أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.















المزيد.....


ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7157 - 2022 / 2 / 9 - 22:15
المحور: الادب والفن
    



بعد تلك الليلة التي نجا فيها من الموت، لم يخرج رحيّم من البيت في صباح اليوم التالي . . لتقليب الفكر بما عليه ان يعمل و كيف عليه ان يُجنّب العائلة و الاطفال مخاطر اوقعهم هو بها بنشاطاته، خاصة و انه الآن يعمل ادارياً في معهد الفنون الجميلة، بعد ان صدر امر بنقله من العملية التعليمية الى الإدارية من دون سبب مقنع غير (بناءً على ماتقتضية المصلحة العامة)، و استلم مسؤولية مخازن المعهد و حساباته . .
لم يخرج من البيت، و لكن بعد فشل محاولته بالتعلل بكونه مريض، حيث ارسلني قبل ذهابي الى المدرسة الى بيت موظفة الفنون (مزدانه) لعمل اجازة اعتيادية له كخطوة اولى كي يراجع طبيب، الاّ انها قالت ان ذلك ممنوع منذ شهرين، و لم تفلح محاولاتها التلفونية لذلك، بسبب صدور تعليمات مشددة بمنع الإجازات الأعتيادية . .
وصار صاحب طلب الإجازة الإعتيادية يعرّض نفسه الى انواع المساءلات التي تصل الى التحقيق السياسي والشك بـ (معاداة الجمهورية الفتية الخالدة) والإحالة الى الشرطة و الأمن بتلك التهمة . . فاضطر الى الدوام متأخراً بعد ان رتّبت له المحاسبة الصديقة (مادلين) حجة ادارية، في وقت كان فيه مسؤول الإدارة المسؤول عن ضبط الدوام للموظفين و طلبة المعهد (شاكر المفتي)، و هو من الموظفين المسلكيين السعيديين الواقفين بالمرصاد لليساريين من طلبة و عاملين رغم تعبير جميعهم المتواصل بتأييد الزعيم . . وفق قوائم مدققة من دوائر الأمن السعيدية المسلكية، او له و عبر صلات قوية بها . .
و بعد ايام و بينما كان رحيم راجعاً الى مكتبه من بناية احد المخازن . . . اخبره مساعده "عبد عبيد" قائلاً :
ـ استاذ رحيم . . هناك سيدة بانتظارك ! انها تنتظر في القاعة الكبيرة عند الباب الرئيسي للبناية !
ـ الم تخبرك من تكون او لماذا جاءت ؟ قد تكون طالبة من طالباتنا لديها طلب ؟
ـ استاذ . . من الواضح انها ليست من طالباتنا ! من ملابسها ومساحيق وجهها و موديل شعرها و و تنوّرتها البيضاء القصيرة . .
و بعد ان قدّر ماسيقوله لاحقاً . . قاطعه رحيّم قائلاً :
ـ الم تعطي اسمها كعادة الضيف القادم من خارج المؤسسة ؟
ـ نعم بعد ان سألتها قالت، انها شكرية . . ابنة جارتكم ام سناء . .
واخذ رحيم يفكّر :
ـ هل هي شكرية السفيهة التي كانت تعمل كاتبة في دائرة اسالة الماء ؟ ماذا تعمل هنا ؟؟ و من اين تعرف اني اعمل هنا ؟؟
جاءت شكرية بعد ان ذهب اليها عبد عبيد لتأتي معه، فقابلته و قالت :
ـ استاذ . . تشرّفنا بلقاءكم باعتباركم من انصار المرأة . . . والله من يوم مازارتكم د. نزيهة الدليمي صحبة الدكتور عبد الأمير ابن ؟ ابن ؟ بالمناسبة هو ابن من ؟
ـ . . اسمه دكتور عبد الأمير السكافي
ـ يعني آني مريضة مرض نسائي و اريده ان يكشف عليّ . . اشلون يمكن تحديد موعد معاه ؟
ـ والله كما اعرف . . ليس لديه عيادة.
