أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 10















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر 10


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3085 - 2010 / 8 / 5 - 19:06
المحور: الادب والفن
    


مَقصياً عن دارها، رأيتني في أقصى الليل وأنا أحاذي النهرَ الحالك، الطافح بجثث طافيَة، مَنفوخة كالقرب. على الضفتيْن كانَ العامّة على هياج بيّن، مُضطرم، تتصايحُ طوائفهم المُختلفة بنداء واحد: " الوباء.. ". ما أن تناهى ذلك لسَمعي، حتى انتفضتُ هلعاً، مُحاولاً انتشالَ نفسي من الزلّة المُهلكة، مُقدّراً أن أمرَ النجاة لم يَفت بعدُ. وفيما كنتُ أنحاشُ عن طوائف الزبانيَة، إذا بهيئة أليفة لما يُشبه الطيف تتطامنُ من ظلمة نهر الموت، لتهدُر فيّ بقوّة وأمل ورَجاء: " كانَ أولى بكَ، بُنيّ، ألا تفارقَ الزاويَة.. ". وبالرغم من مَغامض لهجة الرجل، فإني أدركتُ أنه أبي؛ أو روحه، بالأصح. إذاك، رحتُ أعدو بأقصى ما في قدمَيّ من طاقة، وكانَ النهرُ ما يَفتأ يُجانبني بجفنات هلاكه، ولم تكُ ثمة زاويَة نجاة في أيّ جهَة.

لا بدّ أنّ هزة الكابوس، المُجفلة، هيَ من تولت إبطالَ غفوتي. ولكن، في أيّ وقت من اليوم أجيز لي الإفاقة؟ هذا ما لا يُمكن للمرء هنا التحقق منه، أبداً. اللهمّ سوى أنّ مُبتدأ الوَجبة الأولى من الوجبات اليومية، والتي يتكرّم بها الحارسُ علينا، توحي بأنّ الوقتَ ما يني على مشارف الصباح. إنه الصباحُ، إذاً، من يَهمي على هذا القبر المُظلم ـ كليل أعمى.
هوَ ذا النورُ، في آخر المَطاف. إنه يَتسرّب على حين فجأة من نهايَة الرواق المُقنطر، ليندَسّ في تجاويف الجدار الحجريّ؛ أينَ الأجساد السَجينة، التي جُبلتْ يوماً على المؤانسة، وقد تآلفت مع الأسر والعسر والوحشة؛ أين أنات أعماقها، الخافتة، توافق قرقعة القيود والكلاليب، الصاخبة. بيْدَ أنّ ذلك النور، سُرعان ما خمدَ لسبب ما، تاركاً المكانَ للرطوبة الخانقة، المُعبقة بعفن أبدان سُوّغَ لفألها الوقوع في هكذا مَقام، مُريع. إنهم مَحابيسٌ بلا ملامح أو صفات، ما داموا مَرهونينَ للمَعدن القاسي. ويبدو أنّ بعضهم أجتازَ في مكانه هذا عقوداً من الزمن، مَجهولة بدَورها، واعتادَ على هذه الحال. لعلّ الإصرار على البقاء لهوَ خاصيّة إنسانية بَحتة؛ مُطابقة للحكمة، الشائعة، القائلة أنّ المَوجودَ خيرٌ من المَعدوم.
ما أن نطقَ سرّي المُفردة الأخيرة، الفائتة، حتى اقشعرّ بدني بفعل فكرة داهمَة: أنّ الحكم بإعدام كلّ من المَملوكيْن، الصقليّ والقبرصيّ، قد باتَ في حكم المُبرَم ـ كما سبقَ وأفادني بذلك الزورباشي، الفظ، المَدعو زينيل آغا. ولكي يَكتملُ حظي من الصُدَف، فها هوَ الآغا بنفسه، الذي يَشغل أيضاً مَنصبَ آمر القلعة، يَنتصبُ قداّمي على غرّة: وإذاً فإنّ ذلك النور، الضئيل، الذي ترامى قبل قليل من جهة الرواق، القصية، كانَ مُنبعثاً من هذه المَسرجة، التي شاءتْ اقتحامَ عتمَة المكان. في الآونة الأخيرة، فكّرتُ بكرَب، تزايَد عدد المرات التي دأبَ فيها الآمر الفظ على تفقد المكان هذا، المَشغول من قبل حفنة سجناء، مُوصّى بهم على الأرجح من لدُن القبجي؛ القائم بمقام الحاكم.
