أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.















المزيد.....


ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7079 - 2021 / 11 / 16 - 20:22
المحور: الادب والفن
    


مفاجئات

كانت عادة العوائل البغدادية ارسال ابنائها في العطل الصيفية الى ما يشغلهم او الى عمل للحصول على مهارة او صنعة ما منذ الطفولة ليتقنوها كباراً، كمساعدين او صانعين لفيترية او مساعدين لبقالة او في علوة او مطعم و غيرها من الاعمال، كبيع حلويات في ناصية الشوارع و ما يحصلوا عليه يكون لهم كدخل، كعادة تُعلّم الصغار معاني المسؤولية و العمل و الربح، او ليكونوا مساعدين لبيت العائلة في المصروفات . . اضافة الى العوائل الفقيرة جداً التي تعيش بالكاد، التي لاترسل ابنائها الى المدارس، او تكتفي بحصولهم على الابتدائية، و ترسلهم لمختلف الاعمال الدائمية و المهن لتحسين دخلها حتى يصبح دخل الكفاف بدل العوز و الفقر و الجوع . .
و هناك عوائل اخرى ترسل ابنائها في الصيف الى بيوت الأعمام والأخوال، للمساعدة في اعمال البيوت، و لتقوية العلاقات العائلية الاوسع، و كانوا بذلك يخففون عنهم حملاً من بقاء ابنائهم في البيوت بلا شاغل او مشغلة، قد تحرفهم عن الطرق السليمة بوجود اعداد من اولاد الشوارع . . كان اهلنا يرسلونا الى بيت عائلة عمنا الكبير عبد الإله في محلة الفضل، لمساعدتهم في اعمال المنزل و التسوّق لغياب الأبناء الذكور . . الذين كانوا بشكل متّصل او شبه متواصل في السجون السياسية او مطاردين و مختفين خارج المنزل . . و كان البيت تحت رقابة شبه دائمة من رجال الأمن، بينما يعجّ ببنات العم الشابات الاكبر منّا سنّاً . .
كان بيت العم شرقياً واسعاً ككل بيوت تلك المنطقة، مكوّناً من مجاز واسع يفضي مباشرة الى غرفة الديوان (البرّاني) كما كانوا يدعوها، و هي للضيوف و مبيتهم، و كانت معلّقة في صدرها لوحة فنية كبيرة مهداة من الرسام الشهير آنذاك خالد الجادر . . كانت تُصوّر خيمة عربية كبيرة و ضيف وحرس وعبيد وسجادات حائط .
كنت انام في العادة في البرّاني، مع العم الذي كان يشكرني على المساعدة، بصوت غلب عليه الجدّ، و كنت اتناول الطعام معه ومع ابنته الأثيرة ضويّة المصابة بفقر الدم لاسباب لم تُحدد، التي كان يهيم بها لشبهها الكبير بأمه، و كان يحضّر لها قطع من الاكباد المشوية لتتناولها يومياً مع الطعام، و كنت اقوم بواجبات الضيافة لضيوف عميّ عند زيارتهم له . .
و كان المجاز ينفتح في نهايته الى اليمين على طارمة كان جزءاً منها مسقوفاً، حيث كانت هناك ماكنة خياطة منضدية، تقوم على خياطة الملابس عليها ابنة عميّ الكبرى ساهرة، التي تخرّجت حديثاً من دار المعلمات و اشترت براتبها الاول تلك الماكنة، ماركة سنجر . . و كانت بنات العم يجلسن حول الماكنة عند قيام ساهرة بالخياطة و هنّ في نقاشات متنوعة، و احاديث اجتماعية و سياسية بينما يكنّ منهمكات باعمال التفصيل و قص القماشات و مجلات المودة، و خاصة ملاحق مجلة "حوّاء " المصرية . . و يتحدثن مع ضيفاتهن، خاصة امرأة الحاكم الصغيرة الجميلة ذات فم اللوزة جارتهم باب على باب كما كان يقال، التي كانت تفصّل ملابسها عندهن مقابل هدايا من اقمشة ثمينة كانت تحملها الى بنات العم . . أحاديث تستمر الى ساعة متأخرة من الليل او الى مجئ العم في تلك الساعات، فينهين جلساتهن، ليحافظن على الهدوء الذي يحتاجه لينام كما كان يؤكّد دائماً بصوت مرتفع.
