أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا.. و حرقوا البيت! .11.















المزيد.....


ذكريات الصبا.. و حرقوا البيت! .11.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7203 - 2022 / 3 / 27 - 18:39
المحور: الادب والفن
    


و يرى العديد من المراقبين و المؤرخين، ان مقتل ابو الهوب بتلك الطريقة الإجرامية و غيابه، لعب دوراً كبيراً في تصعيد العنف في تعامل الاطراف السياسية مع بعضها البعض في محلات السكن و الاسواق و في اماكن العمل، حيث انه قد حوّل عدداً من فتوات الاحياء الشعبية الى التعامل بالعنف دفاعاً عن النفس او ثأراً للشهيد ابو الهوب، او مواجهةً للسلاح المنفلت وقتذاك . .
في وقت كان فيه المقدم (طاهر يحيى) القومي الإتجاه هو مدير الشرطة العام، و كان ساعياً للحفاظ على مقعده بأي ثمن، حتى تسبب في نشاط معاونون وضباط شرطة في ملاحقة و ضرب العناصر الديمقراطية و اليسارية . . و خاصة السابقين منهم حيث لم يجر ايّ عمل او سعيّ في تنظيف اجهزة الشرطة و الأمن السعيديّتين، رغم طرد و معاقبة كبار ضباطهم الذين لم يتجاوز عددهم عدد اصابع اليدين، لإنكشاف ادوارهم القذرة التي لم يعد ممكناً اخفائها، في ممارسة انواع العقوبات الفردية و الجماعية بحق السجناء السياسيين في فترة الحكم السعيدي، التي راحت ضحاياها اعداد كبيرة من السجناء السياسيين و خاصة من الديمقراطيين و اليساريين، كمجازر سجن الكوت و سجن بغداد المركزي على سبيل المثال . .
فنشط اولئك الضباط و المعاونون ذوو انواع الخِبَرْ في ملاحقة و الإنتقام من الديمقراطيين و اليساريين بما اكتنزوه من تدريبات و خبرات سيئة، نشطوا في محاولات تحطيمهم، و في حماية المعتدين سواء كان مقابل رشاوي مالية او مقابل دعم حكومي، اضافة الى تزويدهم باسلحة او بالوثائق الخاصة بالافراد و العوائل، بعيداً عن عيون القانون و من يدّعون بحمايته.
و صار صعباً على الوالد العودة الى البيت، و بقي عائشاً في بيوت الاقارب و الاصدقاء و في عدد من البنسيونات ذات السمعة الحسنة مع مناضلين آخرين، و صرنا نلتقي به خارج البيت . . و عمل الوالد لتلاحمنا كعائلة بأية وسيلة ممكنة و في اوقات متقاربة كلّما امكن، فتعددت زياراتنا الى اقاربنا في الحلّة اوقات العطل و بقائنا كعائلة هناك لأيّام في كل مرّة . .
و وجدت نفسي في الحلّة و كأنيّ في عالم آخر يختلف عن الأعظمية و بغداد من جوانب متعددة و خاصة قوة العلاقات و الاواصر العائلية الكثيرة التداخل و قوة الصداقات العائلية و انفتاح العوائل بعضها على بعض، عززها الميل بقوة نحو الديمقراطية و النضال ضد الإقطاع و ضد انواع عصاباته التي صار افرادها يخافون من ارتياد الاماكن العامة في مدينة الحلة، حذراً من عناصر اليسار . .
و في الحلّة، كنّا نذهب الى السينما الصيفي في الصوب الصغير (الضفة الاصغر)، الذي كان يضمّ احياءً حديثة و خاصة لموظفي الدولة و كان احدث احيائه (حي بابل) الذي كانت تسكنه ابنة خالة والدي و زوجها الضابط آمر حامية الحلّة و عائلتهما . . و قبل الوصول الى ذلك الحي بعد عبور الجسر و نحو اليسار و على طريق مزفّت كنا نصل الى السينما الصيفي التي كانت تعرض افلاماً عربية مصرية ، اتذكّر منها افلام فريد شوقي و الممثلة كوكا و الراقصة سامية جمال في افلام (تمر حنّة) و (رصيف نمرة 5) و غيرها و على انغام و اغاني محمد عبد الوهاب و فريد الأطرش و الى درجة اقل لا اعرف لماذا، اغاني العندليب الاسمر عبد الحليم حافظ . .
