أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3049 - 2010 / 6 / 30 - 16:35
المحور: الادب والفن
    


إغفاءتي المُبتسَرَة ، المُضطربَة الحُلم ، اوقِظتْ على هديل الحَمام ، المُتناهي ترتيله من الأبراج المُشيّدة على سطح الدور الأعلى للقصر . إنّ هؤلاء المصريين ، فكرتُ دونما نيّةٍ سيئة، مُغرَمونَ بتدجين شتى أنواع الطيور ، الصالحة للأكل ؛ حتى لو كانَ لحمها من الندرَة والشحّ ـ كما في الفصيلة اليماميّة ، المَبخوسَة الفأل : هذه الفكرة، إذاً، طرأتْ لذهني في ذلكَ الفجر الفجّ ؛ المُعقب سَهرة ً أنيسَة من تلك السهرات المُتواترة ، التي دأبَ مُضيفنا على الإحتفاء بها في بيته الكبير ، المُعتبر.
مُرهقاً مما تنزّه عن سَهرة الأمس، تناهضتُ مُتمطياً بكسل عريق ، مُزيحاً عني الملاءات الحريرية ، المُوافقة نصاعتها تلبيسَ السرير، الفضيّ ، علاوة ً على طغرائه المَشغولة من المَعدن عينه والمُصوِّرَة شكلَ الجعران . حينما أزحتُ السَدائفَ السميكة ، المُدبّجَة ، المُنسَدِلة على نافذة الحجرَة ، فإنّ عينيّ أعشيتا بنور مُبهر ، مُتسلط عبْرَ الزجاج الملوّن. كانَ حلقي جافاً، تأثراً بالصَهباء الناريّة، المُتكرّم بأقداحها مُضيفنا خلل الأمسية المُنقضية. على ذلك، فإنّ الحركة التالية ليَدي، كانت مُتجهَة ولا غرو نحوَ الخوان القريب، الموضوع فوقه إبريق الماء العذب.
" آه، ذلك الخنجر اللعين.. "، هتفَ سرّي مُشوّشاً ومُرتبكاً. كنتُ عندئذٍ ساهِماً التقط شواردَ نقوش الجدار المُقابل، حينما حط بصري على قطع الأسلحة، المَنذورَة للزينة، والمُتدلّية ثمة بوساطة سلاسلها المُذهّبَة أو المُفضضة. نعم. لقد شاءَ أحدُ القطع تلك، المَعلومة، أن يُذكّرني بسميّه ذاك ؛ الذي سبَقَ أن عثرتُ عليه، بمَعيّة الدكتور ميخائيل، هناك قربَ مَخرَج المَمرّ السرّي، المُتصل بمنزل الزعيم. اسمُ هذا الأخير، كانَ مَنقوشاً بأحرف عربية، بيّنة، على مَقبض الخنجر، المَصنوع من مادّة العاج، النادرة. إذاك، لم يكن مني سوى التعجيل بلقاء صاحِبهِ، بغيَة الاستفهام منه، شخصياً ،عن جليّة الأمر المُحيّر، المُلغز. وها أنا ذا، هنا، في قصر القاروط، أستعيدُ ما كانَ قد جرى قبل يومَيْن، ثمة في دار عبد الطيف أفندي ؛ أين كانَ يُقيم صهرُهُ وحفيدتهُ بشكل مؤقت : في واقع الحال، فإنّ شمس أيضاً كانت مَدعوّة للإقامة هناك، وربما تحت ضغط إلحاح صديقتها العنيدة، نرجس.