. . . .
. . . .
صباح ذات يوم زارتنا د. نزيهة للبيت و كانت معها رويدة بنت شيخ رشيد، المعلمة السياسية النشيطة التي اعتقلت اكثر من مرّة في المظاهرات، و طلبت من الوالدة ان كانت تستطيع مساعدتهما للذهاب الى بيت السجين السياسي يقظان، لأنها ارادت زيارة اخته ساهرة . . و بعد نقاشات توصّلن الى ان اذهب معهما لأدلّهما انا على البيت، فوافقت الدكتورة بعد ان تأكّدت من والدتي و منيّ بأني اعرف اين يقع البيت فعلاً، بشرط وصولنا الى جامع محمد الفضل على شارع غازي كما اشترطت . .
فذهبتُ مع المرأتين الملفعات بالعباءات، بتاكسي الى مكان الجامع و مشينا في زقاقه و دللتهما على البيت، و بينما اختلت د. نزيهة برويدة و ساهرة في البرّاني، و كان هدفها من الزيارة تعريف رويدة على ساهرة لأنهما كانا يقودان خطوط نسائية سياسية نشيطة آنذاك، كما عرفت بعد سنين، و بعد احاديث قصيرة تركتهما د. نزيهة . . و بقيتُ انا مع بنات عميّ اللواتي رحّبن كثيراً بي لأني لم ازرهن في ذلك الصيف الذي بدأ يقارب على نهايته . .
و ذهبت مع ابنة عميّ هنّاوي التي كانت من سنيّ او اكبر منيّ بسنة واحدة، و كانت تجمعنا احاديث و احاديث، الى محل ناجي لشربت التمر هندي، الذي كان يعبّأه بالقناني الصغيرة لمشروب السودة، المكتوب عليها بالأنكليزية . . الشركة الغازية للسيفون الوطنية، او بدون كتابة او او مكتوب عليها " ايكو " فقط . . سودا صودا . . و كنت احب شربت ناجي التمرهندي ذا السعر الرخيص الذي لم يتجاوز الفلسين للقنينة كما اتذكّر . . و كنّا نشرب اكثر من قنينة، و قناني نحملها الى البيت، على ان نرجّعها فارغة اليه . .
و بقيت في تلك الليلة في بيت عميّ، و قرّرت البنات ان ننام في السطح لأن الدنيا لاتزال حارّة . . كان السطح واسعاً و محاطاً بالواح خشبية او زينكو بارتفاع مناسب لا يخنقه و لكن يجعله بعيداً عن العيون المتلصلصة ان صحّ التعبير، لسطح تنام فيه تسع بنات اصغرهن هنّاوي، بل و كان السطح عالياً قياساً الى سطوح الجيران، و يشرف على سطوح متعددة تمتد الى محلة المهدية المجاورة، و كانت هناك في السطح زاوية مغطاة في الفيئ، تتراص فيها عدة مشارب لمياه الشرب الباردة، و ثلاجة خشبية محلية الصنع، فيها اشياف من رقيّ و بطيخ . .
استيقظنا في الصباح الباكر هنّاوي و انا، مع قرصة برد تشرين و على سجع الحمام و انواع الطيور التي كان سجعها و وشوشاتها الخافتة احياناً و العالية الضّاجة احياناً اخرى توقظ النائمين، و جلب انتباهي ان هنّاوي كانت ترشّ لهم الدخن الذي كانت تحفظه في وعاء مغلق تحت سريرها، آملة بلمس طير الحمام الابيض الذي احبّته، و صاحت عليّ :
ـ انظر الى طيرك الذي جاء اليوم ايضاً !
