أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.















المزيد.....



ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7113 - 2021 / 12 / 21 - 23:41
المحور: الادب والفن
    


مظاهرات قلبت موازين

في صيف ذلك العام اكتشفنا ان لدينا (جدّة) تركمانية، الجدّة عليّة ام تركي، التي لم نستقر نحن الأطفال على معرفة من تكون وفق منطقنا الطفولي . . هل هي زوجة اخرى للشيخ فخري ام من مريديه ام من مريدي طريقة صوفية اخرى صديقة لطريقة الشيخ فخري المنتشرة في كركوك آنذاك حيث كانت تسكن هي و ابنها العسكري تركي و عائلتها الكبيرة التي كانت هي الرئيسة فيها، في طرق صوفية دعت الى تساوي المرأة مع الرجل، و بها صار حلالاً ان تكون المرأة رئيسة للعشيرة ان توفرت فيها الصفات الاساسية للرئاسة او الزعامة العشائرية . .
كانت الجدّة عليّة التي كانت تتحدّث التركمانية، و لم تكن تجيد العربية كلغة حديث كما تجيدها كلغة قرآن و لغة قراءة و كتابة، كانت صديقة حميمة للجدة أمينة و كانت تبيت في بيتها كلّما زارت بغداد لزيارة مقام الكيلاني و الكاظم لتقديم النذور . . و كانت تزور " الشيخ كمر " و محمّلة بنذوره ايضاً التي كان منها خروفاً كبيراً بحجم العجل اتت به من كركوك، قررت ان يُقدّم الى الشيخ كمر كوفاء لعلاجه حالات مستعصية عانى منها عدد من نساء و رجال عشيرتها . . كانت حلوة المعشر تتحدث بفكاهة تنقلب الى جديّة تحوّل سحنتها الى سحنة حاكم جاد ينظر في قضية خطيرة . . و هي تردد " سبحانه في مكانه ".
من جهة اخرى اهدانا برهوم في تلك الفترة مجموعة من الطوابع البريدية، و شرح لنا كيفية تنظيمها في سيتات (مجموعات) وفق اثمانها و ان السيت يتكون من ثلاثة طوابع فما فوق و ايّها التالف و ايّها الصحيح، و ان معرفة ذلك يحفّز على التبادل بين هواة الطوابع و الأهم يحفّز على التعارف بينهم و عقد صداقات لا حدود لها . . و بدأنا بجمع الطوابع و اية طوابع راكنة من اقاربنا و من الاطفال في المحلّة و صارت لنا هواية تعلّمنا منها اسماء البلدان و اين تقع و شجّعتنا على ضرورة تعلّم الانكليزية كلغة عالمية مكتوب بها اسماء البلدان، بعد ان تعلّمنا الحروف الانكليزية و نطقها . .
و في خضم جمع الطوابع البريدية و ليس الطوابع المالية التي كانت تستخدم كأقيام ضرائب في المعاملات الرسمية و التجارية . . جمعنا كمية لا بأس بها من الطوابع السعودية التي كانت تتجمع لدى احدى خالاتنا التي كانت تستلم رسائل من زوجها الفلسطيني، الذي وجد عملاً مربحاً في احدى الشركات السعودية، و حاول اقناع الخالة بالسفر و الإقامة في السعودية، الاّ انها رفضت و قالت انها ( لاتستطيع العيش مع بدو و ناس يعيشون مع البعران و اهل عباءة و عقال)، و لاتتحمّل العيش مع حرّهم اللاهب و عواصفهم الرملية التي تأتي الينا بالعقارب الطيّارة و الله يستر مما تحمله الى الساكنين هناك . . و من تلك التصورات التي كانت احاديث ذلك الزمن . .
و لم تقتنع بمحاولات جدّتي لإقناعها و لا تسمع لحججها المتنوعة، من ان الزوجة لابد و ان تسند زوجها في الظروف القاهرة، و ان تعيش معه و انهما و هما يواجهان الصعاب معاً تتقوى عرى الزواج و العائلة . . و الى ان الدين يحرّم الفراق و الإنقطاع بين الزوجين، لأن فيه خراب الزواج و خراب النيّة في تكوين عائلة و اطفال، التي يدعو لها الدين وكل الاديان السماوية. اضافة الى محاولات الاقناع المتنوعة لها من سعاد و رحيم و برهوم الذين وصفوا لها بأن ذلك محطة اولى لجمع المال الضروري لتأسيس ناجح للعائلة و تحرر من الحاجة للناس . .