" إنه يأتي لداع واحد، وحيد؛ لطالما أبدى هوَ اهتماماً فيه "، قلتُ في نفسي وأنا أتابعُ الرجلَ في انشغاله بمُعالجة قفل باب المَحبَس. فما أن رفعتُ رأسي، حتى حدّدَ نورُ المسرجة سُبُحات الوجه الغليظ، المُنتمي لكوابيس المَنام واليقظة على السواء. ولكن، ما حالُ هذا الطاغيَة، المُتفرّد في جولة تفقده بلا حارس أو مُرافق؟

" إنّ نواصي نجاتكَ، يا هذا، ما فتأتْ مَشدودة إلى يَدَيْ "
خاطبني زينيل آغا هَمساً، مُجيباً على سؤال سرّي، فيما كانَ يَضعُ المسرجة في كوة الحائط. إذاك، كانَ ما يزال يقبض، عَرَضاً، على كفي الأيمَن؛ الذي طالما كانَ مُباركاً بخاتم مولانا، القدسيّ. من جهتي، طفقتُ ساكتاً عن الجواب، مُنجذباً بالمُقابل إلى البارق ذاك، الساعي خلل عينيْ الآمر النديتيْن، الصفراويتين، الشبيهتين بعينيْ نمر. " عليكَ أن تتبعني حالاً، ودونما أيّ مُساءلة "، خاطبني مُجدداً بالنبرَة ذاتها، الجامعَة بين الوعد والوعيد. حيرتي، لم تدُم في الواقع أكثرَ من لحظات حَسْب؛ لحظات، يَستغرقها عادة ً تحريرُ جسَد أضنكهُ القيدُ ومُتعلقاته الحديدية، الصَدئة.
" هلمّ بنا، الآنَ.. "، استطرَدَ الطاغيَة وقد استبدّ في عينيْه، الوَحشيتيْن، تعبيرٌ من الجَشع والصفاقة. إنها المرة الأولى، مذ اعتقالي، التي يُتاح لي فيها المَسير إلى مَسافة أبعدَ من حفرَة الغائط، القذرة دوماً، والمركونة على بعد خطوات من موقفي. فلا غروَ أني رُحتُ عندئذ أتحرّكُ بصعوبَة بالغة، شاعراً بألم شديد في ظهري وحوضي وقدَميّ. ولدَهشتي، فإنّ الآمر المُتبختر بخيلاء، ما عتمَ أن عَمَدَ إلى إعانة خطوي المُتثاقل، المُترنح. حتى رأيتنا نجتازُ ذلك الرواق المنحوس، الشبيه بالقبر، فنمرّ عبرَ بابه الحديديّ، المُنفرج الصفق، إلى مَجهلة ممرّ آخر، عتم بدَوره، ما لبثت معالمه أن أضحت مَيسورة بفضل قبس نور المسرجة. " ثمة ملابس لك، مُناسبَة، في حجرة الحارس "، قالها زينيل آغا وهوَ يومأ نحوَ الجهة المطلوبة. في واقع الحال، فما كانَ لي قبلاً قسمَة التمتع بمُعايَنة المكان الكابوس، ما دام الحراس كانوا قد اقتادوني في يوم الاعتقال معصوبَ العينيْن.

المقدور، المُجيز لي الارتقاء صُعداً في المَراتب والمَزايا؛ هوَ ذاته من تواطأ على حَشري مع ثلة الشيطان. كنتُ مَخدوعاً، ولا رَيب، حينما أوحى إليّ آمرُ القلعة بأن أمرَ الاستجواب لا يَعدو عن كونه إجراء شكليّ، بَحْت. أما القاروط، فإنّ سحْرَ بَرْطيله أو ربما وظيفته، كانَ بمثابة حجاب درأ عنه رحلة العذاب والهوان هذه، غير المعروفة نهايتها. ولقد تعهّد الآمرُ لآغا يقيني ـ رئيسه السابق ـ بأن يَتعاملَ معي بكلّ احترام وأن يُعيدني للقصر بأسرع ما يُمكن من وقت.