و كان طير حمام ابيض مشطّب بلون سماوي في الجناحين، منتصب الهيئة، كنت احسّ انه ينظر اليّ مباشرة مثيراً في نفسي مشاعر صداقة جميلة . . حاولت ان اقرّبه منيّ برشّ الدخن نحوه، لكنه كان يتدلل يقترب قليلاً و يبتعد اكثر بعد ان يتناول شيئاً من الدخن الذي رميته اليه . . في بقعة محدودة من السماء كانت تمتلئ بمجاميع انواع الطيور، بين الحرّة في طيرانها و بين ما انتظمت في اسراب، كانت تدور في ذلك الفضاء و تدور . . و تستقر مجاميع او افراد منها لتناول بقايا حبوب او بقايا فاكهة خاصة الرقي على سطوح المحلة . .
و في محاولتي و حركتي لجذب طيري الأثير، وجدت نفسي على سياج السطح من جهة محلة المهدية و جنبي هنّاوي، و شاهدنا رجلاً متوسط العمر وسيماً اشيباً، بالفانيلا و بنطرون البيجامة الطويل يقوم برياضة صباحية على احد السطوح . . قالت هنّاوي :
ـ هذا الخال كريم، خال فتوح صديقة اختي ساهرة، و هو ضابط كبير، كان قائد القوات العراقية في حرب فلسطين 1948، و حقق الانتصارات الكبرى على الإسرائيليين في جنين و في كفر قاسم، و انتشرت اخبار تلك الإنتصارات في اذاعات صوت العرب و القاهرة . . كما يقولون بالمحلّة.
ـ صحيح ؟؟ اني هم سمعت من والدي، بس ماكنت اعرف انهم جيرانكم.
ـ هو لا يسكن هنا، و لكنه يأتي بين حين و آخر لزيارة اخته في المهدية و ينام عندهم !
ـ يعني ما راح اكدر اشوفه و اسلّم عليه ؟ بس صدك بطل !!
وجدت نفسي احييه بفرح غامر من فوق السطوح . . و زاد من فرحي انه رآني و حيّاني بكلتي يديه و بابتسامة عريضة عبر سطوح الفضل و المهدية في ذلك الصباح التشريني الباكر الجميل . . ابتسامة بقيت مرتسمة في ذهني، و لم يكن احد يعرف او حتى يقرأ الغيب ليتصور من سيكون و كيف سيغيّر البلاد هو و رفاقه على طريق الخير و التقدم في ذلك الوقت، رغم انواع الصعوبات و التعقيدات، من الاقربين و من الابعدين . .
. . . .
. . . .
من جانب آخر، تزايدت النشاطات المتنوعة للقوى المتعددة للتحضير للتظاهرات، و وضعت اسس اولية للتحرك في الاعظمية بانتظار الموعد : اعدادية الاعظمية للبنين و ثانوية الأعظمية للبنات تنظيم نشاطها للاحزاب و القوى القومية العربية التحررية مثّلهم السامرائي، و المنسّق معهم برهوم ، كلية الملك فيصل الاول تنظيم نشاطها لليساريين عرباً و كرداً باحزابهم و قواهم، مثّلهم كريم احمد عن الحزب الشيوعي العراقي خريج الكلية، عامر عبدالله عن حزب الشعب خريج الكلية، و ممثل عن الحزب الوطني الدمقراطي، صالح اليوسفي و دارا توفيق عن البارتي، اضافة الى ممثلي قوى و جمعيات وطنية متنوعة في مقدمتها جمعية الكرد الفيلية . .
اضافة الى التنسيق مع ما يجري من الصراع داخل الحكومة، و خاصة الصراع الذي مثّله الوزير الوطني التحرري عبد المحسن مع الوزراء و الاطراف الحكومية العليا، و تنسيقه مع الاحزاب الوطنية بكل سريّة، يقوم به المنسّق الضابط سعدون . .
و تم التوصل الى ان يكون موعد الانطلاق في بداية تشرين الثاني نوفمبر 1956 و يبدأ انطلاق تظاهرات بغداد، في الاعظمية في مواجهة الوصي عبد الاله عند زيارته لكلية الملك فيصل الاول التي انشأها الملك فيصل بفروعها للطلبة المتفوقين لتكون نواة لجامعة عراقية . . و تقع مقابل المقبرة الملكية في نهاية شارع الشباب، التي تحَدّدَ موعدها و تأريخها، كما اخبر الوزير عبد المحسن . . و تم التوصل الى ماهية الشعارات التي ستُرفع لإدانة المعاهدة العسكرية البريطانية و منع توقيعها و من اجل السلام و الحرية . .
