أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سبتة















المزيد.....


سبتة


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 5283 - 2016 / 9 / 12 - 09:40
المحور: الادب والفن
    


1
لأول مرة، منذ سبع سنين، أستعملُ خط السكة الحديدية أثناء تنقلاتي عبرَ المدن المغربية. هذا، كان بمناسبة سفري إلى مدينة سبتة ( الإسبانية ) مؤخراً، لكي أقوم هناك بتجديد إقامتي لمدة ثلاثة أشهر أخرى. في كبين للدرجة الأولى، بالقطار المتجه ليلاً إلى مدينة طنجة، أنضممتُ إلى أسرة مغتربة تعيش في باريس. الرجل، المُناهز الأربعين من العمر، كان يُمازح طوال الوقت ابنتيه الصغيرتين. الابن الوحيد، ذو الأعوام الثلاثة، أراد بدَوره الاشتراك في لعبة من هم أكبر سناً. في حدود الساعة العاشرة، هدأوا جميعاً وما لبثوا ان أخلدوا للنوم. قبل ذلك، فاجأني الرجلُ عندما رآني أبحث عن مَقْبس كهربائي لشحن بطارية اللابتوب: " لا وجود لبريزة في حجرات القطار! ".
ساعتان على الأثر، ثم توقف القطار في محطة مدينة المحمدية ( القريبة من الدار البيضاء )، لينزل أفراد الأسرة بعدما توادعنا. في العتمة، كان بعضُ المسافرين يبدون كالأشباح وهم يطلون على الحجرة. أحدهم، وكان شاباً أوروبياً جميلاً بمقتبل العُمر، فضّل أن يترك حجرته وأن ينتقل إلى حجرتي الفارغة. حيّاني بلطف بالاسبانية، ثم لم يلبث أن استسلم للنوم. بدَوري، هوّمتُ قليلاً إلى أن دهمني النعاس. بعد قرابة الساعة، أفقتُ لأعيد المقعد لوضعية الجلوس. بقيتُ على ذلك صاحٍ حتى الفجر. ثم أنشغلتُ بمتابعة المناظر الجميلة، المُتبدية خِلَل نافذة القطار: الرعاة وأغنامهم وكلابهم، كانوا أوائل من خرجَ إلى الطبيعة الخلابة؛ المزارعون، نساء ورجالاً، تدفقوا إلى الحقول بقبعاتهم الاسبانية التقليدية، المتنوعة الأشكال والألوان؛ حصانٌ رفع رأسه إلى جهة دابتنا الحديدية؛ حمارٌ يقف واجماً؛ بقرة ترعى غير مبالية بأحد؛ غابات من أشجار البرتقال، من أشجار الزيتون، من جدعات الصبّار؛ أسوار من أشجار الحور، خلفها شجيرات الرمان ثم أغراس العنب؛ تينة متوحّدة هنا، وأخرى هناك.. الخ
طنجة، بدت أخيراً خِلَل النافذة بنواحيها المستلقية على سفوح الجبال وبحرها الفيروزيّ، الممتد حتى الأفق. بحدود السابعة صباحاً، كنتُ أسير في ممشى محطة المدينة الكبيرة وصولاً إلى قسم الاستعلامات: " ثمة، ممكن أن تعثر على عربة أجرة تقلّك إلى سبتة "، قالت لي الموظفة وهيَ تشير بيدها إلى الساحة الخارجية للمحطة. ما أن يُبصر الشوفيرية شخصاً عليه سيماء الكَاوري ( أي الأوروبي النصراني )، أو السائح، إلا ويتكاتفون للإيقاع به: " لا وجود لمسافرين آخرين. عليك أن تأخذ تكسي بمفردك، وسيكلفك 350 درهماً ". ولكن عندما عرفوا أنني سوريّ، دعوني فوراً للركوب في تكسي كبير