أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل زهرة - الضوء .!!















المزيد.....

الضوء .!!


ميشيل زهرة

الحوار المتمدن-العدد: 6074 - 2018 / 12 / 5 - 12:37
المحور: الادب والفن
    


أذكر أني وضعت عظام جدي و جدتي ، و أبي في كيس من قنب ، و خبأته في الزريبة ، حتى يهطل الظلام كما يهطل الثلج و يتكاثف لدرجة ، يخيل إليك أنك تستطيع أن تجرفه بجاروف من دربك ..ذاك الليل كان حالك السواد ، عندما كنت الناجي الوحيد من أسرة بكاملها ..! في البدء ، عندما جاء الدواعش ، و اختطفوا أخواتي و أخوتي ، و قتلوا أبي و أمي لأنهما قاوما رجال مثل مردة سود كهذا الليل المخيف الذي أحمل فيه عظام سلفي المبارك ..يوم ذاك عدت ليلا على دراجتي النارية التي ،أصيبت و تعطلت ، لأجد الموت يخيم على مزرعتنا ..لا صوت و لا حركة لبشر ..خوار أبقار ، و ثغاء أغنام و صغارها تبكي رحيل الأيدي التي كانت تمدها بالحياة ..بعد أسبوع جاء جماعة من رجال يلبسون لباس العسكر ، وكتفوني بحبل كيفما اتفق ، و سرقوا أمام عيني كل محتويات الدار من حيوانات ..بكيت بحرقة ملتاع ، و مقهور حتى العظم ..يا لها من أيام هزت أعماقنا نحن السوريون في تلك الحرب المجنونة التي لا أخلاق فيها و لا قيم ..! ألقى علي أحدهم نظرة ، كأنها نظرة شامتة ، وحاقدة ..و آخر نظر نظرة احتقار ..واحد منهم كان في نظرته اعتذار أراحتني ، و أخمدت ناري رغم كل الخسائر ..في الضحى جاء طيران و قصف المكان بهمجية ، بصواريخ اقتلعت القبور من جذورها و فضحت عري جدي و جدتي و أمي و أبي .. الذين أخبيء عظامهم الآن لكي أرحل بها إلى مكان أكثر أمنا ..قيل أن الطيران لدولة خارجية ..و بعضهم أكد أنه للنظام ! ..جماجم و عظام سواعد ، و سيقان ..يا له من حمل ثقيل ..لكني سأحمله على ظهري المتعب ..و قبل رحيلي قصفتنا القوات من الطرف الآخر بمدفع جهنم كما يسمونه..و لم تبخل البراميل المتفجرة علينا بالموت أيضا ، فقتلت ما تبقى من دجاجات ، و صيصان صغيرة القلوب ، يقهرك منظرها و هي تلفظ ما تبقى من حياة ، و قد أصبت بجراح ليست قاتلة ..لكنها تنزف قليلا و لا من يسعفني ، فأخرجت موسى و كشطت من زناري ما تيسر ، وضمدت جراحي ، في خاصرتي ، بمكشوط زناري الجلدي ..إنها الحرب السورية يا سادة .! متعب أنا و جريح ..و عندما نزل الليل مثل مارد أسود ، حملت كيس العظام على ظهري المضنى و رحلت في هذا الليل البهيم ..و أنا أفكر أين سأدفن عظام الراحلين ..! مسيري كان بلا خطة واضحة ..يا لها من درب غامضة الملامح ..و الطريق وعرة ، لأني أبتعد عن الطرقات العامة ..فجأة صرخت بملء صدري من الرعب ..لقد سقطت في بئر و تكاثف الظلام أكثر ..و رائحة نتنة تمزق رئتي ..يا إلهي ..أرجو أن يكون ما أنا فيه مجرد حلم ..لأنه لو كان واقعا لكانت النهاية ....تحسست جدران البئر ..إنها الحقيقة المرعبة ..نظرت للأعلى عبر فوهة البئر ، كان ثمة بصيص نجمة شاحبة صفراء ..تأكدت أني في مأزق لا خروج منه . علي الاتكاء على صبري و جلدي ..و فكرت : لا تستسلم يا ولد ..لو استسلمت لقتلتك رائحة الجثث هنا في هذا البئر المظلم كالعالم السفلي ..عالم الأموات ..! تحسست أرض البئر بحثا عن كيس عظام الراحلين فوجدته ..تهيبت أن أجلس عليه احتراما لأرواح السلف ..لكني بررت لنفسي ذلك التجاوز لأن أرض البئر رطبة جدا ، و غير واضحة المعالم . من خلال رؤيتي للنجمة الصفراء قدرت عمق البئر بستة أو سبعة أمتار ..