|
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5308 - 2016 / 10 / 8 - 15:32
المحور:
الادب والفن
الهدف من تقديمي الكتاب، وفق وجهة نظري، ليسَ تمهيد الطريق أمام القاريْ. فإنني أراني شخصية متفاعلة مع السرد، ولو من خارج سياقه، لكونه سيرة روائية فيها من الواقع بقدَر ما فيها من الخيال. لقد أسهبتُ فيما مضى في التحدث عن ظروف لقائي مع " فرهاد "، وانطباعاتي الأولى عنه. من ناحيته، فإنه نظرَ إليّ في وهلة اللقاء الأول كفتاة خفيفة المحمل، وربما طائشة بعض الشيء. في ليلة تعارفنا تلك، ما كان من الممكن بطبيعة الحال تبادل نقاش جدّي على أنغام الموسيقى الصاخبة، المدوّية في صالة الديسكو. أيضاً لما غادرنا المكان لم يتعدّ كلامنا عن شذراتٍ، ما عَتِمَت أن تلاشت في العتمة. حلّ بيننا على الأثر صمتٌ دائب، ومريب نوعاً: في مثل هذه الحالة فإنّ أيّ فتاة، آنَ مصاحبتها لشابّ أجنبيّ لأول مرة، لا بدّ أن يُراودها محضُ شكّ بأنّ تفكيره سيوحي له أنّ دربَ الديسكو يؤدي إلى فراش المعاشرة؛ أنه حيوانُ جنس، بكلمة أخرى! لحُسن الحظ، ظهرَ أنني كنتُ أجهل شخصَ من تعرّفتُ عليه في تلك الليلة الربيعية. لعلّ استعمالنا الإنكليزية كلغة تفاهم آنذاك، وهيَ لغة غريبة علينا كلينا، فوّتَ علينا التعبيرَ عن أفكارنا ومشاعرنا بشكل أفضل. هذا دون أن أغفل الإشارة، إلى كون إنكليزيته منطوقة بلهجة شاعرية عذبة. فيما بعد، سنتلاقى مراراً في أماكن أقلّ صخباً ولن نفتئ عن التفاهم بذات اللغة إلى أن انتصرت السويدية أخيراً. في الأثناء، بدا أن كلانا كان يتجنّب دعوة الآخر إلى مسكنه. أما عن نفسي، فإنني كنتُ ما أزال أعاني من تجربة مريرة على الصعيد العاطفيّ شاءت أن تحوّلني من ممرضة إلى مريضة. أجل، لقد كنتُ أعمل آنذاك في مشفى مدينة أوبسالا المركزيّ، وما زلتُ كذلك بعد مضيّ حوالي عقدين من الأعوام. على أنني تنقّلت خلال تلك الفترة بين عدة مدن، قبل أن أعود للاستقرار في مدينة الذكرى. لقد وجدتني مضطرة للإستطراد، فيما يخصّ عملي، لكي لا أعود مرة أخرى للخوض في هذا الشأن. لم يكن صديقي متعدد المواهب حَسْب، بل الوجوه أيضاً. إنّ تقلّبَ حياته بين ظروف شتى، جعله عاطفياً وحساساً أكثر مما ينبغي. بيْدَ أنه لم يكن مزاجياً؛ وهيَ صفة لحظتها عند الآخرين من بني قومه، المتحدّرين من الريف. هؤلاء كانت أمزجتهم متقلّبة وفق مواسم العام، وخصوصاً الموسم الزراعي. وكان " فرهاد " قد أبدى لي ذات مرة إستغرابه من مسلك مواطنيه أولئك: " الواحد منهم، وعلى الرغم من أنه يعيش في السويد لعقود من الزمن، تجدينه يشغل وقت مكالماته الهاتفية مع أهله في الوطن بالسؤال عن الطقس والمطر والموسم.. ". غيرَ أنه لا يلبث أن يُضيف، مُطلقاً ضحكة مقتضبة: " أحمدُ الله أنّ والدتي هربت إلى الشام من بلدتها في كردستان، وإلا لكنتُ أيضاً من المدمنين على متابعة النشرة الجوية! ". إذاك كان حرياً بي أن أفكّر، بأنّ صديقي قطع تماماً مع جذوره الريفية طالما أنّ أسرته استقرت في المدينة وفقدت صلتها مع موطنها الأول. أما من عرفتهم هنا في السويد، من مواطنيه الكرد، فإنهم كانوا بخلاف ذلك بسبب أرتباطهم بأرض الآباء والأجداد وجودياً وروحياً على السواء.