مع أربعة راكبين آخرين: " الأجرة للشخص الواحد هي 50 درهماً! ". أنتظرنا الراكب السادس، وإذا هو رفيق الرحلة الاسباني نفسه. عندما سمعني أتكلم بالعربية مع السائق، فإن سحنته الجميلة أضحت قبيحة. تركته ينحشر بين الركاب، ثم أخذت مكاني بجانب النافذة. طريقنا، بدأ حالاً في الصعود بنا إلى قمم الجبال وسط طبيعة ساحرة. إلا أنني كنتُ مشغولاً عن ذلك، بما جدّ من ألم في صدري: فالأخ الاسبانيّ، بدا كأنه جالسٌ على أريكة فارهة وليس مقعد عليه ثلاثة أشخاص آخرين. عدة مرات، تململتُ وتنحنحتُ، دونما جدوى. عند ذلك، حوّلت جسمي كله باتجاه النافذة، متمسكاً بقبضة يد في أعلاها. وإذا بالشاب الاسباني يصبح تحت رحمة جثتي الكبيرة. منذئذٍ، وحتى وصولنا إلى مدخل مدينة سبتة، لم أفوّت مشهداً واحداً من مشاهد الطريق. وكنتُ قد ألتفت ذات مرة إلى جهة جاري، وقد قلقتُ من انعدام حركته، وإذا به كان غافياً ورأسه على صدره!

2
طريقنا من طنجة إلى سبتة ( حوالي 60 كم )، مثلما سبقَ القول، كانت بمعظمها جبلية. كانت سيارة الأجرة ترتقي الطريقَ إلى الأعالي، فلا تلبث الوديان السحيقة أن تفتح أفواهها لتغرينا بألوانها الخضراء والبنية. إلا أنّ الأبيضَ، لون الضباب، سيطغى على كل ما عداه بوصولنا إلى القمم السامقة حدّ أن يتعذر مجالُ الرؤية لمسافة عشرة أمتار. ولكنّ سائقنا ذو اللحية البيضاء الورعة، والذي بارك رحلتنا منذ بدايتها الصباحية ببعض التعاويذ، كان مُصراً ألا يخفف السرعة حتى مع انزلاق السيارة في المنحدر تلو الآخر.
وها هيَ ذي سبتة، تتجلى لأعيننا فجأة وقد تطاول قسمها الأعلى، المتوسّد خدّه على جبل موسى. المنازلُ بيضاء ناصعة، كأخواتها على طول الشواطئ المغربية، بيْد أنها تبدو من بعيد أكثر أناقة. في المقابل، كان علينا أن نعبرَ مضيقاً من الرقاعة والرثاثة مع توغلنا في الدرب المؤدي إلى مكتب الجوازات والهجرة. ثمة، أنضممتُ إلى طابور طويل من الرجال، مُحاذٍ لآخر خُصص للنساء. هاته النسوة، كنّ بأغلبهن من فتيات القرى والبلدات المجاورة، اللواتي يذهبن يومياً إلى المدينة الاسبانية التبعية، بغية العمل، ثم يعدن في مساء اليوم نفسه. أحد الواقفين في الطابور أمامي، تهيأ له موظف شاب في مثل عمره، كواسطة أو ما أشبه. خرجَ صاحبنا من الطابور، ثم ما عتمَ أن عاد وبيده باسبورته. يبدو أنّ الموظف طلبَ مبلغاً كبيراً. فلما أراد الشاب العودة لمكانه، منعه الآخرون بحجة أنه فقد دوره. عند ذلك، تدخلتُ وقلت لهم أنه بإمكانه أن يقف أمامي. على الأثر، عقدنا أنا والشاب حديثاً عن أوضاع سورية والربيع العربي شارك فيه آخرون. أغلب المغاربة المغتربين، يتبنون نظرية المؤامرة، التي تؤكد بأن أمريكا سعت عبر ربيع 2011 إلى ضرب أنظمة قوية معادية لها. فلما حاججتُهم، بأن أنظمة تونس ومصر واليمن، كانت تابعة تماماً لأمريكا، فإنهم يدأوا يثأثئون بأن حكامها انتهت صلاحيتهم الخ
