عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7195 - 2022 / 3 / 19 - 05:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
دور الفلسفة في التغيير
هذا الصراع الفلسفي لم يقود إلا لنتيجة فرقت بين الإنسان كوجود وكماهية أعتمادا على نفس الفهم الإسرائيلي للوظيفة الإنسانية المبني على ادعائهم أنهم أبناء الله وأنهم الشعب المختار ليس على أساس ديني وعدي فحسب بل أساس أولي هو أفتراقهم الأفتراضي بمخالفة ماهيتهم عن بقية الناس{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}المائدة18,فكان من نتائج هذا التفريق نشوء السلوك الفوقي .
الذي يجمع الإسرائيليين بمبررات صنعوها هم ولم يصنعها الله في تعاملهم مع الإنسان الأخر وتبرير كل تصرف منهم على قاعدة هذا السلوك{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}آل عمران 75 .
لقد ربط الإسلام بين هذه المقدمات التي يعتقد بها الإسرائيليون وبين مؤدياتها على صعيد الواقع التأريخي كله وبين عوامل الإيمان به, أو التخلي عنه لمصلحة من أسس التفريق بين الماهية والوجود وقاس فهمه على المقايسات المادية البحتة ونقصد به إبليس ,فكل تفسير مادي يخرج الموضوع من طبيعته القصدية المبنية على الإيمان إلى الأحتكام خارج أطارها الروحي هو خروج عن الطاعة والتسليم ولذلك ذم الله تعالى تفسير قابيل لقبول القربان وتفسير افعال وتصرفات قوم نوح وكل من ساهم في تثبيت الفهم المادي للرسالة وفق مقياس إبليس وجعلهم جميعا كفار لا يؤمنون بالله ولا بالمقاصد المعلنة أو الخفية بالرغم من وجود العلم بينهم{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً }النساء51.
الجذور التأريخية للمادية ليس وليدة حركة وتأثيرات قوى وعلاقات العمل كما يفهما الماديون ومنهم الماركسيون ولكن من خلال وجود الإنسان التكويني ,وفي الطبيعة الإنسانية ذاتها التي أتصفت بالضعف وقلة الحيلة في التفسير مما يلجهأ في كثير من الأحيان لتتبع العوامل المادية الحضورية بغياب قوة العلم الإلهي نتيجة التحريف والتزييف ,أو من خلال أتباع وتغليب الهوى والشهوات التي تستجيب للمقدمات التكوينية أسرع منها للمقابل التكويني الثاني أيضا{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}الشمس8.
فحركة التأريخ عند الله يفسرها الإسلام تفسير شمولي يقوم على قاعدة الأستجابة والطاعة من جهة وصراع النفس والعقل نحوها, أي أن الإسلام يرى في التأريخ أنه نزاع وصراع بين الخير والشر بين الإيمان والكفر ينتهي فيه التأريخ ويبتدئ على قواعدهما {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} البقرة36 ,فالتأريخ عند الله يبدأ من النزول بالكيفية التي سطرتها النصوص القرآنية وبداية الصراع الأزلي بين الإنسان وبين الشيطان لينتهي بأنتصار أرادة الله عبر التسليم التام والكامل بإرادته عبر الوجود البشري الذي يؤمن أخير بها{وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ }الأنبياء105,فبهذه الوراثة الحتمية ينتهي التأريخ وتقوم الساعة, ليقيم الله العدل مستندا على تأريخ الإنسان الكسبي وكيفية توجهه نحو طرفي الصراع.
الطرف المؤمن بالله لا ينكر المادية كونها حقيقة وجودية ولكن يؤمن كذلك بحركة الغيب وقدرته على التحكم الفوقي اللا مدرك حينا ومحسوس حينا أخر ويفهم أن هذه الحركة لها دور أساسي في بلورة الوجود المادي وسن حركته بالقدر الذي يتفاعل معه مع قوانين الصراع وأساسياته, فالمؤمن ليس غيبيا بالأطلاق ولكنه يمتثل للقوانين الكلية له ويتعامل مع الجزئيات المادية ومنها الضرورات المادية والتأريخية من خلال فهمها على أساس أنها مخلوقه مثله وتستحكم في وجودها على قواعد غيبية سابقة لها.
فهو مثلا يتعامل مع المال على أنه نعمة عليه أن يؤدي حق شكرها وهو الأنفاق منها تقربا وتعبدا بقواعد الغيب, ويقيم العدل وهو ضرورة عقلية وتاريخية فهي عنده كذلك ولأن في أقامة العدل فرض غيبي إلهي يؤدي إلى الإصلاح, وحتى الأستجابة إلى العمل كسلوك مادي هو عنده في مقام الامتثال لأمر غيبي ,فكل الجزئيات المحكومة بضرورياتها تقام ليس على أساس كونها ضرورية فقط ولكم محكومة من جهة أخرى بكلية غيبية فوقية سلم بها ويقوم الصراع في ميدانها.
ليس الصراع في الكليات بل صعودا من الجزئيات لتنتهي أخيرا بالكليات, فالتأريخ أذن صراع أرادات بين الخير الكلي{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً }النساء170,والشر الجزئي{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً }النساء120.
