أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.















المزيد.....



ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7083 - 2021 / 11 / 21 - 23:53
المحور: الادب والفن
    


السجن ليس لنا

تغيّرت حياتنا بعد فصل الوالد، و صارت جديّة اكثر بعد ان قلّت الافراح بفعل اعتقال الوالد و شعورنا باننا مراقبون و بسبب الضائقة المالية بعد فصله من وظيفته كمعلم، التي صرنا نعيشها بحساب ثمن كل شئ نريد شرائه، و صرنا نتجنب الحديث لأحد عن بيتنا و اهلنا و خاصة عن ضيوف الوالد . . و رغم جهود الوالدين بعدم اشعارنا بما نمرّ به، الاّ اننا كنا نلاحظ ان الفاكهة كانت لنا نحن الاطفال فقط و لم نفهم لماذا لم يأكل منها والدانا لانها كانت غالية الثمن . . و كنّا نلاحظ ان والدنا كان مشغولاً بهموم وامور بدى لنا انها اكبر من هموم البيت . .
في احد الايام جاء الوالد فرحاً و هو يقول :
ـ نقلوا يقظان من نقرة السلمان الى السجن الجديد في بعقوبة ! و اخذت موعداً لزيارته هناك . . سنذهب كلّنا !!
كانت الانباء قد انتشرت، بأن السلطة قد اقامت سجناً اميركياً (حديثاً) للسجناء السياسيين . . في بعقوبة، و قد نقلوا عدداً من سجناء نقرة السلمان السياسيين المحكومين باحكام ثقيلة اليه، و صار ايضاً محطة للسجناء المنقولين مؤقتاً اليه لأغراض متنوعة كإعادة تحقيقات او محاكمات، او اعادة نظر بالعقوبات بين تخفيف و تشديد او قضايا اخرى لاتُعرف و لم يُعلن عنها، لأنها تخص (أمن الدولة) كما كان يُعلن . .
ذُهلنا نحن الاطفال من الخبر و من أننا سنستطيع رؤية ابن العم الكبير يقظان، العائش معنا بصورته المعلقة في غرفة الضيوف، رؤيته بشحمه و لحمه لأول مرة . . و هو القديس و الروح المقدسة التي سكنت بيتنا، الروح التي جعلت والدي الحازم الحنون يبكي و هو يتأملها و يعيد تأملها، و يحاول اخفاء دموعه كي لانراها كلما دخل الى غرفة الضيوف و نظر الى الصورة و كان وحيداً . .
ركبنا باص صغير مع عوائل ملأته . . و سافر بنا الى بعقوبة، الى بقعة فوق رابية في مكان خالي من البيوت و من المزارع و الحقول، نزلنا من الباص و بدأنا بالسير و كانت هناك عشرات العوائل تسير بنفس اتجاهنا، ممن خرجت من باصات اخرى و ممن قدموا من شوارع ترابية فرعية هناك . . لنلتقي بعشرات او مئات عوائل اخرى كانت قادمة بمقابلنا من الجهة الأخرى . .
كان الجميع يسيرون صامتين و ينظرون الى الأسلاك الشائكة المكومة على امتداد جانبي الشارع الترابي الواسع، حتى ظهر المعتقل من تلك الرابية العالية . . كان المعتقل مكوناً من ثكنات عسكرية مبنية على شكل مجاميع من صفوف متوازية ، بدت بيضاء اللون رغم اتساخها بسبب الغبار الذي ثبت عليها بالمطر باشكال رسمتها المياه المنسابة . .
كان المنظر لايُنسى بإثارته للرهبة في ذلك اليوم الغائم الممطر . . صفوف الثكنات النظامية المقسّمة الساحات و بينها بالأسلاك الشائكه، الواقف عند كل زاوية من تلك الزوايا العديدة مسلّح بملابس نظامية وبخوذة وواقفا وقفة استعداد، يفهم منها انه مستعد للأطلاق في كلّ وقت . . لم يُرَ اثرٌ لموقوفين فيها او بينها . . كان الصمت يلّفها و يخيّم عليها . .