و لكنها بقيت على اصرارها و على انها ستتخرج العام القادم من الجامعة و انها ستجد بالتأكيد عملاً لأن اختصاصها الإداري مرغوب و ان لديها مايكفي من (الواسطات) للحصول على عمل براتب جيّد، و انها لاتحتاج لزوجها مالياً . . كما كانت تردد.
و في ذلك الصيف جرى تسجيلي في الابتدائية ـ الصف الأول، في مدرسة " تطبيقات دار المعلمين الإبتدائية " في الأعظمية . . و هي مدرسة نموذجية خاصة مختلطة للبنين و البنات . . عائدة الى كلية الملك فيصل الاول كوسيلة ايضاح و تطبيق للمعلمين الجدد سواء كانوا دارسين في الكلية او كمعلمين مطبّقين بإشراف اساتذتهم و حضورهم و حضور مجاميعهم في الصف، لملاحظة و تقييم عملهم و مدى آهليتهم ليكونوا معلمين نموذجيين فعلاً . .
كانت المدرسة تتكون من بناية كبيرة جميلة من طابقين بنسق اوروبي للمدارس، و لديها ساحتين اسمنتيتين و ساحة ترابية لكرة السلة و كرة الطائرة، و كنا نلعب عليها كرة قدم ايضاً . . و لها حدائق واسعة تمتد من " حديقة النعمان " المقابلة للمدرسة الى " حدائق كلية الملك فيصل " الواقعة خلف المدرسة، فيما يمرّ شارع الشباب على طول جانبها الأيسر . . و كانت الحدائق منظّمة و مقسّمة بحواجز مكونة من شجيرات ورد الجوري المتنوع، و فيها عدد من اشجار النخيل بينها اعلى نخلة شاهدتها بحياتي . . اضافة الى شجرتي سدر (نبق) عملاقتين، كانتا تحمل نبقاً لذيذا كناّ نجمعه في مواسمه من الارض لنغسله و نتناوله . .
و كان للمدرسة اضافة للصفوف، مكتبة و امين مكتبة الاستاذ اللبان . . و قاعة كبيرة للرسم تحتوي على دواليب للالوان المختلفة سواء كانت اقلام او الوان مائية او فحم او زيتية . . يمكن الرسم فيها على مناضد او على حوامل لوحات او على اغطية على الارض، و كانت لوحات جميلة معلّقة على جدرانها . .
و كان معلّم الرسم فيها آنذاك الاستاذ ميران السعدي الذي اشتهر كمثّال بعد سنين، في زمن كان فيه معلمي الرسم يشجّعون الطلبة ذوي القابليات الفنية المختلفة و يفسحون لهم المجال و يزوّدوهم بما يحتاجون من مواد و ادوات على نفقة المدرسة، في تجربة عشتها انا في السنوات اللاحقة كهاوي للرسم، و كانت تلك القاعة تستخدم للاحتفالات و للحفلات الموسيقية التي كان يحييها المعلمون او الطلاب او طلبة مدارس اخرى . . الأمر الذي كوّن محيطاً ساعد على خلق مناخٍ ايجابيٍ، جاذباً للخلق و الإبداع لدى طلاب تلك المدرسة الإبتدائية، بأعمارهم تلك . .
و بعد الإعلان عن بدء الدوام و تحديد موعد بدء العام الدراسي الجديد . . اوضحت الوالدة ضرورة شراء القرطاسية الضرورية لذلك من السوق الجديد قبل يوم او يومين من موعد الافتتاح، فذهبنا امي و اخوتي و انا بعد ان استدانت مبلغاً من جدتي، التي اعتبرته هدية لنا لمناسبة افتتاح المدارس ذلك العام . . و مررنا على انواع المعارض و المخازن التي امتلأت بحاجات المدارس، من الدفاتر و الاقلام و المساطر و الى انواع الحقائب و الشيّالات و القمصان و القمصلات و الاحذية الرياضية . . و تحت الإضاءات الساطعة، من بعد ظهر ذلك اليوم و حتى هبوط الظلام.