و فيما كانت النشاطات التحضيرية تجري في ظروف تزايد فيها الجوّ السياسي في البلاد احتقاناً و تأزّماً بسبب الاعمال العدائية للغرب و اسرائيل ضد مصر، و مقاومة عبد الناصر لها، و كانت الاذاعات تشعل الاجواء بتلك الاخبار المتلاحقة عن نشاط العصابات الصهيونية المسلحة في سيناء وصولاً الى قناة السويس، و الإستعدادات الشعبية في مصر لمقاومتها، و كانت تصعّد حماس الجماهير الشعبية للقيام بأية مشاركة او تعبير عن الغضب مما كان يجري . .
فجأة !!
هاجمت اسرائيل مصر في اليوم الاخير من اكتوبر 1956 و فجرّت المشاعر العربية و الوطنية في كل الدول العربية، و انفجرت الإحتجاجات الشعبية و المطالبات بالتحرر و الديمقراطية باشكال عفوية و منظّمة . . بعد ان قامت اسرائيل بعصاباتها بهجومها البريّ على مصر بدعم جويّ بريطاني ـ فرنسي حيث قامت طائراتهما بقصف و ضرب القاهرة و مدن قناة السويس و خاصة بور سعيد . .
و قامت اذاعات صوت العرب و موسكو ثم بي بي سي و صوت اميركا و مختلف وسائل الإعلام العالمية، بنقل تفاصيل ما كان يجري و خاصة انباء مقاومة فرق المقاومة الشعبية للشباب المصري و تضحياتها في بورسعيد التي كانت تهزّ العالم، و نبأ قيام الشباب السوري بنسف انابيب النفط المارة بسوريا تضامناً معهم . . اللذين صعّدا روح الاحتجاج و الرفض في مدن البلاد و خاصة في بغداد، التي انطلقت فيها انواع التظاهرات العفوية . .
و منها المظاهرات الكبيرة في شارع الشباب في الاعظمية، التي انطلقت اكثر مما كان مخططاً و مُنَسّقاً لها . . و بشعارات متنوعة جديدة على عجل، ادانت العدوان و طالبت بالخبز و الحرية بشعارات " تعالوا نجدد الوثبة " و " تسقط المعاهدة البريطانية " ، " المجد و الخلود لشهداء بور سعيد الابطال "، " بلادي بلادي بلادي ـ لكي حبيّ و فؤادي " . . هاجمها رجال الأمن و الشرطة و الشرطة الخيالة بالدونكيات و اشتبك معهم المتظاهرون و طروّهم بالحجارة، التي كنا نجمعها لهم من الشارع، في الاكياس المتوفرة سواء كانت ورقية او غيرها . .
و قد لعب فيها طلبة " كلية الملك فيصل " ، " اعدادية الأعظمية للبنين " ، " ثانوية الأعظمية للبنات " ادواراً بطولية من سطوح مبانيهم بالهتافات و طرّ الحجارة، و في الشارع و في الهاب حماس والتفاف سكنة كل محلاّت الأعظمية من الرجال والنساء، باسم الأحزاب الوطنية و القومية و اليسارية . . الى ان هرب رجال الشرطة و اقفلوا مراكزهم . .
لتتدخل وحدات عسكرية خاصة محمولة بالشاحنات العسكرية، كان افرادها يعتمرون الخوذات المعدنية ويحملون عصي خاصة قيل انها مكهربة، اضافة الى وحدات حملت الأقنعة الواقية من الغازات المسيلة للدموع، حيث جرى استخدام كثيف للقنابل المسيلة للدموع ضد المتظاهرين، كانت تطلق من فوهات خاصة، و كان يتلقفها المتظاهرون شباباً و شابات ليعيدوا رميها عليهم، و كان الطلبة يرمون الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع من سطوح ثانوية البنات، لايُعرف من اين حصلوا عليها . . . و لم تتمكن تلك الوحدات من ايقاف التظاهرات التي استمرت و كانت تزداد، عُدّة و عدداً.