ولكنّ زينيل آغا، الأرعن، أفصحَ بلا مواربَة عن مُراده، ما أن توقفت الكروسة قدّام مَدخل القلعة: " إنكَ ، يا آغا، ستكونُ ثالث المَقبوض عليهم في قضية الجرائم تلك، المَعلومة "، توجّه نحوي بالقول وعلى سحنته أمارات الشرّ. كلماته المنذرة، بدَتْ كأنما فحيحُ أفعوان، صادرٌ عن ذلك الجُحْر الحجريّ، الذي ما لبثتُ أن دُفعتُ فيه بمَعونة من بعض الحراس، المُتواجدين هناك. ولم أدر حقيقة ما يُراد مني، سوى في اليوم التالي على الأثر. إذ جاءني عندئذ أحد أولئك الحراس، ليقودني من حجرة الحجز، المؤقتة.
" تفضلوا سَعادتكم من هنا "، قال لي الحارسُ بأدب فيما كانَ يتقدّمني عبرَ أحد الممرات ، المُنتهيَة بباب واطيء. فما هيَ إلا هنيهة، ووَجدتني في قاعة واسعة، قديمة العمارة ومُتجددة بالمُقابل في تلبيسها وزخرفتها وترصيعها. ثمة ديوان عظيم في صدر القاعة، بدا شبيهاً بعرش الملوك ارتفاعاً وصنعة ومادّة. هناك، كانَ يجلسُ رجلٌ متوسّط العمر، مُكتس بزيّ موظفي الآستانة العليّة: " إنه قبجي مولانا السلطان.. "، قلتُ في نفسي. علاماتُ الغيظ والاستياء، كانت مُنطبعَة على ملامح الرجل، المُنفرة ـ كما جازَ لي قراءتها آنئذ.
وعلى أيّ حال، فإنّ القبجي تكرّم أخيراً بالتطلع نحوي ليخاطبني بلهجة مُنذرة: " إنّ ذنباً واحداً، من ذنوبكَ العديدة، كاف للحكم بقطع عنقكَ "،. ثمّ أردَفَ من فوره " لقد تجرأتَ، يا هذا، على انتحال شخصيّة المرحوم، ممثل مولانا السلطان المُعظم. وبعد ذلكَ تمادَيتَ في الخيانة، حدّ التواطؤ مع أعداء الباب العالي. فكانت تلك السفارات، المَعلومة، إلى جبل لبنان ومصر، والمُنتهيَة بتعيينكَ وكيلاً لمحمد علي باشا، المارق، في الولاية الشامية ". لقد صدَقَ، إذاً، حَدَسي. إنّ اعتقالي هنا، في حقيقته، مُتواشجٌ مع الأمور تلك، التي اعتبرها القبجي ذنوباً تستوجبُ القتلَ. وكنتُ أهمّ بالكلام، بغيَة دفع التهم عني، عندما أشارَ القبجي بيَده للحارس ساخطاً، آمراً إياه بإعادتي لحجرة الحجز.

هكذا مَكثتُ فترة طويلة، أو قصيرة ربما، في ذلكَ القبر الرّطب، المُظلم. وكنتُ أثناءها أمتارُ الفضلات طعاماً والصّديد الآسن شراباً: إنّ الآمرَ، الأرعن، كانَ إذاً قد داسَ ببساطة على وَعده لآغا الأورطات، وعليه كانَ أن يُسدّدَ ثمن فعلته، لاحقاً. بيْدَ أنّ هذا، على كلّ حال، حديث آخر.