*** لم ألبث أن دعوتُ " فرهاد " إلى العشاء في شقتي الصغيرة، وكانت غير بعيدة عن مركز المدينة. كان المفترض بنا بعدئذٍ الذهاب إلى أحد البارات، إلا أننا فضلنا البقاء بمكاننا مستمتعين بالموسيقى الهادئة. ثم تناهضنا للرقص على الأنغام الرومانسية، مُتعانقين طوال الوقت. فلم نتأخر على الأثر في تخطي عتبة الرغبة الجنسية، وصولاً إلى باب الروح. كان الأمرُ ربيعاً آخر، لشتاء الجسد. ولكن إزالة ذلك الحاجز، الذي كان ما يني حائلاً بيننا، لم يتمّ في المقابل بدون ألم لكلينا. وإذ علمَ القارئ بمصدر تعاستي الأولى، فإنني كنتُ أجهلُ بعدُ ماضي صديقي. شيئاً فشيئاً صرتُ مدركة أن جبلاً من الشقاء، يرتفع وراء شخصيّة هذا الشابّ المتحفّظ والعميق الفكر . غير أنني لن أعطي لنفسي الحق في الإستطراد بهذا الموضوع، طالما أن السيرة بين أيديكم وستطّلعون على طبيعة معاناة كاتبها بكلماته هوَ. ربيع ذلك العام، كان من الروعة أنّ المرء ليكاد يظنّ بكونه متواطئاً مع سعادة معرفتي بالصديق الجديد. الأزهار، كانت تكسي بحلّتها الوردية والبيضاء أشجارَ الكرز والكمثرى والبرقوق والتفاح. النرجس والتولبان، أنبثقا أولاً من تربة الحدائق، ليتبعهما بنفسج وأقحوان الغابات المتعرضة قليلاً للشمس. مهرجان الزهور هذا، عليه كان أن يواصل سيره إلى المنازل والفيللات، إلى القلوب والأرواح التي أسقمها الشتاء الطويل والممضّ. " فرهاد "، تبين أنه عاشق كبير للورود، مثلي سواءً بسواء. على أن تعلقه بالحدائق، ولو أنه عن خبرة، كان أشبه بالهوَس. ثمة في مدينته الأولى، كما ذكر لي أكثر من مرة، كانت حديقة المنزل هي السلوى الوحيدة لأسرته في حياتها الكئيبة، المهيمن عليها ظلّ زوج الأم. هذا الرجل المُتسلّط، المُعرَّف أيضاً بالشح والحرص واللؤم، كان يتولى بنفسه كل ما يخصّ الحديقة من تقليم وتطعيم وتسميد وإستنبات وسقي. هناك، بين أشجاره وتعاريشه وأزهاره ووروده، كان الرجل يُضحي كائناً آخر، من ناحية المزاج على الأقل. إلا أن الحديقة، كانت بمثابة فردوسٍ مغلق. فزوج الأم كان يُظهر الضيق والإمتعاض، حينما يبصر أحدهم في فردوسه. إلى أن كان يوماً، صادف فيه الرجلُ ربيبَهُ وهوَ يرسمُ لوحة تخطيطية نقلاً عن رواية ما. آنذاك، كان " فرهاد " في المرحلة الإعدادية وكان الوقتُ أوان عطلة الصيف. قال له زوج أمه مُناكداً، وهوَ يتأمل اللوحة المنسوخة بمهارة: " لو كنتَ موهوباً حقاً، لأريتنا شطارتكَ برسم أزهار الحديقة! ". تلك، كانت من المرات النادرة، التي خاطبه فيها زوج الأم بهذه الطريقة الأقرب للمداعبة. على أنّ الربيبَ قبِلَ التحدّي، فبدأ برسم موجوداتِ الحديقة مستعملاً الألوان المائية. منذئذٍ، صار وجودُ الربيب في الفردوس المغلق أمراً عادياً، لدرجة أن زوج أمه لم يكن يمانع من إعطائه إرشادات بشأن تدبير أمور الأزهار والورود.