كانَ الشاملي، وبمَحض المُصادفة، هوَ أوّل من وقعَتْ عيني عليه ثمة، قدّام بوابة المنزل، المُنيفة. ويبدو أنه انتهزَ سانحَة انحسار شمس الهاجرة، للمُبادرَة بسقي أحواض الأزاهير، القائمة عند ذلك المدخل، والمُتوّجَة بمليكتها ؛ زهرة القرطاسيا. شتلات هذه الأخيرة، القصيرة القامَة، كانت تحتمي بشجيرات الدفلى ، الحارسة. وحقّ للدفلى تلك الصّفة ؛ هيَ من تتسامقُ بأغصان دقيقة على طرَفيْ درَج باب المنزل، الرئيس، مُشرعَة ً رماحَ المَنظر الفريد لأوراقها الخضر، الداكنة، وأزاهيرها المونقة، الزاهيَة الألوان. عمودا الدرَج الرخاميان ، المُتوّجان بدورهما على النمط الصقليّ ، كانا مُتلازميْن بعموديْن آخرَيْن ، نباتييْن ؛ وأعني بهما النخلتيْن العملاقتيْن، اللتيْن يحملُ كلّ منهما عناقيد البلح، غير الناضجَة بعدُ.
" سعيدٌ برؤيتكَ عندنا، يا آغا "، خاطبني الزعيمُ بلهجة ودّية. مَلمحُ الدهشَة على قسماته، كانَ قد اُشفِعَ بابتسامَةٍ عَريضة، ما كانَ لها إلا أن تثير امتعاضي، الخفيّ : " إنه يعتقدُ، على الأرجح، إني أحملُ له خبَراً ما، جديداً، من طرَف القاروط "، قلتُ في نفسي. بيْدَ أنّ شعوري هذا، المَوصوف، سرعانَ ما تبدّدَ حينما تفكّرتُ بسبب زيارتي لمنزل حمي الزعيم.
" ها هيَ همّتكَ، يا سيّدي، ما فتأتْ موطوءة ً بشغفِ العناية بالجنائن "، أجبتُ تحيّة كبير الأعيان متبسّماً بدوري . فقالَ لي مُلاحِظاً : " إننا نردّدُ، يومياً، في الدَعوَة للصلاة، هذه الجُملة البليغة " حيا على الفلاح ". كذلكَ، فإنّ مُفردَة " الجنينة " ، بالعربية ، مُشتقة من مصدَر " الجنّة " ـ كما عَلِمتُ مرّة ً من أحد العارفين باللغة "
" أما مُفردة " الجنّ " ـ بحَسَب ما أفادَني به مُعلّمي الفارسيّ ـ فإنها دخيلة على العربيّة ؛ وأصلها مفردة أعجميّة " جان " ؛ وتعني " الروح " : وعلى ذلك ، يُدرك المرءُ مغزى أن تكونَ ثمة أرواحٌ شريرة وأخرى خيّرة ، في اعتقادنا نحنُ جماعة المسلمين "، أوضحتُ لمُحدّثي. عندئذٍ أشارَ هوَ إلى ناحيَة الحَوض، الأقرب إلى موقفنا، قائلاً : " إنّ أسماءَ الزهور العربيّة، مُعظمها أعجَميّ المَصدر، أيضاً. فالعَرَبُ كانوا بُداة ، وأهلَ بجدَة رعيَ الإبل ، بدرجة أساسيّة ". إذاك ، خطرَ لي تلقائياً عَبَثُ تعريب اسم " شمس " ، الأصليّ ( روشين ) ، فيما أنّ ابنتيْ الزعيم نفسه ؛ موسومٌ كلّ منهما باسم زهرة من أبدال لغاتِ العَجَم : هذه الفكرَة، العابرَة، كانتْ سبيلي إلى المَضيّ قدُمَاً في الحديث مع كبير المجلس ؛ ما دامَ ذِكرُ تلكَ المُدرّسَة، السابقة، قد ذكّرني بذلك العشّاب، العجوز؛ الذي وقعَ صريع طعنات خنجر قاتل ٍ، مَجهول.

