أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.















المزيد.....


ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.


مهند البراك

الحوار المتمدن-العدد: 7182 - 2022 / 3 / 6 - 18:49
المحور: الادب والفن
    


اضطر الوالد لترك بيتنا خوفاً علينا و حذراً من الغدر، و صار ينام خارج البيت في بيوت اصدقاء و اقارب، و كان يأتي لزيارتنا كلّما هدأت الاوضاع في المحلة و بإشارة من برهوم. و كان يتفقد بحرص كبير ادائنا لواجباتنا المدرسية و احتياجاتنا، و كنا نتواعد معه للخروج معاً الى اقارب او الى سينما او الى معهد الفنون الجميلة في أماسي مواسم التمثيل و الحفلات الغنائية و الموسيقية و في اماسي الاحتفالات العامة للمعهد . .
و في تلك الفترة صار اعتداء كبير على معهد الفنون الجميلة حيث يعمل والدي، لسمعة المعهد المتزايدة بانحيازه لليسار و للزعيم و لمواكبه الإحتفالية في ذكرى ثورة 14 تموز و عيد العمال العالمي، و لوحات و رسوم طلابه و فنانيه و مثّاليه المنحازة الى حاجات و قضايا الشعب بمكوناته و الى قضايا العمال و المرأة و الفقراء . . التي انتشرت في الجرائد و وسائل الإعلام و على الحيطان البارزة في الساحات العامة في بغداد.
و اعتبرت القوى القومية و البعثية المعهد، معهداً لتعاليم اليسار و الإشتراكية و اعتبره الإسلامويون، معهداً لـ (الكفر و الرذيلة) لكثرة اعداد الطالبات فيه و غالبيتهن سافرات غير محجّبات و يتحدثن مع الطلاب (دون احم و لا دستور) بل و قد يتضاحكن معهم !! . . فخططت تلك القوى مجتمعة للهجوم على المعهد مع التهيؤ لإحتفالات عيد العمال العالمي، و ان يكون بالسلاح الابيض غير الناري، بشرط عدم احداث ضجة كبيرة، و ان يكون بعد انتهاء لعبة كرة قدم في ملعب ساحة الكشافة القريبة على المعهد، لتحقيق تغطية بداية . . ثم تجمعٍ كبيرٍ للمهاجمين و ليحقق الهجوم مفاجأة للإيقاع باكبر الخسائر . .
و بالفعل في وقت غروب الشمس في ذلك اليوم و بعد انتهاء لعبة كرة القدم و خروج افواج المشاهدين و المشجّعين الذين تحشّد المهاجمون بينهم، من الملعب . . بدأ الهجوم على المعهد الواقع في محلة الكسرة ـ الأعظمية مقابل بناية البلاط الملكي السابق (البناية الرسمية لمجلس السيادة آنذاك) . . . بدأ الهجوم بدخول عدد من المهاجمين من الباب الرئيسي للمعهد، و دخول اعداد كبيرة منهم من الابنية المحيطة بالمعهد عبر سياجاته، حاملين الخناجر و القامات اضافة الى المسدسات و غدّارات بور سعيد . .
و هاجموا كل من وقعت اعينهم عليه او عليها بالسكاكين و الهراوات و انزلوا بمحتوياته . . من لوحات ديكورات المسرحيات و الآلات الموسيقية و ملابس التمثيل، و ابواب الغرف و غرفة العميد و غرف الإدارة و الحسابات و عموم غرف المعهد و مسبحه الصيفي الخلفي و حدائقه خسائر كبيرة و جسيمة في حسابات ذلك الوقت . .
و بسبب المقاومة العنيدة لطلبة و طالبات المعهد و عامليه من المتواجدين فيه في المساء، بما تمكّنوا عليه بايديهم و باستخدام قطع الخشب المتكسّر، صعد اثنان الى سطح المعهد و كانا يصيحان بطلب المساعدة من مقر (سرية الخيّالة المستقلة) القريبة، بعد ان وجدوا ان المهاجمين قد قطعوا اسلاك التلفونات و صارت الإتصالات بخارج المعهد مستحيلة . .