لتأتي مجموعات شبه عسكرية و غير نظامية مكوّنة من عناصر معروفة بطيشها و سوء اخلاقها
مثل ابو الطرشي، ابو الجاج و ابن عبد الشهيرة و عزّوز الاقجم . . الذين قاموا برمي المتظاهرين بالرصاص الحي و بضربهم بالسكاكين الكبيرة، و تسببوا بسقوط عدد من الشهداء و اعداد اكبر من الجرحى . . فيما قامت وحدات من شرطة التحقيقات الجنائية سيئة الصيت، باعتقال ما استطاعت اعتقاله من الشارع معتدين عليهم بالضرب سواءً بالعصي او ببوكسات الحديد . .
كان المتظاهرون يتفرقون ليلتقوا بوضع افضل و بتحديّ اعلى . . فيما فتحت البيوت المحيطة ابوابها لهم سواء لمعالجة الجرحى او لإخفاء من كان يريد الإختفاء، او للاكل و الشرب . . الى ان انسحب المتظاهرون من شارع الشباب ليتجمعوا من جديد عند " رأس الحواش " و يستمروا بالتظاهرة نحو باب المعظم.
و مع اقتراب المساء، خلى شارع الشباب الجميل من البشر ماعدا وجود افراد الوحدات العسكرية التي احتلت الشارع، بخوذاتهم الواقية و بساطيلهم الثقيلة، و باسلحتهم الحديثة الكثيفة و برشاشات الفيكرز الجديدة المستلمة حديثاً من الناتو، و كانت الحجارة تملأ الشارع و الارصفة، و بقيت روائح البارود و الغبار المتطاير تزكم الانوف، كنّا نشمّها و نحن متجمعين سرّاً في بيت اصدقاء كانوا يسكنون هناك في بيت مطلّ على الشارع، فاتحين الشبابيك للتهوية . .
مع هبوط الظلام، حدث مالم يخطر على البال . . حيث هاجمت مجاميع من شقاوات و قتلة جُمعوا باجور من السجون و من الشيخ عمر و كراجات النهضة و محلات الكيلاني و غيرهم، و بتشخيص وارشاد مأجورين و رجال أمن من الاعظمية القديمة . . هاجموا بصمت بالقامات و الفؤوس كلية الملك فيصل الاول و اقسامها الداخلية، ثم بصيحات (لا شيوعية بعد اليوم) ، بعد ان ضربوا الحرّاس و دخلوا بالقوة الى الرمز الثقافي و الحضاري الذي كانت تتباهى بإنشائه حكومات العهد الملكي، و ضربوا الطلبة و حطّموا كل ما وصلته ايديهم هناك، و تسببوا بقتل و جرح و اغماءات عدد ليس بالقليل من الطلبة، الّذين أُخذوا على حين غرّة، و جرى اعتقال من راجع المستشفيات و المستوصفات للعلاج منهم . . في وقت قامت به شرطة التحقيقات الجنائية بحملة تفتيش و اعتقالات للعشرات من رجال و نساء الاعظمية بينهم والدي، بتهم النشاط الهدّام . .
اعلنت الاحكام العرفية . . و اخذت الاخبار الحزينة تتوالي بعد صدورها في البلاد و انتشار الجيش اثرها في شوارع بغداد . . فقد وجد الوزير الوطني عبد المحسن مقتولاً في مكتبه و اشيع عن انه انتحر، و كانت اصابع الاتهام تشير الى ان القتلة هم من رجال السلطة، رغم قيامهم بمراسيم تشييع رسمي حكومي لـ (شهيد الوطن و الواجب) كما كُتب على اللافتة الرئيسية للتشيع، و صدر تنبيهاً عسكرياً لسعدون من المجلس العرفي العسكري للوزارة بالحذر و الابتعاد عن النشاطات الهدامة . .