كانَ مُحدّثي يتأمّلُ زهرَة قنديل، مَزهوّة بقمْعِها الليلكيّ اللون، حينما سألته بنبرَة بريئةٍ : " لا بدّ أنكَ تحنّ إلى تلك الحديقة، الحافلة، التي خلّفتها وراءكَ ثمة ؛ في مدرسة الحديث البرّانية ؟ ". تطلعَ إليّ الزعيمُ بنظرةٍ خاطفة، قبل أن يُجيبَ باقتضاب وبشيء من الفتور : " أجل، ولا شك ". ثمّ ما لبثَ أن أضافَ " ربما نزورها بمعيّتكَ، لو شئتَ يا آغا، لكي نشكر كبيرَة الحافظات، الكريمة والشهمَة "
" بكلّ سرور، يا سيّدي "
" ولعلّه الحنينُ ؛ هوَ ما دَفعَكَ للعودة إلى منزلي في القنوات، المُدمّر والمَهجور ؟ "، ندّتْ عن مُحدّثي بلهجةٍ مُظهَّرَةٍ بالشجَن. وحينما شدّدتُ على الظاهر، في جُملة الرجل، فلأني لحَظتُ أنها تتبطنُ الاهتمامَ، والتوجّسَ ربما. بيْدَ أني كنتُ مَحظوظاً بسؤاله، حقا : إذ وفرَ عليّ جُهدَ تحيّن سانِحَةٍ، مُناسِبَة، لكي ألِج في الموضوع الخطِر، المُستطير، الذي رأيتني مُهتمّاً به بشدّة، مُجدّداً.
" أيها الكبيرُ، إنّ الشامَ كلّها منزلكَ ؛ بأحيائها وحواريها وأسواقِها وأسوارها وأبوابها وأرباضِها "، قلتُ للرجل بنبرَة صادِقة وعلى الرغم من ظنوني، المُجرّدَة، باحتمال تورّطه، بشكل ما، بمَصرع الوصيفِ.
تأثرُه بكلمتي كانَ جلياً، ولا غرو. إلا أنه لم يَنبُس شيئاً، اللهمّ سوى حرَكة من رأسِهِ، مُفصِحَة عن ألمِهِ الكبير. إنّ نفسه، فكرتُ، مُهيأة الآنَ للبوح ؛ طالما أنّ مَعدَنَ عقله، الصّلب، ما زالَ بدورهِ حامياً بفعل الذكرى. من جهته، فإنّ مُحدّثي بذكائه وفطنتِهِ حَدَسَ أنّ موضوعاً ما، على جانبٍ من الأهمية، عالقٌ على طرَف لساني. فما كانَ منه، مُشيراً بيده، إلا دَعوَتي للجلوس على كرسيّ خشبيّ، مَجدول بالقنب. فلما قعَدَ بدوره في مواجهتي، أضحى فضولهُ بيّناً. ولكنني، مُتحفظاً من امكانيّة سوء الفهم، فضلتُ أن اُشرع بصَري أولاً باتجاه ما يُحيطني من مناظر الجنينة هذه، الأماميّة، المُغرّد في أرجائها ألفُ طائر من طيور الجنّة.

