أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 7















المزيد.....

الرواية : مَطهر 7


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3040 - 2010 / 6 / 21 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


الإغتسالُ ، بحَسَب الصوفيّة ، هوَ من علاماتِ غيرَة الخالق من مخلوقاتِهِ .
وفي واقع الحال ، فما كنتُ بحاجة للإغتسال من النكاح ، بل من الفضيحة : كذلكَ كنتُ أتفكّر ، بُعيدَ عودتي من غرفة شمس ؛ بعدَما تأكّدَتُ أنها كانت نرجس من نابَتْ عن صديقتها ثمة، في فراش العشق. وإذاً ، حقّ لي أن أغادرَ الغرفة بلا نأمَة، مُتسللاً بالطريقة نفسها التي جئتُ فيها ـ وكما لو كنتُ لصّاً . لكنني كنتُ أشعرُ ، في تلك اللحظات على الأقل ، بأني مُتلبّسٌ بصِفة أخرى ، أسوأ. فكنتُ أحسّني ذلكَ المُنتهك لأستار حرمات مُضيفي الأفندي ، صاحب الدار ؛ الذي دأبَ على مُعاملتي كأني من صلبه.
بيْدَ أنّ الحقيقة ، إلى الأخير ، جازَ لها أن تعيدني للصواب ، ما دامتْ قد انجلتْ فجأة ً مع مُنبلج الفجر ؛ وما دامَ شعاعها قد شاءَ، عندئذٍ، أن يكشفَ طلاسِم الليلة الحافلة ، المُنقضيَة : إنها لعبة ُ إخباتٍ ومَكر ، ولا ريب ، تعاهدتْ المرأتان على لعبها معي . وإلا ، فما الذي جعلَ نرجس ، المُتحفظة والأنوف ، ترتعُ ساكتة طوالَ اُنس سويعَة العشق تلك ، اللاهبَة ؛ وهيَ من كانت قادرَة على صدّي مذ لحظتها ، الأولى .
" ما سِرُّ هذه البَليّة ، التي عَرَتني ؟ " ، تساءلتُ في سرّي مُشوّشاً ومَهموماً.
لا يُمكنُ أن يكونَ الأمر، ببساطة ، مُجرّد تسلية ؛ فهذا ليسَ من شيَم إبنة الشاملي ، المَوصوفة. كما أنّ نرجس أكثرُ ترفعاً من أن تحط في دِرْكِ فراش الغير ـ حتى لو كانت تحبّه بحق ـ لكي تُجرّبَ أخلاقه . علاوة ًعلى أنها لم تكُ بحاجةٍ، أصلاً، للتيقن من صِدْق ما سبقَ وخُبِّرَتْ به ، عن مُطارحاتِ المُتعة بيني وبين صديقتها.
وعلى سِعَتِها ، ضاقتْ الأسبابُ عليّ ؛ فرأيتني اُحيل تصاريفها، كالعادة ، إلى مُقارباتٍ ذهنيّة بَحتة. إنّ علاماتٍ ثلاث ، فكرتُ إذاك ، تعززُ اليقين بكوني ضحيّة لعبةٍ ، أو مكيدة ربما ، تواطأ عليها البَشرُ والمَقدورُ معاً :
أول علامة ، ما كانَ من شُبهتي بحضور نرجس إلى حجرتي ليلاً، هناك في دار الحديث ؛ وإذا هيَ صديقتها من كانت بانتظاري ثمة، على حافة فراشي .
ثانيهما ، أنها شمس نفسها من عَمَدَتْ من ثمّ إلى خِداعي ، فتنقبتْ بهيئة نرجس ، دون علمي ، فرافقتني بالكرّوسة إلى منزل الأفندي ، وكنتُ بصَدد السفر معه إلى جبل لبنان.
ثالث علامة ، عندما لبِّسَ عليّ ثمة ، في قصر الضيافة بقرية الغرب، وكنتُ وقتئذٍ ثملاً ، فولجتُ حجرة نرجس بدلاً عن حجرتي ، لأُباغت بوجودها مع شمس في نفس السرير ؛ وفي مَشهدٍ مَشبوهٍ ، عارم .