وكانت البقعة العامة لكل موقع المعتقل ـ بكلّ ثكناته ـ محاطة باكثر من صفيّن من الأسلاك الشائكة الكثيفة والمرتفعة بقدر قامة انسان . . كانت تحيط بالمعتقل و في كل منها موقع محاط باكياس
رمل و مغطىّ بالنايلون . .

كنّا نسمع والدي و هو يحدّث والدتي . . هنا كأنما صورة مصغّرة للعراق !! شوفي سعاد ذوله كرد مبين من لبس قسم منهم وتجمّعهم على بعضهم، الله يدري مساكين منين جايين ! هذوله بيض حمر ونساء سافرات يعني في الغالب مسيحيين . . شوفي هذوله معممين . . هذوله يزيدية من ملابسهم . . واحنا عرب حتى بينّا السني والشيعي الواضحين من شكل العمايم . . شوفي ذوله خطيّة يبيّن جايين من الجنوب من النجف والناصرية و البصرة . . قسم منهم ديصلّون . .
ـ لعد شنو يكولون الشيوعيين ماعندهم دين ؟!
ـ صدّقتِ بهذا الكلام الفارغ ؟ اكُلّج منو الماعنده دين احنا و اهلنا ؟ لو هذا اعوص العين السريّ بالمحلة الذي اعتدى على بنت الجيران وكل الناس تعرف و ساكته من خوفها منّه. . منو الكافر و الماعنده دين ؟ سعاد هذه سياسة و مصالح و ملايين ونفط !!و لم نفهم نحن الصغار ماعلاقة النفط و بيّاع النفط المسكين بتلك المشاكل . .
و قرب باب النظام، توحد الحشد و ازدحم للمرور من خلال نقطة ضيّقة لسيطرة عسكرية كبيرة مكونة من عشرات رجال الشرطة و وحدات عسكرية شاكّة السلاح، اضافة الى مدنيين مسلحين كانوا يدققون الهويات ويسمحون و يمنعون ويصيحون و يهددون . . بل واعتقلوا اثنين تحت انظارنا . .
و لم يسمحوا بتكوين طابور، خوفاً من (تهدّم القنطرة) كما كانوا يقولون و التي لم نشاهدها . . و كانت تتصاعد من الحراس صيحات (ماكو زيارات اليوم حسب برقية القيادة !!) التي كانت لاتؤدي الاّ الى تصاعد و سيادة الهرج و المرج وسط زعقات رئيس الحرس :
ـ كافي صياح لَكْ !! تره صدك نلغيها اليوم و نضربكم اذا ماتصيرون عقّال !! . . احنا دا نتباحث مع القيادة !!
بينما انشغل الحرّاس بضربنا بالعصي و الدونكيات صائحين : نظام نظام !! ناسين او مفتعلي نسيان اننا كنا نقف منذ اكثر من ساعة تحت المطر و الشارع الترابي و النقطة الضيقة صاروا طين، بدون سبب، و اوضح احدهم في تفسير ذلك بأنهم يضغطون و يعذّبون عوائل المعتقلين السياسيين كعقوبات عليهم لأنهم لم يضبطوا ابنائهم و ذويهم و لم يمنعوهم من النشاط السياسي، ان لم يكونوا حسبوهم شركائهم في جريمة (ممارسة السياسة) . .
الى ان وصل الأمر بحركة الزائرين الى السجن و فُتح بابه . . و كنّا تحت ذلك الضرب بالعصي و الدونكيات، الذي خلاله سقطت امرأة كردية مسنّة على الارض لأن ضربة الدونكي كانت قوية و جاءت على ظهرها و اقعدتها على الارض امام ضغط تدافع الزوّار الماريّن في تلك النقطة الضيّقة . . ركض والدي اليها و اسندها لتقوم و تمشي مؤشراً لوالدتي بالمضي معنا و بانه باقي مع تلك المرأة ليساعدها على المرور، و قد عرف منها انها ام السجين السياسي المحكوم مؤبد عزيز محمد، و انها جاءت من اربيل صحبة عوائل سجناء الاحكام الثقيلة و المبعدين عادل سليم و نافع يونس، و كان يعرف الصداقة القوية بين يقظان و عزيز محمد، و بقيت الام تتشكّره بعربيتها الضعيفة و تستند عليه الى الساحة الداخلية و هو يتبادل النظر و الاشارة مع والدتي للوصول الى تلك الساحة . .