حين فوجئ سعدون بقول رئيس المجلس المقدم رفعت الحاج سريّ له، عندما التقاه شخصياً خارج ديوان وزارة الدفاع (بالصدفة) . . عزيزي سعدون عليك ان تعرف كم هي محبتي و احترامي للمرحوم ابن عمّك المناضل الوزير عبد المحسن، و كم هي محبتي للضباط الوطنيين اللي انت منهم، و لكن الأوامر في الجيش هي اوامر لا استطيع الافلات منها . . خففت قدر ما استطيع معك و الاّ يسوقوني معاك ايضاً و أُعاقب عقوبة قاسية لأني اقدم و المفروض انيّ أَعْرَفْ، دير بالك !!
و صدرت قرارت حكومية (بناءً على مقتضيات المصلحة العامة) بنقل د. نزيهة الدليمي الى النجف، د. عبد الصمد نعمان الى حلبجة، د. عبد الامير السكافي الى الرمادي . . فصل الجامعية بثينة البستاني من الجامعة ضمن اعداد كبيرة من الطلاب و الطالبات، فصل والدي و عدد من معلمي الأعظمية من سلك التعليم بتهمة (شيوعي صهيوني خطير) . . صدور قرارات القاء قبض بقائمة طويلة من الاسماء بتهم (النشاطات الهدامة) منهم برهوم و يعرب البراك . . .
. . . .
. . . .
كنّا نفخر بمحلتنا الاعظمية الجميلة، بمحلاتها الحديثة و حدائقها و بيوت اصدقائنا و اقاربنا و اهالينا هناك، و باسواقها و بالعديد من ازقتها و(درابينها) القديمة، بشارعها الجميل المتّجه شمالاً نحو الصليخ و المطل بطوله على نهر دجلة . . و بحديقة النعمان و بالنادي الرياضي فيها، بالسينما و افلامها الجميلة و اغاني عبد الوهاب و عبد الحليم و فريد الاطرش التي تصدح باستمرار منها، و حتى ببائع العنبة هناك، و حتى بمراقب البطاقات فيها الذي كنا نشتري منه اذون الخروج من صالة العرض المطبوعة لنستخدمها كبطاقات دخول اصولية و نوفّر لنا خمسين فلساً لكل بطاقة، مقابل الحفاظ على سريّة ذلك، لمعرفته باننا من الزبائن المعروفين فيها . .
كنا نفخر بمحلتنا . . بتحدياتها الفاعلة لسلطات العهد الملكي، التي كانت من جانبها شديدة الحذر من تحرّك اهالي الأعظمية ان اتخذ طابعاً جماهيرياً، لأن ذلك سيؤثر على عموم بغداد وعلى الحكومة ومؤسساتها ودوائرها اضافة الى تأثيره على قوات الجيش والشرطة، للاعداد الكبيرة لأبنائها فيها و بمراكز فاعلة .
ورغم كبر قضاء الأعظمية الإداري الذي ضمّ محلات عديدة، كالسفينة، النصّة، الحمّام، الحارة، النزيزة، رأس الحواش، شارع عشرين، شارع عمر بن عبد العزيز، شارع طه، الكسرة، هيبت خاتون، راغبة خاتون، ثم الوزيرية، نجيب باشا، شارع الضباط والعساف اضافة الى محلة الكمب (نسبة الى كمب الأرمن و الآثوريين) و سوقها الشهير . .
فان محلتنا " محلة الشيوخ " والحمّام والنزيزة والحارة . . كانت تشكّل قلب الأعظمية وروحها لأحاطتها بمرقد الإمام ابوحنيفة النعمان حيث التّجمعات و المقاهي من جهة، وبسبب سكن عوائل بكاملها من الأجداد والآباء والأمهات والأبناء وابناء الأبناء في بيوتها وحواشها الشرقية القديمة التي كانت ملكهم او كانوا يسكنوها مقابل بدلات ايجار قليلة او بلا مقابل كهديّة من صاحب المُلُكْ لأحد اقاربه المعْوَزْ، اضافة الى سكن عوائل جاءت من خارجها و استقرّت فيها و تفاعلت مع اهلها، مكوّنة سبيكة عراقية اصيلة من كل المكوّنات القومية و الدينية و المذهبية، في العديد من مناطقها و ازقتها و( درابينها) القديمة .