بدورها ، شاءتْ علاماتُ الفجر أن تتواطأ مع علاماتِ العارفِ تلك ؛ فأسلمتني لأنامل النعاس ، الخفيفة المَحمل ، بعدما أثقلَ التفكيرُ أجفاني . فما أن مَضى نحو الساعة على رقادي ، حتى رأيتني أنهضُ ، بغتة، على صوت حركةٍ ما في الحجرة . إذاك ، تهيأ لي أنه كانَ المملوك الصقليّ ، الماكرُ ، من مَرَق بلا مُبالاته أمامَ عينيّ ثمّ صفقَ باب الحجرة خلفه . وما كانَ مني ، حانقا بشدّة ، إلا أن قمتُ من فوري لأتبعَ أثرَه. ثمة في الدرب ، كانَ المملوكُ ، الوقح ، يتثنى مثل أنثى مُتهتكة ، مُلوّحاً للعابرين بإشاراتٍ بذيئة ، مُبتهجاً بما كانوا يلاقونه به من سخطٍ وتبرّم . إلى أن اعترضَ هرٌّ مسكينٌ ، صغيرُ الحجم ، سبيلَ الصقليّ . فإذا به يَتضاحك بمجون وهوَ يخاطبُ من حوله بنبرَته النحيلة ، المُخنثة : " هاكم ما سأفعله بهذا القط ، الشارد " . ثمّ أتبَعَ ذلك بمحاولة تقليد موائه وحركاته . وما عتمَ الوقحُ ، عندما أبصَرَني فجأة ، أن حدّق فيّ مُطرفاً جفنيّ إحدى عينيه ، مومئاً نحوَ المنزل المُجاور ، قائلاً : " يا حرام ، إنّ الهرّ جائعٌ ولا شك ". ثمّ إذا به يدخل إلى ذلك المنزل ، عبرَ بابه الكبير ، ليغيب هناك هنيهةٍ قصيرة ، وليؤوب من ثمّ بهيئةٍ أخرى : كانَ المملوكُ عندئذٍ يتحوّلُ رويداً إلى شبيه ذلك الحيوان نفسه ؛ الذي سبقَ أن سَخرَ منه. لا بل إنه بدأ يدبّ على أطرافه ، الأربعة ، مُتجهاً إلى قرينه وهوَ يَحملُ له طبقا فيه أسلاب من لحم ، كريهة المنظر : " إنها مُغمّسَة بالشطة ، المُحمّرة . هاكَ ، أنظرْ ما سيكونه حالُ القط الآنَ " ، خاطبني وهوَ يَضع الطبقَ بمتناول فم الحيوان . هذا المسكين ، ما أن أكلَ قليلاً من الطعام المغشوش ، حتى انتفضَ بهياج مَسعور ، ثمّ لم يلبث أن استوى بدوره على قائمتيْه ـ كأنه بَشَرٌ سَواءُ . وفيما كانَ المملوكُ ، الماكرُ ، يتضاحكُ في هأهأةٍ صاخبَة ، فإنّ ذلك القط كانَ يَقتربُ مني ببطء واصرار ، مُحدّقا في عينيّ بحقدٍ وغضب وضغينة.