و بسبب تلك المقاومة غير المتوقعة، استخدم المهاجمون المسدسات و الغدّارات و بدأوا باطلاق الرصاص على المدافعين و المدافعات العزّل، و صعدوا الى السطح و رموا طالبي الإستغاثة من السطح، و سقط احدهم و كسرت ساقه، و استطاع الثاني ان يتعلّق بلوحة الزعيم الكبيرة للفنان فائق حسن المعلّقة على ذلك الجدار، و استند عليها في النزول الى الاسفل . . اللوحة التي كان قد اهداها منتسبو و طلبة المعهد الى الزعيم بمناسبة عيد الجيش، التي كانت تغطيّ واجهة الطابق الارضي و العلوي لذلك القسم من المعهد . . و قام المهاجمون بحرق تلك اللوحة التي اخذت تحترق بعدئذ ببطء . .
لم تستجب سرية الخيّالة الى نداءات طلب الإستغاثة، الأمر الذي كان مبعث شكوك و استفسارات عديدة، بل لم تستجب قيادة السرية الى دعوات و صرخات الموقوفين السياسيين من اليساريين و الديمقراطيين الذين كانوا محتجزين فيها الذين دعوها الى الاستجابة، رغم ان السرية لم تكن موقفاً اصولياً او مكان احتجاز . . لم تستجب السرية رغم وصول احتجاجاتهم الى اعلى الاصوات و الى استخدام قدور الطبخ و اغطيتها في احداث ضجّة كبيرة في المنطقة السكنية المحيطة، وسط تهديدات الموقوفين بإيصال اخبار ذلك الإهمال الى رئاسة الوزراء . .
الاّ ان لجوء المهاجمين الى اطلاق الرصاص بسبب المقاومة التي واجهوها كما مرّ، اوقع حراسة سريّة الخيّالة في حرج وسط تهديدات الموقوفين السياسيين بالإخبار عن اهمالهم . . فإتّصلت قيادة السريّة بالشرطة و اخبرتها بأنباء ذلك الهجوم، حتى حضرت سيارات (الشرطة السيّارة) و الإنضباط العسكري و سيّارات الإسعاف بصفّاراتها المدويّة . . الأمر الذي ادىّ الى انسحاب المعتدين، بعد ان تسببوا بجرح عدد كبير من الطلبة و الطالبات و من العاملين، و تسببوا بخسائر ماديّة كبيرة للمعهد في اثاثه و اجهزته الموسيقية و لوازمه الفنية المتنوعة . . و انتشرت اخبار ذلك الإعتداء بسرعة البرق و جاءت حشود شعبية كبيرة متنوعة من مختلف الجهات، ساعية للدعم و للدفاع عن المعهد و طلابه و منتسبيه . .
و بعد ايّام بدأ المعهد بإشراف عميده الفنان التشكيلي الشهير د. خالد الجادر . . بدأ بإعداد برامج احتفالية و احياء مواسم مسرحية و موسيقية، بنشاط لجانه الطلابية و المهنية كإشارة الى ان (الفن باقٍ) و يزدهر و يتطور و ان معهد الفنون الجميلة و تطور دراساته و فعاليّاته هو احد قلاعه الثابتة، رغم مخططات القوى الظلامية . .
و كانت تلك الاحتفالات فرصة لنا نحن الصبيان الفرحين بلقاءات الوالد و بالتعرّف على الفنون الجميلة في البلاد، و خاصة الرسم الذي كنت ناشطاً به و تعلّمت من النقاشات هناك الى خلطات الوان جديدة و الى تطوّر وسائل التلوين بالنقاش مع الطلبة الذين كانوا مستعدين لكل توضيح . . اضافة الى ميول اختيّ شذى و سوسن الى الموسيقى و الغناء و ميولنا جميعاً الى التمثيل و مشاهدة و متابعة المسرحيات الهادفة و خاصة تلك التي تعبّر عن معاناة و مشاكل و احلام المحلات الشعبية . .