بعدما طبعَ الضابط ختمَ الخروج على جواز سفري، تبعتُ من سبقوني عبر ممر في غاية الطول والضيق من المفترض أن يؤدي إلى الجانب الاسباني. وإذا بشرطيّ كان يقطع الممر على جمع كبير من النسوة، وكان ثمة لغط كبير من قبلهن وتهديد له بالشكوى إلى المسؤولين. أندفعتُ بدون تردد إلى المرور حَذاء الشرطيّ، فلم يعترضني. سائحتان أمريكيتان، أنفصلتا عن الجمع ولحقتاني. فلما أراد بعض الشباب المغاربة الإقتداء بنا، صرخ بهم الشرطيّ المتفرعن أن يلزموا الطابور. ثمة عند موقف الباص، تواصل قدوم المزيد من أولئك الناس إلى أن شكلوا طابوراً آخر. أنشغلتُ عنهم بتأمل المشاهد من حولي، وأبعد فأبعد حتى الأفق البحريّ الفيروزيّ. الحدود، الفاصلة بين أفريقيا وأوروبا، بدت شديدة التحصينات. بيْدَ أنّ كثيراً من الشبان الأفارقة، كانوا متناثرين هناك على أمل ايجاد طريقة ما لاجتياز الحدود إلى جنّة الغرب.
ها هوَ الباصُ يقلّنا إلى داخل ذلك الفردوس، مروراً بشوارع فرعية تكتنفها إلى جهة اليسار منحدرات مشكوكة بالصبار والدفلى، يقبع بسفوحها أبنية حديثة وأخرى قديمة على الطراز المغربيّ. أغلب ركاب الباص، وكذلك من بدوا لعينيّ خارجه، كانوا من المواطنين ذوي الأصل المغربي ـ كهذه المدينة المحتلة سواءً بسواء. الأزمة الإقتصادية، المُستفحلة في اسبانيا منذ بضعة أعوام، تجثم بوطئها على أولئك المغاربة بشكل خاص. ذلك، عاينته من تلهف الفتيات على التعرّف بأيّ سائح يبدو من مظهره أنه ينتمي لإحدى دول الشمال الغنية. وكنتُ قد سألت فتاة تقف بقربي في الحافلة عن الموقف الرئيس في المدينة، فأجابتني بأنها ستنزل ثمة. فلما صرنا في المكان المطلوب، وهممتُ بجرّ حقيبتي الصغيرة، فإنّ الفتاة عادت وتكرّمت بإرشادي للدرب المؤدي إلى ساحة المدينة: " هناك من الممكن أن تعثر على أوتيل مناسب! ". شكرتها ومضيتُ رأساً، مجتازاً طريق المشاة إلى الضفة الأخرى من الشارع الرئيس. وإذا بسيارة كبيرة تنبهني ببوقها، فتجعلني أقفز مفزوعاً. الإشارة، كانت عندئذٍ حمراء.

3
الجادّة الرئيسة للمدينة، تُحدق بها أبنية رائعة ذات لونٍ شبيهٍ ببشرة فتياتها الناصعة، ممن يمكن رؤيتهن وأغلبهن بالبيكيني وقد قدمن تواً من الشاطئ الرمليّ القريب. المطاعم، وأكثرها مكتوب على واجهاتها بالعربية " حلال "، جعلتني أغذّ الخطى بحثاً عن فندق. فضلاً عن خواء معدتي في هذا الصباح، فإنني لم أكن قد أخذتُ سوى قسطٍ من نوم قليلاً خلال سفري بالقطار من مراكش إلى طنجة. على ذلك، لم يكن بالغريب أن يتصيّدني أولُ فندق يظهر لعينيّ المتناعستين. موظفة الإستعلامات، وكانت امرأة سمراء شابّة، كلمتني أولاً بالفرنسية ثم الانكليزية. فلما عاينت إنكليزيتي الرثة، فإنها أنتقلت حالاً إلى العربية!