ظهراً ، عندَ لحظة افاقتي من النوم ، كانت سِحنة المَملوك ، المَنحوس ، هيَ من طالعتني بملامِحها ، المَرسومة بريشة المَكر. فاستعَدّتُ إذاك ، بلمحةٍ ، تفاصيلَ الكابوس ، مَدهوشاً ولا شكّ لغرابة المُصادفة. وكانَ المُضيف قد أرسل إليّ الصقليّ ، كما قالَ هذا ، لكي يُعلمني بخبر وصول سيّده الشاملي . ففي مساء اليوم ، المُنقضي ، كان هوَ بنفسه قد اُمِرَ بالتوجّه إلى الشام ليُبلغ سيّده بعودتنا من إمارة الجبل.
فما أن غادرَني ذلك المَنحوس ، حتى أضحيتُ نهبَة ً للهواجس . كنتُ ولا غرو مُحتاراً في أمري ، وما إذا كانَ يتوجّبُ عليّ مُصارحَة كبير المجلس بكلّ ما جرى معي ثمة ، في مصر ؛ وأعني طبعاً ، موضوع تكليفي بالمُساهمَة في وكالة أعمال حاكمها. إلا أني ، وقد فكّرتُ بسرعة ، إرتأيتُ تأجيل بحث الموضوع لحين إياب القاروط من عكا : " إنّ تلك الرسالة ، السرّية ، المُوجّهة لأعيان البلد من لدن العزيز ، موجودة مع البك على أيّ حال " ، أسررتُ لنفسي فيما يُشبه العَزاء أو الإعتذار.
قاعة الطعام هنا ، في دارَة الأفندي الريفية ، وبالرغم من سِعَتِها وتلبيسِها الحَسَن ، فقد كانت تشي بلمساتٍ من أنامل خَشِنة وحَميمَة في آن ؛ من الطاولة الكبيرة ، المَنحوتة من شجَر غابيّ ، إلى الكراسي الخشبية ، المَجدولة مَجالِسها بالقنّب المَضفور. وإذاً بعدَ سويعة أخرى ، كنتُ مُجتمعاً مع الشاملي على مائدة الغداء ، العامِرَة . فحَقّ للقاء بيننا أن يكونَ مؤثراً إثرَ تلك المدّة من فِراقِنا ، الطويلة نوعاً ، والتي حَفلتْ بأحداثٍ جسيمَة . وكانت ملامحُ كبير الأعيان ، الجَهْمَة ، فيها علاماتٌ من أثر تلك الأحداث ، الداهِمَة. ولكننا لم نتبادلَ ، على المائدة ، سوى عبارات عامّة ، مُجامِلة . فما أن فرَغنا من غدائنا ، حتى انتقلنا إلى قاعة الصالون .
" ألم تصدفكم عقباتٌ ما، خلال طريقكم إلينا " ، بادَرتُ بسؤال الشاملي . وكانَ هذا صامتاً مذ لحظة دخوله القاعة ، يتأمّلُ طبقَ الحلوى ، المَنذورَ لِحِصَّته . فرفعَ نظره نحوي ، وأجابني بسهوم : " لا ، والحمد لله ". ثمّ عادَ للإهتمام بطبقه ، مُداعباً طرفه هذه المرّة بأصابعه : " لقد جَدَّتْ تطوراتٌ خطيرة على ولايتنا ، بعيدَ مقتل الوزير والقبجي رحمهما الله وغفرَ لهما " ، أضافَ الشاملي . ثمّ مالبثَ أن أعطى مَثلاً ، مُقتضباً ، على ما يَعنيه. فأخبرني بنبرَة ارتياح ، مُخالفة لما بَدرَ منه حتى اللحظة ، أنّ الإنكشاريين وأتباعهم مَحصورون ضمن أسوار المدينة القديمة ، وأنه حتى منطقتهم هذه فهيَ مُخترقة بالقلعة ، التي تسيطر عليها قوات المجلس : " وعلى ذلك ، فإنّ الطريقَ إلى إمارة الجبل ، أضحى اليومَ مؤمّناً أيضاً ؛ بما أنّ الأرباض جميعاً ، الكائنة خارج أسوار المدينة ، خاليَة من الإنكشارية ". قالها بانشراح .
عندئذٍ أدركتُ ولا غرو ، أنّ حيّ القنوات ـ أين دار الكبير ومقرّ زعامته ، قد استعيدَ كذلك من يد أولئك الأوباش . بيْدَ أني لحظتُ ، بالمقابل ، أنّ الشاملي ما عتمَ أن عادَ ثانية ً إلى خِصلة الصمت المُتطاول ، المُريب ؛ وكأنما أمرٌ آخر ، مُستطير ، كانَ يقلقه ويشغله.