فإني كنتُ ما أفتأ ثمة، في القلعة؛ في أحد ممرّاتها الضيّقة، الواطئة السقف، أتبعُ خطى زينيل آغا نحوَ حجرة الحارس. فما أن أطعته، وأنهيتُ ارتداء الملابس تلك، حتى قالَ لي بلهجة جذلة مُتماهيَة بالتهكّم: " إنّ القماش هذا، المَنذور للترَف، ربما ساءهُ التماس بجلد كانَ قد اشتغل على مُهاوَشته حشراتً ذلكَ المَحشر "
" حسنٌ. لقد غادَرنا المَحشر ذاكَ؛ فإلى أين ستنتهي خطانا؟ "، أجزتُ لنفسي جُرأة مُساءلة الآمر. إنّ اختزالَ جُملتي ألقابَ الآغا، ربما كانت السبب في أن يُظهرَ الحارسُ، المُتسمّر هناك أمام الباب، علامات الجَزع والرُهبَة. إلا أنّ الآمرَ، وبالرغم من تكشيرة سحنته، أجابني دونما تأثر: " إنّ الأمرَ بيدكَ، يا صاحبَ المَقام. بإمكانكَ التمتع بالحريّة، أو الاستضافة في المَجمر ذاك؛ أينَ كانَ كلّ من المَملوكيْن، المُتهميْن، قد حلّ فيه مؤخراً ". إنّ تشديد جُملة الرجل على الفعل الماضي، كانَ عليه أن يثيرَ قلقي وهواجسي.
" هل جدّ شيءٌ ما، خطر، على وَضع الشابَيْن، المسكينيْن؟ "، تساءلتُ في سرّي مُرتاعاً. وكأنما قرأ الأرعنُ ما جالَ في خاطري، فإنه ما عتمَ أن استأنفَ القولَ: " لا تشغلنّ نفسكَ سوى بخلاصها. وإذاً، فبعدما مُوّهتَ جيّداً بزيّ جماعة القلعة، فما عليكَ الآنَ سوى الإنصات إليّ بانتباه وحرص ". ثمّ التفتَ نحوَ الحارس، ليأمرَه بتركنا لوحدنا. إلا أنه، فجأة، عادَ واستوقفهُ: " أعتقدُ أنّ لدى الآغا الفضولُ، ولا غرو، لكي يرى حال صاحبيْه، المَملوكيْن. فعليكَ أن ترافقه إلى الجبّ، وأن تعيده إليّ من ثمّ وهوَ في مزاج جيّد "، قالها بالنبرَة ذاتها، الساخرة. إنّ مفردة " الجبّ "، في قاموس أهل القلعة، تعني تحديداً زنزانة السّجن، المُنفردة، والتي عادة ً ما تكونُ ضيّقة للغايَة وبالكاد تتسعُ لمقام رجل واحد. بيْدَ أني ما كنتُ لأظنّ أنّ الله ـ أستغفرهُ تعالى ـ ليَسمحَ لآيَة إرادَته أن تعكسَ إلى مُنقلب بيّن؛ يكونُ فيه الشيطانُ هوَ الراجمُ، في مُزدلفة بينَ الأولى والآخرة.

لوَهلة، لم أتعرّفَ على المَخلوقيْن، المَمسوخيْن، الذيْن طالعاني خلل شذرات نور المَشعل، المُتراقصة على لحن الأنين والشجن والشكوى. كانَ كلّ من المَملوكيْن، التعسَيْن، مُنطوياً على أعضائه العاريَة، المَدميّة والمُشوّهة، مُتهالكاً إلى أسفل بفعل ثقل القيود الحديديّة، الضخمة، المُثبّتة بجدار الجبّ. رائحة شواء اللحم، المُقيتة، كانت ما تفتأ مُلتصقة بجوّ المكان ؛ اللحم البشريّ، المَهدور على يَد زبانية البرزخ السفليّ هذا. إنّ نظرة واحدة، خاطفة، على أدوات العذاب المُتوافرة هنا، لتجعلَ المكان جديراً بكونه بديلاً، أرضياً، لجهنم السماء المَوعودة. ثمة مَجمر مَعدنيّ، كبير الحجم، تمّ رفعه على قوائم أربع، وقد نضدّتْ فوقه الكاشات الحديديّة، المُستخدمَة في سوط الأعضاء البشرية وقرضها وتقطيع أوصالها.