ـ زين . . في بيتكم . . ؟
ـ في بيتنا ؟ والله و انت تعرفين اتصوّر . . بيتنا صغير واطفالي كثيرون وكلهم طلاب ووالدتهم معلمة ولديها طفلة رضيعة . .
ـ لعد كيف كنتم تجتمعون في البيت ؟؟ . . زلم و نسوان . . نازعين لابسين ؟! حتى بنت شيخ رشيد الحليوه طلعت كم مرّة من بيتكم و هي تعدّل تنورتها المبللة . . يمكن جانت توّها مخلّصه ههههههههاي بس مو علينا استاذ !! احنا نقرا الممحي . . بعدين شنو مخبوصين بقوانين مساواة و حرية المرأة ؟ الحرية شنو . . غير تدخين و شرب عرك و اكل المحرّمات، اني كلها اسويّها. الحرية مو معناها و تعني ان المرأة تنزع و تلبس بكيفها . . آني مستعدة هسه انزع كدّامك بس نزّل الستارة شوية !!!
ـ . . . . .
شحب وجه رحيم من تلك الكلمات الوسخة المفاجئة و الاخرى التي لا اساس لها من الصحة . . وتألم لحاله من محاولة جارة نتنة للتسيّد عليه ومن سلاطة لسانها، ومن خروجها على كل التقاليد الأجتماعية ابتداءً من زيارتها له في عمله و هو الذي لم يسبق له ان تحدّث معها او حيّاها، و لم يسبق لهما ان تزاورا كعوائل على الأقل !! وقرر ايقافها عند حدّها . . .
فقال لها و بصوت جاد و مرتفع قليلاً :
ـ شوفي ست شكرية !! ... ولو اني عرفت اسمك الآن فقط لأن لاسابق معرفة بيننا رغم اننا جيران ، ولكني اقول لك . . الزمي حدودكِ في الكلام والزمي الصدق فيه ! عن اية اجتماعات تتحدثين ؟ انت تعرفين جيداً اننا لم نأتِ من ثقب حائط، ولدينا عدد كبير من الأقارب رجالاً و نساءً يزورونا و نزورهم، واذا كانت زوجتي معروفة لكم من هي و من تكون في الأعظمية . . فانا من عائلة معروفة من صوب الكرخ من محلة "خضر الياس" وزوجتي تعرفيها جيداً . . بعدين شنو نازعين لابسين ؟؟ و تريدين تنزعين كدّامي ؟؟ ولج انتي ماتستحين ؟؟ يلله برّة ! . . برّة !!
اجابته بمباشرة و بهدوء ولاأبالية :
ـ رحيم . . لا تسويّ نفسك عصبي براسي . . انت لم تدعوني حتى لكأس شاي او للجلوس على الأقل . . اني ذاهبة . . ولعنة الله على الساعة التي قررت فيها ان ازورك !! عبالي شهم و ابن اوادم . . و اردت ان اراويك انا مع حريّة المرأة !!
وذهبت بعد ان مرّت على غرفة (شاكرالمفتي) . . !!
بقي رحيم واقفاً وقد اصعقته المفاجأة و تزاحمت الأفكار في رأسه . . " هل هي صدفة ؟ قبل ايّام فقط حاول عزوّز دهسه بالسيارة، والآن تأتي اليه عشيقته شكرية خاتون و بكل سفاهه و تريد منه ان يعمل لها موعد مع دكتور عبدالأمير لأنها مريضة كما قالت ؟؟ ثم ماعلاقة ذلك بكوني من انصار المرأة وانها شاهدت د. نزيهة التي صارت وزيرة الآن، عند زياراتها لنا قبل سنوات في العهد الملكي ؟! لااعتقد ان الموضوع موضوع ذاكرة لطّفت بها الجو لتشجيعي على السعي لترتيب الموعد مع الطبيب . . . بعدين هي هاي حريّة المرأة ؟؟؟ تفو . . و الله من انعل ابوك لابو ابو اللي جابك علينا . .
