أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 2















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر 2


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3052 - 2010 / 7 / 3 - 12:57
المحور: الادب والفن
    





" سامِحْني، يا وَلدي "
هذه الجُملة، التي كانت المَرحومة، القادينُ الكبيرَة، قد خاطبَتْ بها يوماً مَملوكها، الروميّ، عليّ كانَ استعادَتها مُجَدّداً؛ هنا، في قصر البك المَصري. وكانَ عليّ، أيضاً، أن أستعيدَ تخيّلَ مَشهَدِ المملوك التعِس، حينما وَقفَ أمامَ ضرّة أمّه تلك، الضاريَة؛ التي كانت هيَ، على أغلب تقدير، من أمَرَ الوصيف باخصائِهِ، قبلَ ذلك اليوم ببضعة أعوام. وهوَ ذا عَقدٌ من السنين، على كلّ حال، شاءَ أن يَمُرَّ على جُرح ٍ غير مُندمِل، أوثجَ صاحِبَهُ بعِقدَةِ الإنتقام، الوثيقة العُرَى.
كذلكَ كنتُ أتفكّرُ، مُشتت الذهن؛ وأنا هنا، في قصر القاروط ، وكانَ قد ترادَفَ على اقامتي فيه اسبوعاً أو نحوَه. فالألغازُ راحَتْ تترى، مُذ أن فجأني مُضيفي، خلال سَفرنا معاً إلى القاهرة، بأنّ الأوراق المُنتزعَة من كناش البرزنجي تضمّ سرّ الكنز؛ وما تبعَها من عثوري على أداة القتل تلك، المُستعمَلة في قتل الوصيف ؛ والتي شاءَ سيّدُه، الشاملي، أن يُضافِرَ في مَعمياتها، حينما وجّهَ إشارة إتهام، بيّنة، إلى مَملوكه ذاك، الروميّ. هذا الأخير، كانَ يُقيم مع رفيقه، الصقليّ، في منزل عبد اللطيف أفندي. وعندما كنتُ قد توجّهتُ إلى ذلك المنزل، فلأنه كانَ في نيّتي اجتلاءَ تلك الألغاز، المَعلومة. علاوة ً طبعاً على ما سَبقَ من لغز علاقة شمس، المَزعومة، بالمَرحوم العشّاب العجوز؛ الذي قتلَ بنفس الطريقة، تقريباً، التي استخدمها المجرمُ، المَجهولُ، عندما جَندَلَ وصيفَ الشاملي.
من ناحيَة أخرى، عليّ التنويه بأنّ مُضيفنا المَصري، الكريم، لم تفتهُ وسيلة َتسليّةٍ، كانَ من المُمكن لها أن تجعلنا نسلو ما نحنُ فيه من قلق ٍبيّن، مُقيم. وحينما أجمعُ صِفتيْ الفاعل والفعل، في جُملتي الفائتة، فلأنّ ضيفيْن آخريْن كانا يُشاركاني الإقامة هنا، في هذا القصر العظيم، المُشتهَر؛ وأعني بهما، الدكتور ميخائيل ومواطنه ذاك، المَدعو حنا بَحري.
بدَورهِ، كانَ مُضيفنا يُعاني من عوارض القلق، مُذ الوقت ذاك، المُتجهّم، الذي آذنَ بانطفاء اسمِهِ رويداً بعدما سبقَ أن أسنى ساطعاً في سماء المدينة، المَنكوبَة بشتى ضروب الفوضى. وكانَ الخلقُ، سواءً من العامّة أو الأعيان، قد تداولوا عن القاروط جملة ً وافرَة من المآثر، المَزعومَة ـ كما في مثال تحويل الأورطات إلى الوقوف في جانبِ المجلس، بُعيدَ هجوم أنفارهم على منزل الزعيم.
ولكن منذ أن عُرفَ دَوْرُ القاروط في تلك الرسالة، المشؤومَة، التي أرسلها مُوَكّلهُ، عزيزُ مصر، إلى أعيان الشام الشريف مُهدّداً إياهمُ ومُتوعّداً، فإنّ الحالَ قد تغيّرَ ولا غرو. بيْدَ أنّ القاروط، وإن كفّ أن يكونَ مَرجعَ أعيان المدينة، فإنّ علاقته بهم، وبالتالي بمجلس العمومية، ما جازَ لها أن تبترَ نهائياً. فكبيرُ الأعيان، الشاملي، من جهَتِهِ، كانَ يُدرك بأنه قريبٌ للغاية؛ ذلكَ اليوم، الذي سَيَطرقُ فيه عسكرُ العزيز أبوابَ البلد، السَبعة، غير المَحميّة بَعْدُ بنجوم آلهةٍ سَبعة، وَثنيّة.