و كان ذلك الطريق يمتد بموازاة شط الحلة مارّاً بين انواع البساتين و الأحراش، التي كان الناس يحذّرون من الذهاب اليها لإحتمال ان يصادف المرء قطعان من الجاموس التي كان يقودها رعيانها الى الشط في اماكن متّفق عليها . . و لا انسى ذات يوم حين دفعني فضولي لرؤية البساتين فذهبت وحدي، و كان ان صادفت قطيعاً هائجاً من الجاموس الهائل الحجم و لم اعرف ماذا افعل و حاولت الركض نحو بستان مجاور، و صاح عليّ راعيهم ان اثبت في مكاني و ان لا اركض لأن الركض يجعلهم يركضون خلفك كما قال و لا انسى صيحاته : (اجمد مكانك !! اجمد مكانك !! )، (لا تركض تره يحطّموك !!) و هكذا جمدت و كان الجاموس يمرّ حولي راكضاً غير آبه بوجودي . . و بعد انتهاء تلك العاصفة رأيت محمود ابن مزهر الذي كان يبحث عنيّ بقلق قائلاً :
ـ عزيزي وين رايح . . خوّفتنا عليك. ارجوك لاتتركنا و تذهب وحدك، هنا توجد انواع المخاطر. هاي الحلة مو بغداد !
و فيما كان النساء يجلسن معاً، كنّا نحن الصبيان امّا مع الرجال و امّا معاً او نكون بزيارات عدد من الشيّاب الذين كانوا من جيل جدتي امينة، لينطلقوا بالحديث عن مغامراتهم في شبابهم، و في مجلس الجدّ (سعوّدي) الذي كان يحدّثنا عن الحرب العالمية الأولى و كيف سيقوا من منازلهم بالسياط الى الحرب، و كيف البسوهم ملابس الجنود و كان عليهم الذهاب مشياً على الأقدام بجزم شبه ممزقة الى البحر (كان يقصد بحيرة وان)، لمحاربة (جيش المسقوف الصليبيين) . .
و في احدى رواياته، انهم عانوا من انتشار امراض قاتلة بين الجنود مثل (ابو زوعه ـ الكوليرا) و الطاعون و غيرها، بسبب الجوع و المشي المهلك و تحت سياط آمر المجموعة العثماني الذي تفاهمنا معه (على حد قوله) مقابل ليرات ذهبية بان يتركنا في بيوت القرى التي نمر بها و نعود للتجمع معاً و نواصل السير . .
و قال، كنّا نجد في القرى الطعام رغم انواع المجاعات، و نجد النساء الوحدانيات اللواتي سيق رجالهن الى الحرب مثلنا او هربوا منها و بقين وحيدات يعانين الوحدة كمعاناتنا . . و احنا كنّا مثل هرورة شباط (جمع هرّ) ما نايمين مع امرأة لشهور، و ذلك ماخفف من معاناتنا و من بعدنا عن دفئ المنزل و العائلة . .
سألته عن معنى (هرّ شباط)، و يعني ليش النوم مع امرأة يخفف من المعاناة، بعدين هاي شلون امرأة تقبل غريب في فراشها و هل هي سنيّة او شيعيّة او مسيحية او يزيدية او شنو ؟؟ قال لي اسأل ليلى، و قال : ابني البشر . . بشر، المهم ان لا يحصل اعتداء و تجاوز، لازم تفهم !! و لازم تفهم احنا لم نعتدي على احد، بالعكس زوّدونا بعدئذ بطعام جيد للطريق، لم نكن نفكّر بأنهن مسلمات او غير مسلمات و لا عربيات او غير عربيّات . .