إنّ نظرة أخرى، مليّة، على مَشهد المَملوكيْن، الفظيع، كاف أيضاً لإدراك سبب كون المَجمر في خمود و دعَة. إلا أني تمالكتُ زمام مَشاعري، طالما أنّ الحارسَ حاضرٌ هنا فوق رأسي: إنه مُكلفٌ، ولا رَيب، بنقل كلّ ما يَراه إلى سيّده ذاك، الأرعن؛ الذي استنيب به، على ما يَبدو، مُهمّة زبانيَة الجحيم.
" أهلاً بالآغا العطار؛ صاحب الكرامات والرؤى "، خاطبني المَملوكُ الصقليّ بصوت واهن، مُتماه برنة التهكم المُعتادة. ثمّ ما عتمَ أن أضافَ، مُتسائلاً " هل أرسلكَ ذلكَ الزورباشي، الوَحش، لكي تحاول أنتَ ما عجَزتْ عنه آلات العذاب هذه؟ ". تطلعتُ إليه في أسى ورثاء، قبل أن أجيبه: " لا، يا صديقي المسكين. إني بدَوري سجينٌ في القلعة، ولنفس القضيّة المَشئومة "
" لا أعتقدُ، يا سيّدي، أنكَ من السذاجَة لكي تصدّقَ أنّ قضيّة الجرائم تلك، هيَ سببَ وجودنا هنا والمُتصل بعذاب لا يُوصف على مدار الساعة "، قالها الصقليّ وهوَ ينتفضُ تأثراً. نفس الفكرة، التي باحَ بها التعس، كنتُ قد نقشتها في ذهني مذ لحظة وقوعي بيَد الزبانيَة. ولكنني كنتُ على حيرَة، فيما يخصّ أمر مكاشفة المَملوك قدّام الحارس، الحاضر هنا: فإنّ هذا، كونه مأموراً بسوقي ثانيَة ً إلى سيّده، لن يقبلَ أن يطولَ وقتُ المُقابلة المُبتسَر، المُحدّد. على ذلك، رأيتُ أنه من الأجدى أن أحثّ المَملوك على التكلّم باختزال ومُواربَة في آن.

" إنّ الزورباشي آغا، لعلمكَ أيّها المسكين، قد عامَلني بكلّ احترام ولباقة "
بدأتُ أقولُ للمَملوك، وفي نيّتي صَرف انتباه الحارس عن مَوضوع المُحادَثة، ريثما تنتهي إلى نتيجة ما، مَرجوّة. ثمّ أضفتُ قائلاً " ولو أنكَ، وصاحبَك الروميّ هذا ، قد تكلّمتما بكلّ ما تعرفانه عن القضيّة، لما لحقَ بكما أيّ أذى أو مَهانة ". وكنتُ في سبيل إتمام كلامي، حينما رفعَ المَملوك ذاك، الروميّ، رأسه من غياهب الغيبوبَة، ليهتفَ بنبرَة يائسَة: " لستُ مَلولاً، يا سيّدي، في شيء من كلّ القضيَة هذه، التي حُجزتُ بسببها. لقد كنتُ مأموراً، على كلّ حال، ولم أكُ أملكُ حريّة القرار والحرَكة. أقولُ ذلكَ، وأنا أعلمُ بأني على قاب خطوة من لقاء سيّد الكون؛ الذي اختبرَ بنفسه ألوانَ الظلم والعذاب والجحود ". إنّ إنهاءَ الروميّ كلمته، الأخيرة، بتكرار اعتقاد النصارى بماهيّة شخص المسيح عليه السلام؛ هذا التكرار، رأيتُ فيه إصراراً منه على اختتام حياته مؤمناً بعقيدة ملّته، الأولى. بيْدَ أني، من جهة أخرى، كنتُ مُهتماً أكثرَ بما صرّحَ به البائس عن كونه " مأموراً " فيما يَتعلق بمَجرى قضيّة الجرائم تلك، المُتهم بها مع رفيقه الصقليّ. هذا الأخير، لحُسن الحظ، بادرَ على الأثر للتعقيب على كلمة الروميّ مُتوجّهاً إليه بالقول: " إنّ صاحبَكَ، سيّد الكون، هوَ من سَمَحَ لسيّدكَ، الزعيم، برَميكَ هنا في هذا المَجمر الجهنميّ ـ كقربان للذنوب التي اقترفها وأهل بيته "، ندّتْ عنه بنبرَة السخريَة، المألوفة في نطقه. إنها إشارة أولى، على جانب عظيم من الأهمّية. فلنرَ ما إذا كنتُ سأحظى بما يُماثلها من إشارات، فيما تبقى من الوقت القليل.