" إنّ الجرائمَ، المُدبّرَة، شفعَتْ وجودي في منزلكم، العامِر، كما في دار الحديث تلك، على السواء "
بدأتُ أقولُ للزعيم، مُنتقياً كلماتي بدقة، مُضيفاً من ثمّ " قد لا تتفقُ أنتَ معي في حقيقة، أنّ ثمة رابطاً يَجمَعُ بين تلك الجرائم ؛ خصوصاً، ما يَخصّ تسميم المرحوم قوّاص آغا ". فأجابني الرجلُ إثرَ هنيهة من التفكير : " كانَ ذلك الرأيُ مَشروعاً، حينما تعلّقَ الأمرُ بدسّ السمّ للمرحوم آغا أميني ؛ بما أنه أدى إلى انفجار الخلاف في مَجلس العمومية وتمرّد القول علينا. أما ما جرى فيما بعد، فإنه أمرٌ مُختلفٌ تماماً : فمن له مَصلحة، بالله عليكَ، بالتخلّص من آمر عسكريّ، سابق، أو من عشّابٍ عجوز ؟ "
" أنتَ قلتها بنفسك، يا سيّدي . أعني، أنكَ وَسَمْتَ ذلك بالجريمة؛ ما دامَ الفاعلُ كانَ يبغي التخلّص من الرَجليْن "
" صحيح، ولكنّ هذا لا يَعني أنّ دافعَ القتل، هنا وهناك، كانَ واحداً. وبالتالي، فليسَ ثمّة ما يُبرّر الاعتقاد بأنّ مقتلَ العشّاب، مثلاً، تمّ على يَد القاتل ذاته؛ الذي صَرَعَ وصيفي "
" اسمح لي، أيها الزعيم، بمُخالفتكَ في الرأي هنا، في هذه النقطة. فحينما يكون موتُ قوّاص آغا قد تمّ بالسمّ، كما تبيّن قطعاً، فعلينا أن نربُط ذلك بمصرَع العشّاب؛ هوَ من كانَ يَحتفظ ببعض أنواع السموم، المُركّبَة، بُغيَة استخدامها في عَمَلِهِ "، قلتها وأنا أحدّقُ مَلياً في ملامح مُحدّثي. وكانَ هذا، مثلما أفصَحَتْ عنه ملامحِهِ، قد بدأ يتأثر بما قدّمته من برهان. على ذلك، فما عتمَ أن تململَ في جلسته، ليُبادرني بعدئذٍ بالقول : " إذا كنتُ قد فهمت كلامكَ، حقا، بشكل صائبٍ؛ فإنكَ تبغي البرهنة على أنّ المُتورّط بتلك الجرائم، العديدة، هوَ أحدُ أفراد بيتي. وأنّ ذلك القاتل، المُفترَض، كانَ خالي اليَد من مادّة السمّ، عندما حَضرَ إلى مدرسة الحديث ـ بحَسَب رأيكَ، طبعاً. فما كانَ منه، إذاً، إلا مُحاولة تدبّرَ المادة من حجرة العشّاب العجوز. حتى إذا أحسّ هذا به، فإنّ القاتلَ تخلّصَ منه بطعنة خنجر. أليسَ كذلك ؟ "
" أجل، ولكن بشكل جزئي. فأنا لم اسَمِّ أحداً من أهل بيتكم، المُحترمين، بكونهِ القاتل، المُحتمَل. وعلى كلّ حال، فإنّ تسميمَ آمرَيْ الانكشاريّة، السابقيْن، قد تمّ كلّ منهما بحضور أركان المجلس وآخرين، أيضاً "
" سأفترض معكَ، جَدَلاً، أنّ ثمة علاقة بينَ مَصرَع العشّاب ذاك، العجوز، وبين دسّ السمّ للمرحوم قوّاص آغا. فماذا عن مَصرَع وصيفي نفسه؛ أنتَ من وعَدَني، قبلاً، بكشفِ ملابساتِهِ سَعياً لرأب الصّدع مع وجاق القول ؟ ". إذاك، كانت اللحظة سانحَة، كما قدّرتُ، لكي أمدّ يَدي إلى الحزام الجلديّ، الذي يَشدّ سروالي .