سألتها عن غرفة لشخص واحد، فقالت أنّ الغرف كلها مزدوجة السرير والليلة إيجارها خمسة وتسعون أورو. إلا أنها أعتذرت عن استقبالي، قائلةً أنّ تأجير الغرف يبدأ بعد منتصف النهار. جوابها أراحني، كوني أصلاً رأيتُ السعرَ عالٍ. مررتُ لاحقاً على فندقين آخرين، وكانا يراوحان بنفس السعر، مثلما أنّ شرط الإيجار مشابهٌ. طريقي، وكان يصعدُ بي إلى جاداتٍ غاية في الحداثة، أضحى متعباً جداً وبالأخص مع جرّ حقيبة سفر. فرأيتني أرتاح على مقعدٍ رخاميّ، يقوم بين عموديّ بناية من الحجر الأنيق نفسه. وإذا بعجوزٍ تسعينيّ، وكان لا يقلّ أناقة، يجلس بقربي مع امرأة تصغره بعشرين عاماً تقريباً. عدد من المارة، وأغلبهم من المسنين، كانوا يحيون العجوز وزوجته ويتبادلون معهما بعض الكلمات. تذكّرتُ فوراً رواية فظيعة عن الحرب الأهلية الاسبانية، " أزهار عبّاد الشمس العمياء " لألبرتو مينديس، مقدّراً أن أبطالها الشبان لا بدّ وكانوا من جيل هذا الرجل العجوز. بعد قليل، نهضتُ أكثر نشاطاً لأعود وأنحدر هذه المرة عبر نفس الدروب والجادات. على الأثر، رأيتني مجدداً أمام الفندق الأول. موظف مهذب، اسبانيّ، تعهّد عندئذٍ كتابة بيانات الإيجار. سألته عن موعد الفطور، وإذا به يشير لي إلى الجادة خارجاً: " هناك، بإمكانك أن تجد مطاعمَ ومقاهٍ! ".
أفقتُ عند الثالثة ظهراً ( التوقيت في سبتة أوروبيّ مع كونها ضمن الأراضي المغربية )، فنهضت لأخذ دوش سريع ومن ثم تبديل ملابسي. في مطعم أسماك على الجادة، طلبتُ وجبة ميكس مع كولا. مقابل إثنا عشرة أورو، أتوا لي بصحن صغير فيه بعض القريدس والكالامار وفرخ سردين أو ما أشبه. عندما سألتُ النادل المغربيّ عن السَلطة، فإنه أشار لأوراق خس مطمورة تحت الوجبة. وللمقارنة، ففي مدينة الصويرة المغربية، يقدمون بنفس المبلغ كيلو غراماً من الثمار البحرية المشوية مع السلطة والكولا وخبز باغيت الفاخر. على غرّة، وكما يحدث في المدن البحرية، دوى الرعد وخلال لحظات أنفجرت السماء بالأمطار. طاولتي كانت على طرف الشارع، والنادل الشهم لم يحضر لنقلها إلى مكان آمن حتى أنجلى الداعي لذلك. بعد مغادرتي المطعم، رحتُ أبحث عن تلك القلعة البحرية، التي تراءت لي أبراجها الخارجية صباحاً خِلَل نافذة الحافلة الكبيرة. عدتُ بأدراجي إلى الشارع الرئيس، وأخذت طريقي بمحاذاة الكورنيش. الأبنية هنا كلها ذات طراز معماري أسباني، والدروب المبلطة بحجر ملوّن نظيفة جداً. عدة بحرات بنوافير، تسلسلت في ذلك الدرب المظلل بأشجار النخيل والمتخم بالورود المتنوّعة الأشكال. ثمة تمثال برونزي هائل لهرقل وهوَ يحطّم عمودين، كان منصوباً بمقابل البحر، وهوَ يُحيل إلى أسطورة متداولة عن كون هذا البطل الجبار قد خاض عدة مغامرات في المنطقة. فكان ثمة " أعمدة هرقل " في سبتة، مقابل " مغارات هرقل " في طنجة.