و قد اهتم بالحضور الى تلك الفعاليات الحاشدة،عدد من وجوه البلاد السياسية التي كانت تحاول شدّ عزائم منتسبي و طلاب و طالبات المعهد، و تحاول اعلان تضامنها معهم و استعدادها للدفاع عنهم . . و الذي لا انساه منها كان حضور العقيد فاضل عباس المهداوي رئيس محكمة الشعب، في احدى تلك الأمسيات، و سلّم على العوائل التي قدمت للتضامن مع المعهد فرداً فرداً و منها عائلتنا، كان انساناً بسيطاً متواضعاً في تعامله، و جلس في مكان فارغ كان جنبي في جلسة العوائل تلك من زوّار المعهد، رغم تأكيد المضيّفين عليه الى الجلوس في صدر الجلسة . .
لم املك نفسي الاّ بأن حدّثته عن ابن عميّ عدنان و زيارتنا له كسجين سياسي في معتقل بعقوبة ، و كيف كنت اذهب الى بيت عميّ في الفضل و أقضيّ ليالي هناك و كيف عرفت ان الزعيم كان يزور بيت اخته في المهدية . . فقال المهداوي :
ـ نعم ابني كان الزعيم يزور بيت والدتي في محلة المهديّة و كنّا نلتقي هناك قبل الثورة، بعيداً عن انظار المخبرين السريين . . نحن من عوائل شعبية و منحازون لقضية الفقراء، و لفهم قضية الفقراء فعلاً و دورها الهام في تكوين المجتمع، عليك ان تقرأ كتباً ذات قيمة تعرّفك على المجتمع و على الحقائق السريّة غير المكشوفة و التي تُحاط بأنواع فنون السريّة و الخزعبلات و حكايات الجن و السحر . . انصحك بقراءة مؤلف (البؤساء) للكاتب الفرنسي الإنساني الكبير (فكتور هيجو) للتعرّف على مايجري حقيقة في المجتمع، حاول ان تحصل على النسخة الأصلية و ليس التجارية. النسخة الأصلية في العراق موجودة في (المكتبة الوطنية) فقط للاستعارة، و البقية كلّها تجارية . .
و لم انسى تلك النصيحة الثمينة و فعلاً قرأت او درست مؤلف (البؤساء لفكتور هيجو) بنسخته الأصلية الصادرة عن دار اليقضة العربية بعد سنوات، حين استعارتها لي اختي سوسن من مكتبة المناضل الديمقراطي الكبير العقيد وصفي طاهر عن طريق ابنته نسرين . . كان المؤلف مكوناً من اثني عشر مجلداً كبيراً، جرّني ماعرض من حقائق الى قراءة المؤلف الأصلي للـ (الحرب و السلام للكاتب الروسي الكبير تولستوي)، لكون المؤلفَيْن يبحثان في احداث و مجتمعات و نفوس و سلوك طبقات نفس الفترة الزمنية التي تستعرض تأريخ اوروبا آنذاك.
شكّل معهد الفنون الجميلة آنذاك و كأنه ملتقى دولي لأنواع الثقافات العالمية بكل وسائل التعبير الإنسانية من الرسم و الخط و الى الفنون التشكيلية و المسرحية، و ضمّ فنانين و اكاديميين اوروبيين و اوروبيات و عرب، و باحثين عراقيين و عرب و من كل قوميات و مكونات العالم، بينهم الدارسين في تراث العراق الحضاري و حضارات النهرين . .
و لبساطة و حميمية العلاقات و الاحترام بين منتسبي المعهد و خاصة اساتذته و طلابه و طالباته ، شاهدنا و عرفنا اشياءً جديدة لم نألفها قبلاً، كالتعرف على الأستاذ الجيكي لآلة (الفلوت) الموسيقية، الذي كان طبيب اسنان و يهوى الموسيقى في براغ، و استطاع بجهود كبيرة ان يتفرغ للموسيقى و صار استاذاً لها في الأكاديمية الجيكية للموسيقى، و جاء بعقد حكومي الى المعهد . . و صار يعالج اسنان والدي في شقّته بتكاليف قليلة . .