جلسنا في الساحة الضيّقة المحاطة بسور عالي يصل الى ثلاث قامات، و يُشعر الرجل بضآلة حجمه و جاء السجناء للقاء احبّتهم و جاء بينهم شاب نحيف متوسط القامة الذي صاح والدي لدى رؤيته ( اهــــــــــلاً يقظان !! ) و كان الاسم الذي اشتهر به ابن عمي " عدنان البراك " . . تصافحا و تعانقا بقوة لم نألفها نحن الصغار فيما كانت السلاسل التي تكبّل عدنان ترنّ بقرقعة عالية . . و شاهدنا سجناء مربوطين بسلاسل مثبتة الى كرات حديدية ثقيلة كانوا يحملوها الى جانبهم او الى ظهورهم في حركتهم من بينهم المحامي عبد الرحيم شريف . . كان السجناء من كل القوى الوطنية عربية و كردية، و كانت غالبيتهم من الشيوعيين الشباب الذين اشيّب شعر قسم منهم مبكراً.
كان هناك اضافة للعرب، كرد من عشائر بارزان قيل انهم اعتقلوا و حوكموا لدورهم و مشاركتهم بالثورة الكردية المسلحة التي انطلقت من بارزان بقيادة الملا مصطفى البارزاني، كرد من طائفة الحقّة (جماعة شيخ رضا) من الذين اعتصموا بالشارع بالآلاف و قطعوا طريق كركوك ـ اربيل و بعد انطلاقهم من منطقة "كلكه سماق" احتجاجاً على اجراءات السلطة التعسفية ضدهم و مصادرة حيواناتهم و اراضيهم و تهجيرهم بحجج الضرائب . . ايزيديين بملابسهم القومية، تركمان، مسيحيين، يهود و غيرهم ممن حكموا احكاماً ثقيلة بتهمة ( القيام باعمال تخريبية) . .
قبّلنا ابن عميّ عدنان و هو ينحني و يطلّ علينا بابتسامته المشرقة المشعّة وسط هدوئه اللامعقول، و وسط انفعالنا الذي لايوصف برؤيته للمرة الاولى لأنه حُكم و بدأ سجنه قبل ولادتي، و بقيت انا كالمسطول اراقبه و اراقب وجهه و حركات جسمه و يديه . .
و قيل ان هناك عددٌ من السجناء استُقدموا من منفى السعدية ان لم تخُنيّ الذاكرة لإجراء معاملات سجنية من التي مرّ ذكرها، بينهم : الشاعر الكردي الشهير عبد الله كوران، الاديب و السياسي الكردي ابراهيم احمد كاتب اغنية " شيرين بهار " ـ شيرين اقبل الربيع ـ الكردية التي كان يغنيّها في الساحة عدد من السجناء الكرد، بينما غنىّ عدد من العرب منهم اغنية " وردة سكيتهه من دمع العيون، صارت من حسنهه فتنة للعيون " ، في اغاني تدعو للحياة و للحرية و الى الصمود في سبيلها . . .
و كان بين اولئك السجناء عبد الرزاق الصافي، كاظم حبيب، علي صالح السعدي، المحامي ابن حبيب الخيزران . . . و تقدّم احدهم و كان اشيب الشعر طويل القامة ممتلئ البنية نحونا و حيّا والدي شادّا على يده معانقاً ايّاه، و انحنى باحترام و هدوء نحو والدتي بعباءتها قائلاً :
ـ تحياتي الحارة و احترامي ست سعاد، الرجاء ابلاغ الحاجة امينة تحيات والدتي زوجة الحاج خيري من باب الشيخ نقلاً عني، والدتي تذكركم و تذكرها بخير دوماً . . انا زكي ابن الحاج خيري . .
تحرّك السجناء و الزوّار فبسطوا مشمع طويل نُصب كمائدة طعام، و نُشر الطعام المتنوع الذي جلبه الزوار و ماطبخه و اعده السجناء، و كانت مائدة عامرة على انغام راديو كان عند رئيس الحرس الذي فتحه على اعلى صوته بمشهد العوائل و حرارة اللقاءات، رغم انه كان يتلفت بخوف و ذعر بين حين و آخر من حضور مراقب او عنصر أمن . . بينما انشغل الحراس بأكل نصيبهم من الطعام، الذي لم اعرف ان كان فرضاً او كرماً من السجناء.
