حسين عجيب
الحوار المتمدن-العدد: 1385 - 2005 / 11 / 21 - 10:39
المحور:
الادب والفن
لا أعرف ولا أريد أن أعرف, إن كنت يوما سأصل إلى صيغ ثابتة في الحياة والمجتمع والعائلة والعمل, ترضيني أو ترضي سواي. استبدلت عاداتي السرية بالكتابة, أكتب مع الألم, في الفراغ المحيط بي والذي يملأ عالمي بالحمايات والدفاعات, أنا الساقط إلى الهاوية, ما من قوة ترفعني ثانية إلى الأعلى. أشك بأن أحدا ممن أعيش بينهم ومعهم يفهمني بشكل صحيح, وضعت المسافات لأحمي علاقتي بالآخرين, وحين أقترب أكثر من المتوقع فبقصد حماية العلاقة, معظم حياتي عشتها في عزلة موحشة, أبواب موصدة لا أجرؤ على فتحها أو الحديث عنها. خبرتي والآلام التي تسبب بها من أحببتهم أكثر مما ينبغي, وفي حالات نادرة من تعلقوا بي أكثر مما أحتمل, تجعلاني شديد الحذر, حتى لأبدو شخص متكتم ويضمر أشياء مريبة. مسافات الأمان تجعلهم يتحدثون ويتحركون بحرية, وتمنحني إمكانية رؤيتهم بوجوه مختلفة, وبعدما أعود إلى فراغي وعذابي أتردد تجاه كل شيء ولا اعرف إن كان ما قمت به هذه المرة هو السلوك المناسب, على غير عادتي, أم أنني ما زلت أراكم الخسارات بأخطاء تتكرر بجدية وتصميم أكثر كلما نقصت فرصتي بحياة جديدة.
بعد قليل يحل الليل في اللاذقية, كمبيوتري معطل, وتلفوني انتهت مدة مكالماته, سأتجه إلى مكتبة الزعيم " أثينا" لألتقي بالشلة, وعلى الأرجح سنكثر من الشراب اليوم, وكل منا يحاول تأخير العودة إلى المنزل_ الحظيرة, حيث الشقاء بأوضح صوره. لك أنت أكتب. ربما سيكون قد مر زمن على رحيل هذا الأربعيني الخائب, الذي يجلس بجوار النافذة الآن, ينظر قليلا إلى الغروب في اللاذقية, ويحدق طويلا في العدم, بلا أمل, بلا وعد, هو الفراغ نفسه.
لم أنه أي شيء كما أردت له أن يكون.
*
يعيب عليّ الكثيرون قلة وفائي, وأحيانا قلة صدقي, لا أحد يرغب في النظر إلى الداخل ولو لمرة واحدة, هناك حيث النيران والعواصف, وكل ما نراه ونعيشه ونؤمن به, معكوسا وبشكل مختلف على الدوام. النزاهة, العمل الجيد, الصبر والإرادة, كل تلك الأشياء ماذا تعني عدا أقنعة باهتة منصوبة فوق فراغات وتصدعات الداخل المجهولة, والتي يتعذر حتى رؤية وجهها السطحي؟
كيف تنعكس الكلمات في الداخل, أين تستقر الكلمة في النهاية؟
من أحب؟ الصورة الجميلة والمثال الذي أظن أنني عرفته, أم توقعي للمشهد كله وليس فقط ما رأيت وما تخيلت؟ ألسنا نريد الأصدقاء معابر لغايات أخرى! لا المساكين الذين يحبون بالجملة وينفرون بالجملة ويشقون في الهجر!
لا أنكر أنني قلق بشأن ما يحدث في سوريا وحولها, ويثير اشمئزازي استمرار الاعتقال السياسي ابتداء برياض سيف وعارف دليلة وصولا إلى كمال اللبواني, وأراه ضربا من العبث الدموي, ويدفعني أكثر إلى المزيد في ثرثرتي الداخلية, حيث عبرها ألتقي بأصدقائي الحميمين, خارج ضوضاء العموم وضجيجهم.
