|
دوستويفسكي روايةُ الاضطهادِ (2-2)
عبدالله خليفة
الحوار المتمدن-العدد: 4069 - 2013 / 4 / 21 - 08:47
المحور:
الادب والفن
يعيشُ دوستويفسكي في زنزانةٍ بعد أن سُجنَ وتنحى عن الوعي الاشتراكي. إن سردَهُ يتجنبُ التحليلَ الاجتماعي السياسي والتحليل التاريخي، فيغدو خالياً من الجذور الروائية لكنه عوّض عن قراءةِ الجذور الصراعية الطبقية والتاريخية التي تخرجُهُ من الزنزانة التي يعيشُ فيها، أو تدخلهُ إليها مرة أخرى، بأدواتٍ غيرِ مسبوقةٍ في العروض الروائية لأجلِ كشفِ السجن الروسي الكبير. إن خلق الشخصيات الدرامية المتوترة النارية هي بدايةُ الشكل، وبأن تُوضع هذه الشخصيات في حبكةٍ اصطدامية واسعة، فتتتفجرُ الحواراتُ والشرارات منها، فتتعرى، وتفضحُ نفسَها وتفضحُ الشخصيات الأخرى، في مساراتِ عذابٍ مشتركة، لكي يتجلى ما هو إنساني فيها، في ظلِ أيديولوجيا مسيحية قومية روسية، غارفةٍ من كل ما في التراث الغربي المسيحي الإنساني عبر ومضاتٍ مشعة مسلطة على تلك الصراعات الراهنة. إن صراعات الشخصيات تُوضعُ في مشهدياتٍ مكانية محددة لأجل تفجر تلك الومضات النفسية الفكرية، ولهذا فمشاهدُ الطرق العامةِ والساحاتِ مشاهدٌ تمهيدية موصلةٌ للداخل، حيث الغرف المنزلية والممرات وشقق الفنادق والصالات البيتية مواقع الصراعات تلك. إن تناقضَ الشخصياتِ الرئيسية التي تشكلُ محور الرواية تتجلى في دهاليز تلك الأمكنة، فهي تقربُها وجهاً لوجه وتتكشف تناقضاتها المشتركة، وتُحدثُ نتائجَ وموجات تأثير متعددة راهنة وتالية. إن غيابَ الجذورِ الطبقية والتاريخية التحليلية التي يؤدي حضورها للتحليل المواجهِ للنظام القيصري، يُستعاضلا عنها بتلك الفنيةِ التي تكشفُ القشرةَ الشخوصية السائدة الأيديولوجية سواءً لزيفها أم لقصورها، بإعتبارها هي بؤرة التغيير المنتظر. ولهذا فإن تلك القشرة الشخوصية تُؤخذ من الأنماطِ السائدة، وهي تلك الحاضرة بقوةٍ في الزمن الأيديولوجي الاجتماعي، عبر كشفِ تناقضاتها، وحيث يظهر الممكن النضالي المتراكم القادر على تجاوز البنية الاجتماعية السياسية القيصرية والبشرية السيئة عامة. الشخصياتُ الأيديولوجية المركزيةُ هي أجنةُ ظرفها التاريخي، فهي عند لحظةٍ معينة من سيرورةِ روسيا والبشرية، تُؤخذ بشكلٍ تجريدي تاريخي عام، فالمؤلفُ يجردُ التاريخَ من تشكيلاته، ومن الصراعات الطبقية الموضوعية، ويجعلها في صراعٍ مجرد عام بين المستغلِّين والناس العاملين، ويُجري الصدامات بينها لكشف المحتوى الأيديولوجي السلبي السيء، المعرقل للتطور. وهذا الكشف يجري في خطةٍ واسعة، مليئة بالتداخلات، والمفاجآت الميلودرامية والدرامية، وتُستخدم فيها أشكالُ الاعتراف والرسائل والمنولوجات والأحلام والحوارات المباشرة والخطب الدينية والفكرية. إن دور الهيكل الحدثي الشخوصي هو عَصرُ ما في لحمِ وعظم هذه الشخصيات من مشاعر ووعي مباشر، وتقطيره عبر الفصول. وهو هيكلٌ ليس مكثفاً مختزلاً إلا في الأعمال الأولى حيث الفكرة لم تتوسع وتتعمقْ بعد، بل هو هيكلٌ يحوطُهُ الكثير من القصص الجانبية وتخترقه مشهدياتٌ كثيرة عابرة. إن «جرجرة» هذه الشخصيات لمعامل التحليل النفسية الفكرية، تجري داخل تلك الزنزانة الكبرى حيث يجري التعذيبُ العام المتعدد الأشكال والدرجات، من الإلقاءِ الطويل في الزنزانات الحقيقية كما في (ذكريات من بيت الموتى)، إلى المطاردة والتجسس وضرب الأطفال بقسوة وجرائم القتل المُعدّة بتخطيط ماهر في ظل كوابيس، والانتحارات الرهيبة التي تجري كفواصل بين مشاهد العذاب، إلى الاعترافات المذهلة المُعرِّية، التي تنقلُ الأحداثَ والشخصيات لمستوى جديد، إلى الحواراتِ العادية المبتذلة لبعض العامة المعبرة عن مستوى مضاد مستنقعي راكد للوعي أو رمزي، ويظهر ذلك في