|
معضلة المرض العقلي
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1270 - 2005 / 7 / 29 - 12:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يصيب المرض كافة أعضاء الجسم الإنساني، فيسارع المريض بتحديد أعراض مرضه، والذهاب إلى الطبيب سائلاً مستعطفاً متوسلاً المساعدة والعلاج، ويتناول العقاقير الموصوفة له صابراً على مرارتها، حتى يتم له الشفاء بتأكيدات جازمة من الطبيب، يحدث هذا إذا ما أصاب المرض أي عضو من الأعضاء عدا الإصابة بمرض عقلي. في هذه الحالة وحدها يرفض المريض الاعتراف بمرضه، ويعتبر ما يظنه البعض أعراض مرض، ما هي إلا عين الصحة والاتزان العقلي، وأن الطبيب ومساعديه والمتعاونين معهم من أهله، والذين يؤكدون مرضه، ما هم إلا أعداء متربصين، يجدر به مقاومتهم وفضح نواياهم الخبيثة، ويستتبع هذا اعتباره للدواء الموصوف كأنه سموم غرضها القضاء عليه، فيستميت في الرفض بقدر ما يتسع جهده! يحدث هذا على مستوى الإنسان الفرد، ويتم تدارك ما يترتب عليه من صعوبة العلاج، بفضل المعاونة المخلصة من أهل المريض، لكن المأساة التي تعنينا هي حالة انتشار المرض العقلي بصورة وبائية في أمة كاملة، يدفعها جنونها أفراداً وجماعات، لتحطيم كل ما تصل إليه أياديها، وإيقاع أضراراً جسيمة بجسدها وأجساد الآخرين!! · كيف يمكن إقناع هذه الأمة بمرضها العقلي؟! · من سيقنعها بالإصغاء إلى نصائح الطبيب؟! · من سيقدم لها الدواء بانتظام، ويشرف مخلصاً على تقدم الحالة نحو الشفاء؟! · إذا كان علاج الفرد المريض عقلياً يتطلب قوة يبذلها ذووه لإجباره على تلقي العلاج، فمن سيفعل هذا في حالة مرض أمة بكاملها، وأي قدر من القوة يتطلبه الأمر؟! لا أظن أنه من قبيل المبالغة أن نزعم إزاء ما يجتاح العالم حالياً من حمى القتل وسفك الدماء المتعمد، أن العالم قد انقسم إلى معسكرين: معسكر القتلة ومعسكر المقتولين، ويحتل أبناء الشرق مرابض معسكر القتلة، فيما يقف بقية العالم في الخندق الآخر. ولا نرى أن التوصيف الحقيقي لما يجري، مجرد صراع أو حتى صدام مصالح أو عقائد وأيديولوجيات، فالقول بأي من هذا فشل خطير في قراءة الواقع والظاهرة التي تهدد الإنسانية، وتنذر بعدة خطوات للخلف في مسيرة التقدم والتلاحم والإنساني والعولمة. ما نرصده أشبه بفيروس قد أصاب العقل الجمعي في منطقة الشرق الكبير، أدى إلى تدمير الركام الحضاري، الذي تكون لدى الشعوب والأفراد على مدى آلاف السنين، هي عمر الحضارة الإنسانية، لدى بعض شعوب المنطقة على الأقل، مثل الشعوب المتأثرة بالثقافات الهندية، والشعب الفارسي والمصري والعراقي، وشعوب شمال أفريقيا وشرق المتوسط، أدى الفيروس بعد تعرية العقل الفردي والجمعي من ركام الحضارة، إلى عودة الإنسان في تلك المنطقة إلى أحط نوازعه الغريزية البدائية الأولى، وهي فقدان الإحساس بقيمة الحياة الإنسانية وقدسيتها، بل والانجراف إلى غريزة لن نستطيع نسبتها للحيوان، وهي غريزة التعطش لسفك الدماء كقيمة في حد ذاتها، وهو ما لا نستطيع أن نرصده – في حدود علمنا – إلا لدى مجتمعات البداوة في المنطقة، ونعني – إن صدق القول – أبناء العمومة البدوية من عبرانيين وعرب، فنجد يهوه إله العبرانيين يقرر بجسارة ورباطة جأش تحسده عليها الذئاب، أنه "بدون سفك دم لا تحدث مغفرة"، ويشهد تاريخ المنطقة بكم وحجم احتفاليات سفك الدماء التي ارتكبها شقي العائلة البدوية. إننا نعود للتاريخ ليس لأننا نؤمن بالثبات في مسيرة الإنسان، ولا لأننا نبحث في بطن الماضي عما ندين به الحاضر، ولكن لأننا نشهد الآن ما نعتبره انهيار للبناء الحضاري، الذي كان من المفترض أن يكون شامخاً، لنعود من حيث كنا، وبالأصح لنعود من حيث كان البدو الذين اختلطوا بنا، كائنات دون الحيوانات، تشتهي سفك الدماء المجاني، وتستهين أو بالأصح لا تعرف شيئاً عن قيمة الحياة الإنسانية وقدسيتها. نقول هذا بملء الثقة، لأن ما نرصده على الساحة العالمية الآن من أعمال سفك دماء مجانية وغير مسبوقة، ليس مجرد استهانة طرف بدماء الطرف الآخر، بل واستهانة الطرف البدوي - أو المتطبع بالبداوة – بدمائه الشخصية، فهذا هو الأخطر الذي يعطي المأساة الإنسانية التي يعيشها العالم حالياً أبعادها غير المسبوقة. تحويل أبناءنا إلى قنابل بشرية هو ما يميز طبيعة الظاهرة، وأن نشاهد في مهرجان احتفالي فلسطيني طفلة دون الرابعة من عمرها، ألبسها أبواها زياً عبارة عن حزام ناسف، أمر لا ينبغي أن يمر علينا ببساطة، فقد اعتدنا في الصغر أن نرتدي زي ضابط، ونتسلح بمسدس صوت أو ماء، لكي نطارد به اللصوص أو الأعداء، أو حتى نقتلهم، كنا نتخيل كل هذا في الصغر، ويتخيله معنا الأهل، مفترضين أن السيناريو لن يتضمن إلا موت اللصوص أو الأعداء، وأننا سنعود من معركتنا المفترضة منتصرين لنرتمي في حضن والدينا ابتهاجاً بالنصر المبين، أما السيناريو الحالي، والذي ألبس الوالدان ابنتهما فيه حزاماً ناسفاً، فهو يبدأ باغتيال ابنتهما ذات الرابعة، وتحولها إلى شظايا ناسفة، قد تقتل وقد لا تقتل بعض الأعداء المفترضين!! نعيد التركيز على أن ما نرصده هو تعطش واستهانة بسفك دماء الآخر، انطلاقاً من الاستهانة بدمائنا وأرواحنا نحن، وهذا هو المميز في الظاهرة، وعلامات ذلك تتعذر على الحصر، فاستهانتنا بأرواح آلاف الأبرياء من شعب العراق الذين يقتلهم الزرقاوي، فيما نكتفي بدور المبرر لجرائمه بحجة مقاومة الاحتلال الأمريكي البريطاني، أمر نستحي أن نقول مضحك لأنه مأساة ليس للعراقيين فحسب، ولكنه مأساتنا نحن، بما تردينا في من وحشية وغرائزية بدائية مدمرة، فهل من المنطق أن ندفع عن إخواننا العراقيين أذى احتلال سياسي مؤقت - مهما اختلف موقفنا منه – بأن نغتال الشعب العراقي ذاته بالمئات والآلاف؟!! ألا يشي رد الفعل الفاتر للأمة المصرية شعباً ونظاماً على اغتيال (المقاومة العراقية الشريفة) للدكتور إيهاب الشريف - السفير المصري في بغداد - بأن حياتنا غير عزيزة علينا، وأن سفاكو دمائنا ودماء الآخر (الزرقاوي وبن لادن) أعز علينا من الحياة ذاتها، ثم رد فعل قطاع لا يستهان به من الشارع المصري، والقطاع الأكبر من مثقفي وخبراء الإعلام المصري والعربي المقروء والمسموع، بعد تفجيرات شرم الشيخ، بتهويماتهم وتحليلاتهم الغبية والحقيرة، المبررة