تحركت قربي كائنات لم أعرف ماهيتها بعثت الرعب في قلبي المضنى . ولكي أرفع من معنويات روحي المعذبة الجزعة ، قلت في سري : إنها بعض جرذان صغيرة ، أو فئران جائعة ..تحسست جداران البئر بحذر من يضع يده فوق صفيح ملتهب ..مررتها على مساحة من حائط البئر ..و جدت أنه مبني بحجارة ملساء ، لا يمكن تسلقها ..و أنا لا أدخن ، و لا أحمل في جيبي ولاعة ..و تمنيت لو أني من المدخنين ، إذا لأشعلت نارا و استأنست فيها حتى لو كانت شعلة صغيرة من ولاعة سجائر ..و لدخنت سيجارة كي أتغلب على خوفي ..و عندما بدأت ملامح الصباح تنهمر من فوقي و لم تتمكن من كشف المكان بوضوح ، تركت المشكلة للوقت الذي يداهمني بلا رحمة ، حيث لا طعام و لا ماء أشد فيهما طاقتي لمحاولة الخروج من هذا البئر اللعين الذي هزني رعب السقوط فيه إلى أعماق روحي ..هل تخيلتم أنفسكم في بئر كهذا تحملون عظام أسلافكم في كيس ..؟؟ لا بد أنكم تتخيلون المشهد المؤلم ، و تنحازون لي ، و خاصة قد سقطتم جميعا في البئر ذاته ، و كل يحمل في كيسه شيئا عزيزا عليه .! ما هدّأ من روعي أن جدران البئر بدأت تتضح ..و الجرذان وقفت على أرجلها الخلفية تراقبني بشبق المفترس ..أفعى ليست صغيرة انسلت و دخلت في جحر قريب مني ..شعرت أن كل شعرة في جسدي انتصبت ..و خمنت ، و صدق تخميني أن شعري قد شاب و تحول إلى لون الثلج . جدران البئر لا تسمح بالتسلق . أحتاج لأزميل كي أحفر في الجدار كوى كي أضع قدمي و أتسلق . الفراغات بين مداميك البناء قريبة جدا بمقدار خمسة سنتيمترات أو أكثر قليلا ..و البئر له شكل جرة فخارية من الداخل ..لا أخفيكم أني صليت طوال ذلك الليل ..و ابتهلت إلى ربي أن ينقذني ..أن يرسل لي طائر الرخ كي ينقلني إلى الأعلى لكنه لم يفعل ..ربما أنه لم يتقبل صلاتي ..و تساءلت في سري : لماذا تغيب الآلهة عن البشر في مثل تلك الأزمات ..و لكن السؤال غاب في طيات العذاب ، و الخوف الرهيب ..صرخت في نداء للقديسين الذين نجلهم جميعا و لا من مجيب ..و يزداد الخوف و الجوع ..و الموت قادم لا محالة ..ذلك أمر الله كما قال لي السلف الذين أحمل عظامهم في كيس من قنب ، و أجلس عليه ، بعد أن طلبت الإذن من أرواحهم أن تقف بجانبي في سقوطي في هذا البئر الذي ينهش لحمي ، و يترك عظامي هنا في هذا البئر الذي سيتحول إلى قبر لي و للسلف معا ..هزني الرعب من أصوات الجرذان ، و تخيلت أنها تتقدم مني لكي تقوم بطقسها قبل التهام فرائسها ..يا إلهي أني استغيث بك ..أيها القديسين قفوا بجانبي ..أن لم أفعل الخطيئة يوما ..فلم تخليتم عني في أزمتي الكبرى ..أيها السلف ، لتتمجد أرواحكم المقدسة ..ادفعوا في دمي طاقة قدسكم لعلي أصل لفكرة أنجو فيها من موت مؤكد ..يبدو أن الصمت قد أطبق و تخلى عني الجميع ..يا إلهي ما هذا الذي أشعره في روحي ..إنه الجحود ..بل إنه التجديف ..و خامرتني روحي بعد تجربتي ، أن أسقط كل شيء مقابل أن أنجو ..و صرخت بملء صوتي ..يا إلهي ..أيها الأسلاف ..لماذا تركتموني بلا مساعدة ..؟؟ صرختي كانت مشبعة بالنكران و الكفر بكل شيء ..و فيها اهتز كل المقدس في روحي . طاقة غريبة دخلت جسدي المضنى من الجوع و التعب ..صوت ما من الأعماق السحيقة لذاكرتي استنهضني قائلا : قم ..لا تستعين إلا بذاتك ..و بذاكرة الربابنة فيك قبل أن يلتهمك وحش السلف ..