و عند شرب الشاي انشد عدد من السجناء احدى اغاني السجون التي اشتهرت حينها :
من الســـــــجون تهفو قلوب بحنين و باشتياق
ياليت انّا و النصرُ دانٍ في الطريق بين الجموع
تلك الاماني نارٌ تلظىّ يارفيقي بين الضلــــــوع
و فيما مرّت تلك الانشودة بسلام، انشد سجناء آخرون مع سجين كان يعزف على الكمان :
السجنُ ليس لنا نحن الاباة
السجنُ للمجرمين الطغاة
و لكننا سنصمدُ و نصمدُ
و انّ لنا مستقبلٌ زاهرٌ سيخلدُ
لنا الغدُ . . . لنا الغدُ لنا الغدُ
حين تُنصَبُ المشانق لمن ؟
للمـــــــــــــــجرمين الطغاة
هنا تحرّك الحرّاس كالمجانين صائحين : اسكتوا اسكتوا . . هذا النشيد ممنوع، و الله تتعاقبون انتو و زوّاركم . . . و انطلقت العصي و الدونكيات لتفريق الجلسة و أُنهيت الزيارة !!!
. . . .
. . . .
عدنا الى بغداد، الى بيت عميّ و كانت اخوات عدنان و أمّه ينتظرن اخبار عن صحة و حياة اخوهن الكبير، بعد ان ابقين خبر الزيارة سرّاً عن ابيهن و الاّ يقلب عالي البيت الى سافله لأنهم ذهبوا دون اذنه و هو الاب و الأخ الكبير . . فرحت الأم و الأخوات كثيراً بالأخبار المطمئنة عن الابن و الشقيق و قرأوا رسالته القصيرة بفرح و دموع صامتة، و عاد الوالدان و الاخوة الى بيتنا في الاعظمية، و بقيتُ انا في بيت عميّ، بعد ان دعاني عميّ للذهاب معه الى سوق الصدرية !
ـ ابني تعال معي شنو كاعد يمّ النسوان . . راح تتونس و تساعد بحمل الاغراض، هل انت مستعد ؟؟
ـ طبعاً عموّ انا مستعد دائماً للمساعدة.
ـ عفيه بإبني السبع !
بعد ثلاث محطات باص نقل الركاب من الفضل، وصلنا سوق الصدرية المكتظ بالمتسوقين و البقالين و الباعة المتجولين رجالاً و نساءً، و المكتظ بالحيوانات و انواع الطيور و الدجاج و بباعة اللحوم و باعة لحوم الدجاج و باعة انواع الالبان ، و الأجبان من المعروضة الى المغمورة بالمياه و الى المكبوسة في قِرَبْ جلدية و الى باعة انواع الطرشي . . اضافة الى باعة انواع الخضار . . اضافة الى درابين فرعية هادئة لبيع الاقمشة و الفوط و اليشماغات و اغطية الرأس و الدشاديش و الكرزات و الفاكهة المجففة . . وسط صيحات بيّاعين ينادون على بضائعهم :
ـ بس هاليوم هالطماطة !!
ـ وزيري ياتين !!
ـ هاليوم بفلسين !
ـ ابيض و بيض . .
قال عميّ :
ـ ابني . . تذوّق قطعة الجبن هذي . . شنو رأيك بيها ؟؟
تذوقتها و قلت له :
ـ كلّش طيبة كلّش طيبة . . هسه عرفت منين تجيبون جبنكم اللذيذ.
ضحك عميّ مربّتاً على رأسي :
ـ اعرفك تحب الجبن، طالع على عمّك . . اليك قطعة ثانية.
و وقفت مبهوراً امام معرضين لبيع الطيور التي احببتها حبّاً جمّاً . . عرضا انواع الطيور الجميلة و الحمام الزاجل و تذكّرت قفص الطيور الكبير للخال زكي الذي كان يترك بابه مفتوحاً من حين لأخر (كي تتمتع الطيور بحريتها و تكون صحّتها احسن، فالطعام لوحده لا يكفي لذلك) كما كان يقول، و كيف انهم استخدموا الحمام الزاجل لتبادل الرسائل بينهم كثوّار في ذلك الزمان، و كان يحذّر من الصداقة مع المطيرجية لأن (عالمهم قذر) . .