4
هأنذا واقف بمقابل الأسوار الضخمة للقلعة البحرية ( السقالة )، التي يفصلها عن الشاطئ شارعٌ ضيّق. ولكن كون مدينة سبتة تشكّل لساناً برياً، فإنّ البحرَ يحيط بالقلعة من ثلاث جهات. ولجتُ عبرَ مدخل فخم، يحرسه جنديّ شاب من البحرية الاسبانية بسلاحه الشاكي. لأجدني في ساحة فسيحة، مرصوفة ببلاط ملوّن، مكوّن على شكل هندسيّ بديع. مقهىً مودرن، ينزوي في الركن الأيسر من الساحة، تحرسه امرأة شابة بحسنها ولطفها. ولكنني أتجه رأساً إلى مدخل على شكل قنطرة تسبقني شلة من الفتيات الأمريكيات، الثرثارات. الأسوار الخارجية العالية، تبدو من الداخل أكثر هيبة يفصلها عن موقفنا قناة مائية ضيقة نوعاً. درجات حجرية عريضة، تستقبلني وتفضي بي إلى القسم الأعلى من القلعة. ثمة، تركنُ المدافع القديمة في فتحات شراقات الأسوار والأبراج. مباني عديدة، ربما كانت تستخدم كحجرات مؤن ومطابخ وحمامات، تتوالى أمام عين المرء. كذلك فإن عينه ستلاحظُ مقدار نظافة المكان وما بُذل من جهد لترميم كلّ جزء فيه. نجمة داوود، المنحوتة في أكثر من مكان، تدلّ على أنّ الملّاح ( وهي تسمية تطلق في المغرب على كل حيّ يهوديّ ) كان يقبع هنا في زمن ما.
أخرجُ عبرَ بوابة أخرى للقلعة، حيث الدرب يُشرف من علٍ على منظر البحر الفيروزيّ وجبل موسى، الذي يحتضن أحد الأحياء الراقية بأبنيتها الناصعة. ولا ألبث أن أنحدر إلى جنينة منمنمة، يجذبني إليها أشجارها الغريبة ذات الأزهار العجيبة. الدفلى والبوكسيا وشوكية الشمعدان، تنمو هنا أيضاً بشكل مذهل كأشجار سامقة. الأحواض والجرار الفخارية الكبيرة، تحفل بالأزهار من كل نوع وقد أنبثق منها شجيرات البرتقال والزيتون والنخيل. شلالات من عرائش المجنونة، تحيط بدزينتين من النوافير الصغيرة، يخرجُ ماءها من باطن الأرض وإليها ترجعون.
أربع أشجار دفلى عملاقة، تتوزع على الأركان الأربعة لحديقة أخرى تنبسط بمقابل كنيسة أثرية منيفة ببرجين يُذكّران المرء بشقيقتها الفرنسية؛ " كنيسة نوتردام ". على عكس الحديقة الأولى، فإنّ هذه كانت مأهولة بالمرتادين مع عديد من الأطفال اللاهين. امرأة اسبانية عجوز، مقتعدة على كرسي متنقل، تتنزّه هناك بمساعدة امرأة مغربية شابّة. وهيَ ذي مواطنة لهذه الأخيرة، تخدمُ كنادل في بار مفصول عن الحديقة بدرب للمشاة والدراجات. أغشى المكان، المزيّن مدخله بإشارة كاوبوي على شكل برميل جعّة. أمام صندوق الحساب، أضعُ زجاجة مُمتحّة من ذلك البرميل وبيدي عدة قطع من الأورو الفضيّة. لدهشتي، فإنّ النادل أخذت مني فقط قطعتين ( 2 أورو ). بل إنها أضافت أيضاً صحناً صغيراً فيه فستق. وددتُ أن أخبرها، بأنهم في مراكش وفي قبو حقير مخنوق برائحة السجائر، على أساس أنه بار مودرن، أخذوا منا ذات ليلة ما يعادل 30 أورو ثمناً لثلاث زجاجات من البيرة المحلية التي بلا طعم ولا شكل!