*** ذلك الربيع المهرجان، الذي احتفى بتعرّفي على " فرهاد "، لم يتكرر أبداً. ولو أنني كنتُ أعرف هذه الحقيقة الحزينة، لتمنيتُ أن يتأخر الصيف دهراً. على أننا كنا في مبتدأ شهر أيار، وما زال العام طويلاً أمامنا. كان حزيران في أواخره، حينَ قررنا أن نعيشَ في عشّ مشترك. وأتذكّر يوماً من ذلك الشهر، استقبلتُ فيه " فرهاد " بالقبلات عند مدخل شقتي لكي أخبره بانفعال عن حصولي على مسكن في ستوكهولم. ولم تكن فرحتي بلا طائل، طالما أنني كنتُ أدرك مدى تعلّق صديقي بذكريات العاصمة. لقد كان سبقَ وأمضى فيها الشهور الأولى من إقامته في السويد، عقب وصوله من روسيا بحراً. " فرهاد "، كان يضيق ذرعاً بالمدن الصغيرة؛ فهوَ ابن دمشق، المدينة المذكورة مراراً في العهد القديم. حتى طريقه إلى ستوكهولم، مرّ بمدن كبيرة كمراكش وموسكو. في هذه الأخيرة، أمضى عاماً تمكّن خلاله من الإلمام باللغة الروسية. وأعتقدُ أنه هنالك بدأت تظهر على " فرهاد " بوادر أزمته النفسية، فجعلته لاحقاً فريسة للوهم والإحباط واليأس. قدَرُ الرحيل، المرتبط بجذورهما، هوَ من قاد صديقي وشقيقته الوحيدة عبْرَ ثلاث قارات إلى أن أغمض كلاهما عينيه أبداً في الغربة. " فرهاد "، عليه كان أن يطوي بين جنحيه طيفَ " شيرين " من سماءٍ إلى أخرى وصولاً إلى السابعة. كان قد جاء إلى السويد للمرة الأولى مع شقيقته، بحثاً عن السعادة. أما في المرة الثانية، وكان قد رحل إلى هذا البلد وحيداً، فإنه لم يكن يبحث سوى عن روحه الضائعة.. روح الشاعر، غير القادرة على الانسجام إلا مع العزلة مثلما ناسك في كهف. على أنّ رحلة موسكو إنطوت على أمرٍ مُستطير، جعلها مفتتح النهاية المفجعة لحياة " فرهاد "، علاوة على كونها قد حُمّلتْ بدلالات عديدة. ذلك الأمر المَوْصوف، أدعكم الوصول إليه بمثابرة خلال قراءتكم لمتن هذه السيرة الروائية. وبالتالي، فإنّ تلك الدلالات أيضاً ربما ستدركونها عندئذٍ بسهولة ويُسر. في حين أنّ من الممكن الكشف للقراء عن الحالة النفسية لبطلنا، آن استقراره المؤقت في عاصمة البلاشفة السابقة.. بل يمكن ذلك بجملة واحدة، مُبتسرة: أزمته النفسية، سببها الأساس كان فقدانه لقناعاته الفكرية. لعل ذلك السبب يبدو غيرَ وجيهٍ للبعض، كون أنهيار الإتحاد السوفييتي وكتلته الإشتراكية قد أصابَ بالصميم قناعات عشرات الملايين من أمثال " فرهاد ". وإنه لمحقّ من يُبدي هكذا رأي. على أنّ الأمرَ، مثلما أكّدتُ آنفاً، متواشجٌ مع انسانٍ مُرهف الحسّ كشاعر وفنان. فما بالكَ، وهوَ مَن كان قد أجتازَ للتوّ صراطَ محنةٍ كبيرة، ثمة في مراكش. في تلك المدينة، والتي ستكون جغرافيتها هيَ مكان السرد في هذه السيرة، كان بطلنا قد ترك أمرأته مع ابنتهما الصغيرة غير المتجاوزة العامين من العُمر.. تخلى عنهما، بُغية مرافقة مواطنته الغنية، " سوسن خانم "، حينَ عزمت على نقل أعمالها التجارية من المغرب إلى روسيا. إنها نفس المرأة، مَن كانت بمثابة حاميته في مراكش خلال مرحلة معينة من إقامته هناك. وكان قد قطع كل صلة بهذه المرأة، بعدما أرتبط بعلاقة مع مرافقتها؛ فأقترن بهذه الأخيرة فيما بعد، فأنجبَ منها ابنته. كذلك في موسكو، تعهّدَ القدَرُ لبطلنا مواجهةَ محنةٍ لم تقلّ عن سابقتها.
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفردوسُ الخلفيّ: تقديم 1
-
غرناطة الثانية
-
الرواية: ملحق
-
خاتمة بقلم المحقق: 6
-
خاتمة بقلم المحقق: 5
-
خاتمة بقلم المحقق: 4
-
خاتمة بقلم المحقق: 3
-
خاتمة بقلم المحقق: 2
-
خاتمة بقلم المحقق: 1
-
سيرَة أُخرى 41
-
الفصل السادس من الرواية: 7
-
الفصل السادس من الرواية: 6
-
الفصل السادس من الرواية: 5
-
الفصل السادس من الرواية: 4
-
الفصل السادس من الرواية: 3
-
سبتة
-
الفصل السادس من الرواية: 2
-
تخلَّ عن الأمل: الفصل السادس
-
سيرَة أُخرى 40
-
الفصل الخامس من الرواية: 7
المزيد.....
-
شاهد: معرض الرياض الدولي للكتاب 2024
-
السفير الإيراني في دمشق: ثقافة سيد نصرالله هي ثقافة الجهاد و
...
-
الجزائر.. قضية الفنانة جميلة وسلاح -المادة 87 مكرر-
-
بمشاركة قطرية.. افتتاح منتدى BRICS+ Fashion Summit الدولي لل
...
-
معرض الرياض للكتاب يناقش إشكالات المؤلفين وهمومهم
-
الرئيس الايراني: نأمل ان نشهد تعزيز العلاقات الثقافية والسيا
...
-
-الآداب المرتحلة- في الرباط بمشاركة 40 كاتبا من 16 دولة
-
جوامع الجزائر.. فن معماري وإرث ديني خالد
-
-قيامة ليّام تقترب-.. الصور الأولى من الفيلم السعودي -هوبال-
...
-
الدوحة.. إسدال الستار على ملتقى السرد الخليجي الخامس وتكريم
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|