" إنّ وصيفكَ، يا سيّدي، صُرعَ بهذا الخنجر "
خاطبتُ الزعيمَ بهدوء ودونما انفعال، فيما كنتُ أعرضُ على ناظرهِ تلك الأداة، القاتلة. فما أن وقعَ بَصَرُ مُحدّثي على الخنجر، حتى تغيّرَ لونهُ بشكل واضح ٍ، لا لِبْسَ فيه . فبادرَ بحَرَكة مُسَرْنم ٍ، غائبَة، إلى تناول غرَضِهِ من يَدي، ليَعمُدَ من ثمّ إلى تفحّصِهِ عن قرب. عند ذلك، كانَ الصّمتُ المُتواطيء، المُريب، قد بدأ يَسعى حثيثا إلى مَجلسِنا. من جهتي، حدّتُ ببصَري عن سِحنة الزعيم، كيلا أضافر من حَرَج الموقف. عندئذٍ أيضاً، تنبّهتُ إلى فداحَة تصرّفي غير اللائق؛ عندما لم أطلبَ اعلام مُضيفنا، عبد اللطيف أفندي، بحضوري إلى منزله : إذ تناهى لسَمَعي وقعُ خطواتٍ، خافِتٍ، على الأرضيّة الحجريّة، الضيّقة، التي تفصِلُ بين حَوضيْ الحديقة الأماميّة هذه، الرئيسَيْن.
" أهلاً وسهلاً ، يا آغا "، حيّاني الأفندي بلطفه المأثور، المُتواشِج باسمِهِ. وبعدما استلّ لمحَة ً من الخنجر، الموضوع على المنضدة الصغيرة، فإن بَصَرَهُ المُتنقِلُ بينَ ضيفيْه ما عَتمَ أن راحَ يُشكّلُ علامَة استفهام ٍ، بيّنة. من ناحيتي، كنتُ سعيداً بحضور الأفندي، ومُتأملاً بالتالي أن يُشاركنا في حمل وزر هذه المعضلة، بما عُرفَ عنه من عقل كبير، مُتنوّر. وإذا كنتُ قد جَمَعتُ آنفا فعلَ " يُشارك "، فلأنه لم يكُ لديّ شكّ وقتئذٍ ببراءة الزعيم ؛ وأنه ليسَ ذاكَ الشخص الساذج، الذي يَرمي أرضاً أداة قتل، مُفترَضة، مَنقوشاً على قبضتها اسمُ وجاهتِهِ، المَعروف. مُدركاً ، بطبيعة الحال، أنّ الزعيمَ قد سبقَ وأفضى لحَميه بتفاصيل وافيَة عن الأمر، فإني توجّهتُ لهذا الأخير قائلاً : " لنا الشرف، يا سيّدي. واعذرني ما لو أهملتُ واجبَ إعلامكم بمجيئي. فالحقيقة، أنّ ذهني كانَ مَشغولاً مذ لحظة وصولي لداركم، العامِرَة ". فما أن قلتُ ذلك، حتى بادرَ الأفندي إلى رفع الخنجر إلى مستوى عينيه، ثمّ أخذ يَتفحّصَهُ باهتمام. وعلّقَ الصهرُ على كلامي، فيما كانَ وجهُهُ ما فتأ مُكفهراً : " إنه أحَدُ قطع الأسلحة، التي أملكها، والتي يَحمِلُ كلّ منها العلامة عينها : نقشُ لقبي ". قالها، وما لبثَ أن أشفعَ ذلكَ بمدّ يَدِهِ إلى وَسَطِهِ، ليُخرجَ خنجرَهُ، الشخصيّ. مُحرَجاً بشدّة، تناولتُ السلاحَ من يَد الزعيم ، لأقرأ من ثمّ النقشَ المَحفور على قبضتِهِ الخشبيّة، المُلبّسَة بالجوهر الثمين.

