|
الفردوسُ الخلفيّ: النون
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5352 - 2016 / 11 / 25 - 09:35
المحور:
الادب والفن
تنقّلت " خولة " مع زوجها في مدن عدّة، وذلك لكونه معلّم بناء، قبل إستقرارهما أخيراً في مراكش. إنه ابن عمها أيضاً، وكان قد عمل في فتوته مساعداً لوالدها في نفس المهنة. أكثر من سهم في جعبة " السيد الفيلالي "، كان منذوراً للتسديد إلى الصهر. لقد كان هذا الأخير، بنظر العمّ على الأقل، شاباً سيء الخلق؛ حسوداً وجحوداً ولئيماً. على أنّ الحال لم يكن طيباً دائماً مع " خولة " نفسها، وتحديداً على أثر زواج الأب من إمرأة جديدة. فلما أصبحَ " السيد الفيلالي " جدّاً، فإنّ علاقته بإبنته طرأ عليها نحسّنٌ ملحوظ. سُعد الجدّ بالحفيد الأول، وكان من شدّة الفرح يكرر لمن حوله بأنه طبق الأصل من صورته وهوَ صغير. بعد بضعة أعوام، رزقت " خولة " بإبنة حسنة الملامح. أتى عندئذٍ دَور الأم، لكي ترى إبنتها يوماً بعد يوم في مرآة طفولتها. الإبنة، نمت في ربيع أعوامها الأولى بهية وقوية العود كنبتة مغروسة في تربة ورزازات الطيبة. ولكنها لم تلبث مع مرور الأعوام أن ذبلت وكادت تذوي. كان ذلك نتيجة إصابتها مبكراً بالصرع، وكانت النوبات تداهمها مرة أو مرتين كل شهر. عند ذلك، أجبرت الأمّ رجلها على الإنتقال إلى مراكش وكانت تتوسّمُ خيراً بمشافيها وأطباءها. على أثر وفاة " السيد الفيلالي "، تفاقمت شقة الخلاف بين أسرتيّ زوجتيه على خلفية الإرث هذه المرة. لم تقنع " خولة " بمنزل صغير، كان والدها قد تنازل لها عنه، ويقع في نهاية درب الأضباشي من ناحية باب أغمات. كان واضحاً أن زوجها هوَ وراء الأمر، بغية جعل " للّا بديعة " تتنازل عن حق أولادها في أملاك أبيهم في ورزازات.. أو أقلّه، تنشغل وأولادها عن المطالبة بمردود الأراضي الزراعية، التي كانت تصبّ بجيب أولئك الأقارب ثمة. ثمّ بدا أن الأمور تعود لمجاريها رويداً، وذلك بفضل " سيمو "؛ هوَ مَن كان دوماً بمثابة حلقة تربط سلسلة الأسرتين اللدودتين. لم يطل كثيراً أوانُ عهد المصالحة، طالما أنّ الصهر العتيد كان يدّخر طاقته لضربة موجعة، على غرار ما يفعله الضبعُ عادةً في حوزٍ عائدٍ لغيره. تعهّد أبنُ العمّ مهمّة ترميم عمارة رياض باب دُكالة، المملوك من قبل زوج " سُمية " وشريكه العراقيّ. وفيما كان إبنُ " خولة " الوحيد يعمل بهمّة ومثابرة على تجديد رونق الرياض بالنقوش والزخارف والتلبيس، فإنّ زوجها من ناحيته كان يُنهي الترميمَ المعماريّ بعيبٍ فادح. وما جعل الضربة قاضية تقريباً للمستثمر الفرنسيّ، حقيقة أن ذلك العيب لم يُكتشف سوى بعد فترة قليلة من فكّ شراكته مع العراقيّ. إذاك، بدأ الزبائن يهربون من الرياض على أثر إنتشار الرطوبة في حجرات النوم مرفقة مع رائحة غريبة. لقد كانت مواسير المياه، المدفونة طيّ الجدران، مثقوبة بشكل متعمّد مثلما تبيّن لاحقاً. أما الحقيقة الأخرى، فتمثلت في كون " غني " بريئاً تماماً من فعلة أبيه المدبّرة، اللئيمة. بيْدَ أنّ " سمية " لم تأبه بذلك؛ هيَ من كانت آنذاك تغلي بالغيظ، ترقد وتفيق على الرغبة بالإنتقام من أختها غير الشقيقة. مع أنه من غير الثابث، قطعياً، أن تكون " سمية " على صلة بأمر الإبلاغ عن ابن " خولة " ومن ثمّ إعتقاله. وكان هذا، آن إبلائه من جرحٍ أصيب به في الإنتفاضة الأخيرة ومغادرته منزل جدّه في مراكش، قد سافرَ إلى مسقط رأس الأسرة بورزازات كي يختبئ ثمة بعيداً عن أعين البوليس السريّ. عشية الإنتفاضة، كان ثمة حدثٌ موازٍ يسير كالظلّ أو الشبح. قرار الحكومة بالإشتراك في التحالف الأمريكي لإجبار ديكتاتور العراق على ترك الكويت، لم يُرضِ الكثير من المواطنين. من ناحيتها، فقوى المعارضة المتنشّطة مؤخراً على أثر سياسة الإنفتاح الداخليّ، ربما وجدتها فرصةً لإثبات وجودها بعد غيابٍ قسريّ طويل عن الشارع. هكذا صرنا ننصتُ يومياً لخبرٍ من هنا وآخر من هناك، يفيدُ بأعمال إحتجاجات وإعتصامات ضد قرار الحكومة. المدارس والمعاهد، كانت