|
الجزء الأول من الرواية: الطاء 2
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 5340 - 2016 / 11 / 11 - 09:54
المحور:
الادب والفن
ما أن غُمرت صالة الجناح بآخر شعاعات شمس المغيب، البرتقالية، إلا ورأيت أنفاسي تضيق في صدري. وددتُ لو أنني أغادر القصر الريفيّ حالاً، وليسَ بعيد حلول الليل. لقد أبلغتني " للّا عفيفة "، على لسان مدير أعمالها، بأننا سننطلق في سيارتها تحت جنح الظلام. تفكيرها بالداعي الأمنيّ، كان له ما يبرره ولا غرو. ولعله كان دافعاً منذ بدء سكناها في مراكش؛ أي حينَ شاءت أن تتخذ لنفسها قصراً في هذه البقعة الريفية، المنعزلة عن المدينة. ولكنّ أحداث اليوم، المشؤومة الدامية، أوقظت في ذاكرتها وقائع مجزرة قصر الصخيرات قبل نحو عقدين من الزمن ـ كما أفصحت أمامي بلا مواربة، قبيل الغداء، معبّرةً عن حقدها على عامة الشعب ممن دَعَتهم ب " العبيد ". " كنتُ أودّ أن أستبقيكَ إلى نهاية عطلة الأسبوع، كي نقوم معاً بجولات عبرَ أراضيّ سواءً على الخيل أو على متن القارب "، قالت لي إذاك وكانت بأحسن حالات مزاجها. ثمّ أستدركت، وكأنها تذكّرت حجّة وجودي في قصرها: " كما أنك وعدّتني بإنجاز لوحتين، على الأقل. أليسَ كذلك؟ " " بلى، سيكون لكِ ذلك بكل تأكيد " " لا تحسبنّ أنني أحاول فرضَ صداقتي عليك، وأتمنى ألا تكون فهمتني خطأ..؟ "، قالتها بنبرة ساخرة جعلتني أتردد في الجواب. مزاجها المتقلّب، المتأثر بمكوثها المديد في الريف، كان أكثر ما يضايقني. وعليّ كان أن أتجاهل وخز عبارتها، لما عقّبتُ عليها بالقول: " ربما أنّ طبعي، المتّسم بالخجل، يوحي للآخرين بأنني شخصٌ مغرور... " " أول مرة أسمعُ رجلاً، يقول عن نفسه هكذا! "، قاطعتني مع ضحكة مقتضبة. حقّ لي أن أنتبه عندئذٍ، بأنّ الأميرة كانت ثملة نوعاً؛ هيَ من سبقَ وتناولت قدحيّ نبيذ وشارعةً في معاقرة الثالث. قلتُ مُتبسماً وقد زايلني الإنزعاج: " ولكنك أقمتِ في باريس مطوّلاً، أثناء دراستك الجامعية، ولم يكن بالغريب ثمة وجودُ شبانٍ خجولين أو بكّائين حتى؟ " " هه! لقد كان الأمرُ أكثر من ذلك أيضاً. فإنني عرفتُ الماريجوانا هناك، وما زلتُ أتعاطاها. كما أنّ أقاربي يشيعون عني، بكون أفكاري ليبرالية متأثرة بإقامتي الباريسية، وكذلك طريقة عيشي. الله يعطيهم المسخ هم والفرنسيون! "، نطقت جملتها الأخيرة بتعبيرٍ محليّ جعلني أنفجر ضاحكاً. الحق، أنّ داخلي كان قد سبقني بالقهقهة حينَ تكلمت الأميرة عن أفكارها الليبرالية. لم تشاركني المرح، بل طفقت ترمقني بنظراتٍ ملية وكأنما ثابت إلى رشدها. قالت ببطء، وبملامح خالية من التعبير: " صفة التحفّظ في شخصيتك، تعود أساساً إلى كونك من سلالة أمراء! وهذا ما يفسّر أيضاً طبعك الكتوم، علاوة على مظهرك المتسم بالأنفة والكبرياء والإستقامة.. " " إنني سعيدٌ طبعاً بهذا الرأي، ولو أنني لم أصرّح مرةً قط بخصوص أصولي " " لأنك كتوم؛ ألم أقل ذلك تواً؟ لقد ثارت بسببك فضيحة كبرى، ثمة في فيللا حمي إريك، ولكن أحداً لم يستطع إلى الآن التأكد بأن ابنتهم كان لها علاقة معك! " " لم يسألني أحد أبداً عن ذلك... " " وهذه أنا أسألكَ، مع يقيني بأنك ستنكر الأمر! "، قاطعتني مجدداً. ثم أستأنفت القول بلهجة تضطرد في الدفء، مع رشفها لمزيدٍ من الشراب: " يعجبني ما في طبعك من إخبات، بل إنه يذكّرني بوضعنا في مملكة الصمت. إذ مضى عقدان من الأعوام تقريباً على المحاولة الإنقلابية في الصخيرات، دونَ أن تكشف حقيقة ما جرى. والمؤكد، أنّ الأمر نفسه سيكون مصير حقيقة ما جدّ اليوم من أحداث دامية " " أفأنتِ على ثقة إذاً، بأنّ الأحداث توقفت عند هذا الحدّ ولن تمتد أبعد من ذلك؟ " " لقد قلتُ لك قبلاً، بأنه إضرابٌ عام كان يجب كسره بأيّ ثمن. كانت هيبة العرش، لا الحكومة، هيَ المقصودة من هذه الحركة. فالجميع يعلم، وليسَ السياسيون فحسب، أنّ الأحزاب مجرد لعبة لإسكات الغربيين وإحتواء الوضع الداخليّ. إنّ العرشَ لا يمكن أن يتنازل عن أيّ من سلطاته لكائن من كان؛ لأنها مستمدة جميعاً من سلطة الإله المطلقة. وثمة مسألة أخرى لا تقل أهمية، تتعلق بزج قواتنا المسلحة في تحالف مع الأمريكان بحربهم الموشكة ضد صدام حسين. فلو أنّ الإضرابَ نجحَ بفرض شروط النقابات على الحكومة، فمعنى ذلك أن يستمد المعارضون للحرب عزيمة للقيام بإحتجاجات أوسع في عموم البلاد قد تؤدي إلى فقدان السيطرة على الوضع مثلما حصل في أوروبا الشرقية مؤخراً ". عندما وصلت بكلامها إلى هذه النقطة، فضّلتُ ألا أدلي برأي في الموضوع. ولكنني قلت لها، لتجاوز الصمت: " كأني بسوسن خانم مستمدّة إطمئنانها من لَدُنك، بحيث أنها تصرّ على الإحتفال بعيد ميلادها هذه الليلة؟ ". عادت الأميرة لتروزني بنظراتها، وكما لو أنها تستنطق ملامحي بشأن جديّة جملتي الأخيرة. إلا أنّ حضور مرافقة " للّا عفيفة "، كي تدعونا إلى حجرة السفرة، عليه كان أن يشغلنا عن مواصلة الحديث. وصيفُ الجناح، ذلك الرجل القليل الكلام مع كونه منتمٍ لسلالة " العبيد "، تعهّدَ إبلاغي بضرورة التهيؤ للتوجّه إلى مدخل القصر الرئيس. فقلت له متناهضاً من مجلسي، أنني سأمضي معه للفور. ثمة، ما لبثت مرافقة الأميرة أن فتحت لي بابَ سيارة الجيب. كانت الساحة مضاءة بمصابيح خافتة النور، فلم أنتبه للوهلة الأولى إلى وجود " للّا عفيفة " وراء مقود السيارة. ألتفتت برأسها إلى الخلف، لتقول لي: " سأتولى قيادة العربة، إحتياطاً. فلو أنّ أحدهم كان يبغي إغتيالي، فإنّ طلقاته ستوجّه حتماً إلى المرافقة أو إليكَ! ". ضحكنا كلنا معاً. فما هيَ إلا دقيقة، حتى كانت السيارة تشقّ طريقها خارج العرين المحصّن. لحظتُ عند ذلك التشدد في إجراءت الأمن، فضلاً عن إزدياد عدد الحراس. بيْدَ أنّ هذا، على أيّ حال، لم يمنع من وقوع حادثة خلال الطريق لم تكن بالخطيرة وإنما تدلّ على الأجواء المشحونة. إذا كانت عربتنا قد توقفت لثانيتين عند المفرق الضيق، المؤدي إلى جهة المدينة، عندما أرتطمَ حجرٌ كبير بزجاج النافذة من جهة السائق. صاحت الأميرة مأخوذةً بالمفاجأة: " ما هذا..؟ من فعل ذلك؟ ". ولكنها داست على البنزين، لتندفع بنا بعيداً عن المكان. ثم زادت من سرعة السيارة بشكل متهوّر، لدرجة أنني هجستُ بإنقلابها في حال ظهرت على حين بغتة نقطةُ تقاطع مستديرة. على أنّ ما أنقذنا من هكذا إحتمال، هوَ وجود نقطة تفتيش طارئة للشرطة عند مدخل طريق فاس. فما أن لاحَ بصيصُ الأنوار الحمراء، إلا وعربتنا تتناهى ببطء كي تتوقف هناك. عندما أشارَ لنا رجل الشرطة بمتابعة المسير، كانت الأميرة ما تفتأ تلمس زجاج النافذة المصابة بأصابعها المختالة بألوان الجواهر النادرة: " لا أحد تضرر والحمد لله. ولكنني سآمر فيما بعد بإجراء تحقيقٍ دقيق، لمعرفة المتورطين بهذه الفعلة الحقيرة "، قالت ذلك ثم أعقبت بنفس اللهجة الجدية وهيَ تنقل نظراتها بيني وبين المرافقة: " كذلك لا بدّ أن أعرف من قد يكون الواشي، بأنني من يقود السيارة! ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجزء الأول من الرواية: الطاء
-
الجزء الأول من الرواية: الحاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: الحاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: الحاء
-
الجزء الأول من الرواية: زاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: زاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: زاء
-
الجزء الأول من الرواية: واو 3
-
الجزء الأول من الرواية: واو 2
-
الجزء الأول من الرواية: واو
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 3
-
الجزء الأول من الرواية: هاء 2
-
الجزء الأول من الرواية: هاء
-
الجزء الأول من الرواية: دال 3
-
الجزء الأول من الرواية: دال 2
-
الجزء الأول من الرواية: دال
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 3
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 2
-
الجزء الأول من الرواية: ج / 1
-
الجزء الأول من الرواية: ب / 3
المزيد.....
-
ثبتها الــــآن .. تردد قناة ناشونال جيوجرفيك لأعظم الأفلام ا
...
-
الفائزة بنوبل للآداب هان كانغ: لن أحتفل والناس يقتلون كل يوم
...
-
علاء عبد الفتاح: الناشط المصري يتقاسم جائزة -بن بنتر- الأدبي
...
-
اعلان 1 .. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 167 مترجمة Kurulu? Osma
...
-
-مندوب الليل- يحصد جائزة الوهر الذهبي واحتفاء بالسينما الفلس
...
-
عفيف: من المؤسف ان بعض وسائل الاعلام في لبنان تصدق الرواية ا
...
-
روسيا تسلم سوريا قطعا أثرية اكتشفها الجيش الروسي في تدمر
-
الإمارات العربية إلى جانب 6 دول أخرى تشارك في مهرجان -أسبوع
...
-
دور قبائل شرق ليبيا في الحرب العالمية الثانية
-
الاستشراق البدوي.. الأساطير المؤسسة لرؤية الغرب للشرق
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|