و تعرّفنا و تبادلنا احاديث ممتعة مع الأستاذ الحاج ناجي الراوي بطل المسلسل الاجتماعي التلفزيوني (الفوّال) و مقدمته الموسيقية و ردّتها (فوّال فوّال ، عدّاد نجم . . فوّال)، و مع الأستاذ حميد المحل بطل التأتأة في مسرحياته، و الاستاذ و الممثل المعروف جعفر السعدي الذي كان يدرّب طلاّب قسم التمثيل على اطلاق الضحكات المجلجلة، فكان يطلق ضحكاته التي تهزّ القاعات المحيطة، و كان يتحوّل الى الحديث الجاد فجأة ليشرح كيف يطلق الممثل ضحكة مجلجلة . .
و كان الاساتذة يوصلونا بسياراتهم صحبة الوالد الى باب بيتنا في حال تأخر عرض مسرحيات الموسم الثقافي الى ساعة متأخرة من الليل وفق عادات يومذاك، تعبيراً عن الود و المحبة و حرصاً على الوالد من اعتداءات قد تطاله و تطالنا معه، ليوصلوا الوالد بعدئذ الى حيث ينام تلك الليلة . .
. . . . .
. . . . .
فتحت حادثة دربونة نجية الخبازة، باب فضولنا الكبير سراج و انا، الذي لم نستطع الفكاك منه و من سحر سرّها و سرّ اصوات الجنّ في الليالي ؟؟ و بقينا على الدوام نراقب مدخل ذلك الزقاق و نحاول الدخول فيه والى مسافة اعمق من السابق . . بعد ان كنّا نتأكّد من خلوه من اية مراقبة او حراسة . . بل انها زادت من فضولي و تفكيري بالسعي للذهاب حتى لوحدي . .
ففي ظهرية حارّة تسللتُ الى داخل بيت عبود الأقرع في الدربونة و سمعت اصواتٍ مكتومة تشبه اصوات انسان او اكثر و هو مكمم الفم محاولاً الإستنجاد . . فتسللتُ الى جهة الصوت و وجدت نفسي مقابل شباك خشبي قديم ضيّق محطّم الزجاج واطئ يصل قرب الأرض . . كان مغطىّ بغطاء صوفي شاهدت من خلال تمزقاته شخصاً مكتوف اليدين مكمم الفم يحاول الصراخ من تاثير الآلام التي كانت تسببها ضربات عصى انهال بها احدهم عليه ضرباً على اماكن متورمة من جسمه، و هو يصيح به وسط انين متواصل يأتي من اماكن أخرى لمحتجزين آخرين لا يُعرف من اين اتوا بهم و لا كيف ادخلوهم الى دربونة نجيّة الخبازة و الدربونة يقع مدخلها وسط السوق الذي تبقى دكاكينه مفتوحة الى ساعة متأخرة من الليل . . كانوا يئنوّن من آلام الضرب و التعذيب الذي يتعرّضون له، و اهل المنطقة يعتقدون انه انين لأرواح و جنّ، كما اشاع عزوّز و جماعته :
ـ ويلك متى تتكلّم . . كيف نجد ابن الصفره الكبير !! تريد تموت ؟؟
ـ م م م
ـ ويلك !! صدّق لن ينفعك شئ، فالكبير ارسل لك من الكرخ اخيه (برزان الجندي) شخصياً وهذا مجنون لايتفاهم !! متى تعقل ؟؟
فجأة دفع باب المنزل عدة اشخاص ودخلوا باحة الدار و هم يتجادلون بصوت عالي عمّن سيذهب في الموعد القادم الى (الشيخ عمر) و كانت اعلى الاصوات، اصوات حجيّ صالح الملقّب بـ (عمّاش) و عزوّز، كما كانوا ينادونهم . .
اختبأت بسرعة في بيتونة (تحت) درج قديم و انا احسّ عنف ضربات قلبي التي كانت كما لو انها سترمي قلبي خارج بدني. وبعد ان مرّوا من امام بيتونة الدرج الى باب الغرفة، انتهزت الفرصة لأصعد الدرج من هناك الى السطح، الذي منه قفزت الى السطح المجاور الأوطأ من الأول . .