و طبعاً مثل (هرورة شباط) صارت محاولات اعتداء و استجبنا لصيحات النساء من معتدين و تطورت الى ضرب بالايدي و بوكسات و الى قتل و مقتول و المهم حمينا النساء من تلك المحاولات الوحشية . . و لا تنسى ان المجرمين هم من يشعلون الحروب و يحطّمون البشر و العواطف و القرى و يسوقون الجميع الى محارق من اجل ارباحهم و كنوز الذهب !!
كانت ليلى ابنة اخيه معلمة شابة و تتهيأ لدراسة تخصص (تربية و علم نفس) في الجامعة، و كانت اكثر ابناء جيلها من الاخوان و ابناء و بنات عمها اهتماماً بالجد سعوّدي، حيث كان الجدّان الاخوان و عائلتاهما يسكنان في بيت كبير واحد في محلة القاسم . .
بعد احاديث الجد سعوّدي، ذهبتُ الى غرفة ليلى و كان بابها موارب، فدفعت الباب بهدوء للدخول و تفاجأتُ بأن وجدتها تغيّر ملابسها فوقفت في مكاني و تراجعت و اغلقت الباب الذي احدث ضجة عند اغلاقه و سمعتها تقول :
ـ ها ؟؟ خُفِتْ هههههههه . . لاتخاف عزيزي تعال اذا محتاج شي !
ـ ييييـ يعني . . . اردت الاستفسار منك . . عن معنى (هرّ شباط) اللي حدّثنا عنه الجد سعوّدي.
ـ هههههههه هاي شديسولف الكم عميّ سعوّدي ؟؟
ـ عن الحرب العالمية الأولى . . و كانوا ينامون ويّا نسوان القرى مثل (هرورة شباط) . .
ـ كافي كافي . . افتهمت. عزيزي القطط كبقية الحيوانات في وقت التناسل و التكاثر و خاصة في الربيع تلتقي و تتناسل و القطط لديها موسمين مرّة في نهاية الشتاء في شباط و مرّة في نهاية الصيف . . لذلك الناس تسمع موائها و خاصة الذكور الهائجة جنسياً و هي تنادي على الانثى بمواء عالي و بنغم خاص عالي و الانثى تجيب، و تسمع صراعاتها للحصول على الانثى، و هذا الذكر يسموّه عدنا بالجلفي (هرّ شباط). شنو انت ماشايف تناسل القطط و تناسل الكلاب في الشوارع في تلك المواسم ؟؟ ما سامع المواء المرتفع للهرورة في تلك المواسم ؟؟
ـ بلي شايفهم واحد يركب على الآخر بس ما اعرف ليش . . عبالي يلعبون. بس يعني الجد سعوّدي و ربعه كانوا ينامون مع النسوان مثل القطط ايام التكاثر ؟؟؟
ـ هههههههههههههه يعني البشر شلون يسوون اطفال ؟؟ عزيزي لازم تفتهم انت راح تصير رجّال و عيب عليك ماتعرف، يعني انت من الآن هاي علاماتك . . ليش انهزمت لمّا شفتني استبدل ملابسي ؟؟
ـ غير فكّرت انه عيب . . ؟
ـ نعم و ليش عيب ؟؟ يعني ليش ماتنهزم انت من تشوف رجّال يستبدل ملابسه ؟؟
ـ لأن همّه النساء يستحون . . و ما افكّر آذيهن.
ـ عزيزي اذا مايعلّموكم بالمدرسة ، اسأل والدك انه (احنا شلون جينا للدنيا ؟)
ـ والدي نوبة يكول جدتي اهدته ايّانا و جدّتي تقول هذا رزق من رب العالمين و الحمد الله على الصحة و تمام الخلقة بس ماتقول كيف و اين . . و نوبة والدي يكول جبناكم من ابو احسن فاكهة . . و كلما نريد نفتهم ذلك من الأفلام المصرية، يغلق التلفزيون و يبصق على الشاشة و هو يصيح ( ها هم رجعنا ؟؟ تتكوّزني (تتزوّجني) و راح يتكوّزها و (خذني بعاري) تفو على هالبرامج . . بابا روحوا ناموا ).
ـ هههههههههه و الله حقّه . . صدك برامج تافهة في كثير من الأحيان. اسأل الوالد بكل جد او اسأل معلمكم مرشد الصف و انت طالب مجتهد، سيجيبك . .