و من زمان لم يزور بيتنا د.عبد الأمير ولم نلتق علنا في الأعظمية . . بل انه ترك البيت الذي كان يسكنه مع عدد من طلبة كلية الطب الثوريين . . ويسكن الآن و منذ تخرجه في مشتمل يعود الى بيت قريب على بيت ومجلس الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري، لإهتمامه بحضور المجلس. مشتمل نقل اليه امه و اخته من النجف لتسكنا معه . . يمكن ان من كلّف شكرية بزيارتي يريد ان يعرف اين يسكن د. عبد الأمير الآن، والله يدري مايدبرون له ؟ ثم لماذا مرّت على غرفة شاكر المفتي بخروجها ؟؟ هل تعرفه او مرسلة من ناس لديهم مهمات معه ؟؟
الشك كبير بكونها مريضة فعلاً، لأنها تبدو كالحصان لا يبدو عليها كونها مريضة . . كل لهجتها في الأستفسار كانت تدلل على انها و كأنها تستنطق و تقوم بمهمة ما مطلوبة منها ؟؟ . . هل هي تحب فعلاً صديقي د. عبد الأمير، صعب تصديق ذلك من امرأة ساقطة بإرادتها . . و استمر بالدوران في حلقات مفرغة لاتنتهي من الافكار، و لكن توصّل الى ان المهم اخبار د. عبد الامير بذلك لينتبه، لأن يبدو ان شكرية علاقاتها بالامن متعددة .
. . . .
بعد ايّام من نجاة الوالد من الدهس و صار حذراً في حركته و صار لايتأخّر حتى لو قطعوا من راتبه، و يعود للبيت من طرق اخرى كان يضطر لتغييرها يومياً و قبل غروب الشمس . . التقى محمد بأخيه برهوم و دار بينهما التالي :
ـ عزيزي برهوم تره صدك ما قاله رحيّم، انهم مقررين قتله لأنهم يكولون ان رحيّم يهودي، و قد فُصل من الوظيفة قبل سنوات بتهمة (شيوعي صهيوني خطير) !!
ـ ابو جاسم شنو هالخريط ؟؟ رحيّم من عائلة مسلمة بغدادية معروفة و تزوّج اصولياً من خالتنا سعاد وفق عقد اسلامي شرعي بشهادة اوراقه الثبوتية و بحضور خالته راجحة الملاية المعروفة و زوجة اخيه الكبير و كنت انا احد شهود الزواج . . اما (شيوعي صهيوني خطير) هاي كانت التهمة المرتّبة اللي فُصل بها آلاف اليساريين من اعمالهم الحكومية . . بسبب نشاطهم في مظاهرات العدوان الثلاثي ضد حكومات نوري السعيد . .
ـ هكذا كان مطبوع على جدول ورقة حكومية فيها الأسماء و التهم مقابلها . . و امام عدد من الأسماء علامة ضرب بالأحمر مخطوطة بقلم رصاص احمر . .
ـ اوراق حكومية مطبوعة ؟؟ انت شفتها بعينك ؟؟
ـ نعم !! صادرة من الأمن العامة . . اردت آخذ نسخة منها، رفضوا !!
