوها من رفاقها، تُصبح الطلة على قاع البئر الفارغ في جوفنا ضبابية ملوّثة بالعوائق الشفافة، وما من تلسكوب يخترقها ويأخذ ببصيرتنا إلى ضالّتها، تُصبح عملية غربلة الذات من شوائبها أثقل من تكرير النفط الخام، تلك الأداة الحادة التي تفرض الدول بها نفسها وتتنافس عليها أخرى، وهي حارقة ومُحترقة، مثل الذات تماماً، بل تتفوق الذات عليها معلنةً، وبغرور، فرادتها وصعوبة الوصول إليها. العُري هو ما يُخيفنا لعُقدة الخلق والطرد الأولى في الطفولة، جميعنا كُنا عراةً مرةً، ونُهِرنا، ومنذ أن طُردنا بعد أن تم إلباسنا أصبح العراء والفراغ وسواسنا القهريّ، ما نلبث أن نحلّ بأرضٍ حتى نكسيها مثل ما كُسينا للمرة الأولى، وسنُكسى مرةً أخيرة، نسعى لتغليف شيءٍ لا ندرك ما هو، طمر ما لا نقدر على مواجهته، لذا حين نُجبر على المواجهة، نتحجج بأن الطريق وعر، الطريق مغبر، الطريق مليءٌ بالأثاث.
التخمة الوحيدة التي لا تكون كطبقات الدهن التي تنزفها السيارة الثابتة على الأسفلت، هي تخمة الأشجار، نزعتنا إلى ملئ المرآب أو بوابة البيت بصنع حديقة -ولو بمترين- هي أفضل نزعة بشرية، ميلنا الأنانيّ إلى تكوين صداقة وثيقة مع كائنات صامتة هي أحبّ الأنانيّات، الأشجار صديقاتنا الوفيّات، الأشجار شواهد التخوم والتخبّط الذي نقع فريستهُ الدائمة. لطالما عرفنا الشيء بمتضادّاته، وبحالتنا هذه، فقد توهّمنا بمعرفة المعنى حين أصبح سميناً من إسقاطاتنا بما يكفي لملاحظته، بما يكفي للمسهِ والإعجاب به بل وحتى أخذه وتعليقه فوق الأبواب ومرآة السيارة كما لو كان تعليقةً ثقيلةً تم صُنعها يدوياً. الجرد والعراء لا يعني سوى الوحشة لدى المرء، تذكيراً يصم الآذان على وحدتهِ الأولى والأخيرة، ضوءاً شمسياً يُعمي الأبصار مثل الحقيقة، مثل دوافع بحثنا عن الحب، والزواج، والأطفال، أليسوا إثباتاً على مأساة الهرب اللامنتهية للمرء من وحدتهِ وخلوة بيته وعراء روحه؟ لا يعني الفراغ سوى عدو الإنسان اللدود، اليباس الذي يلتهم نباتاته الحبيبة، الكلب الأسود الذي يقض مضجعه ويؤرق أجفانه، لأنه صرخة مُعلنة عن وحدة الروح المختبئة تحت أطنانٍ من الأثاث والأصص والكتب واللوحات. لأن كل محاولاتنا في التعلّق بالآخرين، وتعليقهم بنا، كل ما نقرأه، ونكتبه، ونصنعه، كل ما نعلّقه ونثبّته ونركنه، هو محاولة لردمِ هوةٍ شاسعةٍ تقبع في قبونا السرّي، نخاف أن تتمخض عنها يوماً زوبعةً لا يُرى أولّها ولا آخرها. ولا تعني عملية الملء سوى تزييناً لا بدّ منه لليباب الذي هو وجودنا ومنفانا، سُلوات رقيقة لمحاكاة ما لا نقدر على فهمه، إتراع الأرض القاحلة بتربة الشاطئ المُهجّرة وإحالتها كائناً نريدهُ وليس مقدّراً له أن يُريدنا.



#رزان_الحسيني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أزمة الترجمة، قلة الموارد أم شحّة التشجيع؟
- مساميرٌ على حائط الريح
- برقيةٌ للملكِ الأعمى
- العودة إلى بُطء العيش
- بَبغاء مَلَكية أم إنسان؟
- الاستشفاء بالفن وسيلة للنضال
- الأزرق للذكر والزهري للأنثى
- حارس سطح العالم والأدب الصافع
- ثماني محاولات للّحاق بسيلڤيا بلاث
- حين تخلّى الملاك الحارس عن حراسته
- ثمانِ محاولات للّحاق بسيلڤيا بلاث
- أهمية النقاش في تنمية الوعي
- هل الكاتب مؤلفٌ أم المؤلف كاتب؟
- المبادئ، بلانك أم عامل X؟
- من -أوديب ملكاً- إلى -الشماعية- هل أثّر فقدان المسرح على الذ ...
- حَبلُ ثقاب
- عِشتار العصرِ الحديث
- 8 آذار للاحتجاج ام للابتهاج؟
- عيد الجيش العراقي ويتامى الحروب
- يعاملون المُدمن كما لو كان مُصاباً بالإنفولنزا


المزيد.....




- -نبض الريشة-.. -رواق عالية للفنون- بسلطنة عمان يستضيف معرضا ...
- فيديو.. الممثل ستيفن سيغال في استقبال ضيوف حفل تنصيب بوتين
- من هي ستورمي دانيلز ممثلة الأفلام الإباحية التي ستدلي بشهادت ...
- تابِع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 23 مترجمة على قناة الف ...
- قيامة عثمان 159 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 159 مترجمة تابع ...
- -روائع الموسيقى الروسية-.. حفل موسيقي روسي في مالي
- تكريم مكتب قناة RT العربية في الجزائر
- الحضارة المفقودة.. هل حقا بنيت الأهرامات والمعابد القديمة بت ...
- مصر.. القبض على مغني المهرجانات -مجدي شطة- وبحوزته مخدرات
- أجمل مغامرات القط والفار.. نزل تردد توم وجيري الجديد TOM and ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رزان الحسيني - الفارغ والمملوء