ومن هناك الى بقايا حائط عريض مهدّم ينحدر الى الارض، مشيت عليه بكل سهوله كما لو كان السير عليه كالسير على ممر مُعدّ و مرتّب جيداً . . قاد عبر البيوت المحروقة الشناشيل المتروكة في الزقاق المؤدي الى بيت (صبرية الخبّازة) الذي كنّا نلتقي فيه لرؤية التلفزيون كما مرّ، اي الزقاق المؤدي الى الأزقة الضيّقة الواقعة خلف دربونة نجية الخبازة في الجهة الأخرى، التي تنفتح مقابل بيت القابلة "السستر حسيبة "، حيث كانت تتجمع هناك مياه آسنة قال عنها البعض :
ـ انها مياه امطار . .
وقال آخرون :
ـ انها مياه الصرف الصحيّ التي لاتجد منفذاً بسبب انسداد مواسيرها لقدمها !! و بسبب البيوت التي انهارت بسبب الحريق الكبير هناك، و قيل بسبب معارك الثارات هناك، التي ادّت الى انسداد تلك الأزقة وصارت غير نافذة من طرفيها بسبب فيضان مجاري المياه القذرة.
و بينما كنت متفاجأ من انفتاح تلك الازقة على بعض . . رأيت هناك سيّارة عزوّز البيكاب الصفراء، حيث اكتشفت لأول مرة ان دربونة الخبازة نجيّة ليست غير نافذه (اي ليست مسدودة)، وانما هي تنفذ الى الأزقة الخلفية المذكورة عبر السطوح و الحيطان المتهدمة التي تنحدر الى الاسفل، و التي سويّت ممراتها . . لتنفتح في النهاية على الشارع العام النازل من جسر الأئمة، و حيث يمكن من هناك دخول و خروج شاحنات و حمولات و مختطفين الى تلك الشبكة من الأزقة القديمة، و الى دربونة نجيّة الخبازة من الجهة الخلفية . . و هكذا عرفت بأنهم يأتون بالمختطفين من تلك الجهة الخلفية عبر المياه الآسنة الخلفية و بعيداً عن السوق.


وداعاً خليل ابو الهوب !

في يوم خميس، كنّا انا و محمود قد تواعدنا مع والدي في (المقهى البرازيلية) في شارع الرشيد، للقائه و لشرب القهوة البرازيلية اللذيذة التي سمعنا الكثير عنها . . كي يدلّنا على (مكتبة مكنزي) التي كانت تبيع الكتب و الصحف و المجلات الصادرة باللغة الإنكليزية، بعد ان اخبرنا الوالد ان الكثير من حقائق البلاد يمكن ان نجدها باللغة الإنكليزية فقط آنذاك، او اية لغة اوروبية عالمية . . التي يُفسح لمطبوعاتها المجال لأنها تحقق ارباحاً عالية للدولة من جهة و لأن قليلين يستطيعون القراءة و الفهم باللغة الإنكليزية، من جهة اخرى . .
و من رصيف (مكتبة مكنزي) تفاجأنا و نحن مع الوالد بقدوم موكب هائل اوقف الحركة في الشارع و بقي الناس رجالاً و نساءً واقفين على الارصفة يترقبون قدومه و هم يزدادون عدداً . . لم تكن مظاهرة و لا احتفال مبكّر بعيد العمال العالمي الذي كان موعده يقترب، و انما كان موكباً طغى عليه سكون مهيب سُمع من خلاله قرعٌ مؤثّرٌ حزين لطبول و دفوف بمقاطع عالية الاصوات كانت تهزّ شارع الرشيد هزّاً . . من آلات موسيقية هوائية تدعو الى المشاركة في الحزن و الألم، تقدّمتهم حلقة كبيرة من شباب و كهول كانوا يدبكون دبكاً حزيناً بطيئاً، على وقع تلك الألحان الحزينة و هم يلوّحون بمناديلَ بيضاء، تلويحة الوداع . . و يرددون :
قتلوا البطل خليل ابو الهوب !