" فلمَ لمْ تخبّرَ الزورباشي آغا، إذاً، بكلّ ما تعرفه عن تورّط الزعيم وأهله في القضيّة؟ "، توجّهتُ للصقليّ بمُساءلتي حاثاً إياهُ على البَوح بالسرّ، المَطلوب. إنّ كلمتي، كما قدّرتُ، استفزتْ المَملوك لدَرجة إطلاق هأهأة مَديدة، مُستهترة. ثمّ ما لبثَ أن التفتَ نحوي، مُجيباً برَصانة: " مَرحى، يا آغا. وكأنكَ تتجاهل ما سَبقَ وأكدته قبل قليل؛ من أنّ قضيّة الجرائم، المَعلومة، هيَ آخر ما يَهمّ الزورباشي الوَحش. إنه يَسعى، مثل الآخرين الذين نعرفهم أنا وأنتَ، إلى امتلاك دليل الكنوز ذاك؛ المَنعوت بكناش الشيخ البرزنجي ". فما أن نطقَ المُفردات الأخيرة من جُملته، حتى تهيأ لي أنّ أذنيْ الحارس قد تحركتا خفيَةً ً، ساعيَة ً رويداً إلى التشنيف. هذه الحرَكة، رأيتُ فيها نوعاً من المُواطأة، المُناسبة. إذاك، قلتُ للصقليّ مؤمّلاً إياهُ بفرصة نجاة: " أعلمُ يا صديقي، يَقيناً، أنكَ أنتَ من استلّ الورقة تلك، من حزمة الأوراق المُنتزعة من الكناش. إنها الورقة المؤشرَة لمكان الكنز؛ أو ربما المُحتويَة على مخطط يؤدي للعثور على الكنز "
" ورقة مَسروقة من أوراق سُرقت من كناش مَسروق بدَوره: أهيَ أحجيَة هذه، يا آغا؟ "، قالَ لي الصقليّ مُتهكّماً بمرارة. عندئذ توجّهتُ إليه بمُساءلة، جديدة: " وكيفَ عرفتَ أنّ الورقة مَسروقة، وليسَت مًستلّة اعتباطاً، مثلاً، من الأوراق تلك؟ "
" ما من داع للإخبات، يا سيّدي. وعلى أيّ حال، فحتى لو كنتُ من سرَقَ حزمة الأوراق وأخفاها طيّ الرقّ، فإنّ ذلكَ لن يَنفعني في شيء، بَعْدُ ". حينما فاهَ الصقليّ، أخيراً، بمكمن ورقة الكنز، فإني استللتُ نظرة ً خاطفة من سحنة الحارس: كانَ الرجلُ، حتى تلك اللحظة، مُتململاً بشكل ظاهر، يتثاءبُ بين فينة وأخرى مُبدياً سأمه من الحديث المُتطاول، المُتخم بالمعميّات والألغاز.
نعم. لقد أعطاني الصقليّ، كما آملُ، ورقة النجاة التي سأساومُ عليها ذلك الزورباشي، الأرعن. إنّ دقات قلبي، المُتواترة الخفق بشدّة، كانَ من الممكن لوقعها عندئذ أن يَوقظ الجنّ من سباتهم؛ همُ القائمون على حراسَة مملكتهم السفليّة، القائمة تحتَ هذا المكان المُريع، المَنذور للزبانيَة والضحايا سواءً بسواء.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس : مَجمر 9
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 10