" هَلمّ بنا، إلى حديقة الدار الأخرى، الخلفيّة، كيما تعينني في اجتناءِ أعشاب السَلطة "
هتفَ بي عبد اللطيف أفندي بلهجتِهِ المَرحة، الدافئة. وكنتُ ما أفتأ معه هناك، في القسم الأمامي من الحديقة بعدما انسَحَبَ الصهرُ، الزعيمُ، إلى هدوء بال حجرتِهِ، الخاصّة، الكائنة في الدور الثاني. إذاك، كنا قد أنهينا للتوّ مُناقشة موضوع الجرائم، الأربع؛ الذي شاءَ اشغالنا ثانية ً إثرَ مُهلةٍ من الوقت، يَسيرة، شُغلنا خلالها بموضوع آخر، مُستطير؛ وهوَ رسالة العزيز، سالِفة الذكر.
من ناحيتي، كنتُ مَحْروراً بهاجِس حِزمَة أوراق الكناش ، التي سلّمتها أمانة ً للأفندي، عندما كنا ثمة في إمارَة الجبل. لقد كانَ بودّي، إذاً، أن أنفردَ معَ المُضيف، لكي أبثّ له ما كانَ القاروط قد أخبرنيه، بخصوص سرّ كنز الكنج؛ الموجود بحَسَب زعمِهِ طيّ تلك الأوراق : وحينما أشدّدُ على ريبتي بخبَر القاروط، فلأنني سبقَ وقرأتُ ما كتبَه مؤلف الكناش، المَرحوم الشيخ البرزنجي، فلم يَستوقفني من سرّ الكنز سوى إشارات مُبهَمَة، لا تكادُ تعني شيئاً. وبما أنّ مُضيفي، الأفندي، قد شارَكني أيضاً في الاطلاع على مُحتوى حزمة الأوراق، المُنتزعَة من الكناش، فكانَ لا بدّ لي أن أستفهمَ منه، مُجدّداً، فيما إذا كانَ قد عثرَ فيها على أمر ما، يَخصّ سرّ الكنز.
" لقد لحظتُ، قبلاً، أنّ كُمْنة أجفانِكَ، المُحمرّة، تفصِحُ عن نصَبِ ليلةٍ سابقة، مُسهِدَة "، قالَ لي الأفندي ثمة في مَسكبَة الأعشاب، اليانعة. إذ وفيما أنا مُتحفزٌ للانحناء على خيراتِ المسكبة، دهمني الدوّار على غرّة. وعلّقَ مُضيفي على ذلك، بأن دَعاني إلى المضيّ، بدَوري، كيما أحصلَ على نصيبي من الراحة مُشيراً بيَدَه إلى ذلك القسم من دارهِ؛ أينَ كانَ صهرُهُ مُقيماً. إلا أني طمأنتهُ بأنّ هذا العارض، العابر، يَعودُني أحياناً في فتراتٍ مُتباعِدَة. فما أن أنهينا انتقاء المُراد من تلك الأعشاب، العَطِرَة، حتى رأيتني ألحَقُ بأثر الأفندي، في المَمشى المُحجّر، المُفضي إلى مَطبخ دارهِ، العامِرَة.
على الرغم من أنّ الشمسَ كانت قد غربتْ منذ سويعة ، فإنّ الجوّ الفائض بالحرّ، هناك في المطبخ، كانَ ما يَفتأ يُذكّرنا بحضور سَعادتها. على ذلك، مَضى بي المُضيف نحوَ حجرَة مكتبهِ، المُقيمة في مكانَ ظليل، رَطِب، في الدور الأرضيّ. خلال مرورنا في الفناء الداخلي ، لاحظتُ بأنه خلا بعض الخدَم، الذين كانوا في حَركةٍ دائبَة هنا وهناك، فإنّ الدارَ كانت تبدو كأنها مُقفرَة من قاطنيها، الآخرين. في واقع الحال، فإني كنتُ أتفكّر عندئذٍ بنرجس وصديقتها تلك، الحَميمة، ومَغزى اختفاء حضور كلّ منهما، مع أنّ وقتَ القيلولة قد فاتَ ولا رَيب. إنّ رغبتي الآنَ بلقاء شمس، المُلحّة، ما كانت بداع ٍ من الحاجَة الجسَديّة، المَلولة، وإنما لِداع آخر، يَتصلُ بمَغامِض مَصرع العشّاب، العجوز .