و بعد نقاشات و مفاوضات بيننا و بين والدتي عن ايّهما الاجمل، و ايّهما الأصلي و ايهما الرخيص، اشترت والدتنا لنا ماهو ضروري و هي المعلمة الخبيرة بحاجات طلاب المدارس الإبتدائية و باسعارها الحقيقية بعيداً عن محاولات النصب الفارغة في بعض الحاجات و خاصة الحقائب و ادوات الرسم و التلوين، التي قررت شرائها من الحاج ياسين الذي كان مخلصاً لعائلة والدتي من ولائه للشيخ فخري و وفائه له . .
و في اليوم الاول للدوام . . اصطف طلاب و طالبات صفنا الاول الشعبة "ب" باشراف و ترتيب طالبة من الصف الثالث الابتدائي اسمها هيفاء التي ابتسمت لي و قالت انها تعرفني من زمن روضة الإرشاد حين كانت في صف اعلى، و انها تتذكّر ما صار للمعاونة الست كميلة على يدي هناك، كما قالت . . كان الإصطفاف في الساحة المبلطة تحت شجرتي السدر العملاقتين، في المكان المخصص لنا، بعد ان جرى تقسيم الساحة لإصطفاف جميع الصفوف، كُلاً في ركن ، مشكلين بذلك مربعاً كبيراً فيه زاوية مفتوحة لمتحدثي ذلك اليوم . .
تحدّث المدير الاستاذ أمين رشيد مرحباً بنا في بداية العام الجديد، ناصحاً ايّانا بالتعاون و المحبة بيننا و اهمية عطف الكبير على الصغير و مساعدته، و مساعدة المحتاج الى مساعدة، و الى ضرورة اطاعة التعليمات المدرسية التي وضعت لخدمتنا و الابتعاد عن العنف في حل المشاكل . . تلته قصيدة لإيليا بو ماضي لأحد طلبة الصف الخامس ثم كلمة لآمر فصيل كشّافة المدرسة حيدر الذي تقدّم على وقع طبول صغيرة و راية الكشافة الداعية الى خدمة الوطن . .
ثم انشد الجميع نشيد " موطني " و كنا نحن الجدد الذين لانعرف النشيد، كنّا ندندن معهم و على اللحن بعد ان اقسمنا على حفظه على الغيب للمرات القادمة . . بتلك المراسيم الجميلة التي اضفت جمالاً و جاذبية لبدء العام الدراسي، استقبلنا العام بملابسنا و قرطاسيتنا و حقائبنا الجديدة و كأننا في عيد حقيقي . .
دخلنا لأول مرة في الصف الأول الإبتدائي، و جرى توزيعنا على الرِحْلات الدراسية حسب الطول و صرت على رحلة واحدة مع زميلتي نهلة الجنابي التي صارت مهندسة، و خلفنا زبيدة الأخت الصغرى لـ د. عبد الصمد نعمان التي صارت بروفسورة في علم الامراض في المملكة المتحدة بعد ان اكملنا كلية طب بغداد معاً، و الى جانبنا الزميل و صديق الطفولة و الصبا د. محمود اكرم الهاشمي الذي تخصص لاحقاً بالصحة المدرسية بعد ان اكملنا كلية طب بغداد معاً ايضاً .
و ضمّ الصف، ابناء جيراننا الكرد : سرور صادق بهاء الدين من العمادية الذي صار طبيب اسنان لاحقاً ، الذي كان يداعبه مرشدنا استاذ جهاد بقوله له بلطف " جوني كاكه سه رور. . . جاكي ؟؟ للاسف آني كردي نازاني" في خليط لغوي مضحك عربي ـ كردي و لكن دافئ، يمكن ان يكون مفهوم القصد البرئ المتعاطف، و المهندس لاحقاً جيهان بالطة من بامرني الذي صرنا نكتب واجباتنا المدرسية معاً في حديقة النعمان لاحقاً . .
