أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 6















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر 6


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3066 - 2010 / 7 / 17 - 12:13
المحور: الادب والفن
    





" نهضتُ باكراً، نوعاً. وها أنا ذا بصَدد اعداد أعشاب الفطور "
قلتُ لمُضيفي، فيما كنتُ مُتحَفزاً لإنحناءةٍ أخرى على المَسكبة، المُونِقة، كيما أنتقي عروق مُناسِبَة لسَلطة الفول، المدمّس؛ التي تعتبَرُ من ضروريات الوَجبة الصباحيّة، في هذا القصر. بالرغم من أنّ البك، المصري، يُحبذ قضاءَ أوقات راحَتِهِ في الحديقة، إلا أني لحظتُ تأنفه من مُلامَسة أدواتها. إذ كانَ في مَسلكِهِ، اليوميّ، قدَرٌ من وسواس النظافة، مُنفِرٌ. هذا الوسواسُ، في عُرْفِ صاحِبِه، يَكلأ المرء من عَدوى الأوصاب والأوبئة: " إنّ الأكابرَ، عادة ً، لا يَموتونَ من الجوع بل من المَرَض "، قالَ لي ذاتَ مَرّةٍ مُتفكّهاً.
إلا أنّ تواضِعَ مُضيفنا، الكريم، ما لبثَ أن ارتفعَ درجاتٍ لمّا تنازلَ وشارَكنا كِفافَ الفطور، في مَنظرة الحديقة. وفضلاً عن صديقي ميخائيل، فإنّ ذلك الرجل، المَدعو حنا بَحري، كانَ عندئذٍ في مَعيّتنا. أمّا مَن تعَهّدَ خِدمَتنا، فلم يكن سوى العشّاب، القائم على شؤون المَبقلة والمُختبَر معاً. إنه رجلٌ عجوز، ذلق اللسان، مُحبّ للحياة وأطايبَها.
تعليقاته الطريفة، خلال تناولنا الطعام، كانت تقابل في كلّ مرّةٍ ببَسمة من طرَف فم سيّده، مُشجعَة. من جهتي، كنتُ قد توالفتُ مع طبع العجوز، بما كانَ من طول ساعات مُعاشرتي لصحبته في المُختبَر والحديقة على السواء. إذ كانَ المُضيف، بلطفه المأثور، قد أمَرَ العشّابَ بتقديم أيّ شيء أحتاجه، فيما لو هَفتْ نفسي لذكرى مِهنتي الأولى.
" خِزياً لشيْبَتكَ، أيها اللاهي عن الآخرة بعَفارة العَطارة "، خاطبتُ العجوزَ ردّا على احدى سماجاتِهِ المُعتادَة. وكنتُ الآنَ معه في حجرَة المُختبَر، أنصتُ لذيول هأهأته بينما رائحَة القوارير، الزخمَة، تحلّق بدَورها في الجوّ المُحيط بنا. طاولة صديقي ميخائيل، التي كنتُ أقفُ بالقرب منها، كانت مَرصوفة ً بكلّ ما تطيقه مساحَتها الفارهة، المُستطيلة من أدواتٍ مُعينة؛ من أوان وقموع ومَراشِح ومُكثفات وانبيقات. أما هوَ بنفسِهِ، فكانَ غيرَ حاضر في مكان عملِهِ هذا، كونه قد اصطحَبَ إلى الدور العلوي رفيقهُ ذاكَ، البَحري، للتباحث بشأن ما يَخصّهما.
صاحِبُ القصر، من ناحيَتهِ، كانَ أيضاً على دِرايَة بعلوم الأعشاب، مُواظِباً على استجلاب كلّ ما يَتصل به من أدواتٍ وأجهزةٍ، حتى صارَ لديه منها مَخطرٌ في المُختبَر، مُعتبَر، يُعين العشّابَ على تركيب شتى أصناف العقاقير والدهون والزيوت والأصبنة والطيوب.
كنا إذاً في صبيحة يوم جمعةٍ، مُبارَك، حيثُ بدا فيها العجوزُ مُتململاً بينما هوَ ينتظرُ حلول مَوعد آذان الظهر، لكي يَتوجّه للمصلى. على ذلك، تركتهُ يَتمادى بتقليب أوراق مُجلّد في المؤانسَة، من وَضع شيخنا العلامَة، الرازي، ورُحتُ استعيدُ ما كانَ من وقائع الأسبوع المُنقضي، المَهولة.