كنت استفقد منذر الابن الصغير للجد كريّم الذي لم اره رغم استفساري الدائم عنه، منذر الذي كان اكبر مننا و كان يهتم بنا نحن الصبيان و يجيبنا على تساؤلاتنا بكل صراحة و وضوح و كان محبوباً من الجميع لبأسه و ميله للمسالمة و لإهتمامه بالعائلة و حنينه على افرادها . . . في احد الايام اخبرني محمود ابن الخال مزهر، باننا نستطيع رؤية منذر الذي كان يعيش متخفياً آنذاك لأنه (جندي فرار الآن) و قد فرّ من الجيش بسبب اشتعال الحرب في الشمال ضد الكرد بعد ان قُتل اخوه الجندي في احدى المعارك هناك . .
ذهبنا الى الموعد لرؤية منذر في شارع الجمهورية (الشارع الجديد) عند سينما هناك . . انتظرنا في باب السينما و كانت اعداد المتجمعين هناك في تزايد و كان غالبيتهم من الشباب، و لم افهم لماذا ذلك التجمع المتزايد هناك الى ان رفعوا لافتة حمراء كبيرة مكتوب عليها (السلم في كردستان ـ الحزب الشيوعي العراقي / محلية الحلّة) و كانت مقدمة لتظاهرة سارت و ملئت الشارع هناك و سارت بحماس كبير و سرنا معهم و انضمت اليها اعداد من النساء و من الكهول . . الى ان هاجمتنا قوة من رجال الشرطة بعصيّهم و من رجال الأمن الشاهرين مسدساتهم، و اشتبك المتظاهرون معهم بالحجارة و هم يسبوّهم . . و قد اعتقلوا عدداً منهم :
ـ كلاب . . نفس شرطة و امن نوري السعيد !!
ـ نفس الوجوه القذرة !
ـ على صخرة الاتحاد العربي الكردي تتحطّم مؤامرات الاستعمار و الرجعية !!
كان منذر شاباً اسمراً محبوباً من اهل المحلة و المحلات المجاورة لأنه كان يحب مساعدة الجميع ان احتاجوا لمساعدة و صار محبوباً اكثر من النساء اثر حبه لإبنة عمه الجميلة (بسمة) التي كانت تبادله نفس المشاعر، و كانت بيوت المحلة مفتوحة للقاءاتهما الطيبة المحترمة لترتيب امور مستقبلهما، خاصة و انه كان يعدّ للزواج منها بعد ان يكتمل مايجمعه من مال لتغطية نفقات العرس و بيت الزوجية، حتى جاء امر سوقه للجيش الذي كان يعني اضافة الى الاشتراك بالقوة في الحرب ضد الكرد و هم اخواننا و اصدق اصدقائنا المجرّبون بدون سبب واضح، كما كان يردد، اضافة الى انه كان يعني ان زواجه سيتأخّر بعد انقطاع اجوره من عمله في مطعم و عمله في علوة المخضّر . .
. . . .
. . . .
عدنا الى بغداد في مطلع ذلك الصيف، و كانت العاصمة ملتهبة بمظاهرات " السلم في كردستان" التي كان ينظّمها الحزب الشيوعي العراقي اساساً و كان لولب التجمعات الجماهيرية المطالبة بالسلم، و قد امتلأت حيطان الشوارع الرئيسية بشعارات : السلام ، الحكم الذاتي لكردستان العراق، تسقط عصابات الجاش و الجتة في كردستان . . و ذهبنا الى بيتنا بعد ان فارقنا الوالد، و فرحنا كثيراً بسلامة قطّتنا التي نسيناها في البيت الذي قفلنا ابوابه و شبابيكه، و نسينا ان نترك لها حريّتها بالخروج لشرب الماء و اكل ما كان يتوفّر، طيلة ايّام السفر . .