والمتسترة على الفاعل الذي نعرفه جميعاً، ألا يؤكد كل هذا ما ذهبنا إليه!! مصيبتنا مترامية الأطراف، والمرض العقلي الذي دمر بناءنا الحضاري، يكاد لم يسلم من آثاره أحد من أبناء الشرق، حتى رافعو رايات الليبرالية المهاجرين إلى النصف المتحضر من الكرة الأرضية، فعندما يتناول أحد أساطينهم قضية تهديد حياة أحد رموز الفكر المستنير من قبل جماعات الظلام، ليس من منظور الحفاظ على الحياة الإنسانية بوجه عام، والمحافظة على حياة هذا الكاتب الأعزل ورب الأسرة، وإنما من منظور التحقير والتشكيك في شخص الكاتب، ألا يعني هذا على الأقل أن الحياة الإنسانية وقيمتها لا تشغل مرتبة متقدمة في أولويات حتى هؤلاء الذين فروا من جحيم شرقنا إلى بلاد النور والحضارة، ألا يؤكد هذا أن فيروس البداوة المدمر للقيم الحضارية يفوق في تأثيره وفعاليته – على الأقل في عقول أبناء الشرق – تأثير فيروس الحضارة، إن صحت التسمية؟!! هل ثمة أمل؟! تحتم علي الموضوعية أن أقرر أنه لا أمل في الشفاء!! وتحتم علي غريزة البقاء وحب الحياة، أن أتطلع إلى غد إنساني سيشرق في الأفق! فلأيهما سيؤول المصير، الموضوعية أم انتصار الحياة؟!!
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السباحة في بحر الظلمات إهداء إلى د. سيد القمني.
-
د. سيد القمني لا تحزن من سفالتهم
-
العظيم سيد القمني والبيان القنبلة
-
الليبرالية الإنسانية-دعوة إلى صرخة في واد
-
ألف باء ليبرالية
-
د. شاكر النابلسي عفواً
-
الإخوان المسلمون والإخوان الحالمون
-
الليبراليون الجدد في مواجهة خلط الأوراق
-
العلمانية ومفهوم الوطنية
-
الخصوصية والذاتية وجذور الليبرالية
-
رسالة مفتوحة إلى د. أحمد صبحي منصور
-
العلمانية ومفهوم الهوية
-
العلمانية وجذور الصراع مع الغرب
-
شعوب الشرق وخيار شمهورش
-
الغرب والقفز إلى المجهول
-
هل يُلْدغ الغرب من جحر مرتين؟
-
البرجماتية غائبة. . ولكن
-
وطنية نعم، فاشية لا
-
الليبرالية الجديدة والتناول المغلوط
-
يحكى أن . . . . . .
المزيد.....
-
لأول مرة.. لبنان يحذر -حماس- من استخدام أراضيه لشن هجمات على
...
-
انتشار قوات الأمن السورية في جرمانا بعد اتفاق مع وجهاء الدرو
...
-
الجيش الأمريكي يتجه لتحديث أسلحته لأول مرة منذ الحرب الباردة
...
-
العراق.. هروب نزلاء من سجن الحلة الإصلاحي في محافظة بابل وال
...
-
مشروبات طبيعية تقلل التوتر والقلق
-
هل تقبل إيران بإدمان استيراد اليورانيوم؟
-
وقوع زلزال بقوة 7,5 درجة قبالة سواحل تشيلي وتحذير من تسونامي
...
-
المجلس الأعلى للدفاع في لبنان يحذر حماس من تنفيذ -أعمال تمس
...
-
غارة إسرائيلية على منطقة مجاورة للقصر الرئاسي بدمشق.. ما الذ
...
-
من السجن إلى المنفى : قصة صحفية مصرية ناضلت من أجل الحرية
المزيد.....
-
خشب الجميز :مؤامرة الإمبريالية لتدمير سورية
/ احمد صالح سلوم
-
دونالد ترامب - النص الكامل
/ جيلاني الهمامي
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 3/4
/ عبد الرحمان النوضة
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
المزيد.....
|