ـ زين هاي عادة تكون سريّة و تخص أمن الدولة، منين محصّلين عليها و شلون ؟؟
ـ عزيزي برهوم و هاي بيناتنه الله يخليّك . . اللي افتهمته ان اعمالهم تجري بإشراف حكومي و شخصياً بإشراف (المقدم صالح مهدي عمّاش) اللي يعمل بالإستخبارات العسكرية، و هو يسكن في الأعظمية ـ محلة الحارّة المجاورة لمحلة السفينة، و يمكن هو اللي يزورهم بدربونة نجيّة الخبازة بملابس ريفية بين فترة و اخرى . . و صدر امر من الزعيم بتعيينه وكيل اداري لقائد القوة الجويّة
اليساري زعيم الجو الركن جلال الأوقاتي، و يعمل في مكتبه رغم انه ضابط مشاة و لا كفاءة او خبرة بالقوة الجوية لديه . . و يقولون انه يجيد اللغة الانكليزية و يتعامل مع جهات غربية يمكن شركات نفط و غيرها، و لذلك يتعامل بالدولار لأن ماعنده وقت للتصريف ؟؟
نقل برهوم ماسمعه من اخيه محمد الى رحيّم و تناقشا حوله و حول زيارة شكرية للقاء رحيّم . . . و توصلا الى ضرورة اليقضة و الحذر من جهة، و هل ان ذلك يجري في الأعظمية فقط او في عموم بغداد ام كيف ؟؟ و بعد يوم او يومين التقى رحيّم بـ د. عبد الأمير و عدد من الأصدقاء في مكتب المحامي كاظم الطائي في الكاظمية، و بتبادل معلوماتهم و مناقشاتهم حولها توصّلوا الى :
ان هناك خطة للبعثيين و القوميين للقيام بإغتيال العناصر اليسارية الأكثر نشاطاً، يمكن ان تكون للتحضير للقيام بعملية كبيرة لتغيير نظام الحكم و ستبدأ مع اعلان موعد انتخابات المعلمين التي ستدور في الايام القادمة، و المعلمين من الجنسين هم اكبر تجمّع جماهيري تقدمي بعد الطلاب . . حيث بدأ الصراع عنيفاً لتزوير الانتخابات و منع المعلمين اليساريين و المئات من المستقلين بالسلاح، منعهم من الإدلاء باصواتهم على القائمتين المتنافستين البارزتين : القائمة المهنية، الديمقراطية . . و قائمة الجبهة التعليمية الموحدة التي ضمّت البعثيين و القوميين و الاسلامويين . .
و فعلاً بعد يومين أُعلن عن اغتيال المدرّس المحبوب ممدوح الآلوسي مرشح القائمة المهنية في اعدادية الأعظمية للبنين، بضربه عدة مرّات بغطاء صندوق سيارته (الكبنك) و هو يفرغه من حاجات اشتراها لتوّه من السوق وقت غروب شمس ذلك اليوم . .
و سُجّل محضر بالجريمة التي اتُّهم بها صانع في محل يبيع الثلج عُرف اسمه الاول (عزّت) من الدّور و يلقّب بـ الدوري، و هو من ارباب السوابق في جرائم متنوعة . . و في تلك الفترة كان مسؤولاً عن توزيع جماعات من الشباب و الاطفال في تقاطعات الشوارع لضرب من كان يمرّ هناك بالبوكسات او بالحجارة او بالهراوات، من اليساريين او من ابنائهم و بناتهم . . . حتى عاد اخي مفيد في يوم من الايام مورّم الوجه لأنهم ضربوه بالهراوات، بسبب حمله ملصقات تدعو لإنتخاب القائمة المهنية، و عاد محمود ابن مزهر الى البيت، و هو مدمىّ بسبب حمله لصحيفة " اتحاد الشعب "، كان قد اشتراها من الكاظمية . .
في وقت انتشرت فيه محاولات الإغتيال في بغداد بحق الناشطين اليساريين، منها محاولتا اغتيال فاشلة استهدفت ابو الهوب، و قد ساعدت نقابات العمال على حفظ الأمن و الهدوء و انقاذ اليساريين و الديمقراطيين في محلات بغداد، حيثما امكن . .
. . . .
. . . .