و ضمّ الطيار اللاحق البطل سعد عبد المحسن الأعظمي الذي أُسقطت طائرته في حرب حزيران 1967 و بقي في السجون الإسرائيلية لسنوات ثم اطلق سراحه بعملية تبادل اسرى لاحقاً و حصل على اعلى وسام عسكري، ثم اشترك في حرب تشرين 1973 و أُسقطت طائرته ايضاً و ضاعت اخباره على حد علمي، و د. ميسون اسماعيل حمودي ابنة الخبير الرياضي الشهير آنذاك . .
اضافة الى زملاء آخرين صرنا في صف واحد في السنوات اللاحقة، كانوا آنذاك في الصف الأول الشعبة أ . . منهم د. فريد محمد سليم تخصص كومبيوتر المكتبات في الإمارات الآن، وليد حميد شلتاغ الدبلوماسي و القانوني المتخصص، د. جعفر حميد فرج الذي اكملنا كلية طب بغداد معاً . . و زملاء انتقلوا الينا في سنوات لاحقة من مدارس اخرى، منهم السياسي المعروف المهندس سلم سعدي علي، د. فيصل عبد القادر العاني الذي اكملنا كلية الطب لاحقاً معاً . . و أخريات و آخرين آسف على عدم تذكّر اسمائهم الآن . .

كانت الأيام تدور بهدوء هناك، بعيداً عن الجمر الذي بدأ يتّقد تحت الرماد في البلاد . . كنا نمشي كلّ صباح مسافة ثلاث مناطق باص الى المدرسة اخي و انا من جهة، و زبيدة و اخوها محمد الذي كان يسبقنا بصف من جهة اخرى، كل اثنين بمجموعة و من جهتنا كنا اخي و انا، نمشي لنوفّر اجرة الباص و نضيفها الى يوميّتنا . . كنّا نمرّ باعمال بناء شارع الإمام الاعظم التكميلية و بناء العمارات الجديدة على طرفيه، التي لم يخلو يوم من وقوع حادث فيها من سقوط عمّال او حوادث دهس مؤسفة لبعضهم سواءً بالناقلات الكبيرة او تحت فلتان الرافعات، و الى انكسار او تكسير انبوب ماء رئيسي بالخطأ و غرق الشارع بمائه، الذي كان يحوّل الرصيف الى ممر حرج او مخطور . .
في احد الأيام . . تغيّر المناخ العام للحياة اليومية باستقالة الحكومة و إعلان الأحكام العرفية و لا كلام عن البرلمان او دوره، هل جرى حلّه ام جُمّد ام ماذا ؟؟ الأمر الذي غيّر امزجة الناس و اشاع الخوف بينهم مما يمكن ان يأتي، و كانت الناس تردد ان الذكرى الاولى للعدوان الثلاثي صارت قريبة و ان علينا ان نستعد لإحتمال تكرر العدوان على بلادنا ذاتها . . في صباح اليوم التالي خرجت لوحدي للذهاب الى المدرسة و لا اتذكّر سبب ذهابي لوحدي، و التقيت بزبيدة برفقة ابيها بسبب مرض اخيها الذي اعاقه عن الذهاب الى المدرسة كما جرت العادة، كما قالت . .
سحبني ابو زبيدة بلطف ليتحدث معي، و قال لي بهيئته المهيبة ، بطوله و بكشيدته و نظاراته الطبية و بلهجة ابوية وديّة :
ـ ابني آني أأتمنك على ابنتي زبيدة لتوصلها يومياً معك الى المدرسة لأن الامور تتطور الى اوضاع بس الله يدري شنو راح تصير، و ادفع لك عشرة فلوس يومياً مقابل ذلك، ماذا تقول ؟؟
و وضع بيدي عشرة فلوس بشكل ستر ذلك من رؤية ابنته . . فرحت بالمبلغ و انا اقول له طبعاً عميّ زبيدة مثل اختي . . و اشكرك على العشرة فلوس، بس لازم اخبّر والدتي بذلك كما اخبرتنا و تؤكد على ذلك . .
ـ زين ابني براحتك . . خبّر بنت الشيخ فخري و تحياتي الحارة لها و لجدتك.
اخبرت والدتي بما اعطاني و ما قاله الحاج نعمان الأعظمي و سلامه عليها و على جدتي . . فزعلت منيّ لأني قبلت مبلغاً من اغراب من خارج العائلة و قالت (رغم محبتنا و اعتزازنا بعائلة الحاج نعمان الأعظمي و ابنه الدكتور عبد الصمد، نعم ترافق زبيدة لأنه واجبك تجاه زميلتك و اختك، بس ممنوع تستلم فلوس عليه، ابني الفلوس تحطّم المحبة و العاطفة الصادقة . . ترجّع العشرة فلوس و تسلّم لنا على الحجّي و تقول له : بعيني حجيّ اقوم بالواجب، بس ما آخذ اجرة عليه)، و ذلك ماحدث في اليوم التالي، و استلم الحاج نعمان العشرة فلوس التي اعطاها لي في اليوم السابق و قال و الدموع تنساب من مقلتيه:
ـ هذي تربية اصيلة ابني . . لازم تهتمون ولدي بأمكم و ابيكم، تره همّه السند الحقيقي الوحيد لكم . . و من يدّعي عليكم بغير ذلك فهو ليس الاّ كاذب ابني !!
كانت اذاعات صوت العرب و موسكو ثم بي بي سي و عديد من مختلف وسائل الإعلام العالمية، تقوم بنقل تفاصيل لما حصل ايّام العدوان الثلاثي في العام المنصرم، و خاصة انباء مقاومة فرق المقاومة الشعبية للشباب المصري و تضحياتها في بورسعيد التي هزّت العالم حينها، و كيف صعّدت تلك الأحداث روح الاحتجاج و الرفض في الدول العربية و خاصة في بغداد، التي انطلقت فيها انواع التظاهرات العفوية المستنكرة في العام الماضي . . و تضيف ان توترات تنبئ بحصول مظاهرات حاشدة في العام الجاري يمكن ان تغيّر انظمة حكم عربية، و تنقل اخبار و تفاصيل عن استعدادات جماهيرية لذلك في بغداد، كانت تزيد الحماس بين الناس . .
زارنا سعدون و مما قاله لوالدي :
ـ الدولة مستنفرة من صدك . . الجيش و القوات المسلحة بأعلى درجات الإنذار لصد اية مؤامرة على حد نص الإنذار، و يعتقدون ان ساعة الصفر ستكون في يوم الذكرى الاولى للعدوان الثلاثي في 31 اكتوبر تشرين اول في الشهر الجاري.
و تزايدت زيارات لبيتنا بسرية و تكتم، و ازدادت نقاشات فردية او جرت من بعضهم مع بعض معاً ، مع صوت مرتفع قليلاً لموسيقى و اغاني عربية من مذياع موجّه للشباك، حيث كان مايثير الإنتباه مع كل زيارة لشخصين او اكثر، كانت قرج المحلة ام سناء تصيح من باب بيتها المقابل لبيتنا، صياحاً عالياً و متكرراً :
ـ يسقط عملاء الروبل
ـ الموت للشيوعية
ـ كفّار (ارسل عليهم طيراً ابابيل ترميهم بحجارة من سجيّل) صدق الله العظيم.
تبيّن من تشابك الصلات و القرابات، انها كانت مكلّفة من زوج ابنتها وكيل الامن بمراقبة بيتنا و القيام بانذار له عندما تشاهد ان هناك اجتماعاً يُعقد في بيتنا، لكنها لم تعلم ان زوج ابنتها كان تحت إمرة ضابط امن متعاطف مع جماعة عبد الرحمن الضامن القومية، الذي امره بإشاعة ان ام سناء تعاني من لوثة نفسية بسبب هروب زوجها الى المسقوف، و تعتقد ان الجيران هم السبب . . و الواجب تهدأتها، و ذلك ماحصل حيث ان صياحها ذاك لم يؤديّ الى نتيجة .
و قال لنا الوالد :
ـ ولدي انتو تجلسون و تكونون عند باب البيت للتنبيه عن اي شئ غير طبيعي يقترب من البيت !! سيارة شرطة تحقيقات، مسلحين مجرمين، ملثمين، حرامية . .
و كان ممن زارونا : برهوم، سعدون، بثينة البستاني، ناهدة شيخ رشيد، يعرب البراك، عبد الرزاق الصافي، عامر عبدالله، الشيخ الحيدري (جمال الحيدري بملابس رجال الدين الصوفيين)، اخيه صالح الحيدري، عبد الرحمن الضامن، عبد الخالق السامرائي، اقارب عن محمد مهدي كبه، صالح اليوسفي . . لتبادل الأخبار و لتحديد ما العمل . .
