جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 3790 - 2012 / 7 / 16 - 14:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إذا غضب الله على قوم (على شعب، أو دولة، أو ثورة، أو حزب) سَلَّط عليهم "البيروقراطية"، والتي هي مَفْسَدَةٌ للديمقراطية، وللشعب، بصفة كونه مَصْدَراً للسلطات جميعاً، وللشرعية في الحُكْم؛ ولا أُغالي إذا قُلْت، أيضاً، إنَّها مَفْسَدَةٌ للحياة بكل أوجهها؛ كيف لا وهي التي للفساد، بصوره كافَّة، مَنْبَعٌ ومجرى ومَصَبٌّ.
و"البيروقراطية" كجهنَّم دَرَكات؛ وفي الدَّرَك الأسفل منها نرى "البيروقراطية الشَّرقية"، والعربية منها على وجه الخصوص.
وأَذْكُر أنَّني قد تَعَرَّفْتُ إلى "البيروقراطية"، معنىً ومفهوماً وشَرَّاً، في الجدل الفكري الذي أثارته التجربة (التاريخية) الستالينية؛ فالعدوِّ اللدود للدكتاتور ستالين، ليون تروتسكي، فَهِمَ هذه التجربة على أنَّها اغتصاب بيروقراطي للسلطة العمالية في الاتحاد السوفياتي؛ ولقد أسهب وتوسَّع في شَرْح أسباب وحيثيات هذا الاغتصاب.
ونحن في بلادنا نَفْهَم "البيروقراطية" على أنَّها "الرُّوتين"، وسطوته، في عمل الجهاز الإداري، أو أجهزة الإدارة، على وجه العموم، وفي عمل أجهزة الإدارة الحكومية على وجه الخصوص؛ وكل مواطِن يَقِف على هذا المعنى لـ "البيروقراطية" ما أنْ يخوض "تجربة المُعامَلَة"، ولو كانت معاملته طَلَب تركيب عدَّاد كهربائي أو مائي.
وهذا الفَهْم جزئي وناقِص وضيِّق، ولا يَصْلُح لخوض صراعٍ حقيقي ضدَّ "البيروقراطية"، بشرورها كافَّة؛ فـ "البيروقراطية" هي، أوَّلاً، سلطة (طريقة في الحُكْم) قوامها "الاغتصاب"، أيْ اغتصاب أصحاب الوظائف العامَّة (من نوَّاب ووزراء..) السلطة التي هي للشعب، أصْلاً وحَقَّاً؛ و"الانفصال" المتفرِّع من هذا "الاغتصاب"؛ فهؤلاء، ولو جاءوا من طريق "الانتخاب"، وما يشبهه من "أدوات الديمقراطية"، يَنْفَصِلون، بمصالحهم، ودوافعهم، وغاياتهم، عن الشعب، أو عن الجماعة التي اختارتهم لتمثيلها وخدمتها، ما أنْ يمسكوا بأزِمَّة الأمور، ويتغلغلوا في كراسيهم، حتى تتحوَّل (من طريق "التَبَقْرُط"، والتمادي فيه) الخدمة العامة إلى خدمة خاصة وشخصية؛ فالشعب هو الذي ينبغي له أنْ يتوفَّر على خدمتهم، وهُمْ الذين جاءوا (بحسب القَسَم واليمين) من أجل خدمته.
وفي تجربة "كومونة باريس ((1871"، اكتشف ماركس بعضاً من أهمِّ الطرائق والأساليب لمكافحة "البيروقراطية"، وشرورها؛ فـ "الموظَّف العام"، ومهما كانت درجته الوظيفية رفيعة، يجب أنْ يتقاضى أجْراً، أو راتباً، لا يَفُوق متوسِّط أُجْرة، أو راتب، العامل، ويجب أنْ يُعْزَل عن منصبه عند إساءته التصرُّف، أو عند إساءته استعمال السلطة المُفَوَّضَة إليه، ويجب أنْ يكون خاضعاً دائماً للرقابة الشعبية (والتي تتسلَّح بالرقابة الإعلامية). أمَّا الأجهزة والقوى العسكرية والأمنية فيجب أنْ يُعاد بناؤها (وإعادة البناء يسبقها هَدْم) بما يَحُول بينها وبين الانفصال عن الشعب.
إنني لا أدعوكم إلى أن تنظروا إلى "البيروقراطية" ببصر ماركس وبصيرته، فالله لا يكلِّف نفساً إلاَّ وسعها؛ لكنني أدعوكم فحسب إلى أنْ تتخيلوا النتائج والعواقب المترتبة على إقرار قانون للخدمة العامة، يُحظر بموجبه أنْ يتقاضى النائب، أي خادم الشعب وممثِّله، راتباً يَفُوق متوسط الراتب في مجتمعه، ويُسمح، بموجبه أيضاً، للشعب، أو لهيئة شعبية ما، بخلعه، في أي وقت، إذا ما أساء التصرف، أو أساء استعمال ما مُنح له من سلطة ونفوذ.