أمكنة لتلك الفعاليات المتصاعدة يوماً بعد يوم. " ثانوية النخيل "، كانت تبعد قليلاً عن منزل " خولة " وفيها تحصّل إبنها على شهادة البكالوريا العلمية. كانت الأمّ ذات صباحٍ في سوق الخميس، تتبضّع الخضارَ والفواكه، لما تناهى إلى سمعها أنّ قوات الجندرمة قد داهمت تلك الثانوية، أين تدرس الآن إبنتها. شحبَ وجهها الأسمر خشيةً على الإبنة المريضة، فهُرعت وهيَ بغاية الإضطراب إلى مدرستها. ثمة، كان جمعٌ غاضب من الأهلين يحاول كسرَ طوقٍ، فرضه رجال الشرطة على مداخل المنطقة الثلاثة من جهات باب أغمات ودرب أضباشي ودوّار كَراوة. على الرغم من تشدد الشرطة ومضايقاتها، نجحَ كثيرون في الوصول إلى بوابة المدرسة، المؤطرة بقوس تقليديّ عالٍ مزخرفٍ بالجبص الناصع البياض. أشجار النخيل، كانت تشرئب برؤوسها من خلف أسوار المدرسة، التي وُسِمَت بها، ملتمعة سعفها الهرمة في ضوء شمس النهار الباهر. " يسقط بائع البلاد للأمريكان والفرنسيس..! "، كذلك كانت تتعالى في الأجواء المشحونة هتافات الطلبة إناثاً وذكوراً. ثلاثة أو أربعة شرطيين، مسلحون بالهراوات، كانوا قد أندفعوا نحوَ الصف الأول من المعتصمين وقد تشوّهت سحناتهم بالغل والغضب. بدأ بعضُ الطلاب بالتساقط تحت ضربات الشرطة، وهذه إحداهن تترنّح مدماة الوجه وهيَ تهذي: " أماه، لقد قتلوني..! ". فما كان من " خولة " إلا أن صرخت بدَورها في هلع باسم ابنتها، فيما كانت عيناها تتيهان بين الجموع علّها تعثر عليها. بقيت تصرخ إلى أن أنحبسَ صوتها، فأخذت تشدّ شعرها كأنما أصابها مسّ. تقدّم منها إذاك أحد الطلبة، وقد بدا مشفقاً على حالها، فمدّ لها يده بزجاجة بلاستيكية كبيرة. فلما أمتنعت عن أخذها، راحَ الفتى ينثر على رأسها قطرات من الماء. فعل ذلك مرتبكاً وخجلاً. ثابت " خولة " عندئذٍ إلى رشدها، فخاطبته بصوت مرتعش وهي تقبض على يده: " إبنتي مريضة، مريضة بالصرع! ألا تعرفها...؟ ". وكانت في سبيلها لذكر اسم الإبنة، حينَ دوّت قرقعة صمّاء في رأسها، وكما لو أنّ جرة فخارية تحطّمت عليه.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الميم
-
الفردوسُ الخلفيّ: اللام 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: اللام 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: اللام
-
الفردوسُ الخلفيّ: الكاف 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الكاف 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الكاف
-
الفردوسُ الخلفيّ: الياء 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: الياء 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: الياء
-
الجزء الأول من الرواية: الطاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: الطاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: الطاء
-
الجزء الأول من الرواية: الحاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: الحاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: الحاء
-
الجزء الأول من الرواية: زاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: زاء 2
المزيد.....
-
محمد رمضان في بيروت وهيفاء وهبي تشعل أجواء الحفل بالرقص والغ
...
-
-بيت العبيد- بالسنغال ذاكرة حيّة لتجارة الرقيق عبر الأطلسي
-
وزير الثقافة يفتتح معرضا للفن التشكيلي وجدارية أيقونة القدس
...
-
-شومان- تعلن الفائزين بجائزة أدب الأطفال لعام 2025
-
موغلا التركية.. انتشال -كنوز- أثرية من حطام سفينة عثمانية
-
مريم أبو دقة.. مناضلة المخيمات التي جعلت من المسرح سلاحا للم
...
-
هوليود تكتشف كنز أفلام ألعاب الفيديو.. لماذا يعشقها الجيل -ز
...
-
الموسيقي نبيل قسيس يعلم السويديين والعرب آلة القانون
-
صانعو الأدب ورافضو الأوسمة.. حين يصبح رفض الجائزة موقفا
-
-الديفا تحلّق على المسرح-..أكثر من 80 ساعة عمل لإطلالة هيفاء
...
المزيد.....
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
المزيد.....
|