|
الجزء الأول من الرواية: ج / 3
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5324 - 2016 / 10 / 25 - 10:02
المحور:
الادب والفن
الجزء الأول من الرواية: ج / 3 طالما تذمرت " سوسن خانم " أمامي، لعدم وجود حياة ثقافية حقيقية في مراكش. وأعتفدُ أنّ شكواها، كانت متحددة بندرة الفعاليات الأدبية والفنية بسبب قلة الأمكنة المناسبة لإحتضانها. على ذلك، كنتُ أتفهّم إطلاقها على رواق الفنون تجاوزاً اسمَ " نادي الشعراء ". معرفتي بالخانم، إنما كانت على خلفيّة دعوة تلقيتها ذات يومٍ خريفيّ لحضور إحدى فعاليات الرواق. كان الوقتُ على حدّ الغروب، لما رأيتني أنسحب من جولتي الأثيرة في المدينة القديمة، كالطيور سواءً بسواء، عائداً إلى الفيللا عن طريقٍ جانبيّ يصل باب دُكالة بغيليز. ثمة في صالة الشقة الأرضية، حظوتُ ببطاقة دعوة للأمسية الأدبية من يد طبيب العائلة؛ " الدكتور عبد المؤمن ". كنا مُتعارفَيْن قبلاً، بطبيعة الحال. قال لي العجوز عندئذٍ بنبرة مرحة، متماهية مع العتب: " إمتناعك في المرة الأولى عن الحضور، نجمَ عنه شيءٌ إيجابيّ؛ وهوَ ذهاب شقيقتك بدلاً عنك ومن ثمّ انضمامها للحلقة الأدبية. ومن يدري، فلعل حضورك هذه المرة سيكون كذلك فألاً حسناً ". الرواق، كان مبنىً مُلحقاً بمتحف مراكش، الكائن على طرف أشهر الأوابد الأثرية؛ المدرسة اليوسفية، المُحوّلة هيَ الأخرى إلى مقصدٍ عام. ما أن أضحيتُ تحت أسوار المبنى، إلا والضيقُ يملأ نفسي. كذلك كان شعوري دائماً، حينَ يتعلق الأمر بالذهاب إلى مكانٍ يجمعني بآخرين. على أنّ الإنقباض زايلني، وحلّت الدهشة بمكانه، آنَ دخولي المكان. لقد بدا أشبه فعلاً بالنادي، بما أحتواه من مائدة بوفيه عامرة بشتى المشهيات والحلويات والفواكه والأشربة، المنذورة للضيوف المتناثرين على عدة طاولات متقاربة. لم يكن ثمة مسرح أو منصة، بل مجرّد منبر في صدر المكان جُللت خلفيته بستارة تقليدية، قشيبة. هناك ما لبثَ أن وقفَ أحدهم، وكان في نحو الأربعين من العُمر، لإلقاء قصيدة طويلة مرفقة بمقطوعات من لَدُن عازف عود، شاب وموهوب. في الأثناء، لاحظتُ أن إحداهن كانت ترمقني بنظرات متفحّصة: فتاة مُكتملة الأنوثة، لا يبدو أنها متخطية الحلقة الثانية من أعوام ربيعها. إلى ذلك، كانت ذات جمال ساحر، لم أرَ ما يُدانيه في هذه المدينة؛ وكما لو أنها غريبة وليست مواطنة. لقد صدق حدسي، مثلما كان الأمرُ مع النبوءة تلك، التي أطلقها يومئذٍ " د. عبد المؤمن ". على أثر انتهاء الشاعر من إلقاء قصيدته، أندفع المتواجدون نحوه للتعبير عن مشاعرهم وتعاطفهم. فيما بقيتُ مُتشبثاً بمكاني، كطفلٍ وجدَ نفسه وحيداً في فرح أو عزاء. ربما كنتُ إذاك ما أفتئ ثملاً بقدح الجمال، الداني. وهيَ ذي الحسناءُ تدنو فعلاً من موقفي، متوشّحة حتى ذقنها بفرو معطفها الناصع. عطرها الراقي، عليه كان أن يُضافر من ثمالتي، تماماً كحليها الذهبية المُفاقمة من بريق شعرها وبشرتها. كنتُ لما أفق بعدُ من فجأة سماعي للغط الشاميّ النبرة، المتصاعد من الجماعة المحيطة بالشاعر، لما خاطبتني الحسناءُ بلهجة شقيقة منتمية للساحل: " أظنُ أنك شقيق شيرين..؟ ". قبل أن أبادر بالرد، واصلت هيَ كلامها وكأنما معلومتها ممتحّة من يقين ثقتها البالغة بالنفس: " لقد تعرّفتُ عليها هنا، في أمسية جرت قبل أسبوعين، وأخبرتني وقتذاك أن لديها شقيقاً وحيداً ينظم الشعر ". لم يتسنّ لي النطق بنأمة، إذ ما عتمَ أن تحلّق حولنا الآخرون. فما كان منها إلا أن قدّمتني إليهم: " هذا فرهاد، شقيق زميلتنا شيرين ". قالت ذلك، وأردفت تعرفني بجماعتها مسمية كلاً منهم: " المهدي البغدادي، وهوَ من قرأت اسمه في بطاقة الدعوة. وتلك زوجته الجميلة، لبنى. وهذا شقيقها الكبير،الأستاذ محمد، برفقة امرأته. كلنا هنا سوريون، كما ترى، سواء من كان من أصل فلسطيني أو كردي أو مغربي! ". أنطلقت ضحكات الحاضرين، وشاركتهم في ذلك متخلياً تقريباً عن تحفّظي. على الرغم من مظهر البساطة، المُضفى على تعابير " سوسن خانم "، فإنّ نوعاً من الأنفة والكبرياء والتعالي كان يلف شخصيتها جميعاً. لقد لحظتُ ذلك قبل أن أنتبه إلى لقبها الملتصق بإسمها، والمتفرّدة فيه عن غيرها من مواطناتها. على أنّ المنغّص، الملتصق باسمي، شاءَ أن يُثار ثمة أيضاً. ولا شكّ أنّ " الأستاذ محمد " قد سبقَ وطرحَ الموضوع على شقيقتي، قبل أن يخاطبني مع ابتسامة تتألق على ثغره: " نحن بشكل ما، على قرابة بالدم. فإن أهلي خلّفوا شجرة عائلة، هناك في قريتنا قرب صفد، ترتقي بنسبنا إلى سلالة السلطان صلاح الدين. وقد علمتُ بأنكم من آل بدرخان، المتوزعين الآن في تركيا والشام ولبنان ومصر، وأن هذه الأسرة كانت تحكم إحدى الولايات العثمانية. بمعنى أن عائلتينا لجأتا إلى الشام، مثل الكثير من العائلات المعروفة، العريقة، والتي تعرّبت لساناً وقلباً " " لا أدري حقاً، ما مدى صلة قرابتنا بجدّ تلك الأسرة البدرخانية، الحاكمة. إلا أنني أعلمُ يقيناً، بكون اللغة الكردية ما تني مستعملة داخل بيوتنا في الشام "، قلتُ له بإقتضاب وبنبرة ودية. إتسعت ابتسامة الرجل، ولو أنها ترافقت مع نظرة تسامح. قبل أن يشرع بالكلام، تدخلت " سوسن خانم " لترشق هذه الملاحظة: " لدينا جبل الأكراد في اللاذقية، وكان المرحوم والدي في زمنه على صلة مع بعض أعيانهم. ولكنهم مستعربون تماماً، مع كونهم يحتفظون بأسماء عشائرهم وعاداتهم وتقاليدهم.. ". قالت ذلك، مضيفةً للفور: " ورأسهم اليابس، فوق كل شيء! ". تأثر الحضورُ مجدداً بضحكتها المُجارية لجملتها الأخيرة، وخصوصاً الشاعر. هذا، ما عتمَ أنّ عقّب بالقول: " عندما ينظرُ المرء إليكم، فكأنما يرى عائلة واحدة وليسَ أفراداً ينتمون إلى منابت مختلفة جمعتهم الأرض السورية. بل إنّ هذا الجمال، المميّز لأبناء بلدكم، لكأنه نتيجة تنوّع ثقافاتهم وتعدد هوياتهم. ويمكن أن يقال الأمر نفسه بالنسبة للمغرب، من حيث تداخل الحضارات والأقوام. فهناك العرب والبربر، الموريسكيون واليهود، بل وبقايا الدم الإسباني والبرتغالي المتخلّف عن قرون من الإستعمار والقرصنة ". حينما نطقَ مُضيفنا آخر كلماته، فإنّ نظراتي عادت وحلّقت فوق تلك المرأة الفتية والتي كانت مسؤولة عن البوفيه. كان عليّ أن أمرّ بها، محمّلاً بطبقٍ فارغ، لكي تملأه هيَ بما أمليه عليها من طلبات. فلما جاء دوري، فإنني تعلّقت برهةً بعينيها الرائعتين، المكحولتين على الطريقة المحلية. كانت تبدو بعُمر " سوسن خانم "؛ بشعر شديد الصفرة، وبشرة ذهبية شاحبة قليلاً. كأنما كانت تُدرك مكمن أنوثتها وفتنتها، فإذا هيَ تتعمّد الإنحناء على طاولة البوفيه، فيما كانت تمسك صحني بيدها. إذاك، برزت مؤخرتها الجسيمة بكلّ فداحة تكويرها ودملجتها وصلابتها. فيما بعد، فإنّ مرافقة الخانم هذه ستنقل لي مُتفكّهةً رأيَ رجلها " سيمو " بأصل جمالها الغريب عن البيئة المغربية: " البرتغاليون، لم ينسحبوا بعد قرونٍ من الإحتلال قبل أن يزرعوا بذورهم في أرحام الكثير من نساء سواحلنا..! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 1
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 1
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 3
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 2
-
الجزء الأول من الرواية: أ / 1
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 3
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 2
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 1
-
غرناطة الثانية
-
الرواية: ملحق
-
خاتمة بقلم المحقق: 6
-
خاتمة بقلم المحقق: 5
-
خاتمة بقلم المحقق: 4
-
خاتمة بقلم المحقق: 3
-
خاتمة بقلم المحقق: 2
-
خاتمة بقلم المحقق: 1
-
سيرَة أُخرى 41
المزيد.....
-
-المخبأ 42-.. متحف ستالين حيث يمكنك تجربة الهجوم النووي على
...
-
البعض رأى فيه رسالة مبطنة.. نجم إماراتي يثير جدلا بفيديو من
...
-
البحث عن الهوية في روايات القائمة القصيرة لجائزة الكتاب الأل
...
-
-لا تلمسيني-.. تفاعل كبير مع فيديو نيكول كيدمان وهي تدفع سلم
...
-
بالمجان.. موسكو تفتح متاحفها ومعارضها أمام الزائرين لمدة أسب
...
-
إسرائيل تخالف الرواية الأممية بشأن اقتحام قاعدة لليونيفيل
-
فنان مصري مشهور يستغيث بالأزهر
-
-حكي القرايا- لرمضان الرواشدة.. تاريخ الأردنيين والروايات ال
...
-
أفلام كرتون مميزة طول اليوم.. حدثها الآن تردد قناة ميكي الجد
...
-
انطلاق فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان كتارا للرواية العربية
...
المزيد.....
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
المزيد.....
|