. . . . .
. . . . .
اصيب سعدون بصدمة عنيفة من فقدان ابن عمه و اقرب صديق له، التي تسببت باصابته بقلق شديد لم يعرف مصدره، هل هو قلق من الاغتيال، كما اغتالوا ابن عمه عبد المحسن ؟؟ عبد المحسن الذي استطاع تهدئة عشائر الفرات و بظهره عشيرة من اقوى عشائر العراق تمتد من البصرة الى شمال الفرات ؟ اذن فالقتلة لايُبالون بمن يقف امامهم سواءً شخصية مؤثرة او عشيرة قادرة . . تأثّر كثيراً بضرب متظاهري مظاهرات العدوان الثلاثي بالرصاص و السكاكين و اعتقال و معاقبة الآلاف ممن شاركوا بها رجالاً و نساءً، رغم ان نشاطهم كان دستوريّاً . .
احسّ بكآبة كانت تزداد و تشتد يومياً و انكفأ على نفسه و غرق بشرب الكحول و خاصة الكحول المنزلي القوي الذي تعوّدت على صنعه ياسمين خاتون ام الماس للضيوف، و غرق بالتدخين المتنوع . . و اهمل زوجته الماس و صار لايستطيع النوم معها و لا اداء دوره كرجل معها، و ازداد شعوره بالعنّة و كأن جسمه و اعضاءه ماتوا . . رغم جهود زوجته التي فهمت حالته، و بذلت جهداً كبيراً بعنايتها به و بنفسها و بماكياجها و شعرها و عطورها المتنوعة و بما يثيره و لكن دون جدوى، الأمر الذي زاد من قلقه، و أسف على فقدانه رجولته . .
كان يشعر بالملل و بحياة صارت لا طائل من ورائها، بغياب الأمل و الهدف الكبير و غياب روح التحدي و المغامرة، التي بدأت تتسبب بفقدانه لتوازنه الطبيعي كبشر، كما كان يحسّ . . راجع طبيب قيل له انه متخصص بالعِنّة بانواعها و بطرق علاجها، نصحه بوصفات طبية و ترك الكحول و التخفيف ما امكن من التدخين، و بالرياضة و التعرض للشمس و الحركة في الهواء الطلق لساعات يومياً، و الأهم ان يصارح زوجته كي لاتُسئ فهمه و تعمل على انقاذه من مشكلته، التي قد تتمكن منه و تدوم و تخلخل عقله ان اهمل ذلك، على ان يستمر بمراجعته . .
و انطلق سعدون برياضته المفضلة و هي الصيد ببندقيته الكسرية لصيد الطرائد البرية و محاولة صيد ماندر منها، يومياً في احراش جلولاء كلّما انهى دوامه في المعسكر الذي نُسّبَ اليه، و القريب من هناك، و نظّم هناك مع عشائر المنطقة المتنوعة العربية و الكردية و التركمانية، حملات لقتل الخنازير البرية و ابعادها عن الحقول الزراعية و حمايتها من تخريباتها . .
بقيت معاناة سعدون قائمة و لم ينفع في علاجها كلّ ماقام به، حتى ذهب بسيارته مصطحباً زوجته الماس الحامل معه، التي وقفت بقوة الى جانبه في مشكلته، بعد استشارته لها . . ذهبوا الى مضارب فخذ العشيرة الذي ينتمي اليه، على نهر الفرات، و سمع نصيحة احد اقاربه هناك بأن يعرض نفسه على طبيب عشائري مشهور في العشيرة (العارفة فتاح) لعلاجه بالطرق العشائرية . .
وصف له العارفة فتاح انواعاً من الضبّ الصحراوي البريّ المشوي، و داوم على اكله دون أكل آخر ضاغطاً على نفسه من التقيؤ، لمدة اسبوعين يومياً، اضافة الى منقوع جذور صحراوية جمعها العارفة، مغلية بالماء و باضافة انواع من عناكب مختارة لها، و كان عليه ان يشرب ذلك المنقوع ساخناً عدة مرات يومياً . .