" رأيتُ مَقعَدي، في الجنة، وقد استبْدِلَ بآخر في النار "
كذلكَ افتتحَ الوَصيفُ، الدَعيّ، اعترافاته أمامنا حينما ضُبط، أخيراً. كانَ من سوء الحال، مَظهراً وباطِناً، أنه بدا وكأنما يَهذي في بحران من الحُمّى. قبلاً، كانت له سِحنة المُنتصِر، عندما اُفرغ مُحتوى دِلّة القهوَة في طبق من الحشائش، المُقدّمَة لأحد أرانب الدار: فالمُضيف العلاّمَة، كانَ قد اقترَحَ اطعام ذلك الحيوان بالذات، كونَ ضغط دَمِهِ مُشابهاً لضغط دَمِنا، نحنُ مَعشر البشر. ولكنّ شكلَ صاحبنا، الصقليّ، انتهى إلى مُنقلبٍ آخر، ما أن اكتشِفَ أمرُ الخاتم الفضيّ، المُتوّج بفصّ اللازوَرد؛ والذي كانَ يَخفي حَفنة ًمن مَدقوق السمّ، القاتل. فما أن لفظ الأرنبُ، التعِس، أنفاسَه الأخيرة بُعيْدَ الاختبار، المَطلوب، حتى ظهرَ مَملوكنا، المَنحوس، كمَن حانَ أجَله أيضاً. على أنّ خبَرَ الواقعَة هذه، الشنيعَة، كانَ له مُبتدأ ولا غرو ثمّة، في قاعة الضيافة؛ في مَساءٍ حارّ، مُنار بقمَر شاهِدٍ.
" هيَ ذي دِلّة القهوَة، المَنذورة لآغا يَقيني، مَحمولة من لدُن الوَصيف بنفسه "، أسررتُ لنفسي وقتئذٍ مُتعجبا: وعليّ كانَ أن أرتاب بالأمر؛ طالما أن العادَة، في بيوت السراة، تقتضي أن يتكفلَ الخدَم بهكذا عمَل. قبلاً، ومذ بدايَة الاجتماع، كنتُ أراقبُ خفيَة ً مَسلكَ الصقليّ. فجاءتْ حرَكته تلك، المَوصوفة، لتفاقمَ من ريبتي. فما كانَ مني، فجأة ً، إلا المُبادَرة بتنبيه سيّده، الزعيم، ومن ثمّ صاحب البيت. هذا الأخير، من جانبه، ما عتمَ أن توجّه إلى ضيوفِهِ، المُنتظرين في قاعة الصالون، طالباً منهم مواصَلة التمتع بفترَة الراحَة؛ التي سبقَ واقترحَها عليهم الزعيمُ. إلا أنّ الحضورَ، على ما بدا من ردّة فِعلِهم، رأوا في ذلك نوعاً من المُواطأة على صَرفِ بالِهم عن أمر ما، مُستجَدّ: وفي واقع الحال، فإنّ أحدَ الخدَم، مَمن شهدوا واقعة القبض على القاتل، كانَ قد افلتَ عباراتٍ طائشة قدّامَ أولئك الضيوف، حينما سُئلَ ثمّة عما يَجري. وإنه خلقُ الأفندي، صاحب البيت، من كانَ يُتيحُ للخدَم حُريّة القول، جِهاراً أو هَمساً؛ ما داموا على يَقين بأنّ ثرثرتهم، المُقيتة، لن تجزى بالعقاب الصارم ـ كما هوَ حالُ أندادهم، المُعتاد، في دور السراة الأخرى.

" قهوَة مُثلى ؛ طيبُ عبَقِها مَنعوتٌ بكرَم البيتِ وصاحِبهِ "
هكذا أثنى شيخنا، النقشبندي، على القهوَة التي كانَ يَتناولُ مَراشِفها من الفنجان، المُذهّب. أما وقد باحَ ذاكَ الخادمُ ، الثرثارُ، بسرّ الهرَج المُعتمل في مَطبخ المنزل، فإنّ الجَزعَ شاءَ أن يُضيء ملامح الشيخ أكثرَ مما كانت تفعله تلك المسرجَة، العظيمَة، المُتدلّيَة من سقف قاعة الضيافة. وكانَ كبيرُ الأعيان قد عادَ إلى قاعَة الضيافة، بعدما تناهى إلى عِلمِهِ ما كانَ من جَلبَة المُجتمعين. إذاك، حاولَ تهدئة مَخاوفهم مُداوَرَة ً. بيْدَ أنه، إلى الأخير، اضطرّ للإجاية الصَريحة.