قتلوا السائر على نهج الإمام علي و نهج الخليفة عمر و نهج الحسين الشهيد !
استشهد ابو الهوب كما استشهد ائمة الحق و العدل و من سار على طريقهم !
كان تشييعاً اهتزت له العاصمة بغداد هزّاً كبيرأ، شاركت فيه الوف مؤلفة من الرجال و النساء، وصل تعدادها الى اكثر من نصف مليون مشارك و مشاركة في ذلك الزمن، وفق مراقبين محليين و عالميين مستقلين، تشييعاً شاركت فيه الاحزاب الوطنية و في مقدمتها الحزب الشيوعي و الحزب الوطني الديمقراطي و البارتي و النقابات العمالية و اتحادات الطلبة و الشبيبة و رابطة المرأة و النقابات المهنية من نقابة المعلمين الى نقابة المحامين . .
حين بكت و لطمت العوائل الفقيرة دماً وحزنت الارامل والثكالى والايتام لان خليل ابو الهوب هو الرجل الشهم و مساعديه الذي كان يعين المحتاجين ويساعد الضعفاء وينشر الامان والاطمئنان بين اهل منطقته و مناطق بغداد الشعبية و خاصة الشرقية منها، و ذاع صيته في العراق بأسره كمثال للمناضل الجرئ في سبيل الحق، سار على خطاه المئات من الفتوات في مدن العراق.
استشهد ابو الهوب الذي تحولت على يده و يد مؤيديه من فتوات الأحياء الشعبية، تحوّلت مئات المقاهي الشعبية الى منتديات ثقافية داعمة للثورة ومنجزاتها، استشهد الذي كان احد المساهمين البارزين في تحويل المقاهي (المشبوهة بالتعامل بالممنوعات)، الى مقرات للشبيبة الرياضية و الثقافية و الفنية، و ساهم بسد طرق الانحراف والرذيلة، وحوّل تلك الاماكن الى منتديات تربّي على الوطنية وتبني ثقافة المجتمع الجديد الخالي من (الإدمان والمقامرة والمخدرات).
استشهد الذي بشعبيته و بنفوذه الواسع في عالم الفتوات و الأشقياء، و لصدقه في التعامل و جرأته، و حزمه بحق المذنبين و الإعتدائيين . . استطاع ايقاف العديد من الأشقيائية المجرمين و المأجورين عند حدّهم في محاولاتهم لمهاجمة الناشطين الديمقراطيين، الذين رغم محاولاتهم تجنب الاحتكاك، الا ان اعداء الثورة كانوا هم البادئين والمهاجمين وحصل ما حصل . . وكان القائد الشعبي خليل ابو الهوب هو احد ضحايا ذلك الزمان.
فانتشرت اخبار و تواترت اخرى، انه في احدى مقاهي منطقة شارع الشيخ عمر اجتمعت مجموعة متنوعة من جهات معادية للثورة كان بينهم عزوّز (في مواعيده في الشيخ عمر)، جهات كانت تخطط و تنفّذ اساليب جديدة للاجهاز على ثورة 14 تموز، التي بدأت بنهج الإغتيالات الذي كان يتواصل و كانت النقاشات فيها تدور حول اختيار مَنْ للاغتيال و من هو اللاحق ؟؟ وفق قوائم شوهدت وهي مطبوعة بآلة كاتبة حكومية كما شوهد و انتشر، و كما مرّ . . على رأسها مطالبة البعض باغتيال مجموعة من الشخصيات المحيطة بخليل ابو الهوب، فجاء الامر بالبدء بـ (خليل ابو الهوب.. عندها تتفلّش كل جماعته !!).
وفعلا اتخذ القرار . . و بعد مراقبات و تتبع متنوّع تحدد المكان، ففي احد الايام كان ابو الهوب في مقهى زناد في ساحة النصر في السعدون وبينما خرج من المقهى هامّاً بالصعود الى سيارته الجيب، انهمر عليه الرصاص من محترفين من اكثر من جانب، وحاول ان يسحب مسدسه ولكن لم يقوى لإصابته البليغة . .