في ذات مساء، احس بعد شرب المنقوع المُرّ الساخن ذلك، بهبوب طاقة حرارية كبيرة اجتاحت جسمه من كتفيه الى بطنه و ساقيه مسببة له آلاماً مِغَصية كبيرة جعلته يتلوىّ من الألم، من اعلى الى الاسفل و شعر بتجمّع روحه في حوضه و عضوه كما وصف، و انطلق بوله مدراراً محمّلاً بانواع من الرمل و من الدم، و انكفأ نائماً نوماً عميقاً . . فيما هلل طبيب الاعشاب فرحاً و هو يتلمس اعضائه النائمة و قال لزوجته الماس التي كانت ترافق زوجها خائفة عليه :
ـ اختي . . هسه احنا نظّفنا المكينة و الصالنصة بنجاح و شفتي الرمل المقذوف مو ؟ . . ننتظر الى ان يصحى في الصباح و نقرر حالته . .
و ترك الخيمة . .
و لم تتمالك الماس نفسها و هي تشاهد زوجها ممدداً سابحاً بعرقه، وحيداً و كأنه لاحراك به . .
و تذكّرت ماجرى في قراهم في مذابح الخابور، و كيف أُصيب عدد من الرجال بتلك الحالة بسبب القلق و الترقب و الخوف على العائلة، و التي ادّت الى انتحارهم . . و اصابة عدد اكبر من النساء بتلك الحالة التي اصابت اعضائهن، و تسببت بسقوط حمل عدد منهن و موت بعضهن، و اصابت اخريات بحالة من تقلصات قوية غريبة اجتاحت البطن واعضائهن، و لم يستطعن التواصل مع ازواجهن بعدها، و تضاعفت الحالة مؤدية الى انتحار عدد منهن . .
خافت عليه من تلك المصائب، و رقّ قلبها عليه و على العائلة، و لاإرادياً اقفلت باب الخيمة عليهما و تعرّت و شدّته اليها، رأسه بوجهه بين ثدييها العامرين بالحليب لأنها حامل، و سحبت جسمه العاري برائحته البولية، الى مابين ساقيها الدافئتين و هي تضغط عليه بحنان حقيقي بذراعيها و يديها و رأسها و ساقيها و حوضها، و تشدّه اليها متلمسة عضوه بالتمسيد، الى ان استفاق العضو بعد دقائق و قذف و عاد نائماً . . و هي تهلل لعودته اليها سالماً معافى كما تصوّرت.
عاد العارفة فتاح في صباح اليوم التالي و سأل الماس عن حال زوجها قائلاً :
ـ كيف مضت الليلة ؟؟
اعتلى وجهها الخفر و اطرقت برأسها و اجابته بإبتسامة :
ـ لابأس.
ـ ابنتي لاتخجلي، انت زوجته و انا طبيبه و ليس على الطبيب من حرج، و الاّ لن يتعافى . . ماذا حصل بالضبط ؟ حدّثيني و يبقى سرّكم في بير . .
و حدّثته الماس عمّا جرى و هي فرحة بأنه تعافى، قال لها العارفة :
ـ ابنتي . . خطونا خطوة ناجحة واحدة فقط نحو العلاج و انه لم يتعافى بعد، لقد قمتي بعمل كبير على الطريق الصحيح و انت حامل، كان من الضروري ان يتجامع بما يستطيع مع امرأة حامل، لأسباب تعود الى تفاعل السوائل او الى تفاعل الارواح . . هل وددتي مجامعته باحتضانك له و هو زوجك و هذا حقّك . . هل وددتي ذلك ام لا ؟ اجيبيني بصراحة و الاّ لن يشفى زوجك من مرضه . . مرض زوجك ليس عضوياً و اعضاؤه سليمة كما اثبت التنظيف و الانتصاب و القذف . . عقله سليم الى حد الآن، مرضه نفسي بسبب صدمة نفسية عنيفة حدثت له و علاجه نفسي و هناك طرق عديدة لذلك . . هل وددتي مجامعته ؟ اجيبيني بصراحة كي اعرف واجبي و يشفى !!
ـ . . . . نعم وددت ذلك و لكن . . . لم الحق، و ذلك ماجرى . .
