|
الجزء الأول من الرواية: زاء 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5334 - 2016 / 11 / 5 - 10:31
المحور:
الادب والفن
العرضُ المسرحيّ، مستمر. وأعني بذلك، كلا المسرحيتين؛ المجازية والحقيقية. قبيل بدء العرض، ثمة على خشبة دار الأوبرا الملكية، كانت " سوسن خانم " تقذف نحوي ملاحظاتها المرة تلوَ الأخرى. لم تكن مخدومتي تبدو بأحسن حالات المزاج، على الرغم من كونها نشوى ومتألقة بجمال أخاذ، فضلاً عن أناقة لا سبيل لمجاراتها حتى من لَدُن نساء الأجانب المُحطن بنا. الموسيقى الممهّدة للعرض المسرحيّ، كانت من ضرب الكونشيرتو، وقد حُشد من أجلها جوقة كبيرة مع مايسترو مُخضرم. هذا الأخير ( كما معظم أفراد جوقته )، كان على الأرجح قد رافق الفرقة المسرحية في الطائرة القادمة من باريس. " مخيّلة الإنسان الأوروبيّ، تخصّبَت خلال قرون عديدة بفضل هكذا موسيقى راقية، فأمكنه أن يغدو حراً بتفكيره ميالاً إلى الإبتكار والإختراع والإكتشاف "، قالت الخانم وهيَ تشمل مجموعتنا الصغيرة بنظراتها الخضراء اليانعة. كنا عندئذٍ في وقت الإستراحة، الفاصلة بين المقدمة الموسيقية المنتهية والعرض المسرحيّ المأمول. القاعة الكبرى، كانت قد عادت لتغرق بالأضواء المتموّجة وبأصوات هرج النظارة، فبدت مثلَ شاطئٍ في حلم مستحيل. علّق " الأستاذ محمد " على ملاحظة الخانم، راسماً ابتسامته الودودة على شفتيه الجافتين: " لا يعيبُ موسيقانا الشرقية، على رأيي، ما يحيط بأمتنا من مظاهر التخلف والجهل والتبعية. فلو أنّ الأمر غير ذلك، فكيف يمكن تفسير توحّد نور الحضارة العربية الإسلامية في عالم القرون الوسطى المظلم؟ " " حتماً، لا بدّ أنّ الأمرَ غير ذلك! وإلا لما عرفنا بمدى معاناة روّاد الموسيقى العربية، الذين حاولوا تجديدها في بداية القرن لمجاراة التقدّم في مثيلتها الغربية "، أجابته الخانم متخذةً نفس تعبير ابتسامته. من ناحيتي، انتبهتُ إلى نظرة مخدومتي المواربة إلى من تدعوه " أستاذي الشاعر "، وكأنما هوَ المقصودُ بإثارتها للحديث. فلم يتأخر هذا عن التدخل بالنقاش، فقالَ مُتلطّفاً كالمألوف: " أعتقدُ أنّ كل موسيقا، متميّزة بأصالتها. بمعنى تعبيرها عن ثقافة شعبٍ معيّن. الموسيقا المغربية مثلاً، تستجلب إهتماماً ملحوظاً من قبل الأوروبيين وحتى الأمريكان، فيتم دراستها وتقديم الدعم أحياناً لبعض الفرق المعروفة من خلال إحياء حفلات في الخارج. وإذا لم تحتفظ موسيقانا بأصالتها، يغدو الأمرُ شبيهاً بإبادة ثقافية على غرار ما جرى لعديد من الشعوب ". بدَوري، تدخلتُ في المجادلة لأقول: " ولكننا لا نستطيع التكلّم عن موسيقا عربية، سوى بمفهوم تاريخيّ. فلكل بلد من بلدان الضاد ثقافته الخاصّة، بل ويمكن أن يكون أيضاً متعدد الثقافات مثلما هوَ الحال في المشرق وكذلك المغرب ذاته. بحَسَب قناعتي، فإنّ تمركز الفن في القاهرة أضرّ بموسيقى بلاد الشام بشكل خاص، لما كان من هجرة الكثير من المبدعين إليها في بداية القرن منتهزين جوّ الإنفتاح المتأثّر بالوجود البريطانيّ ثمة ". بادر " الأستاذ محمد " إلى القول، مُكشّراً هذه المرة عن ابتسامة ممتعضة: " الإنفتاح، كان ثمرة سياسة محمد علي باشا منذ مبتدأ القرن المنصرم. هذا الحاكم، الذي سبقَ زمنه، كان من جهة أخرى مُدركاً لأهمية مركز مصر كقلب لأمة العرب. فجعل يعزز استقلال مصر عن العثمانيين، لحين أن تهيأت له الفرصة للعمل على وحدتها مع بلاد الشام بعدما سبقَ وضمّ السودان وقسم من ليبيا والجزيرة العربية " " محمد علي باشا، لم يفصح عن هكذا توجّه قوميّ، ولا توجد على أيّ حال وثيقة تدعم الرأي المناقض لذلك. كان كغيره من المغامرين، يطمح إلى وراثة عرش العثمانيين المتداعي.. " " لو كنتَ تقصد، أنه غير عربيّ المنشأ، فإنّ هذا ينطبق على قادة عظام؛ كصلاح الدين، الكرديّ، ويوسف بن تاشفين، البربريّ. ولكن ولاية محمد علي باشا كانت قد أعقبَت بقليل الثورة الفرنسية، حتى أنّ العثمانيين أرسلوه من ألبانيا إلى مصر لإستعادتها بعدما كانت محتلة منذ حملة نابليون. الثورة الفرنسية، وهذا شيء معروف، تعتبر من إرهاصات نشوء الفكر القومي في الغرب وقد نشرت أفكارها في مصر على أثر حملة نابليون.. ". بدأت الأنوار تطفأ تباعاً في الصالة، وكان ذلك في لحظةٍ جمّعتُ فيها حجّة الردّ على مُجادلي. أرتفع الستار المخمليّ إذاً، فظهرت خشبة المسرح مُنارة بشكل ساطع مع كون ديكورها جدّ هزيل ويكاد يكون مقتصراً على عدّة