هذه النادل المغربية السمراء، الجميلة والمرحة، كانت تثرثر طوال الوقت بالإسبانية مع رواد المقهى البار، الجالسين بقربي مقابل تلك الحديقة. شارعٌ فرعيّ، يحدق به مبان تاريخية تمّ تحويلها إلى إدارات رسمية أو أوتيلات بعدة نجوم. الغروب، كان حاراً تلطّفه نسائم البحر العليلة وجرعات الجعّة المنعشة. رذاذ المطر، المتساقطة قطراته هيّنة وكأنما لتسقي أرواحاً جافّة، جعلتني اكثر انتعاشاً فطلبتُ من النادل زجاجة أخرى. جميع الرواد، من مسنين ومتوسطين السنّ، كانوا يتكلمون بصوتٍ مرتفع وكأنهم على شجار. بل إنّ أحد الرجال، كان يُجادل أصدقاءه وهوَ يقفز كلّ وهلة من كرسيه لينتصب فوق رؤوسهم مُطلقاً سيلاً من العبارات المرفقة بإشارات يده. " أولئك همُ أسلاف الأندلسيين ـ الأمويين.. "، فكّرتُ في نفسي وأنا أستمتعُ بصحبة أولئك الأقارب!

5
حينما كنتُ أغادر المقهى البار، مُلتفاً حول الكنيسة، إذا بي ألمحُ من مسافة قريبة مدخل الفندق الذي أقيم فيه. سرّني الأمر، مع أنه سيسبّب لي إلتباساً فيما بعد. هذه الكنيسة، كما سبقَ الحديث، ذات برجين شبيهين بشقيقتها الفرنسية " نوتردام ". حال خروجي من المطعم مساءً، فإنني أبصرتُ ذينك البرجين يتشامخان في القسم الأعلى من مركز المدينة، المطلّ على الكورنيش. أخذتُ طريقاً، طويلاً ومُجهداُ، ونظري مُسددٌ على البرجين متوهّماً أنهما للكنيسة القريبة من الفندق. فلما أضحيتُ تحتَ البرجين تماماً، إذا بهما يعتليان أوتيل خمس نجوم له أيضاً ذات الألوان الصفراء والبيضاء، الخاصين بتلك الكنيسة كما وبمعظم عمائر المدينة!
وإذاً، كنتُ أنحدر في دربٍ يؤدي إلى الكورنيش، وهدفي كان مطعم الوجبات السريعة ( ماكدونالدز )، المُترائية علامته عن بعد. الكورنيش، كان يطلّ من علو شاهق على شاطئ المارينا المُقفر من المرتادين في هذه الساعة من المساء. إنه أكثر الشواطئ أناقة ونظافة وتنظيماً، التي تسنى لي رؤيتها في بلاد المغرب. الحقّ، فإنّ سبتة تبدو بخصالها العديدة ليسَ كمدينة أفريقية تقع في أوروبا، بل كمدينة أوروبية تقع في أفريقيا. هنا لا يمكن العثور على طلّابة ( متسولين )، أو شفّارة ( لصوص )، أو متشردين يفترشون الأرضَ. أتصوّرُ لو أنها في مراكش، هذه الجرار الفخارية الجميلة، الموضوعة في أحواض الزهور بالساحات والشوارع؛ في مراكش، حيث يُقتلع الشبكُ الحديديّ المطوّق أحواض أشجار الزينة، لكي يُباع كخردة للحدادين مقابل بضعة دراهم..