بعودتنا شاهدنا مجئ جيران جدد نزلوا في مشتمل بغرفتين اكملت بنائه ام سناء من اموال ابنتها شكرية التي جمعتها من معاميلها (!!) . . كان الجيران الجدد من اربيل و تكوّنت عائلتهم من أب كردي ارمل توفيت زوجته بالكوليرا بعد ان تركت له صبياً (جودت) و صبيتان (بارزة و باكيزة)، و زوجته التركمانية الشابة (ام رضوان) . . وقد زارنا الأب طالباً منّا العناية بعائلته عند غيابه عن البيت بسبب عمله كسائق شاحنة على خط اربيل ـ بغداد، بعد ان علم بأن الوالدة هي بنت الشيخ فخري . .
و فعلاً بذلنا جهدنا في محاولة ابعاد الصبيتين عن ام سناء و مكائدها، التي كانت تكلّفهما بخدمتها بشراء حاجات من السوق لاسباب كانت تفتعلها من مرض و عجز و و . . فكنّا انا و محمود نقوم بها و نعطيها للصبيتين لتسليمها الى ام سناء مع محاولاتنا لتشجيع الصبيتين على رفض طلبات ام سناء بالتدريج . . و تطورت صداقة طفولية علقت بالذاكرة بيني و بين باكيزة الجميلة بغمّازات خدودها التي كانت تتوضّح بابتسامتها . .
صداقة حفّزت عندي روح حماية باكيزة من ام سناء العقرب، الامر الذي طوّر صداقتنا اكثر فكانت تحدّثني عن امور كثيرة عنهم . . من وفاة والدتها في البيت الذي كان في محلة العرب قرب خانقاه في مدينة اربيل، الى زواج ابيها من الشابة التركمانية لتهتم باولاده، و كيف كان هناك معارضون لذلك الزواج من اهل الشابة التركمانية و كيف هددوا بقتلها و باشروا بالإعداد لذلك، و كيف نقلهم والدها مع اهم اغراضهم في ليلة ظلماء من اربيل الى بغداد، بعد ان وجد صديقه ذلك المشتمل لهم في بغداد . .
و في ذات يوم اخبرتني باكيزة، بأن ام سناء قالت ان مصلحة المياه ستقوم بتجديد شبكة الماء في المحلة، و ان البوري الرئيسي و عقدته يقعان في باب بيتكم و عند الشبابيك كما قالت، و لذلك جرى تعليم الموقع بالبوية الحمراء على حائطكم و على الباب بعلامات ضرب (اكس) . . و انهم سيبدأون العمل احتمال بعد اسبوع !!
في ذلك اليوم او فيما تلاه زارنا محمد ابن الخالة فائقة في ساعة متأخرة من الليل و كان متلثماً بـ غترة (كوفيّة) و قال لوالدتي :
ـ خالة سعاد . . عليكم ان تنتقلوا من البيت . . سمعت انهم سيعتدون عليكم بس الله يعرف كيف !!
ـ ليش عيني محمد ؟؟ ابو مفيد تارك البيت و انت تعرف، و الأمور تسير بهدوء . .
ـ خالة الله يخليّج و اكيد ابو مفيد يعرف، صارت الأمور غير شكل مو مثل قبل . . صارت محلاّت مقفولة للقوميين و البعثيين و عوائلهم و محلات مقفولة لليساريين، و ذولة عدنا هم البادئين و ماشين بيها بالقوة !!
ـ بس محمد احنا عائلة الشيخ فخري من ابرز من اسسوا محلة الشيوخ في الاعظمية !
ـ خالة سعاد ذولة مايعترفون لا بشيخ و لا باستاذ و لا و لا . . المهم يكونون بس قوميين و بعثيين في الأعظمية . .
ـ شلون يعني ؟؟ غير الكل عراقيين و كل واحد عنده الرأي اللي يشتهد بيه و المهم ان لايعتدي و لا يقوم بما حرّم الله ؟؟ بعدين لوين نروح ؟ هاي محلّتنا و هذا بيتنا و بنيناه بطلعان الروح . . زين منين نجيب فلوس للايجارات ؟؟
ـ آني المهم خبّرتكم و ابو مفيد يثق بكلامي، و اعرف انه للاسف تارك البيت حتى يجنّبكم المشاكل . . تره ماكو حل آخر . .