و هرب الجناة باتجاه شارع ابي نؤاس حيث كانت تنتظرهم سيارة خاصة رباعية الدفع، ومنها ذهبوا الى ماخور في (محلة الميدان) ليبلغ القتلة مسؤولهم بأنجاز المهمة . . بعد ان تداخلت اعمال الاجهزة الامنية الحكومية مع القوى القومية في هدف (مكافحة الشيوعية)، بإشارات خضراء من شركات النفط و عدد من دوائر الحكومة الامنية . .
و منذ ذلك الحين شاع ان الجاني القاتل الرئيسي هو (الشقي محيي مرهون) البعثي الذي صار بعد سنين كما قيل آمر الإنضباط العسكري و كانت عمليته القذرة تلك، هي جواز مروره لذلك الموقع، في زمن اعتمد فيه البعثيون على قتلة و مجرمين مأجورين ثم على عسكريين في تنفيذ خططهم كما تأكّد لاحقاً، و خاصة بعد سقوط الدكتاتور الدموي صدام و انكشاف آلاف الملفات عن اسرار ما جرى و ما كان يجري، و وفق شهادات قياديين فيه على الهواء . .
و في كلمة المحامي محمد حسين ابو العيس عضو م. س للحزب الشيوعي في الحفل التأبيني الذي اقيم للشهيد، اتهم فيها اجهزة الحكومة في المسؤولية عن الجريمة الكبرى . . حين تواطئت المؤسسات الامنية وغضت الحكومة نظرها عن الجريمة وفاعليها واهدر دم قائد وطني شعبي عراقي اصيل، و قد ارسلت قيادة الاتحاد العام للنقابات في العراق الى اتحاد النقابات العالمي عن الجريمة، فارسل اتحاد النقابات العالمي برقية الى الزعيم استنكر فيها الجريمة و طالب بالتحقيق الفوري فيها و معاقبة قتلة القائد العمالي عضو قيادة الاتحاد العام لنقابات العمال في العراق، و اجاب مكتبه الى الاتحاد العالمي، بأن ابو الهوب كان مجرماً عادياً قُتل في تصفية حسابات بين مجرمين !!
و قد اكّد مؤرخون و علماء مجتمع و سياسيون مستقلون، بأن مقتل ابو الهوب بتلك الطريقة الإجرامية و غيابه، قد صعّد العنف في تعامل الاطراف السياسية مع بعضها البعض، حيث حوّل عدداً من فتوات الاحياء الشعبية الى التعامل بالعنف دفاعاً عن النفس و ثأراً للشهيد ابو الهوب و مواجهةً للسلاح المنفلت وقتذاك . . (يتبع)

5 /3 /2022 ، مهند البراك



#مهند_البراك (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات الصبا.عفا الله عما سلف.9.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و آراء .8.
- ذكريات الصبا..زمن الاغتيالات .7.
- ذكريات الصبا..اعتداءات و تشريد .6.
- ذكريات الصبا..اول ايار 1959 .5.
- ذكريات الصبا.. ابو الهوب .4.
- ذكريات الصبا..الملا مصطفى .3.
- ذكريات الصبا الخال مزهر.2.
- ذكريات الصبا..14 تموز .1.
- ذكريات طفولة..مظاهرات قلبت موازين .16.
- ذكريات طفولة.. قصر الرحاب 15
- ذكريات طفولة..اخافة الوصي .14.
- مذكرات طفولة.. العراق المنصدك .13.
- ذكريات طفولة..السجن ليس لنا .12.
- ذكريات طفولة. . مفاجئات .11.
- ذكريات طفولة. . من هو .10.
- ذكريات طفولة. . زمن الملاريا .9.
- ذكريات طفولة.. ذات صيف .8.
- ذكريات طفولة..تحطم طائرة .7.
- ذكريات طفولة سعدون .6.


المزيد.....




- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...
- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مهند البراك - ذكريات الصبا .. الإغتيال .10.