ـ عظيم عظيم ان وددتي ذلك فيعني ذلك ان روحيكما لا السوائل تفاعلتا، انت بوعيك و هو بلاوعيه . . انها الكيمياء، الم تسمعي بالكيمياء ؟
و لم تفهم الماس مايعنيه و سألت :
ـ و الآن ماذا عليّ ان اعمل ؟؟
ـ عليك ان تسأليه عندما تستقر حالته و يصحى . . هل احبّ امرأة قبلك و نام معها ؟ اذا نعم . . عليه ان ينام معها الآن و عليك ان تقبلي ذلك عزيزتي لأن ماكو حل آخر و سيصحى عضوه و جزء عقله المرتبط به ذاك و يعود سليماً . . و ان لا ، فعليه ان يراجعني في الربيع القادم، لأني ساسافر اليوم الى وادي السرحان، عندي عدد من المرضى ينتظروني هناك. اخبريه بتحياتي الحارة له و بأن هذه هي وصفتي له الآن و لا تنسي او تتناسي ابنتي !! و ستعيشون بافراح و صحة و بنين و بنات ان شاء الله . . . نشوفكم بالافراح يا ابنتي الشجاعة !
بعد ان افاق سعدون من نومته العميقة بعد يومين او ثلاثة، و بعد ان هدأ نفسياً، اخبرته الماس بوصية العارفة، و قالت له :
ـ آني كل اللي يهمني ان تعود كما كُنت . . شاباً مقداماً نشيطاً مستعداً لتلبية حاجة الضعيف و المحتاج و ان نعيش حياة زوجية سعيدة و ان نكوّن اطفالاً و اسرة جميلة، مهما كانت الوسيلة . . لستَ مجبراً على اجابتي كما اوصى العارفة فتاح . . سرْ في الطريق الذي يسعدك و يشفيك كما تُقرر عزيزي سعدون، و انا الى جانبك و اشدّ ازرك، احببتك من كل قلبي و عقلي . .
لم يتمالك نفسه و عانقها عناقاً حارّاً و قال لها :
ـ انتِ املي الكبير في الحياة و سأكون دوماً عند رضاكِ !
عادوا الى بغداد و هو يحمل شيئاً من أمل و تفاؤل بحياة وجد ان ابوابها التي اوصدت بوجهه يوماً، يمكن ان تنفتح . . فكّر طويلاً و طويلاً . . و قرر ان يذهب الى بانسيون ماري بعد انقطاعه عنه لشهور، و جهّز هدايا الى البانسيون في مقدمتها كميّة معتبرة من طيور الدرّاج التي اصطادها و حفظها بالثلج، اضافة الى علبة حلويات كبيرة لماري و مصوغة لـ ريتا ان وجدها هناك . .
فرحت ماري خاتون كثيراً بهدايا سعدون و امرت النادلات بخدمته، و عرف منها ان ريتا موجودة في البانسيون و انها مشغولة بزبائنها و سترسل لها خبر وجوده و اكيد انها ستفرح لأنها . . كانت تسأل عنك باستمرار، و كانت خائفة عليك من مكروه ما المّ بك . . كما عبّرت.
جاءت ريتا اليه على عجل ناسية تعديل ملابسها و هيئتها، و عانقته بحرارة و هي تقول :
ـ يا اهلاً و سهلاً . . من زمان القمر مابان سعدوني . . آني تصوّرت انك نسيتني بعد ان تزوجت . . يظهر عليك تعب لم اشاهده قبلاً و لايليق بك . . ماذا حصل ؟
ـ . . .
ـ تعال نروح الى غرفتي . . حتى يمكن ان تتحرر من الجلوس في الصالة و من الضيوف و من . .
طاوعها و ذهب معها و هو يستند عليها، مما اثار انتباهها و قالت :
ـ حدّثني بصراحة ماذا حصل، قد استطيع ان اعمل شيئاً . .
جلس على سريرها كعادته فيما اخذت دوشاً و تنشّفت و خرجت بروب الحمام و رمت على وجهه بسروالها المعطّر بعطورها و رائحتها وسط ضحكاتها التي انعشته . . و بشمّه لتلك العطور و احساسه بالسروال على وجهه، شعر بانتعاشة افتقدها لشهور، و شعر برجولته و باستعداده لإثباتها، فابتسم، و قال و هو يخلع ملابسه :
ـ لن احدّثك الآن بما حصل . . فقط تعالي جنبي . .