لم تستطع الوالدة ادراك مخاطر كلام محمد و كان من الثابت لديها انها ابنة تلك المحلة الاصلية و لا يمكن لأحد ان يقتلعها منها، خاصة انها ابنة الشيخ المعروف ببركاته و مساعدته للمحتاجين و للعوائل الفقيرة التي بجهوده و مساعدته استطاع ايصال ابنائها الى وظائف و مهن . .
و في تلك الأيام صادفتُ باكيزة و كانت تبكي بحرقة و خوف، و بعد سؤالي عن السبب لم تجب، و بعد تكرار تساؤلاتي و الحاحي عليها قالت :
ـ كنت اقرأ بالطارمة و صاحت عليّ ام سناء لأن اساعدها و انها تحتاج بيض و انها مريضة لاتستطيع الذهاب الى السوق . . قطعت قرائتي و اخذت منها النقود لشراء البيض، و بعد عودتي قالت لي بأن ادخل عندهم لأشرب شربت فرنجي لذيذ ارسلوه لهم من اوروبا، فذهبت و كانت هناك ابنتها شكرية و (ابن خالتها مفوض الأمن) و سألتني :
ـ انتي هواية تقرأين . . انتي بأي صف و شنو تريدين تصيرين ؟؟
ـ آني بصف السادس ابتدائي و هالسنة عندي امتحان بكالوريا . .
ـ زين و شنو تريدين تصيرين ؟؟
ـ معلمة !
ـ كل هالدراسة و كل هالتعب تريدين تصيرين معلمة ؟؟ انتي شنو غبية ؟؟ ولج انتي بجمالج تقدرين تصيرين مليونيرة . . انتي الرجّال يدك بيج يومية عشر مرّات و مايشبع !! مخبلة . . عاقلة ؟ و لج المعلمة ماتقدر تجني اكثر من عشرين دينار بالشهر . . تعالي يومية عندي و اجهّزج بانواع العطور و الكريمات التي تخليّ اقوى رجّال يذوب عند ريحة بس من ههههههههههه.
و قالت باكيزة بأنها شعرت بالخوف من ذلك الكلام و هربت من بيت ام سناء و هي تبكي من شدة الخوف و الألم لأنها كانت تسمع احياناً مثل تلك الاقوال من سرسرية بالشارع في اربيل ايضاً . . و اجتمعنا : مفيد و محمود و جودت اخو باكيزة و انا و تناقشنا بالمشكلة و اتفقنا بأن لانترك اية من اخواتنا تسير لوحدها في الشارع دون وجودنا معها او خلفها . . و ذلك ماجرى.
استيقظنا صباح ذات يوم و فتحنا باب البيت الخشبية و صادفنا رائحة نفط قويّة عندها و رأينا بابنا و هي مشبّعة بالنفط، اضافة الى النفط الذي شبّع قير الشارع امامها، و رأينا شبابيك غرفنا الخشبية المطلّة على الشارع قد طُليت بطبقة كثيفة من نفط اسود سال الى قير الشارع . . و لم نستطع بغياب الوالد تفسير ذلك بكل غشم (غشمنة) و تصوّرنا انه تنظيف من امانة العاصمة للوقاية من دودة الإرضة (الإرضة هي الدودة التي تعتاش على الخشب و تنخره) التي كانت منتشرة في نواحينا . .
في بعد منتصف ليلة الصيف ذلك و كنا نائمين في السطح . . استيقظت و انا في الفراش على رائحة دخّان كثيف جعلني اسعل ببلغم مسوّد، و اذ ادرت وجهي . . رأيت نيراناً هائلة كانت تجتاز و اعلى من السطح !! فاسرعت بايقاظ الجميع و اسرعنا الى الطابق الارضي و كانت النار تنبعث بقوة الى داخل البيت و تقطع الطريق للخروج من الباب الرئيسية الاّ بمخاطرة لا تُعرف نتائجها . .
و فيما حاولت الخروج وسط النيران لفتح الطريق لوالدتي و البنات اللواتي كنّ محيطات بي . . للخروج من البيت، اسرع مفيد لتضبيط انبوب السقي (الصوندة) على حنفية الحديقة الصغيرة الخلفية و اخذ يرشّ الماء على النيران، و حمل محمود السطل ليملأه بالماء و يرش الماء على النار . .