ان الفكر التلمودي وفلسفته لا تقوم على هذه الأسس وهي ذاتها الي نزلت في التوراة كما في الإنجيل والقرآن ومن بعده الزبور ,وإنما تستند بما غيروا وحرفوا من قواعد الصراع على نفس القاعدة السابقة التي تقوم على التفريق بين الماهية والوجود ولنفس العلات لذلك يتجنب بني إسرائيل أقامة التوراة الحقيقية ولا الإنجيل كما نزل لأن فيه تفضيح وتكشيف للزيف والتحريف الذين أخفوه لمصلحة فهمهم المادي وقراءتهم لقواعد الصراع{فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} الصافات157,{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ}المائدة66.
الزيف التأريخي هو زيف أنتج المادية بصورتها التي يحاولون من خلالها تفسير التأريخ وتفسير حركته وتبرير هذه الحركة بالقدر الذي يخدم المشروع الإسرائيلي التحريفي الزائف, فصراع المادية والمثالية هو صراع أبتكره الفلاسفة الأوربيين بأس عقدي مرة باسم الأخلاق ومرة باسم فهم الوجود وأبتدأ من سقراط وانطلاقته السفسطائية المبنية على الحجية والمغالبة والتي تستهدف ليس أثبات قواعد فلسفية واضحة ولكن بقدر أهتمامها بغلبة منهجها الجدلي تجاه الأخر, فالجدل عند السفسطائيين ومنهم سقراط في أولياته الفلسفية ليس جدلا من أجل الأثراء المعرفي ولكن كان جدلا لذاته ولو خالف المنطق العقدي للسفسطائي نفسه.
لقد زرع السفسطائيون بذور الشكية في النظر إلى كل ما هو ثابت سواء في العقيدة الدينية أو العقل العلمي بصورته القديمة المرتبطة بالزمان ونزع الوثوقية من العقل لمصلحة الشكوكية ,وهذه هي جوهر فكر وفلسفة سقراط, لقد تطور الجدل الفلسفي عند تلميذ سقراط وهو أفلاطون من الجانب الشكي إلى صورة أكثر حسية نحو الصاعد والنازل وكلاهما يقودان للتوحد والتوحيد.
فكانت فلسفة أفلاطون في حقيقتها ليست مثالية بالمطلق ولا مادية بالمطلق ولكن كانت تتحسس المادة لتصل بها إلى فهم مثالي ذا قيمة يقبلها العقل((فمحاورات أفلاطون كلها من النوع الديالكتيكّي ,المثالية التي أسسها أفلاطون قائمه على الديالكتيك الكلاسيكي, سؤال و جواب ويحدث الجدل بينهما و التفاعل ,و أخذ الديالكتيك عند أفلاطون مسارين.
الأول عالي ” صاعد ” و فحواه هي الطريقة التي من خلالها نصعد من شيء محسوس إلى شيء معقول, مثل وجود نجوم بالسماء شيء محسوس لأننا نراه بالعين فنجادل حتى نجعل النجوم المحسوسة معقوله, والثاني هابط ”نازل” وفحواه أن يكون استنباط فعلي للصور الأفلاطونية, كون أفلاطون يعتبر لكل ماده صوره مماثله لها, فالجدل النازل هو محاولة استنتاج الصور ,,,وبالتالي الديالكتيك عند أفلاطون يأخذ هذه الصورة, فهو البحث عن أصل الأشياء المتفرعة او المتعددة او الجزئيات إلى أن نصل إلى اصلها المكّون لها, وهذه فكره مثاليه أو تقود إلى مثاليه عالية جداً, تركها أفلاطون دوّن ان يصّل إلى إثبات منظومته الفلسفية بالكامل وليس المُتعلقه بالديالكتيك فقط)).
الفلسفة الأفلاطونية ليست مثالية تماما وأن أدعت ولكنها كانت حسية في منطلقاتها دون أن تنكر دور المحسوسات في الوصول إلى المثالية التي كان ينشدها أفلاطون وهو مأزق قاد تلاميذه إلى الأنتقال من فهمه هذا إلى فهم أكثر كلاسيكية وأكثر عقلانية بحساب المادة وبناء قوانين المنطق عند أرسطو كان ثمرة لتوظيف العقل المادي على المثالية الخجولة عند أستاذه أفلاطون.
لقد كان أرسطو انتقائيا بين المادية والمثالية فلم يكن كأفلاطون معلنا مثاليته بوسائل حسية ولكن أرسطو كان حسيا بالتمام ولكن بثوب مثالي معتقدا وهذا برأي حق ومفهوم لم يتم دراسته بالصورة الكافية ليظهر الأتجاه الأرسطي الموافق للفهم الديني من أن المقدمات هي التي تقود للنتائج وليس النتائج هي التي تكون محكومة بأتجاه قهري لا بد منه ,لان أرسطو من منظوره جعل منظومته الفلسفة قابله إما ان تكون مثاليه أو ماديه ,لان النهج او الخط الفلسفي الذي سار عليه أرسطو في تكويّن منظومته الفلسفية هو اعتباره أن كلا من الفلسفة المثالية عند أفلاطون والفلسفة المادية عند إبيقور ،تتكونان في نفس الوقت من جوانب خاطئة وجوانب صائبة ,من هنا فقد حاول إقصاء الجوانب الخاطئة، والاحتفاظ بالجوانب الصائبة.
أرسطو أراد عمل توليفه توافقيه بين المادية والمثالية ,هذه التوفيقية الأرسطويه تحاول إنتزاع الخطأ من كل مدرسه وتعزيز الشيء الصائب ,أرسطو إذاً كان مادي و لكن بروح مثالي أو لنقل فهم دور الماديات في كونها مقابل موضوعي مستصحب للمثالية.
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