و بعد إي . . و آي . . و على كيفك . . و دقيقة . . و آخ . . و إيخ . . تواصل معها الى الاخير كما في المرّات السابقة و شعر بأن الروح بدأت تسري في جسمه و اعضائه كالسابق، و وصف حالته لها دون حذر من التفاصيل بعد ان وجد فيها هي الدواء الناجع لعلّته . . و اهدى لها المصوغة الذهبية التي قرر اهدائها لها، و التي افرحتها كثيراً.
ضحكت ريتا و قالت :
ـ لك سعدوني . . لك انت صدك تحبني و انا الغبية كنت اتصور انك نسيتني
ـ . . . .
ـ شوف . . آني عالجت يمكن مئة رجل و صارت عندي خبرة بهالموضوع و عليك العمل و الالتزام بما اقوله لك . .
و دخلت بالعلاج :
ـ قهوة قوية، بلا كحول و بلا . . و بلا . . و خليّني براحتي معك
ـ هالمرّة انت تحت
ـ هالمرّة على جنب
ـ هالمرّة وضع 69 و كل واحد ينشغل بما في مقابيله
ـ هالمرّة . . .
حتى تاه سعدون بين القهوة و الأعضاء و بين العطور و القهقهات التي بدأ يقهقه معها و احسّ بالإعياء بعد انتهاء خزينه السائل . . و نام نوماً عميقاً . . و استيقظ في ضحى اليوم التالي و هو لا يعرف اين هو ؟؟
حتى فتحت ريتا الباب و هي تحمل صينية الفطور التي أمرت بها ماري خاتون له، كشكر على هداياه و على معاودته القدوم الى البانسيون كأحد حمايته بلا مقابل، و جلسا الى المنضدة الصغيرة في الغرفة لتناول الفطور. قال سعدون :
ـ ريتا . . هاي منين تعلّمتي هالملاعيب ؟؟ شنو مكمّلة معهد او دارسة دراسات عليا، لأن حتى الاطباء لم يستطيعوا عمل شئ ؟؟
نظرت اليه و هي تراه رجلاً نَظِراً جذّاباً كعادته الاولى، و قالت :
ـ المهم انك مرتاح و سعيد و هذا يفرحني كثيراً . . لا معهد و لا دراسات طبية عليا و لا هم يحزنون، تعلّمت من شغلنا، احنا نبذل كل الجهود لإرضاء الزبون الى النهاية، حتى يدفعلنا الأجرة و يبقى زبوننا، و بأن لايخرج زعلان او غير راضي علينا او على حاله، و يكفّ عن المجئ الينا . . لانريده يخرج و هو يبكي لفشله كما حصل مرات، و من لديه مشكلة فان عليه ان يدفع عن كلّ مرّة قضّاها عندي . . في حالتك مثلاً عليك ان تدفع الأجرة مضاعفة اربع مرات ههههههههههههه لكني اعتبرها هديّة منيّ لإنسان عزيز عليّ المهم انه عاد سعيداً . . و هكذا تعلّمت الصنعة. (يتبع)

21 / 11 / 2021 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.
- ذكريات طفولة. . من هو .10.
- ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.
- ذكريات طفولة.. ذات صيف .8.
- ذكريات طفولة..تحطم طائرة .7.
- ذكريات طفولة سعدون .6.
- ذكريات طفولة .5.
- ذكريات طفولة .4.
- ذكريات طفولة .3.
- ذكريات طفولة .2.
- عن بيان سماحة المرجع الاعلى حول الانتخابات
- ذكريات طفولة .1.
- الانتخابات: التشرينيّون و صراع الميليشيات .2.
- الانتخابات: التشرينيّون و صراع الميليشيات .1.
- المناضل الكبير كاظم حبيب . . وداعاً !
- افغانستان و تغيّر الستراتيجية الاميركية .2.
- افغانستان و تغيّر الستراتيجية الاميركية .1.
- التغيير: روح الدستور، مطالبات تشرين !
- من اجل بقاء العراق موحداً .3.
- من اجل بقاء العراق موحداً .2.


المزيد.....




- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.