بعد ان استطعت اخراج أميّ و البنات بأن يكونوا خلفي في مواجهة النيران و للتخلص من الدخان الكثيف الذي ملأ البيت و الطارمة الخلفية الصغيرة . . خرجنا الى الشارع ! كان الشارع مكتظاً بالناس و بانواع الصيحات الداعية للانقاذ و قد امتلأ باغلب الجيران سواء كانوا معروفين او غير معروفين لنا، رجالاً و نساءً و هم يحاولون اطفاء النيران بكل الوسائل المتوفرة لديهم، من جرادل مليئة بالماء الى صوندات تحمل الماء، و الى خرطوم كبير للماء حمله القهوجي محمد راغب الكاولي من المقهى المجاور . .
اضافة الى صبيان و اولاد كبار لم اعرفهم . . كانوا يحملون التراب بقطع اكياس الجنفاص من الخرابة القريبة و يرموه على النيران، و خرجت الشابة التركمانية (ام رضوان) و جودت و بارزة بجرادل الماء و ربطوا صوندة لنقل الماء الى قرب بابنا و باشروا برشّ الماء على النيران . .
و في تلك الحالة المأساوية المخيفة، التي حمدنا الله فيها ان جميعنا كنا سالمين و لكننا لم نعرف بعد ماذا التهمت النيران من اغراضنا و حاجاتنا و الأثاث . . كانت ام سناء تصيح :
ـ يسقط عملاء موسكو . . !!
و كان الجار الحاج فاضل السامرائي يصيح عليها :
ـ انجبيّ ولج ام سناء انتي مو مال احترام . . ولج المحلّة دا تحترق . . الله يستر اذا اشتعل الكهرباء !!
ـ الموت لعملاء موسكو !!
ـ طبيّ لبيتكم ولج و حق هذا الله اشبعج ضرب اذا بقيتي بهالخريط . . ماعندج دين ماعندج عقل . . ولج هذول عائلة و بس الاطفال و امهم بالبيت . .
و كانت اصوات الناس و همساتهم و صيحاتهم تدور و تتعالى، سمعت منها :
ـ لم يأت الإطفاء الحكومي . . خابرتهم عدة مرات و يطلع تلفونهم بس مشغول !
ـ هذول يجوز متواطئين و ايّاهم !
و كانت الوالدة تصيح :
ـ برهوم ، محمد ، منوّر . . الحقوا !! بيتنا يحترق !!
و لكن لا استجابة لإستغاثاتها منهم، و قالت جدة امينة التي قدمت مسرعة من بيتها و لم نعرف من اخبرها في منتصف تلك الليلة، قالت :
ـ عيني سعاد . . برهوم عنده خفارة اليوم بالمطبعة، محمد بعد مارجع من سفرية الشام . . اروح الى بيت شعيب ابراهيم (بيت شعوّبي ابو البيض)، بالتأكيد شبابهم راح يساعدون !
و لم تنتبه ان شبابهم كانوا اول من جاءوا لإطفاء النيران . .
و هكذا . . كان هذا اول حرق لبيت على اهله لأسباب سياسية في الأعظمية . . . (يتبع)

27 /3 /2022 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.
- ذكريات الصبا.عفا الله عما سلف.9.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و آراء .8.
- ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و تشريد .6.
- ذكريات الصبا..اول ايار 1959 .5.
- ذكريات الصبا.. ابو الهوب .4.
- ذكريات الصبا..الملا مصطفى .3.
- ذكريات الصبا الخال مزهر.2.
- ذكريات الصبا..14 تموز .1.
- ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.
- ذكريات طفولة.. قصر الرحاب 15
- ذكريات طفولة..اخافة الوصي .14.
- مذكرات طفولة.. العراق المنصدك .13.
- ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.
- ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.
- ذكريات طفولة. . من هو .10.
- ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.
- ذكريات طفولة.. ذات صيف .8.
- ذكريات طفولة..تحطم طائرة .7.


المزيد.....




- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا.. و حرقوا البيت! .11.