قم ، و افتح كيس العظام ، و فكر ..ادرس سماكة العظام ، و الثقوب في الجدران ..استخدم مقدساتك كلها وسيلة لنهوضك من موت ستلتهمك الزواحف بعده ..انهض يا بني ..تحصن بذاتك فأنت الإله فاعبده ..و خلصه من مأزقه ..و نهضت مستجيبا لنداء ذلك الصوت في روحي ..و أخرجت العظام من الكيس ..كسرت عظم فخذ لنصفين ..جربت أن أدخله في الشقوق ..دخل العظم إلى منتصفه ..دست عليه مع رعدة خوف جليل ..كان متينا لدرجة أنه يحملني إلى الدرجة الثانية ..كسرت كل العظام إلى نصفين ..و وضعتها في الكيس ، و ثبته في ظهري بطريقة تسمح بتناول عظمة بسهولة ..و صعدت الدرجة الثانية . سيطر على قلبي فرح عظيم لم استثر مثله من قبل ..يا لها من فكرة هائلة ..أخرجت العظم الثالث ، و صعدت ..و كنت أثبت عظما ليدي اليسرى التي أتسلق بها ، و أتشبث به قبل أن أضع عظما لقدمي التي أصعد بها ..الفوهة الجحيمية تقترب مني ..و الرعب تخف وطأته . و الضوء يزداد بريقا في قلبي ..هل عشتم هذه التجربة الرهيبة يا أعزائي ..؟؟ يا لها من تجربة مرعبة ..و رائعة بذات الوقت ..دعوني الآن أخرج من البئر ..و سأقص عليكم الكثير عن مشاعري و تحولاتي الروحية ..صرت قرب الفتحة على بعد مترين ..و الجرذان تحتي أراها تحملق بي و أنا أصعد ..كأنها أصيبت بخيبة أمل ..لا شك أنها كانت تنتظر وجبتها ..أنهكني الصعود ..توقفت كي آخذ طاقة من مصدر ما في روحي ..و نظرت إلى الأسفل بعمق ..كانت العظام تملأ أرض البئر ..لا شك أنها عظام الضحايا الذين سقطوا في البئر ، فابتلعهم و قدمهم أضحية لزواحفه الجائعة ..هالني المشهد ..و تخيلتني ممدد على أرض البئر تلتهمني الزواحف ..بذلك استنهضت طاقة إضافية لنهوضي نحو الضوء ..متر أو متران سأكون في فوهة البئر ..لكن البئر ليس مستقيم الجدران ..هو منحني كالجرة من الداخل ..يعني ربما لن تحملني العظام و أنا في ذلك الميلان الرهيب ..إنها عقدة المشهد ..ازداد خوفي ..فكرت في اقتلاع أصغر حجر في الجار ..ذلك الفعل استنفذ طاقتي ..بدأ العطش و الجوع ينهشان كبدي ..اقتلعت الحجر بصوبة بالغة ، و وقت لا يجوز أن أستنزفه في فعل يستنزف طاقتي ، لكن لا بد منه ..فكرت أن أدق العظم عميقا في الشقوق ، لدرجة أستطيع أن أرخي ثقلي عليه في هذا التحدّب الرهيب الذي يمكن أن يعيدني إلى القاع ..و صعدت مترا إضافيا ..يا إلهي ، إنها فوهة الضوء ..لم أعد أفكر بالبئر وظلامه بقدر ما أفكر بالضوء ..الضوء يناديك يا هذا فاحقن روحك بشحنة تلعن الظلام ..ساقيّ ، الآن ، موزعان مثل قوس على حافتي فوهة البئر ..لكنهما ترتجفان في جزع و توتر مرعب ..في تلك اللحظة المرعبة ، انطلقت مجموعة خفافيش و نزلت إلى البئر . أوشكت أن تهدّم أغلب الطاقة التي كانت في روحي ، فسقط كيس العظام إلى القاع ..ذلك الخوف الذي دفع بي إلى عشق الضوء ..و بلحظة خاطفة كانت ساقي اليمنى على حافة البئر من الأعلى مع يدي اليمنى ، و اليسرى مستندة على آخر عظم من عظام السلف..و أخذت نفسا عميقا و نظرت إلى العالم نظرة لم أنظرها من قبل ..نظرة صافية نقية عاشقة ، كما لو أن كل الأدران عن روحي تساقطت ..و خرجت ..كانت الشمس في بداية شروقها ..ألقيت عليها نظرة عاشق متيم ..و انبطحت على الأرض كي أستعيد طاقتي المفقودة ، كي أشق طريقي في هذا العالم الرحب و قد نبت لي جناحان كي أحلق بهما في هذا الفضاء الرحب ..فالمدى يتسع لخفق جناحي الآن .!