كراسي. ثم تبيّن لاحقاً، أنّ هزالة الديكور إنما لكون العرض من النوع المعروف ب " مسرح العبث ". ذلك كان تحدٍّ واضحاً، بالنظر لأن الرواية كلاسيكية، تنتمي لعصرٍ كنا قد نهشنا أطرافه في مناقشتنا المتوقّفة للتو. لم أكن متمكناً من الفرنسية، على أنّ السأم المتفشي رويداً في القاعة وسط صراخ الممثلين القبيح، أو إيماءاتهم البليدة، جعلني أقبع متلبّداً مع أفكاري الهائمة في مكان آخر. هأنذا أتنفسُ بحريّة، على أثر لفظ فم الهَوْلة الأشدق لجمهورها المحبط. وعطفاً على مجازي الآخر، عن إزدواجية المسرح، فلم يكن غريباً أن يخرج العديد من النظارة وهم يلوّحون ببرنامج الحفل مُشيدين بالأداء الرائع سواء للموسيقيين أو الممثلين. بدا كأن جماعتنا الصغيرة، هيَ الوحيدة المحبطة من الحفل. ثمّ تفاقمَ الأمرُ خارجاً، لما تفقدنا عربة الكوتشي وإذا هيَ مختفية. كان من المفترض أن تنتظرنا العربة، بموجب الأمر لحوذيها. إذاك، بادرَ صاحبُ الدعوة فعرضَ على " سوسن خانم " أن يوصلنا إلى مقر إقامتها. فلما ردّت هيَ، بأنها تفضّل إنتظار العربة، فإنّ الآخرين آثروا أيضاً المكوث معنا. الساحة، كانت ما تني مضاءة بفضل أنوار المصابيح المبثوثة على الأعمدة السامقة، المطلة على شارع فرنسا. ولم يكن الجوّ إلى ذلك بارداً، مع كوننا تقريباً في منتصف الشهر الأخير من العام. توجّهت الخانم نحوَ أستاذها الشاعر، شاكرة إياه على الدعوة: " إنها أجمل هدية لعيد ميلادي، وموعدنا طبعاً في الغد لكي تشرّفوننا بالمناسبة "، قالتها وهيَ تضمّ يديها إلى معصميها دلالة على إحساسها بالنسيم اللاسع. عند ذلك، بادرَ " المهدي " إلى خلع معطفه وإرخائه من ثمّ على كتفيّ الخانم. هذه الحركة، كما تسنى لي الملاحظة، جعلت " لبنى " تضطربُ قليلاً. ولم يكن ممكناً سلوان الأمر، إلا بمبادرة الخانم نفسها لإعطاء الرأي بالعرض المسرحيّ: " لم يكن مسلّ أبداً، مع أن المفترض أنه كوميديّ ". وافقها الجميعُ الرأي بما كان من صمتهم، قبل أن يتكلم الأستاذ الشاعر: " إنهم يهدرون أموال الشعب بتمويل هكذا نشاطات، مع أن لدينا فرق مسرحية وطنية ممتازة ". قالت له الخانم، مومئة نحوي برأسها المختفي طيّ قبعة المعطف المبطنة بالفراء: " لقد أستغربنا من وجود فرقة كَناوة، هنا في الساحة، وكان رأيي وقتذاك أنها محاولة من المسؤولين للتغطية على أمر دعوة فرقة مسرحية من فرنسا ". هنا فاجأنا " المهدي " بمعلومةٍ، لم تكن بالحسبان أنها تهجسُ بما سيحصل في الغد من أحداث جسام، دامية: " ولعلها محاولة لبث الطمأنينة في نفوس المقيمين الأجانب. فاليوم، أنتهت مهلة الإنذار الذي وجهته النقابات العمالية إلى الحكومة لتلبية مطالب رفع الأجور. فالغد، على الأغلب، سيكون يومَ إضراب عام في البلد بأسره ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الأول من الرواية: زاء
-
الجزء الأول من الرواية: واو 3
-
الجزء الأول من الرواية: واو 2
-
الجزء الأول من الرواية: واو
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: هاء
-
الجزء الأول من الرواية: دال 3
-
الجزء الأول من الرواية: دال 2
-
الجزء الأول من الرواية: دال
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 1
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 1
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 3
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 2
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 1
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 3
المزيد.....
-
ثبتها الــــآن .. تردد قناة ناشونال جيوجرفيك لأعظم الأفلام ا
...
-
الفائزة بنوبل للآداب هان كانغ: لن أحتفل والناس يقتلون كل يوم
...
-
علاء عبد الفتاح: الناشط المصري يتقاسم جائزة -بن بنتر- الأدبي
...
-
اعلان 1 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 167 مترجمة Kurulu? Osma
...
-
-مندوب الليل- يحصد جائزة الوهر الذهبي واحتفاء بالسينما الفلس
...
-
عفيف: من المؤسف ان بعض وسائل الاعلام في لبنان تصدق الرواية ا
...
-
روسيا تسلم سوريا قطعا أثرية اكتشفها الجيش الروسي في تدمر
-
الإمارات العربية إلى جانب 6 دول أخرى تشارك في مهرجان -أسبوع
...
-
دور قبائل شرق ليبيا في الحرب العالمية الثانية
-
الاستشراق البدوي.. الأساطير المؤسسة لرؤية الغرب للشرق
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|