" ليَسمَحَ لي، جنابكم، بهذه المُساءلة: هَل صحيحٌ ما اُخبرنا به، تواً، من أمر مَملوككَ ذاك؛ من أنه كانَ يَهمّ، قبل قليل، بدَسّ السمّ لأحَد الحاضرين هنا ؟ "، خاطبَ شمّو آغا الزعيمَ وقد تبدى مُتأثراً بشدّة. فأجابَ الزعيمُ وقد مَحَق الحَرَجُ، المؤقتُ، علاماتِ هَيبتهِ، الراسِخة: " أجل، يا آغا. أعتقدُ أنّ مَغامِضَ الجرائم تلك، المَعلومة، قد قارَبتْ الآنَ على الانجلاء. ولكني، من ناحيَة أخرى، أريدُ من حضراتكم التأكدَ، بأنّ أحدَ الحاضرين في مَعيّتنا لن يُمسّ بأذىً إن شاء الله. لأنّ ذلك الشخص، المَشبوه، قد تمّ التحفظ على حركتِهِ في الوقت المُناسب "، قالها مُتأثراً بدَوره.
" إنّ موجبَ التكتم، إذاً، من المُفترَض أنه انتفى مع القبض على القاتل. أمْ أنّ الأمرَ ما فتأ، بَعدُ، مَحض شُبهَةٍ ؟ "، توجّهَ شيخُ الشام بسؤالِهِ للزعيم وكانَ أكثرَ الحضور قلقا ولا غرو. وفهمَ الشاملي داعي توَجّس الضيف، النقشبنديّ؛ طالما أنه كانَ الوحيد، بينَ أولئك الأكابر، من تناولَ القهوَة المُهيّلة، المَشئومة. " هوَ ما تفضلتَ ، يا مَولانا. إنّ وَصيفي ذاك، التعِس، ما زالَ يُنكر التورّط بتلكَ الفِعال، القبيحَة "، أجابَ مَغموماً مُخاطِبَهُ. ثمّ أضافَ قائلاً: " لقد تهدذدته بأني سأسَلّمهُ لسَعادَة القبجي، المُقيم في القلعة. إلا أنّ التعِسَ ما فتأ يُصرّ على الزعم، بأنّ ذلك الخاتم، المُحتوي على مَدقوق السمّ، قد اُهديَ إليه منذ صِغرَه مِنْ لدُن أبيه بالتبني؛ التاجر المَغربي ". ندّتْ الكلمات الأخيرة من فم الزعيمُ فيما كانت عيناه ترشقان جارَهُ، القاروط ، بنظرةٍ مُعيّنة، مُحيلةٍ على الأغلب لِصفة الربيب ذاك.
" يبدو لي، أيها الزعيم، أنّ حظكَ من الوصفاء ليسَ سَعيداً، أبداً "، تدَخلَ القاروط بدَوره ونبْرَةٍ مُتخابثة. وأظنّ أنّ المَعنيّ بالكلام، مثلي سواءً بسواء، قد أدركَ مَرمى جُملة البك، المصري؛ وأنها مُحاولة ٌمنه لصبّ نار الشكوك على هَشيم الوَضع الراهن، المُستجَدّ. فإذ كانَ هوَ، البك، في مَوضِع الريبَة منذ بعض الوَقت، فها أنّ الأمرَ أضحى على مُنقلبٍ آخر؛ حينما باتَ كبيرُ الأعيان في مَوقفٍ غير مَحمودٍ، بسَبب كشْف سِتر وَصيفهِ. على ذلك، هزّ الزعيمُ رأسَه علامَة ً على المُوافقة، قائلاً للقاروط بخفة: " معكَ حق، يا سيّدي. إلا أنه من السابق لأوانه الجَزم بدوافع هذا الوَصيف، المَشبوه، وما إذا كانَ دَسّه السمَّ لهذا وذاك إنما كانَ بتحريض من أحدهم، وربما لقاءَ مال ٍ، مُجْز ٍ".