كنا نفخر بمحلتنا التي ضمّت وجوهاً وعوائل عرفت بالتزامها بمواقف حقوق البلاد وآمالها سواء كان من موقف يساري او قومي تحرري . . كعوائل آل السلام، آل شيخ رشيد، آل حاج نعمان الأعظمي، الضامن، محسوب، سريّ، شبيب، شلتاغ، الجدة، المصلاوي، النقشبندي، الحيدري، الملاّح، قزانجي، العاني، الهيتي . . رغم وجود عوائل عُرفت بممالئتها للأنكليز، و كانت تأنف من اقامة اية علاقة مع العوائل المثقفة وعوائل المحلات الشعبية . . والى افراد عوائل عرفوا باعمالهم كمخبرين سريين للحكومة، الذين ان لم يساعدوا الناشطين السياسيين سرّاَ كما كان يجري، يصبحون منبوذين من الناس ومحتقرين، و كانت الناس تفضحهم و تحذر وتخاف منهم .
بعد اطلاق سراح والدي المعروف بنضاله الوطني اليساري، و اثر فصله، بتهمة " شيوعي صهيوني خطير " كما نشر في كتاب التبليغ الشخصي له، او في الكتاب الرسمي المرسل الى مدرسته " الشماسية الأبتدائية للبنين " . . زاره معاون مديرها سراً مطيباً خاطره بهدية نقدية ذات قيمة تبرعاً من معلمي المدرسة، وساعده في ترتيب عمل له كملاحظ حسابات في معامل وكُوَرْ الطابوق، التي كانت تنتشر في اطراف العاصمة، باجور يومية وبدوام يومي يبدأ في الثالثة صباحاً حين تنتظره سيارة المعمل . . متمنياً له الصبر وبأن الغد لناظره قريب !
و كنا نحن الصغار نرقب مايجري و كيف ينهض الوالد بعد منتصف الليل ليغتسل و يبدّل ملابسه التي صارت ملابس خشنة بنيّة اللون غاب عنها اللون الابيض و ربطة العنق، و بقبعة فليّن كقبعات الرحّالة في افريقيا لتقيه حرارة الشمس الحارقة في العراء، و كيف كانت والدتي تشدّ ازره و بجملتها التي اشتهرت " احنا بخير و لاتفكّر كثير، بس دير بالك على نفسك "، و كيف ازداد حنان جدتي الحاجة امينة نحونا و كيف كانت تزورنا يومياً للاطمئنان علينا . .
حتى استطاع بجهده و بمساعدة رفاق النضال ان يجد عملاً اضافياً مسائياً ليقسم مشغولياته : ثلاثة ايام في الاسبوع، في معمل الطابوق و اربعة ايام دوام مسائي في شركة فريح و حمد لسيارات الفورد، مقابل سينما الخيّام، كملاحظ و محاسب . . (يتبع)

16 /11 /2021 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات طفولة. . من هو .10.
- ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.
- ذكريات طفولة.. ذات صيف .8.
- ذكريات طفولة..تحطم طائرة .7.
- ذكريات طفولة سعدون .6.
- ذكريات طفولة .5.
- ذكريات طفولة .4.
- ذكريات طفولة .3.
- ذكريات طفولة .2.
- عن بيان سماحة المرجع الاعلى حول الانتخابات
- ذكريات طفولة .1.
- الانتخابات: التشرينيّون و صراع الميليشيات .2.
- الانتخابات: التشرينيّون و صراع الميليشيات .1.
- المناضل الكبير كاظم حبيب . . وداعاً !
- افغانستان و تغيّر الستراتيجية الاميركية .2.
- افغانستان و تغيّر الستراتيجية الاميركية .1.
- التغيير: روح الدستور، مطالبات تشرين !
- من اجل بقاء العراق موحداً .3.
- من اجل بقاء العراق موحداً .2.
- من اجل بقاء العراق موحداً .1.


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.