" إنّ مَقدورَ الشام الشريف ، المَجهولَ ، ما يَفتأ همّاً مَطوياً على قلوب الخلق ثمة "
ندّتْ عن كبير الأعيان ، المُتنهّد بعمق . ثمّ استأنفَ كلامَهُ مُوضحاً ما يَعنيه : " أجل ، إنّ مِحنتهم بالإنكشارية ، حاضِراً ، لا تعدّ شيئاً ذي بال بالمقارنة مع ما سيَعتريهم ، غداً ، من بليّة قادِمة من طرَف الآستانة ". عندئذٍ فهمتُ ، ولا شك ، أنه يَقصدُ إحتمالَ إنتقام الباب العالي من المدينة ، جزاءَ قتل عامّتها لوزيرهِ ومَبعوثِهِ . وبغض الطرف عن الصورة القاتمَة ، التي وَضعنا فيها كبيرُ المجلس، إلا أن شعاعاً من نور وَمضَ فجأة في داخلي وشاءَ أن يُبَدِدَ شيئاً من العتمَة ، الداجيَة : " هيَ ذي اللحظة السانحَة ، التي تمنيتها ، لكي أبريء ضميري قدّام كبير المجلس " ، قلتُ لنفسي .
" إنّ تدبيراً ما ، خطيراً ، قد اختمَرَ الآنَ في رأس عزيز مصر ـ كما عاينتُ ذلك بنفسي ، خلال لقائي مع سعادته " ، خاطبتُ الكبيرَ ثمّ أردفتُ حالاً : " وبرأيي البسيط ، أنّ هذا التدبيرَ يُوافق هوى أمير الجبل ؛ المير بشير ". ولكنه الأفندي ، من نهضَ للمُبادرة لاجابتي : " إنّ أطماعَ والي مصر بالولاية الشاميّة ، لم تعُد سراً. وأن نأملَ بالخلاص من خلال تبديل عمامة السلطان بسَرْبوش العزيز ، لهوَ مَحْضُ وَهْم ٍـ كمن اغترّ في النوم بحُلم لذيذٍ ، وافقَ مُنى يَقظتِهِ ". إذاك ، أجزتُ لنفسي الإفصاحَ بلا مواربة عما أفكر فيه : " ليكن أنّ أولي أمرنا ، كلّهم ، من أحبار السّوء . إلا أنّ الرعيّة ، لو كانَ بإمكانها أن تقررَ ، لاختارتْ الأقلّ سوءاً ولا غرو. ومن المُفترض بنا ، نحن في مجلس العموميّة ، أن نكونَ صدىً لصوت أولئك الناس وأن نعملَ على هدي رغباتهم ومصالحهم ، المَشروعة ". وجاءَ دورُ الكبير ، كما بدا من نحنحته ، لكي يُعلّق على رأيي : " سأصارحكَ ، يا آغا ، أننا في المجلس كنا آخر من له علم بسَفركَ إلى القاهرة صُحبَة ذلك الرجل " ، قالها وهوَ يَحدجني بنظرةٍ صارمَة. ولم أتأثرَ بنظرته هذه ، المُعاتِبَة ، بقدَر ما أدهَشتني إشارته تلك ، المُهوّنة من مقام القاروط . فلم يتأخرَ الرجلُ في اجلاء حقيقة الأمر ، حينما توجّه إليّ مرّة أخرى بتحديقة عينيْه نفسها ، مُتسائلاً بنوع من التهكّم : " وأظنّ أنكَ كنتَ ماثلاً في حضرة العزيز ، لما قررَ تعيين أحمد بك ، المصري ، وكيلاً له في الولاية الشاميّة ؟ ".