و في احدى اللقاءات تلك قال عامر عبد الله و قد قرأ في رسالة :
ـ الشئ المهم الآن، علينا ان نسير وفق خطة جبهة الإتحاد الوطني التي تم الإعلان عنها . . نسير في حركتنا بالتعاون و وفق اهدافنا المشتركة مع الاحزاب القومية و الوطنية في الأعظمية كما سيجري في مناطق اخرى من بغداد، بعد ان تشكّلت الجبهة في شتاء ذلك العام، لتكون خططنا ناجحة في التطبيق و نحقق اهدافنا . .
و اضاف برهوم :
ـ نرجو ان تكون الجبهة اكثر نجاحاً من تجربة 1952 الإنتخابية حيث بقيت القوى مشتتة، و ان تكون على خطى التعاون في وثبة كانون 1948 . . الآن بتقديري ستكون اكثر نجاحاً، بجهود سلام عادل سكرتير الحزب الشيوعي و محمد حديد من الحزب الوطني الديمقراطي لأن سكرتيرهم الجادرجي مسجون الآن . .
بعد ان استطاع حديد اقناع الاحزاب القومية الاكثر تطرفاً في مواقفها ضد الحزب الشيوعي و الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) و حقوق الكرد، استطاع اقناع حزب الإستقلال خاصة و البعث القليل العضوية و الجماهيرية بأهمية عضوية الحزب الشيوعي فيها و بإسمه الفعلي و ليس بإسم آخر، بسبب ما لمسه حزبه من جماهيرية الشيوعي الكبيرة . . و استعداد سلام عادل لطباعة اي بيان تريده احزاب الجبهة في مطبعة الحزب السريّة، فيما واصل الحزب الشيوعي تحالفه مع البارتي الذي شكّل سنداً متيناً للجبهة . .
كان برهوم المنسّق مع القوميين يقول :
ـ عندنا في الأعظمية اغلبهم يتجهزون بالسلاح، و شكّلت الاحزاب القومية مجموعات عنفية مكونة ليس بالضرورة من اعضاء فيها، فعدد منهم اشقياء محلات معروفين . . لا اعرف ماسيؤدي ذلك، رغم تأكيداتنا على عدم استخدام الاسلحة النارية، و الإلتزام بالدفاع عن النفس بالحجارة و العصي اذا حصل اعتداء او التوجه لإعتداء . .
و اضاف صالح الحيدري :
ـ هناك معلومات و اخبار من داخل القوات المسلحة و من تنظيمنا فيها، عن وجود خوف عام بين رجال الحكم من الشعب، و اعلان عدد من الضباط و الآمرين، بأنهم لن ينفّذوا الاوامر العسكرية، ان دعت الى مهاجمة المتظاهرين !! لأن النظام الحاكم صار مفضوحاً اكثر، و لأنهم صاروا مقتنعين اكثر بمطالب الشعب منذ انتفاضة العام الماضي و سقوط شهداء و جرحى !!
و كرر ذلك سعدون اعتماداً على اخبار استخبارات اللواء الرابع و العشرين . .
من جانب آخر، تزايدت النشاطات المتنوعة بشكل سريّ و بأقصى السريّة للقوى المتعددة للتحضير للتظاهرات، و وضعت اسس اولية و قواعد للتحرك السلمي و عدم استخدام السلاح الناري، و الدفاع عن النفس بالحجارة و اقصاها بالعصي و جرى تكرار في حالة الدفاع عن النفس ! في الاعظمية يوم 31 اكتوبر، و جرى توزيع المهام كالتالي :
اعدادية الاعظمية للبنين و ثانوية الأعظمية للبنات تنظيم نشاطها للاحزاب و القوى القومية العربية التحررية مثّلهم السامرائي، و المنسّق معهم برهوم ، كلية الملك فيصل الاول تنظيم نشاطها لليساريين عرباً و كرداً باحزابهم و قواهم، مثّلهم كريم احمد و عامر عبد الله عن الحزب الشيوعي العراقي خريجا الكلية، عبد الرحمن القصاب عن حزب الشعب، حسين جميل عن الحزب الوطني الدمقراطي، صالح اليوسفي و دارا توفيق عن البارتي، اضافة الى ممثلي قوى و جمعيات وطنية و قومية متنوعة في مقدمتها جمعية الكرد الفيلية، و تجمّع الآثوريين و الصابئة المندائيين . .