في احد الأيام آنذاك قال المساعد في مكتب والدي في معهد الفنون الجميلة (عبد عبيد)، انه سمع من طلبة من المعهد ان البعثيين و القوميين يقومون بحملات اغتيال منظّمة بكل الوسائل و وفق جداول . . و ان القيادي الثاني في البعث (حازم جواد) جاء الى بغداد من مصر سرّاً و جلب معه كمية كبيرة لأول مرة بهذا الكبر الى بغداد، من رشاشات بور سعيد و مسدسات بينها كواتم اضافة الى قنابل يدوية،و صناديق كثيرة من العتاد . . و انهم رأوا او قدّروا تلك الشحنة عند وصولها الى دربونة احدى الخبازات في سوق الاعظمية القديم.
و تأكّد نفس الخبر من محمد اخو برهوم من جماعات العالم السفلي في دربونة نجية الخبّازة، و قد ناقش الوالد و الجماعة و ماجاءوا به من اخبار، في بيت د.عبد الامير و توصلوا الى ان البعثيين يتهيأون لعملية كبرى لإسقاط الزعيم . . و اوصلوا تلك الأخبار الى المقدم سعدون الذي اوصلها بدوره الى المقدم ممدوح، العامل في المكتب المركزي للإستخبارات العسكرية . .
و قد وصف حازم جواد ما كان يحدث بعد عقود من السنين في مقابلته مع صحيفة (الحياة) اللندنية في (حازم جواد يتذكّر)، بانهم كانوا يستعدون لإغتيال عبد الكريم قاسم و قد تمت المحاولة في بداية تشرين الاول اكتوبر عام 1959 . . و انه جاء من مصر صحبة تلك الأسلحة و ان الأمين العام للحزب آنذاك فؤاد الركابي كان وراء ذلك القرار بموافقة عبد الناصر، وكانت الخطة تقضي أن يعقب نجاح محاولة الاغتيال تحرك ضباط بعثيين وقوميين و مدنيين مسلحين للإمساك بالسلطة . . (يمكن مراجعة محاضر جلسات محكمة الشعب بهذا الخصوص، و كراس فؤاد الركابي "الحل الأوحد" الذي كان يعني الحل الاوحد لإسقاط الزعيم الاوحد) . . اذن لم يكن الهدف احداث فوضى فقط، بقدر ما كان الهدف هو الإستيلاء على السلطة و تحطيم الخصوم بشكل مخطط . .
و هكذا هيّأ القيادي في البعث اياد سعيد ثابت مجموعة بقيادة عبد الوهاب الغريري، و تدرّبوا في مزرعة الرضوانية، و قد ضمّت المجموعة كوادر من الحزب و شقاوات . . كمنت في عيادة الدكتور البكري في رأس القرية منتظرة قدوم الزعيم من جهة باب المعظم الى الباب الشرقي في مغربية ذلك اليوم، و بوصوله الى النقطة المحددة، رمى الغريري قنبلة دخانية لتفريق الناس التي كانت تحيي الزعيم من جانبي الشارع . . و انطلق وابل من الرصاص من غدارات بورسعيد عليه . .
و كانت النتيجة ان جُرح الزعيم بعدة اطلاقات في ساعده و لم يفقد الوعي، و مقتل السائق (حرز) و جرح المرافق قاسم الجنابي الجالس جنب السائق و لم تكن هناك حمايات لسيارة الزعيم لا من الامام و لا من الخلف، وكانت السيارة ماركة شيفروليه صالون عادية و ليست مدرّعة، مصبوغة بلون خاكي ككل سيارات وزارة الدفاع . . .
و بعد سؤال الجمهور المحتشد حول السيارة للزعيم، ماذا علينا ان نعمل ؟ اجابهم الى مستشفى دار السلام في العلوية، و كان الخبر قد انتشر كالبرق مؤدياً الى خروج عشرات الآلاف من سكّان المناطق المحيطة الذين احتشدوا للأطمئنان على الزعيم، و بعضهم حمل هراوات و خناجر للدفاع عن الزعيم و للانتقام من المجرمين . . من صرائف و مناطق الشاكرية و المجزرة و خلف السدة من جهة المستشفى، و كانت الناس في تزايد لاينقطع . .