ذاك الخبَرُ ، المُنغِصُ ، كانَ مثل الدواء الناجِع ؛ الذي يَشوبُهُ الطعْمُ المُرّ .
وإذ كنتُ قد اُعلِمْتُ من الشاملي ، تواً ، عن مَصدَر خبَرهِ ، فإني رأيتها هُنيهة ً مُناسِبَة لكي أفضي له بتدبير البك ، الماكر : " إنّ الوكيل السابق ذاك ، الذي أعلمكَ بالأمر ، لم يكن لديه علمٌ ، على الأرجح ، بكوني أنا من تمّ اختياره من لدن العزيز لاعانة القاروط في وظيفته المعلومة ، الجديدة " . وقبلَ أن يَفيقَ كلّ من الجليسَيْن من وقع الصَدمَة ، تأثراً بقولي ، رحتُ أقصّ عليهما تفاصيل ما كانَ من أمري مع القاروط ؛ ثمة ، في القاهرة .
" وإذاً ، فإنه استغلّ موقفَ مجلسنا ، الحَرج ، لكي يَحصلَ على ما يبدو أنه كانَ مُرادهُ من زمان ؛ بأن يُمنحَ هذه الوظيفة الكبيرة ، الساميَة ـ كوكيل لأعمال عزيز مصر في الشام ؟ " ، تساءلَ كبيرُ المجلس بمرارة وكأنما يُخاطب ذاته . فبادرته قائلاً : " ولكنّ القاروط ـ كما أكّدَ بلسانه وعلى مَسمَع من أخينا ، عبد اللطيف أفندي ـ كانَ يَحمِلُ أولاً توكيلاً من مجلس العمومية ". فتساءلَ كبيرُ المجلس باستغراب : " عن أيّ توكيل ، يا آغا ، أنتَ تتكلم ؟ "
" أن يتفاهمَ مع عزيز مصر ، بوساطة من المير بشير ، لمحاولة التدخل لدى الباب العالي واقناع جلالته بشمل الشام بعفوه ، مرة أخرى ". فما أن أنهيتُ جملتي ، حتى بدا جلياً أنّ مشاعرَ الذهول والسّخط قد عمّتْ ملامح الشاملي . ولكنه طفقَ صامتاً ، فيما كانَ يُمرّر نظرته الغائمة بيني وبين الأفندي . ثمّ ما عتمَ أن قالَ بنبرَة أسيفة : " لم يحصل منا البك على أيّ توكيل ، قط . ولكني لا أنكرُ ، بالمقابل ، أنه طرَحَ أمامنا موضوع الإستعانة بنفوذ العزيز لدى الباب العالي عن طريق المير بشير. إنما ذلكَ كانَ كلاماً عابراً ؛ كانَ رأياً منه شخصياً . أما سبب توجيهه إليكم ، هناك في إمارة الجبل ، فكانَ لسبب وحيد : كنا نخشى أن يظنّ المير بأنّ مجلس العمومية كانَ يحاولُ خداعِهِ، حينما أرسلناكما إليه للطلب منه دَعم موقفنا أمامَ قناصل الدول الأجنبية. أجل ، لقد بعثنا البك إلى المير بشير ، لأنه كانَ على معرفة به قديمة ووثيقة. وعلى ذلك ، كانَ باعتقادنا أنه الشخص الأكثر قدرة لدينا ، في المجلس ، على التأثير في مزاج حاكم الجبل وتنويره بحقيقة ما جرى من لِبْس بخصوص مَقتل الوزير والقبجي ؛ وأنّ ذلكَ كانَ بتدبير آغا باقوني ، وحده ، ولا دخلَ لنا في مَكيدته تلك ، الشيطانية ". سكتَ الشاملي عن هذا الحدّ وهوَ يلهث باجهاد وعِسْر : إنّ الخِطبَة الطويلة، كما الخَطبَ الجلل، قد فعلا تأثيرهما السيء في صحّة صاحبنا ؛ المريض بالسّكري.