اضافة الى التنسيق مع ما يجري من الصراع داخل الحكومة، وفق الأخبار التي ترد من المصادر الموثوقة المذكورة آنفاً . . و خاصة الصراع الذي يمكن ان ينفجر بين اطراف حكومية و نيابية عليا و الوحدات العسكرية في حالة عدم تنفيذها اوامر مهاجمة المظاهرات . . و تنسيق ذلك مع الاحزاب الوطنية بكل سريّة، يقوم به من كُلّفوا بذلك . .
. . . .
. . . .
انطلقت التظاهرات بأعداد اكثر من المتوقّع في شارع الشباب في الاعظمية . . بشعارات دعت الى : " الخروج من حلف بغداد " ، " اطلاق سراح السجناء السياسيين " ، " عاش تضامن الجيش مع الشعب " ، " تعالوا نجدد الوثبة " ، " المجد و الخلود لشهداء بور سعيد الابطال " و ادانت العدوان الثلاثي و طالبت بالخبز و الحرية و العمل . .
في ضحى ذلك اليوم . . كنّا في الصف عندما سمعنا ضجّة و صخباً يتعالى و يقترب من المدرسة، و زار صفّنا معاون المدير طالباً من الاستاذ الفنان كمال معلّم الفنية بهدوء و بصوت واطئ، ان يخرج الطلبة و الطالبات بصفوف منتظمة و ان الدوام انتهى لذلك اليوم، كي لاتتحوّل المدرسة الى ساحة صراع بين المتظاهرين و الحكومة و حفاظاً على الطلبة من الأذى و من مايمكن ان يحدث . .
خرجتُ من المدرسة الى شارع الشباب حيث كانت المظاهرة الحاشدة و عشرات جدد شابات و شباب ينظمّون اليها و الهتافات تعلو ، هاجم مقدمتها رجال الأمن و الشرطة بالدونكيات و اشتبك معهم المتظاهرون و طروّهم بالحجارة، و كنت اتصور نفسي صاحب تجربة من العام الماضي، فاخذت اجمع الحجارة مع صبيان و اطفال آخرين من الشارع، في الاكياس المتوفرة سواء كانت ورقية او غيرها، و نسلّمها و نمررها للمتظاهرات و المتظاهرين . .
لاح لي وجه نسائي جميل من المتظاهرات نادتني بإسمي بأن اقترب لها، استطعت معرفتها بأنها ست " ناهدة شيخ رشيد " التي كانت تزور والدتي بين حين لآخر، و تذكّرت كيف جَمَدتُ و انا اقف في الصف عندما سألتني سؤالاً بسيطاً بقيت ساكتاً و انا اتطلّع بها و قلت لها :
ـ ست انتي شكد حلوة . .
و اجابتني بابتسامة :
ـ نحن الآن في واجب . . استريح ابني.
قالت لي و نحن في المظاهرة التي كان يصعد فيها الحماس و الهتافات :
ـ احنا المعلمات و الطالبات سنحملك على اكتافنا لتهتف بصوتك بأعلى ماتستطيع !
حملنني على الأكتاف و بدأت اهتف عالياً و اردد مايهتفن :
ـ يسقط الإستعمار
ـ يسقط عملاء الإستعمار
ـ اطلقوا سراح السجناء السياسيين
و قد لعب طلبة " كلية الملك فيصل " ، " اعدادية الأعظمية للبنين " ، " ثانوية الأعظمية للبنات " ادواراً بطولية سواءً في الشارع او من سطوح مبانيهم . . بالهتافات و طرّ الحجارة، و الهبوا حماس والتفاف سكنة كل محلاّت الأعظمية من النساء و الرجال الذين تزايدت اعدادهم بشكل كبير، هاتفين بإسم الأحزاب الوطنية و القومية و اليسارية . .