في مطعم ماكدونالدز، تغمرني العاملة السمراء الحسناء بابتسامة مضيئة، لما تكلمت معها عبارة بالدارجة المغربية. قالت لي: " وجبة الرويال تشيز، تحتاج لدقائق قليلة. تفضّل بالجلوس وسنقوم بإيصالها لك! ". أخذتُ مكاناً مناسباً بمحاذاة واجهة زجاجية تطلّ على الدرب، مُتسلياً بتناول الفريت وجرعات من الكولا. وهيَ ذي العاملة نفسها، تتقدّم حاملةً صينية عليها الوجبة. وإذا بها تتعثّر بالقرب من طاولتي، وتكاد أن تفقد توازنها. " لا بأس؟ "، سألتها بالتعبير المحليّ المألوف. على أثر وضعها الوجبة أمامي، فإنها راوحت قدميها لعدة ثوان وهيَ تحدّقُ بعينيّ كمن ينتظرُ أمراً. وأحيلُ القاريء، مجدداً، إلى مبتدأ الرحلة حينما لاحظتُ أنّ الفتيات المغربيات هنا يسعينَ إلى التعرّف على سيّاح تبدو من هيئتهم أنهم في بحبوحة العيش أو مقيمين في دولة أوروبية شمالية. وددتُ إذاك أن أقول للبنت الحسناء، بأنني لستُ من هذا النوع من الرجال؛ وأنني لا أستخدم باسبورتي السويديّ في الايقاع بأمثالها من الفتيات..
قبل انتصاف نهار اليوم التالي، غادرتُ الفندق جاراً ورائي حقيبة السفر. تناولتُ فطوري في ترّاس مطعم اسبانيّ مشرفٍ على الجادة. الزبائن المغاربة، المحتلون عدداً من الطاولات بقربي، كان بعضهم يتكلم مع أولاده بالاسبانية. قبل قليل، قلتُ بالانكليزية لصاحبة المطعم الأربعينية والرائعة الجمال: " أنتِ شبيهة ببطلات السينما الكلاسيكية! ". قلتها مُشيراً لأفيشات من ذلك الزمن الجميل، معلقة على الجدران. أخذت تكسي من الجادة، في الطريق إلى مركز الحدود. ثمة، سألني الضابط قبل أن يختم الإقامة الجديدة ومدتها ثلاثة أشهر: " أنتَ لم تبقَ سوى يوماً واحداً خارجَ المغرب؟ ". جوابي، أثار ضحكاً شاركته به زميلته: " لم أرغب انفاق نقودي عند الاسبان، المحتلين مدينة سبتة المغربية! ". الحال، أنّ إستنكافي عن المكوث ليلة أخرى على الأقل، لم يكن بسبب السعر المرتفع للغرفة في ذلك الأوتيل. فإنني كنتُ بشوق لزيارة مدينة تطوان، بما أنها تبعدُ حسب ثلاثين كيلومتراً. قبل سبعة أعوام تقريباً، كنتُ قد تعرفتُ على ( شيف ) مغربي متوسط العُمر أثناء أرتيادي مع امرأتي لمطعمٍ في أوبسالا يملكه كرد من تركيا. لما علمتُ أنه مغربيّ، فإنني قلتُ له مازحاً: " اعتقدتُ للوهلة الأولى أنك كرديّ، فإن ملامحك شبيهة بنا ". فأوضح لي عندئذٍ، بأنه من مدينة تطوان وأنّ أصول الكثير من ساكنيها هيَ أندلسية.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس من الرواية: 2
- تخلَّ عن الأمل: الفصل السادس
- سيرَة أُخرى 40
- الفصل الخامس من الرواية: 7
- الفصل الخامس من الرواية: 6
- الفصل الخامس من الرواية: 5
- الفصل الخامس من الرواية: 4
- الفصل الخامس من الرواية: 3
- الفصل الخامس من الرواية: 2
- تخلَّ عن الأمل: الفصل الخامس
- سيرَة أُخرى 39
- الفصل الرابع من الرواية: 7
- الفصل الرابع من الرواية: 6
- الفصل الرابع من الرواية: 5
- الفصل الرابع من الرواية: 4
- الفصل الرابع من الرواية: 3
- الفصل الرابع من الرواية: 2
- تخلَّ عن الأمل: الفصل الرابع
- سيرَة أُخرى 38
- الفصل الثالث من الرواية: 7


المزيد.....




- رواية -أمي وأعرفها- لأحمد طملية.. صور بليغة من سرديات المخيم ...
- إلغاء مسرحية وجدي معوض في بيروت: اتهامات بالتطبيع تقصي عملا ...
- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سبتة