" وبَعد ، يا سيّدي ؟ ماذا ترانا سنتصرّف عندما يَحضر القاروط مع رسالة العزيز ؟ "
قلتُ للزعيم مُستفهماً . إثرَ وهلة تفكير ، أجابني الرجلُ بقوّة وحَسم : " لن يكونَ له مكانٌ بيننا بعدُ ، في المجلس " . فما أن قالَ ذلك ، حتى عادَ الصمتُ ليحتلّ جوّ المكان . وإذاً ، شاءَ مُضيفنا ، الأفندي ، أن يدلي أخيراً برأيه بعدما كانَ ساكتاً خلال المُجادلة : " اسمحا لي ، أيها الصديقان العزيزان ، أن أبدي هذه الملاحظة المُبتسَرَة . إنّ إبعادَ البك من عضوية مجلسكم سيبدو ، في نظره على الأقل ، كما لو كانَ ثأراً منه ، شخصياً ". فلم يَصبرَ الزعيمُ على حميه فيدَعَهُ يُكمل فكرته ، حينما بادرَ للسؤال مُفرداً كلتا يَدَيْه بحركة حائرة : " وماذا ينتظرُ هوَ منا ، بعدما صارَ وكيلاً لولايةٍ يُجاهر حاكمها برغبته في الاستيلاء على الشام ؟ ". إذاك تبسّمَ الأفندي بلطف ، ثمّ أجابَ مُحدّثه بالقول : " إنني مُتفقٌ معكَ تماماً ، في هذا المُبرّر . وأعتقدُ أنّ البك بنفسه سيكونُ مُقتنعاً بتبريرك ، فيما لو اُعفيَ الآغا أيضاً من عضوية المجلس " ، نطقَ جملته الأخيرة وهوَ يتطلع نحوي. للحقّ ، فإني أخذتُ اقتراحَهُ هنيهتئذٍ على مَحْمَل من الريبة والاستياء . بيْدَ أنّ الشاملي ، الأكثر خبرة مني وتبصّراً ، فهِمَ بسرعة مغزى قول حميه .
" إنّ رأيكَ حصيفٌ ، أيها الأفندي . وعندي أنّ الآغا سيُفيدنا بشكل أفضل ، بوجودِهِ قريباً من ذاكَ الرجل ؛ عليماً بحركاته واتصالاته ". إذاك حَسْب ، أدركتُ أخيراً جليّة الأمر . إلا أني تكدّرتُ مما يُراد مني ، فقلتُ للزعيم : " ، لو سمَحتَ لي ، يا سيّدي . ما فهمته من كلامكَ ، هوَ أنّ المطلوبَ مني أن أكونَ عيناً للمجلس على شخص القاروط ؟ ". احمرّ وجه الزعيم نوعاً ، ثمّ أجابني بنبرَة ودّية مُتماهيَة بالمَرَح : " اعذرني ، يا عزيزي، إذا كنتُ قد أسأتُ التعبير عن مُرادي . كانَ قصدي ، أن تظهِرَ الغيظ حينما يتمّ تبلغيكَ بدوركَ بالاعفاء من عضوية المجلس. وفي الآن نفسه ، أن تستمرّ على صلة طيّبة بوكيل العزيز هذا ، الجديد ، بصفتكَ مُساعداً له في وظيفته . إنكَ ستخدم قضيتنا بشكل أكبر، في هذه الحالة " . ولم ينتبه مُحدّثي ، بطبيعة الحال ، أنه كانَ يُكرر عليّ الطلبَ ذاته ؛ إنما بكلماتٍ أخرى ، أقلّ وطأة .
لعمري ، فهذا هوَ سرُّ الكلمة وسِحْرُها على السواء ـ كما شاءَ ربّكَ في نزول وَحْيهِ شِفاهاً ، وليسَ كتابة : أقولُ ذلك ، أنا عبدُ الله ، المُسَرْغن في جزيرة الأروام ، البعيدة ؛ أنا من يَكتب الآنَ كلماته بمداد أسودَ على ورق أبيضَ ، مُدركاً أنّ ما يَكتبه سُيحال إلى العَدَم ، دونما ان يتاحَ لأحدٍ قراءته.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7
- الفصل الثالث : مَنأى 6
- الفصل الثالث : مَنأى 5
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3


المزيد.....




- تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2025 بتحديثه الجديد على النايل ...
- قصة الرجل الذي بث الحياة في أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد
- وزيرة الثقافة الروسية: زاخار بريليبين مرشح لإدارة مسرح الدرا ...
- “وأخيرا بعد طول انتظار” موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 1 ...
- وزير الثقافة والاتصال الموريتاني يوضّح موقف نواكشوط من من مق ...
- جودة خرافية للمباريات.. تعرف على أحدث تردد قناة MBC أكشن 202 ...
- -الدين المعرفي-.. هل يتحول الذكاء الاصطناعي إلى -عكاز- يعيق ...
- هوليود تنبش في أرشيفها.. أجزاء جديدة مرتقبة لأشهر أفلام الأل ...
- رئيس هيئة البحرين للثقافة والآثار: التعاون الثقافي مع روسيا ...
- -بيت الشعر في المغرب- يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الرواية : مَطهر 7