#ميشيل_زهرة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هوزيه .!!
- طريق السرير .!
- الخوف .!
- منعطفات حادة في الروح .!
- عبدو الأجدب عاشقا .!
- يغتال بابنيان من جديد .!
- كابوس .!
- لمن البقاء .؟؟
- هل هو اغتيال جديد لسوريا .؟؟
- صدى الذاكرة .!
- مذكرات صوص ..رحلة حضارة .!!
- مذكرا صوص ..!
- الفخّ .!!
- الشيخ نسيم .!
- البيتكوين ..العملة الرقمية العالمية .!
- القميص .!!
- نصّ بلا ضوابط .!
- الوحل .!!
- سقوط الحلم ..!
- الابداع جمعي ..!


المزيد.....




- -مفاعل ديمونا تعرض لإصابة-..-معاريف- تقدم رواية جديدة للهجوم ...
- منها متحف اللوفر..نظرة على المشهد الفني والثقافي المزدهر في ...
- مصر.. الفنانة غادة عبد الرازق تصدم مذيعة على الهواء: أنا مري ...
- شاهد: فيل هارب من السيرك يعرقل حركة المرور في ولاية مونتانا ...
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- مايكل دوغلاس يطلب قتله في فيلم -الرجل النملة والدبور: كوانتم ...
- تسارع وتيرة محاكمة ترمب في قضية -الممثلة الإباحية-
- فيديو يحبس الأنفاس لفيل ضخم هارب من السيرك يتجول بشوارع إحدى ...
- بعد تكذيب الرواية الإسرائيلية.. ماذا نعرف عن الطفلة الفلسطين ...
- ترامب يثير جدلا بطلب غير عادى في قضية الممثلة الإباحية


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ميشيل زهرة - الضوء .!!