تضاد مع حرقةِ النخبة وصراعاتها المريرة، إلى انفجارات بعض الشخصيات العامية واحتراقها السريع، إلى هذيانات وأحلام المشوشين والسكارى والمومسات والمرضى الخ.. إن هذه وغيرها من الوسائل التعبيرية لا تُعوضُ عن التحليلات الفنية الطبقية والتاريخية العميقة التي تأتي لدى مؤلفين كبار آخرين مغنية للشخوص والمشاهد عبر تقارير مكثفة وافتتاحيات، لكن دوستويفسكي يعوضُ ذلك أيضاً بحواراتٍ مقتضبة في السياسة والأيديولوجيا تتخللُ تلك المشاهد وعروض الشخوص المسيطرة فيقومُ بربطٍ محدود وامض متروك للقارئ. إن الشكل يترابط والمضمون، والبنيةُ التعبيريةُ تتطورُ مع الرؤية التي تتعمق لديه، ولهذا فإن حجمَ الروايات يتبدل من الحجم الصغير والمتوسط إلى الحجم الكبير، مثل الانتقال من حجم (الإنسان الصرصار) و(الزوج الأبدي) إلى (الجريمة والعقاب) و(الأخوة كرامازوف). تطورُ الحجم يعبرُ عن توسع المشاهد وإغناء الشخصيات، ورؤية التعدد في الرؤى والاختلافات في تبصر الواقع والتاريخ. إن الروايات القصيرة تنتقلُ من العروض الجانبية للواقع الأيديولوجي المركزي، إلى قلبِ هذا الواقع المتخيّل المؤدلج من قبل المؤلف. إن حشودَ المشهديات والشخوص المتكاثرة تتم السيطرة عليها بتخطيطات مدهشة، تعبرُ عن رؤيةٍ قومية دينية تسامحية، عبر تصعيدِ نموذج البرجوازية الضبابي، الجامع بين رب العمل والكادح في أخوةٍ غير متبلورة في وعي المؤلف فكرياً، وسياسياً، وتتشكلُ من خلال روسنة المسيحية، وعدمِ تكرارِ علمنة الغرب في تلك اللحظة التاريخية من القرن التاسع عشر، عبر هذا الصليب الروائي الكبير الذي يصنعهُ دوستويفسكي. إن هذه الروايات عبارةٌ عن صُلبان إبداعيةٍ تطهيرية يَتملا فيها الجَلدُ والامتاع، الفهمُ والتعذيب، الحفرُ في الجلْدِ والسمو في الروح.
#عبدالله_خليفة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دوستويفسكي: روايةُ الاضطهادِ (1 -2)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسيةُ (6)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية (5)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية (4)
-
وجهانِ لعملةٍ واحدة
-
عودةٌ للعصورِ الوسطى سياسياً
-
لجنة العريضة والتحولات السياسية (3- 3)
-
لجنةُ العريضةِ والتحولاتُ السياسية(2)
-
لجنةُ العريضة والتحولات السياسية
-
محمد جابر الصباح: الوطنيةُ الباقيةُ
-
ليست معارضةً بل مشاكسةً!
-
المستقبلية في العمل السياسي
-
أمةٌ تتأرجحُ على حبالِ التاريخ!
-
البرجوازيةُ الصغيرة والمدارسُ الفكرية
-
شعاراتُ الرأسمالياتِ البيروقراطية
-
الربيعُ العربي اضطراباتٌ ضد أسلوبِ إنتاجٍ متخلف
-
حركةُ الهيئةِ بين التغيير السلمي أو الانفجار (3-3)
-
حركةُ الهيئةِ بين التغييرِ السلمي أو الانفجار! ( 2)
-
حركةُ الهيئةِ بين التغيير السلمي أو الانفجار (1)
-
ثقافةُ الرادودِ
المزيد.....
-
إرث لا يقدر بثمن.. نهب المتحف الجيولوجي السوداني
-
سمر دويدار: أرشفة يوميات غزة فعل مقاومة يحميها من محاولات ال
...
-
الفن والقضية الفلسطينية مع الفنانة ميس أبو صاع (2)
-
من -الست- إلى -روكي الغلابة-.. هيمنة نسائية على بطولات أفلام
...
-
دواين جونسون بشكل جديد كليًا في فيلم -The Smashing Machine-.
...
-
-سماء بلا أرض-.. حكاية إنسانية تفتتح مسابقة -نظرة ما- في مهر
...
-
البابا فرنسيس سيظهر في فيلم وثائقي لمخرج أمريكي شهير (صورة)
...
-
تكريم ضحايا مهرجان نوفا الموسيقى في يوم الذكرى الإسرائيلي
-
المقابلة الأخيرة للبابا فرنسيس في فيلم وثائقي لمارتن سكورسيز
...
-
طفل يُتلف لوحة فنية تُقدر قيمتها بخمسين مليون يورو في متحف ه
...
المزيد.....
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
المزيد.....
|