لو تحقق هذا، أو شيء منه، لتعذَّر على أيِّ نائب أنْ يتصرف بما يؤكد أنه يَنْظُر إلى "الصوت الانتخابي" على أنه يشبه كوباً من الكرتون أو البلاستيك، يستعمله مرة واحدة فحسب، ثم..
النائب يماري في صحة التُّهمة الموجَّهة إليه، قائلاً إنَّه يريد تأدية الخدمة العامة على خير وجه، ويشري نفسه ابتغاء مرضاة الشعب؛ لكنه قبل ذلك، ومن أجل ذلك، لا بدَّ له من أنْ يتقاضى راتباً، حجمه من حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، وأنْ يحصل على ما يفي بهذا الغرض من امتياز الإعفاء الجمركي، وغيره من الامتيازات، ومن الألقاب الرفيعة.
أمَّا إذا تمخَّض "عمله العام" عمَّا يشبه ما تمخَّض عنه الجبل، فيجب ألاَّ يتعرَّض لانتقاد يَضْرِب أصحابه صفحاً عن المبدأ الذهبي في التقويم.. مبدأ "إنَّما الأعمال بالنِّيات"، فهو، وعملاً بهذا المبدأ، قام بأعمال تكاد لعِظَمها أن تكون اجتراحاً لمعجزات!
وعند بلوغه "سن اليأس الوظيفي"، واضطراره، من ثمَّ، إلى التقاعد، ينبغي للدولة ألاَّ تنكر الجميل، فإنكاره رذيلة، وأنْ تكافئه، من ثمَّ، براتب تقاعدي يَعْدِل آخر راتب تقاضاه وهو متوفِّر على خدمة الشعب، وبتأمين صحي أبديٍّ له ولعائلته، التي أشقاها بشقائه النيابي!
ولو سُئِل عن الحكمة الكامنة في هذا الرغد من العيش، والذي هو توأم شظف العيش الذي يقاسي منه الشعب، لأجابكَ على البديهة قائلاً إنَّ استقلال السلطة التشريعية يظل وهماً خالصاً، ولن يغدو حقيقة واقعة، ما لم يُحْرِز النائب شخصياً استقلالاً اقتصادياً عبر الراتب والامتيازات..
وبفضل النيابة والوزارة، وقِصَر العمر الوظيفي (والذي يقوم على مبدأ "مُرْ ودعْ غيركَ يَمُر") لكثير من النواب والأعيان والوزراء، ونظام الرواتب والامتيازات، ينمو جيش من ذوي الامتيازات؛ فهل للذين يحصون علينا أنفاسنا أنْ يحصوا لنا الوزراء والنواب السابقين والمتقاعدين؟!
إنها "الخدمة العامة"، وما أدراك ما "الخدمة العامة"..
و"البيروقراطية" تُصِيب أصحابها بمرض "المظهرية", والذي هو مرض شرقي في المقام الأول؛ فـ "البيروقراطيون" غصون لا تحمل شيئاً من الثمار، ولا تنحني من ثمَّ؛ ديدنهم إنما هو الصدارة (في كل شيء) والمظهرية, وكأنَّهم في حرص دائم على أنْ يلبسوا اللباس المفضَّل لـ "الصفر" وهو الغرور.
إنَّهم كمثل "الإعلان التجاري", يُظهرون أنفسهم, أو يظهرونهم, على أنهم خير الناس في صفاتهم وخواصهم الوظيفية حتى إذا خضعوا للاختبار الوظيفي الحقيقي والموضوعي حلَّ بهم ما حل ببضاعة ثبُت لدى استعمالها, أو استهلاكها, أنَّ صفاتها وخواصها مغشوشة، ولا تمت بصلة إلى صفاتها وخواصها في "الإعلان التجاري".
إنَّ عظمة الأمة تكمن في قدرتها على تمييز العظيم من الصغير, والصغير من العظيم, فالأمة العظيمة إنما هي التي تزن أبناءها بـ "ميزان المتنبي", الذي فيه نرى العظيم شخصاً صغُرت في عينه العظائم, والصغير شخصاً عظُمت في عينه الصغائر. ولا ريب في أنَّ صغائر الأمور هي التي فيها تضرب "المظهرية" جذورها عميقاً؛ فالمكان, بمعناه الإداري والبيروقراطي, هو كل شيء, أمَّا الذي يشغله, ويستحقه, بحسب معايير الفساد الإداري والوظيفي, فيجب أنْ يكون لا شيء. وشتَّان بين الذي يَعْظُم بالمكان والذي يَعْظُم به المكان, فالأول يظل جَمَلاً مهما تزركش؛ أمَّا الثاني فـ "الصدارة" عنده هي حيث يجلس، ولو كان جلوسه قُرْب الباب.
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