لقد أسرتني عبارة صديقي فرناندو بيسوا:الذين يعانون معاناة حقيقية لا يشكلون تجمعا. ما يعانى, يعانى منفردا. 14|11
ألم الآخر_ثرثرة من الداخل
فن الإصغاء يفترض الأنداد, التكافؤ في المهارات والقدرات الظاهرة منها والضمنية, وذلك غير متاح في العالم الواقعي.
لكنهم يتفاهمون, يقومون بأشياء مشتركة كثيرة, بعضها وضيع ورهيب وأحيانا تكون عظيمة حقا وذات نفع عام.
من بعيد أراهم,من بعيد كنت أراهم دوما, حتى أقرب الناس لا اعرف عن دواخلهم شيئا, وما يريدونه بقوة أو يحاولون تجنبه.
أعيش بين رغبات متناقضة, أحيانا ارغب بشدة أن أتحول إلى صاحب مهنة مثل الآخرين, بيت وعائلة وحياة واضحة الحدود والمعالم, لكن حتى الفكرة والتي لا أستطيع تحقيقها تخيفني, أتشارك مع فريدة نفس المنزل منذ سنين, وكل منا يجهل الآخر, هي لا تستطيع الاقتراب من عالمي الداخلي, وأنا يفزعني مجرد النظر إلى الجهة التي تريدني أن أكون فيها. كيف لشخص مثلي ملئ بالفراغ وغير موجود أن يقوم بما هو مطلوب ومرغوب ليحظى بالقبول والتقبل. الأحلام المجهضة والخيبات المتكررة, أخفضت عتبة الألم ونزعت السقف. في شوارع اللاذقية أدور حول نفسي بشكل دائم, كأنني أنتظر اللقاء بما لا يأتي, وأتحول إلى شخص آخر.
أرغب في خفض مستوى الكحول في دمي, لكن شبيهي الآخر شره لكل ما يبعد الصحو ويؤجله. نتصارع كل لحظة وكل يوم, في الليل ينتصر هو الأول ويسحق نظيره, الذي يصحو بدوره في النهار ويسعى خلف التكيف, ويصل أحيانا إلى درجة الخضوع, مقتصرا كلامه على العبارات الهزيلة, التي تجنبه غضب الآخرين وسخطهم.
الآخر وألمه, الآخر كما هو ودون أن ينسب إلى سابق يتعذر تحققه أو لاحق لا يعلم أحد كيف سيكون, سيبقى كناية عن ذات تعاني, أفكار مشوشة تختلط في مطر اللاذقية ووحلها, مطر يغسل شرفة المنزل الغريب, ثم يتدحرج إلى الأسفل, ماضيا بلا هدف أو غاية, بين أحذية العابرين, بعضهم خرج من سجن سياسي, بعضهم يتأمل السطوح والجدران الفارغة في عينيه ووعيه. لكنهم يتجهون بثقة إلى أهداف وغايات محددة, هكذا أراهم يمضون أعمارهم واثقين بلا تردد, كم أنا بعيد عن تلك الثقة والنشاط اليقيني في كلامهم وحركاتهم, وأنا واحد آخر بينهم, أشبههم في النهاية حتى بدرجات الألم, مع المشترك بيننا الذي أحاول اللحاق به بلا جدوى.
لا يوجد شخص أول في حياتي. منذ زمن فقدت الإيمان وتخليت عن المستقبل, وأحاول ما بوسعي إبعاد الماضي, أعرف_ وهذا مصدر تعاستي_أن بقية عمري لن يكون فيها شخص أول ولا حتى ثاني, أرغب برضاه وأسعى لمحبته بشكل فعلي, أعمل أي شيء لحمايته, لأثير إعجابه, مثلما كنت أفعل وبدون تفكير أو تردد, ذلك كان في صباي وشبابي البعيدين . لا شيء سوى الفراغ والعدم الخالص في حياة هذا الكهل الذي يثرثر, وفي عينيه الرماديتين تدور اللاذقية وبحرها.
أرى حياتي من الخارج مثل نقطة مطر عالقة على سطح بيت مهجور.
بعد قليل أذهب إلى بيروت, بمشاعر مختلطة ومبهمة. 7|11
اللاذقية.
#حسين_عجيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