و تزايدت اعداد رجال الامن و الشرطة من حاملي العصي و الدونكيّات و اشتدّ هجومهم على المتظاهرين من جهة، و من جهة اخرى تسلل عدد منهم الى سطوح ثانوية الاعظمية للبنات و اخذوا يقذفون المتظاهرين بالقنابل المسيلة للدموع و قنابل الغاز . . الاّ ان اطلاقتين ناريّتين من المتظاهرين في الهواء و هتاف " يسقط نوري السعيد " ، " تسقط الملكية و الموت للقتلة " . . جمّدت الحالة لثواني اخذ بعدها رجال الشرطة و الامن بالهروب تحت ضربات الحجارة.
و من شدّة فرحي و انا اشاهد هروب رجال الأمن و شرطة الدونكيات . . استمريت بالهتاف و بصوت اعلى و اعلى . . حتىّ انفجر شئ امامي محدثاً دخّاناً كثيفاً حجب عني الرؤية و كاد يخنقني و لا ادري ماحصل و ما سيحصل بعد ذلك . . لأني فقدت الوعي !!
. . . . .
سمعت المتظاهرات و المتظاهرين و كان الوعي قد بدأ يعود لي تدريجياً، و هم يقولون :
ـ انهم يرمون علينا قنابل غاز و قنابل مسيلة للدموع من سطوح ثانوية البنات التي احتلوّها . .
ثم هتافات :
ـ قتلوا الصبي !! الموت للقتلة !! الموت الموت للقتلة !!
و كانت التظاهرة كلّها من اقصاها الى اقصاها تردد ذلك الهتاف . . و كنت اسمعه كصدى هائل يهزّ الشارع و مبانيه !!
عاد لي الوعي و وجدت نفسي محمولاً و انا راقد على فراش او سدية لنقل جرحى و التقت عيني بعيني ست ناهدة و هي تقطّر على وجهي و شفتيّ ماءً بارداً من قماش في محاولة لإنقاذي او ايقاظي . . و وجدتني اتحرّك و ابتسمت ابتسامة كبيرة و صاحت :
ـ الحمد الله انه حي ! . . حي !
سمعتُ مكبرات الصوت من وحدات الجيش التي استقدمت بالسيارات المدرعة و توقفت بمسافة عن التظاهرة، و هي تنادي :
ـ اخواتي اخواني بلا رمي رصاص رجاءً
ـ عاش تلاحم الجيش مع الشعب !
ـ نحن لانطلق عليكم . . احنا اخوانكم !
و اجابتهم حشود من المتظاهرين الذين صعد عدد منهن و منهم على المدرعات :
ـ نحن اخوان الجنود و اعداء الاستعمار و اذنابه !
ـ الجنود اخواننا و الحكام العملاء اعداؤنا !
. . . .
. . . .
اعادتني ست ناهدة و صديقاتها الشابات الى بيتنا و حملن حقيبتي المدرسية و دفاتري، و حملنني عندما شاهدن ترنّحي في السير . . حملنني كأنما يحملن شيئاً عزيزاً غالياً او مقدساً و هنّ يتباهين بي و بدورهن بمساعدتي امام المارّة و رجال المقاهي و محلات السوق التي بدأت اضواءها تنير الطرقات وقت الغروب، وسط كلمات تشجيع و تصفيق بين آن و آخر . (انتهى)

(انتهى الجزء الاول من " ذكريات بغدادية " يليه الجزء الثاني )

21 /12 /2021 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات طفولة.. قصر الرحاب 15
- ذكريات طفولة..اخافة الوصي .14.
- مذكرات طفولة.. العراق المنصدك .13.
- ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.
- ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.
- ذكريات طفولة. . من هو .10.
- ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.
- ذكريات طفولة.. ذات صيف .8.
- ذكريات طفولة..تحطم طائرة .7.
- ذكريات طفولة سعدون .6.
- ذكريات طفولة .5.
- ذكريات طفولة .4.
- ذكريات طفولة .3.
- ذكريات طفولة .2.
- عن بيان سماحة المرجع الاعلى حول الانتخابات
- ذكريات طفولة .1.
- الانتخابات: التشرينيّون و صراع الميليشيات .2.
- الانتخابات: التشرينيّون و صراع الميليشيات .1.
- المناضل الكبير كاظم حبيب . . وداعاً !
- افغانستان و تغيّر الستراتيجية الاميركية .2.


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.