على الرغم من البروق والرعود ، القاصِفة، فقد رأيتني ما أفتأ غائباً ـ كما رأس الكمأة.
بالمُقابل، فقد كنتُ أتسلّى بُعيدَ عودتي من المَطبخ بالنرجيلة، المَوضوعة بتصرّفي، والمُوشى بلّورها بتلاوين فيروزيّة وياقوتيّة، أخاذة. بطبيعة الحال، فلم أكُ من مُعتادي التتن. إلا أني كنتُ استمتعُ بين فينة وأخرى بسَحب أنفاس من دخان التنباك، الليلكيّ، المُتصاعِدَة مَثاقيلُ عَبَقِهِ من رأس النرجيلة، المُتوّج بالجَمر.
إنّ الزعيمَ، قلتُ في سرّي، قد سَدّدَ الآنَ للقاروط لطمَة ً قاسيَة ولا رَيب؛ كذلكَ يبدو، من ناحيَةٍ أخرى، وكأنه ما زالَ يَتهمُ وَصيفه القديم، القتيلَ، بكونه الشخص المُتورّط بدسّ السمّ للمرحوم آغا أميني وبتحريض من البك نفسه.
وكنتُ في تلك الهنيهة، الحَرجَة، تائقا للإنتهاء بسرعَة من أمر الوَضع الراهن، لكي يُتيح لي انصرافُ الضيوف التفرّغ لأمر الوَضع الخاص؛ الذي جدّ على أثر كشفِ خبيئة المَملوك ذاك، المَنحوس. ومن حُسن الحظ، فإنّ كبيرَ العَمارة هوَ من بادرَ إلى حلّ المُعضلة؛ بما كانَ من توجّهه للحضور بالقول: " لندَعَ مَسألة المَملوك، جانباً؛ لأنّ حلّها، على الأرجَح ، باتَ بمُتناول اليَد. إننا موجودون هنا، أيها الأكابرُ، بُغيَة استباط حلّ لمَسألة أخرى، أجلّ وأخطر. فعلينا، جميعاً، واجبُ ايجاد مَخرَج ما لهذا الوَضع، العَسِر، الذي تتخبّط فيه ولايتنا ؛ وهيَ تكادُ تكون مَسحوقة من جانب ثِقليْن، جبّارَيْن؛ ناهيكم عن فقدان الأمان وشحّة الرزق ". وحينما رأى الآغا العريانُ أعينَ الحضور، المُتسائلة، تتطلّع نحوَه حاثة ً إياه على الإيضاح والبيان ، فإنه أضافَ: " الرأيُ عندي، ألا نخرجَ من هذا المَنزل، المِضياف، إلا بعدما نكونُ قد اتفقنا على مَوقفٍ مُوَحّد وحَكيم في آن؛ مَوقف مُشرّف، حتى لوَ كانَ سَيكلفنا حَياتنا ". وكأني بالمُتحدّث، الجَسور، كانَ يتنبأ في تلكَ اللحظة. مثلُ ذلكَ الشعور، الذي أبدَيتهُ تواً، شارَكني فيه آخرونَ أيضاً. فها هوَ شمّو آغا، الرجلُ المُتمرّس والشديدُ البأس، يُظهِرُ رَغبَته بإدلاء الرأي في المَسألة: " إذا كانَ الأمرُ يَتعلّق بحيواتنا، فقد جُدْنا بها مِراراً على حدّ سيفِ مَواقف أخرى سابقة، مُشابهَة "، استهلّ الرجلُ قولهُ ثمّ تابَعَ " بيْدَ أنّ الأمرَ، في الساعَة العصيبَة هذه، إنما يَخصّ مُستقبلَ الولايَة بأسرها. ولنقلها صريحَة ً؛ أنّ قوّة عزيز مصر، القاهِرَة، قد تجلّتْ مَرّاتٍ عديدة في الأعوام الأخيرَة؛ سواءً عندنا في تخوم السلطنة، المَشرقيّة، أو ثمّة عندَ تخومها الغربيّة، المُواجهَة للإفرنج الكفار. فلو اتفقنا على مُجابَهة تلكَ القوّة، المُتحدّيَة الآنَ إرادَة َ مولانا الباديشاه، المُعَظم؛ فعلينا مذ الهنيهَة هذه، ودونما ابطاء أو تردّد، أن نجهّز تحصينات المَدينة القديمَة، المَنيعة. حتى إذا ما سَقطتْ مَدينة عكا، لا قدّر الله، فإنّ الغازي سَيُصدّ هنا؛ على أسوار الشام الشريف ".