هكذا، عَرَضتُ على الحاضرَيْن موجَزاً عن واقعَة اكتشافِ الخنجر ، حاذفاً منها ولا غرو أيّ تلميح ٍ عن النقش ذاك ؛ الذي يُصوّر الذكر المُصنّع، والمَحفور بدورهِ على جذع التينة القائمَة قربَ مَخرج المَمرّ. غبَّ فراغي من الكلام، التفتَ الأفندي نحوَ صهره مُتسائلاً : " ألم تؤكّدَ لي، ذاتَ يوم، أنّ مفتاحَيْ بابَيْ الممرّ ذاك، السرّي، كانا نسختيْن عن الأصل، حينما عثرتَ أنتَ عليهما قربَ جثة وصيفكَ ؟ ". ولمّا اكتفى الزعيمُ بايماءةٍ من رأسِهِ، مُوافقة، فإنّ حَميه أردفَ من فورهِ : " فأنا أفترضُ، إذاً، أنّ أحدهم قد استعملَ النسخة الأصل من المفاتيح تلك، حتى يتمكنَ من النجاة بنفسِهِ في وقت الواقعة، المَعلومَة ؛ حينما دَهَمَ أفرادُ الأورطات منزلكم ". فرضيّة الأفندي، كنتُ قد نقشتها في ذهني قبلاً، بصَبر ورويّةٍ. فلا ريبَ أني شعرتُ بالفرح لأنّ ذهناً مُتوقداً بالذكاء، يُشاركني الآنَ في الاستنتاج نفسه.
" بهذه الحالة، يَجوزُ لنا الافتراض بأنّ قتلَ الوصيف كانَ مُدبّراً. أيْ أنّ من استعملَ المفاتيحَ تلك، الأصلية، هوَ من تخلّصَ من الرجل حينما التقى به، اتفاقا، قربَ باب الممرّ، خشية َ أن يَفضحَ أمره "، واصلَ الأفندي كلامَهُ. رفعَ الزعيمُ رأسَه أخيراً، بعدما كانَ مُطرقا طويلاً. مُتنحنحاً كعادَتِهِ، ما لبثَ الرجلُ أن أظهرَ الرغبة بالتعقيب على ما سَمِعَهُ من رأي، وعلى ذلك قالَ بهدوء : " أعترفُ لكما، يا صديقيّ العزيزيْن، أني أكثر حيرة من غيري، فيما يخصّ مَغامِض هذه الجريمة ؛ المُفتتحَة سلسلة القتل ذبحاً وسُمّا. ويبدو لي أنّ الآغا، العطار، كانَ مُحقا منذ البدء؛ لما افترَضَ أنّ الجريمة مُرتبطة بلغز كناش البرزنجي، المَفقود. وكانَ لي مُبرري، بطبيعة الحال،عندما سبقَ وأوحَيتُ بأنّ موتَ قوّاص آغا كانَ مَسألة عارضة، مُدبّرة من لدن إحدى جواري مُنافسِهِ؛ المرحوم آغا أميني. إذ كنا وقتذاك في غمرَة الانشغال بترميم مجلس العموميّة، فخشيتُ أن يُحبط مَسعانا إذا ما تركنا عملنا جانباً ورُحنا نتقصّى أمرَ تلك الجريمة، الجديدة، خصوصاً ما لو دَخلَ في أذهان الأعضاء أنّ ثمة قاتلاً ما يفتأ طليقاً، يتربّصُ بهم واحداً بأثر الآخر ". سكتَ الزعيمُ وهوَ يلهثُ قليلاً، ثمّ مدّ يَدَه إلى إبريق الماء، الزجاجيّ، ليصبّ منه في قدَح بمُتناوله. وكنتُ أرقبُهُ بتأثر، طالما أنه أبدى إلى النهاية ثقته فيّ. عندئذٍ عادَ الرجلُ إلى استئناف حديثه، مُفاجئاً إيايَ، تحديداً : " إنّ الشخصَ الذي استعملَ المفاتيحَ، في ليلة الأورطات تلك، ربما يكونُ هوَ ذاته من ادّعى، فيما بعد، أمامنا؛ بأنه تاهَ ليلتئذٍ في أزقة حيّ القنوات، لدى هرَبهِ من الدار : إنه ذاكَ المَملوك، الروميّ " .

> مُستهلّ الفصل السادس، من رواية " الأولى والآخرة "..



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6


المزيد.....




- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر