|
الوحل .!!
ميشيل زهرة
الحوار المتمدن-العدد: 5659 - 2017 / 10 / 4 - 17:24
المحور:
الادب والفن
نادرون ، في المدينة ، من لا يعرفون الأستاذ ( ...!! ) ..ليس لأنه مدرس علم الاجتماع المتميز ، و لا حتى من أجل معارضه الفنية ، المتميزة ، التي يقوم بعرضها في صالات المدينة ، قبل الحرب و خلالها .! بل لأن هناك ما هو مثير ومربك في شخصية الرجل بعد بدء الحرب . مما جعل من يحبه ، و يحترمه في المدينة يتريث كثيرا قبل أن يقول : خسارة أن أسمع عن الرجل ما أسمعه ، لقد صرعته الكتب الكثيرة التي قرأها.! هذا إذا طرحت مشكلته أما العامة من الناس . أما لو تناوله ( النخبة ) فثمة من يعطي رأيا مختلفا في الحالة النفسية العجيبة التي وصل إليها ، حتى أنه حيّر أطباء النفس و العصبية في المدينة . و لكن هناك من شطح في تفكيره من النخبة فقال : هذا الرجل ، طور عقله الحداثي إلى ما بعد الحداثة ، و خاصة ، لأنه فنان تشكيلي متميز التفكير ..و لكن من النخبة من أكد : إن المشكلة نفسية مرضية لا غير . و إلا لماذا لا تصيبه الحالة إلا في مؤسسات العامة ..؟؟ في صباح أحد أيام الدوام شاهده ، كما قال لي عبودي ابن خالتي ، في مديرية ( ..! ) في المدينة ..يلبس قميصا ناصع البياض ، و بنطالا أبيض ، و حذاء أبيض ، و لم أر لون زناره لأنه يرخي قميصه فوقه ، و لم أكن أعرفه حتى ذلك الحين عندما أشارت الناس إليه أنه الاستاذ الكبير الذي فقد عقله متأسفين حزانى لوضعه . فاقتربت منه وسلمت عليه بكل احترام لأني تذكرت أنه أستاذي في الثانوية ، و عندما عرفني اطمأن لوجودي قربه و انطلق جسده في الاستجابة لحركات وهمه الذي أذهل الناس . للرجل خصلة شعر مثل زيل فأر خلف رأسه ، يربطها بما يشبه الخيط ، لا يفتأ يتأكد من وضعها فوق ياقة قميصه النظيف ، و يخرج بشكل دائم و بالتناوب من جيبه منشفة ورقية يمسح بها صلعته التي تبدو داكنة الحمرة مع وجهه الحليق دائما ، كتلك الحمرة التي تصيب وجوه من لديهم مشاكل قلبية كا لاحتشاء العضلي القلبي . فيمسح شيئا ما عن صلته ، رغم أنك لو راقبت جسده الفائق النظافة لما وجدت عليه ذرة غبار واحدة ، لكنه مع ذلك ، يوحي لمن يرقبه أنه يمسخ شيئا قذرا عن وجهه ، أو يديه ، او ثيابه . و هذا ستكتشفه لا حقا من تغضنات وجهه ، وحركاته الهاربة من شيء ما وهمي سوف يسقط من السقف ، أو الجدران ، فيجبرك أن ترفع نظرك إلى حيث مصدر القذارة ، فلا تجد شيئا فتصيبك حالة من الارتباك قبل أن يسيطر عليك بروحه الخائفة ، و الناقمة ، و المتحفزة دائما ، فتتحرك معه بالعدوى خوفا من ذاك الشيء المخيف الذي سوف يسقط على رأسك . هذا ما يحدث قبل أن يسرّ لك بهمس واثق ، و أنت تراقب وجهه القلق : اللعنة ..انظر إلى جدران هذه المؤسسة كيف تشققت ..انظر إلى هذا الوحل الذي ينز من هذه الشقوق ..!! و عندما يقول لك ذلك ، تجد نفسك مدفوعا بواجبك تجاهه ، كأستاذ لك في مرحلة من عمرك ، أن تقف لجانبه في لحظات حداثته العالية الشفافية ، و المرهفة الحس .! أو كما يقولون عنه ( مجنون ) ما لم أستطع قوله ، أو حتى الاعتراف به كصفة لا تليق بأستاذ كبير ، و هو الرائع الذي لو خرج من المؤسسة لصار إلى أستاذ متميز الأداء ، و فنانا متميز اللوحة ..! كان يحمل في يده بعض أوراق يريد توقيعها من مدير المؤسسة التي التقينا فيها فصحبته إليه ، إذ راح يشرح لي ما يراه ، و هو واقف في دوره بكل أدب ، لولا حركاته الهاربة من وحل مفترض سيسقط من السقف و الجدران على ثيابه النظيفة و الأنيقة ..! لكن ما أوشك أن يثير ضحكي الذي كتمته ، عندما قال لي همسا : انظر إلى يدي المدير و عينيه ..ألا ترى الوحل ينز منها ..؟؟ و عندما وقف المدير ليسلم أوراقا هامة إلى سكرتيرته التي أدارت لنا ظهرها ..همس في أذني : انظر إلى سحاب بنطال المدير ، و سحاب تنورة السكرتيرة الخلفي ..كيف يتحملون رائحة هذا الوحل ..انظر كيف يسيل الوحل على سيقانهم ، و مؤخراتهن ، دون خجل من الزبائن ..! و عندما مرّت الفتاة من قربه ، ابتعد عنها بقرف لكي لا تلوثه بوحلها ..و عندما عاد المدير إلى مكتبه تقدم منه بأوراقه فوقعها له ، لكنه مسحها بعد أن أخذها بما تبقى لديه من محارم و رقية . و مشيت معه من مكتب إلى آخر حتى دخلنا إلى الديوان لتصديق الأوراق وختمها ..هناك كان الموظفون مسنون على أبواب تقاعد ..يضعون نظارات مكبرة على عيونهم ، ينظرون إلينا ، كم توحي نظراتهم ، باحتقار ، أو هكذا خيل لي ..ربما بسبب مد النظر الشيخي ..لكن الأستاذ ( ..! ) همس في أذني : غريب ..! ألا تراهم كيف ينظرون إلينا ..؟؟ ألا ترى الوحل كيف يغطي زجاجات نظاراتهم ..هذه النظرات الحاقدة ليست إلا بسبب الوحل و رائحته يا بني ..قلت لي ، في أي صف علمتك ..؟؟ و عندما تأكد من الجواب : في الثانوي يا أستاذ ..قال لي : صارت ثيابي بحاجة إلى تنظيف ..لن أشغل زوجتي بها ..سأدفع بثيابي إلى المصبغة ..لأن هذا الوحل الذي على ثيابي لن تستطيع غسالة البيت تنظيفه ..! و نظرت إلى ثيابه فلم أر غبارا عليها ..و قد استجبت لقناعته بالقذارة التي لحقت به في هذه المؤسسة ..و لكن الصدمة الكبرى له ، كانت عندما وصلنا إلى قرب باب المصعد المعطل ، و المليء بالقاذورات .. أعقاب السجائر ، و بقايا سندويتشات متعفة ..هناك واجهنا رجل سلم على الأستاذ بحماس ، كان كما يبدو من هيئته ، وتواضعه أنه أصغر موظف في المؤسسة ، و على الأغلب أنه آذن في أحد الطوابق ..و عندما قبله بدون أن يقرأ في وجه الأستاذ إذا كان يتقبل ذلك ..مما دفع الأستاذ أن يصرخ في وجهه : حتى أنت يا رجل يغمرك الوحل ..؟؟ فمضى الرجل مندهشا ..