" ولكنّ ذلكَ، يا آغا، يَعني المُجابهَة مع وجاق الانكشارية، المُسيطر على المدينة القديمة "
قالَ آمرُ الدالاتية، مُلاحِظاً. فشدّ زعيمُ الصالحية على نواجذهُ، بحرَكةٍ فيها ما فيها من تصميم وعِنادٍ، مُجيباً تساؤلَ صاحِبهِ: " لا مَندوحة أمامَ أولئكَ الانكشاريين، الأوباش، سوى القبول بالأمر الواقِع. فإما أن يَنضمّوا طواعيَة ً إلى جهودِنا، الراميَة لصَدّ الغزاة، أو أن يُخرَجوا بالقوّة من المدينة القديمة؛ خصوصاً، وأنّ جيشَ الوالي الجديد، المُكلّف، باتَ اليومَ على مَقربة من حدود الولايَةـ بحَسَب مَعلومات سَعادة القبجي، المَوثوقة "
" ليسَ جيش والي مصر، ولكنه جيشُ الوالي ذاك، المُكلّف، مَن يُهدّد حقا مدَينتنا، المُقدّسَة "، هتفَ القاروط مُنفعلاً على غير العادَة، حتى أنّ كتفهُ احتكّ بكتفي. وعلى دَهشتي، فإنّ شمّو آغا فوَّقَ رمْحَ نظرَتِهِ، الصارمَة، باتجاه المُتكلّم قبلَ أن يَنهض للردّ عليه بالقول: " كفى مُداوَرَة ً، أيها البك المُحترَم. إنّ ابراهيم باشا، سَرْدارَ جيش والي مصر، قد بعثَ إلى المير بشير، حاكم جبل لبنان، طالباً منه ارسالَ رجالِهِ إلى عكا، بُغيَة المُساهمَة في مُحاولة اقتحام أسوارها. إنّ رسالتهُ للمير، المَعلومة، والتي وَقعَتْ اتفاقا بيَد أعوان عبدي باشا، تحضّ جَهاراً على عصيان جلالة السلطان، أعزهُ لله ونصرَه، بل وتدعو للخلاص مما تزعمُ أنه طغيان الأتراك وظلمهم وجهالتهم وتخلفهم ". فما كانَ من البك، المصري، سوى التبسّم بوَجهِ صديقه، المُقرّب، مُتسائلاً بتهكّم: " وإذاً، أليسَ الأتراك على تلك الصِفات، المَوسومة، وربما ما هوَ أسوأ؟ وإذا كانَ الأمرُ بخلاف ذلك، فلِمَ حَصَلتْ الثورة ضدّ الوزير، والمُوديَة بحَياتِهِ إلى الأخير؟ ولِمَ كانَ تشكيلُ مَجلس العموميّة، الشاميّة ـ كبديل ٍعن سُلطة السلطان، المَفقودة؟ ". فما أن أغلق القاروط شَدقهُ، حتى راحَتْ كلماتهُ، المُستهترَة، تدوّم فوق رؤوس الحاضرين ـ كما لو أنها بوم الشؤم. الصمتُ المُريب، المَديد، شاءَ أن يُبترَ مع كلمَة الآغا العريان، المُتصيّدة طيورَ البك تلك، المَشئومة: " وأقولها لجنابكَ، بدَوري؛ أنْ كفى خِداعاً للرجال الأكابر، الذينَ سبقَ لهم أن مَنحوكَ الثقة، فاختاروكَ ركناً من أركان مجلس العموميّة، ثمّ أرسلوكَ بهذه الصِفة، تحديداً، لكي تجتمعَ بالمير بشير وتَضعهُ بصورَة الوَضع، المُستطير؛ الذي جدّ هنا، بُعيْدَ مَصرَع الوزير والقبجي على أيدي الرعاع ". ثمّ سكتَ المُتحدّثُ بعضَ الوقت، قبلَ أن يُشيرَ بيده نحوَ الجلوس، مُضيفاً: " فماذا فعلتَ أنتَ بثقة هؤلاء الأعيان، المُبجلي المَقام؟ لقد هَدَرتها في مَهبّ طموحاتِكَ، الشخصيّة. وها همُ هنا، وفي هذه اللحظات المُتوَجّسة، عليهم أن يخططوا للقادِم من الأيام، الخطِر، لا أن يُضيّعوا وقتهم، النادر، في الانصات للمُخاتلة والإخبات. أجل، يا سيّدي. علينا أن نتدبّرَ أمرَ إصلاح ما أفسدته حضرتكَ؛ حينما أجزتَ لنفسكَ التفرّد بقرار الاتصال بحاكم مصر ودَعوَتِهِ إلى ضمّ ولايتنا لسُلطتِهِ رُغماً عن إرادَة مولانا السلطان ".