احكمت القوات المسلحة سيطرتها على العاصمة بقيادة العقيد (احمد صالح العبدي) رئيس اركان الجيش و الحاكم العسكري العام، الذي كان موضع ثقة الزعيم . . في خطة دفاعية كانت مُعَدّة سلفاً كما تناقلت الانباء . .
و بسبب القلق من تلك الحشود و مايمكن ان يحصل . . اصدر العقيد العبدي بياناً اوضح فيه ان (مجموعة من الحاقدين على سلامة الجمهورية و الزعيم الاوحد) حاولت اغتيال زعيم البلاد، الاّ انها فشلت و يتم القاء القبض عليهم و التحقيق معهم، اضافة الى اعلانه ضرورة الهدوء و منع التجوّل في بغداد من ساعة اعلان البيان الى صباح اليوم التالي . .
و فيما جُرح اثنان من المهاجمين و قُتل مسؤول المجموعة الغريري (برصاصات خطأ من الشقي صدام، كما قيل) و تُركت جثته في الشارع . . الجثّة التي كانت مفتاحاً لتشخيص من و ماهية الفاعلين، سواءً من تشخيص الجثة او من الوثائق و الاوراق المصاحبة لها . . و جرى تشخيص الغريري كأحد كوادر البعث و ان المعظماوي شاكر حليوة مسؤول الغريري الحزبي الذي القي القبض عليه في الحال و اقرّ و تحدّث بتفاصيل عن العملية و اشخاصها، و تم اعتقال ماقارب الـ 60 شخصاً في الأعظمية من كوادر و مؤيدي البعث، فيما احكمت القوات المسلحة سيطرتها و نقاطها التفتيشية على الاعظمية . .
في وقت وَضَعتْ عدد من منظمات الحزب الشيوعي العسكرية، وضعت نفسها في حالة انذار للتدخل سواءً لحماية الزعيم او للسيطرة العسكرية على الحكم، كان ابرزها المنظمات التي كانت بقيادة ضباط الدروع الذين كانوا يقودون كتائب مدرّعة في ابو غريب و في التاجي: العقيد سلمان الحصّان و الرئيس الاول خزعل السعدي . . كما انتشر حينها.
في زمنٍ امتلأ فيه الضباط و خاصة الشباب بمشاعر ان بإمكانهم تغيير السلطة او السيطرة عليها بعد نجاح ثورة يوليو المصرية ضد الملك فاروق بقيادة الضباط عام 1952 . . و النجاح الباهر لثورة 14 تموز 1958 ضد الملكية بقيادة الضباط الأحرار . .
لقد ادىّ فشل المحاولة و الاعتقالات الواسعة التي جرت في الاعظمية، ثم المحاكمة العلنية للقائمين بالعملية في " محكمة الشعب " و الاحكام الثقيلة التي صدرت بحقهم . . ادّت كلّها الى تحوّل الاعظمية الى حالة من الهستيريا، بين تحديّ اكبر للسلطات و بين مهاجمة من بقي فيها من الديمقراطيين و اليساريين . . و اخذنا نتجنّب المرور في الشوارع و المحلات و الحارات الاكثر تطرفاً فيها، حذراً من اعتداءات مجرمين او من صبيان وجّهوهم للقيام بتلك الاعمال بحق اولئك الاشخاص و عوائلهم، وفق تشخيصات عينية بالمشاهدة و التأشير . . فكانت شهور قاسية فعلاً.
. . . . .
. . . . .
ذات خميس و كنت عائداً من المدرسة فرحاً، لأنهم وزّعوا النتائج الامتحانية ذلك اليوم و كنت الاول على الصف، و مرّ مدير المدرسة عليّ لتهنئتي في الصف و لدعوتي الى احتفالية ستقيمها ادارة المدرسة للطلاب الأوائل على صفوفهم في الايام القادمة . .