و هبطنا الدرج من الطابق الثامن مشيا على اقدامنا يلفنا الظلام ، و رائحة قذرة تأكدت من خلالها أن الوحل فعلا ، فعلا ينزّ من الجدران جميعها ..و لولا لباس الأستاذ الأبيض النظيف كاللبن ..و الذي كان يضيء عتمة الدرج ..و هو يسير أمامي لما أدركت طريقي في هذه الظلمة الحالكة ، و الرائحة التي اثارت غثياني ..! في مدخل المبنى كانت هناك ضجة جعلتنا نقف حائرين خائفين من تجمع الناس حول سيارات الاسعاف ، و الاطفاء ، و رجال الإنقاذ ، و كأن حريقا قد حصل ، لو لم يوضح لنا شرطي هائل البطن ، واسع الشدقين قائلا ، كأنه يفشي سرا : في ملجأ البناء اكتشفوا الكثير من الجثث التي طمرها الوحل ..!! لا أدري لماذا لم يوله الأستاذ انتباها ، بل خرج من بوابة المبنى كمن لا يهتم لشيء ، و سرت خلفه يتملكني رعب شديد القسوة ..في الوقت الذي كان الوحل يتدفق من باب المبنى الذي خرجنا منه ، و يتمدد في شوارع المدينة مثل حمم البركان التي تسيل في الوديان ..و راح الطين يرتفع في الشوارع حتى ظننته أنه سيخنقني ، و يخنق المدينة كلها لو وصل إلى أنفي قبل أن أصل البيت ..كان الصراخ المرعب في المدينة يملأ الأرجاء ، و الوحل يرتفع رويدا رويدا ، و أنا أتبع الأستاذ بصمت المرعوب من الاختناق ، في الوقت الذي كان فيه الأستاذ يسير فوق الوحل دون أن يتلوث كحمامة بيضاء ، في شوارع المدينة التي لم تُقدّر عقل الأستاذ ضياء .
#ميشيل_زهرة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سقوط الحلم ..!
-
الابداع جمعي ..!
-
القبلة بوابة المدينة ..!!
-
الأذن و اللسان .!
-
النافذة الواحدة .!
-
العقيدة ، و اغتيال روح النص ..!!!
-
جنون التعاويذ .!
-
غزل .!
-
حكاية من رفوف الذاكرة .!
-
قالت سعدى لأخيها سعدو .!
-
العقل المعارض العربي ..!
-
سعدو متسولا .!
-
سعدو متسولا ..!
-
عشق الوهم ، و جنون الحب في الصحارى .!
-
للبالغات ، و البالغين ..!
-
كأنه الأبدية ..!!
-
عدالة السكارى ..!
-
الخديعة العظمى ..!
-
أنثى بلا ضفاف ..!
-
الحلم الحكاية ..!
المزيد.....
-
-RT العربية- تطلق مشروعا للصحفيين العرب وطلاب اللغة العربية
...
-
إلياس خوري روائي لبناني جمع بين هم الأدب ووجع فلسطين
-
إلكترونيــــًا.. موعد تسجيل تنسيق المرحله الثالثه 2024 الشعب
...
-
الجزيرة 360 تطلق برنامجها الساخر -الشبكة-
-
ثبتها الآن.. تردد قناة كراميش للأطفال 2024 على القمر الصناعي
...
-
جيمس كاميرون يشتري حقوق كتاب تشارلز بيليغريمو لتصوير فيلم عن
...
-
كأنها خرجت من أفلام الخيال العلمي.. ألق نظرة على مباني العصر
...
-
شاهد.. مشاركون دوليون يشيدون بالنسخة الثالثة من -أيام الجزير
...
-
وسط حفل موسيقي.. عضوان بفرقة غنائية يتشاجران فجأة على المسرح
...
-
مجددًا.. اعتقال مغني الراب شون كومز في مانهاتن والتهم الجديد
...
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|