" ولا يَقلّ سوءاً، أيضاً، ما كانَ من توريط أخينا؛ الآغا العطار "
قالَ زعيمُ الصالحية ، مُعقباً على كلِمَة كبير العَمارة. ثمّ أردَف شمّو آغا مومئاً نحوي بطرَف عينه " لقد اُوهِمَ صَديقنا أنّ المجلسَ، بتفويض ٍمَزعوم، قد أجازَ الاستنجاد بذاكَ الوالي، الطامِع ". عندئذٍ التفتَ إليّ القاروط بدَورهِ، مُستلاً لمحَة ًسريعَة من مَلامحي. إنه بذلكَ، فكرتُ دونما كبير قلق، يُريد استنفاضَ دَخيلة نفسي وما إذا كنتُ مُتفقا مع الآراء تلك، الثقيلة المَحمل؛ التي قيلتْ في حَقهِ. وبما أنّ اسمي، في آخر المَطاف، قد تمّتْ الاشارة إليه دونما مُوارَبة، فكانَ لِزاماً عليّ التكلّمَ.
" أيها الأخوة، الأكارم. أجدُني حقا في وَضع ٍلا اُحسَدُ عليه، بعدَ كلّ ما قيلَ بشأن سفارتنا إلى مصر، بمَعيّة أخينا، المُبجّل ؛ أحمد بك "، افتتحتُ القولَ مُتقصِّداً الإطنابَ بمَقام القاروط. هذا الأخير، كانَ قبل حين يبدو مُتهيئاً لِمُغادرة الاجتماع، مُستاءاً من الإتهامات المُكالة له تِباعاً. إلا أنه، إثرَ فاتحَة كلمتي، ما عتمَ أن استعادَ بعضاً من الثقة بالنفس ـ كما بيّنتْ عنه ابتسامَتهُ، المُقتضبَة. وعلى أيّ حال، فإني لم أعمَد آنئذٍ إلى تبرير مُهمّة الاتصال بعزيز مصر، مثلما كانَ يأملُ وكيلهُ على الأرجح. وعلى ذلك، استأنفتُ حَديثي مُواربَة ً: " قد يكونُ حَصَلَ، فِعلاً، نوعٌ من سوءِ الفهم؛ فيما يخصّ سفرتنا إلى القاهرة لتسليم رسالة المير بشير للوالي، المصري. ولكنها، كما تعلمونَ، كانت رغبَة سعادَة حاكم لبنان، بل وإلحافه علينا شخصياً. وبهذا الشأن، استميحُ لذاتي العذرَ من أخينا المُبجّل، عبد اللطيف أفندي؛ إذا ما أشهَدتهُ على حقيقة ما شدّدتُ عليه، آنفا ". وبكلّ تواضع وأريحيّة، أحنى المُضيف رأسَهُ علامَة ًعلى التصديق.
" إنكَ، أيها الأخ العزيز، غير مَلوم بشيء في كلّ ما يَتصل بالمَوضوع. وأنا أتحَمَلُ ، لوَحدي، مَسؤوليّة حَمل الرسالة تلك؛ المُوجّهة من حاكم الجبل لحاكم مصر "، قالَ القاروط بهدوء مُحدّقا بعينيّ عن قرب. نحنحَة الزعيم، المألوفة، عليها كانَ أن تختتمَ الجدَل، المُتفاقم، حولَ موضوع المهمّة، المصريّة: " آنَ أوانها، صلاة العشاء. فلنؤجل الحَديث إلى ما بَعد أداء الفرض. وآملُ أن نعودَ من المصلى بقلوبٍ نقيّة، أزالتْ أوشابَها وأوصابَها مَغفرَة ُ الخالق عزّ وجلّ "، قالها بنبرَةٍ مُتسامِحَة.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 6