مررت في سوق الاعظمية القديم المسقوف و انا متعجّب من نظرات اغلب البقالين الثابتة الجادة الصامتة المصوّبة نحوي . . لم تكن نظرات تهنئة على النجاح و التفوّق ابداً . . كانت نظرات جادّة عن عن شئ كبير حصل، ممكن للعائلة او للوالد و الوالدة او لأحد اخوتي !!
خرجت من السوق الى الجادّة العريضة الموصلة الى بيتنا . . كانت الجادّة شبه خالية من الناس خالية من اية سيارة و ليست على عادتها . . صمت مطبق وسط نظرات هي ذات النظرات التي كانت في السوق القديم . . استمريت بالسير حتى شاهدت شخصاً ممدداً مطروحاً على وجهه و يتحرّك بصعوبة، اقتربت منه و انا احاول ان اساعده كيفما استطيع . . كانت الكدمات و الجروح السطحية تغطيّ وجهه الذي لم استطع تمييزه حتى عرفت . . انه ابي !!
كان ابي غارقاً بدمه !!!
صحت لا ارادياً :
ـ يابه ياب . . بابا !!
ـ هدئ نفسك حبيبي ! انا بخير . . حاول تساعدني على السير و سأدلك على الطريق، لاتخبّر ماما ابداً بما حصل ابني، انا بخير !
حاولت ان انهضه و اسنده للسير، كانت الدماء لاتنقطع من صدره او من اعلى بطنه . . سرنا بهدوء و ببطء وكنت ادع الوالد يستريح بين فترة و اخرى كما كان يطلب . . و هو يردد :
ـ انتبه ان لا نكون مُلاحقين !
ـ الشارع خلفنا خالي ؟؟
ـ بكره او بعد بكره تصير طبيب كما خططت ماما . . اهتم بالطيبين ! بالمناضلين في سبيل العدالة و الخبز و الحرية !
استمريّنا على مشينا البطئ . . . و قطعنا مسافة عشرة دقائق باكثر من ساعة، و الدماء مستمرة لم تتوقف رغم اني قطّعت قميصي و شددته على صدره و بطنه كما اوصى، على مكان النزيف الذي كان مختفياً بملابسه ذاتها !
ـ ابني وصلنا بيت د. عبد الأمير . . الذي لايعرفه احد، حافظ على السرّ.
طرقت الجرس، فتحت الباب ام عبد الأمير التي روّعت من رؤية الدم و صاحت و هي تولي وجهها الى الداخل :
ـ اموّري اموّري . . رحيّم جريح و ينزف !!
استقبلنا د. عبد الامير بهمّة و نشاط و بينما كان يفحصه، كان يسمعني و انا احدّثه كيف وجدت الوالد و كيف وصلنا كما طلب مني اخباره . .
ـ ابني ابوك بخير ! بس لازم ننقله الى المستشفى لأنه بحاجة لنقل دم و لعملية سريعة لقطع النزيف بسبب جرح عميق في بطنه . . السيارة حاضرة بس ساعدني لإسناده . . (يتبع)


8 / شباط / 2022 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات الصبا..اعتداءات و تشريد .6.
- ذكريات الصبا..اول ايار 1959 .5.
- ذكريات الصبا.. ابو الهوب .4.
- ذكريات الصبا..الملا مصطفى .3.
- ذكريات الصبا الخال مزهر.2.
- ذكريات الصبا..14 تموز .1.
- ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.
- ذكريات طفولة.. قصر الرحاب 15
- ذكريات طفولة..اخافة الوصي .14.
- مذكرات طفولة.. العراق المنصدك .13.
- ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.
- ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.
- ذكريات طفولة. . من هو .10.
- ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.
- ذكريات طفولة.. ذات صيف .8.
- ذكريات طفولة..تحطم طائرة .7.
- ذكريات طفولة سعدون .6.
- ذكريات طفولة .5.
- ذكريات طفولة .4.
- ذكريات طفولة .3.


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.