إنّ شعوراً بالندَم، مُتماهٍ بالاحباط، كانَ إذاك يَنتابني، طالما كنتُ قد فوّتُ عليّ سانِحَة َ استلال أجوبَةٍ مُهمّةٍ، ومُباشرة ً من فم شمس؛ حينما كنا معاً ثمة، في قريَة الغرب. أحياناً أفكّرُ، بأنّ الحاجَة الجَسَديّة، المُتعَطِشة، هيَ السببُ في تفويت المَرء، المُسلم، لحاجاتِهِ الأخرى، الأكثر أهمّية. فلا غروَ أن أغبط جماعَة الإفرنج، بما أنّ تلك الحاجَة غير مُحرّمة بعُرفهم؛ وربما أنّ هذا هوَ سببٌ، أساسُ، من أسبابِ رُقيّهم وعلوّ شأنِهم.
" أتشعُر بأنّ حالكَ أفضل، نوعاً ؟ "، سألني المُضيف فيما كانَ يمدّ لي كأساً من شراب الورد، المُثلّج. أومأتُ برأسي إيجاباً، شاكراً إياه. وما لبثتُ، طارحاً عني همّ التفكير، أن أقبلتُ على نهل جَرعاتٍ كبيرةٍ من الشراب، مُجيلاً عينيّ بينَ رفوف الكتب، العديدة، المُتناسِقة في خزانتها القائمَة هناك؛ خلفَ المكتب العريض، الغربيّ الطِراز، الرائع في تصميمِهِ ومادّتِهِ. شاعراً بالحيويّة، قلتُ لمُضيفي مُلاحِظاً : " أرى أنّ الكتبَ العربيّة، هنا في مَكتبتكم، أقلّ من ندّاتها المُدوّنة بلغات الغرب ". بدوره، تطلّعَ الرجلُ إلى الناحيّة تلك، المُتجوّل خللها بَصري، قبلَ أن يُبادرَ باجابتي : " لأنّ اللغة العربيّة، للأسف، توقفتْ منذ عدّة قرون عن الإبداع أدَباً وبَحثا. فيما أنّ الأوربيين، على العكس من ذلك، يواصلون الإبداعَ في شتى ضروبِ الفكر والمَعرفة والعِلم ". ثمّ أضافَ بُعيدَ هنيهة تأمّل " حتى أدب الرحلات، أهملَ العربُ المسلمون شأنه، خلال تلك القرون الظلاميّة، المَعلومة؛ مع أنهُم همُ الذين جعلوا له أساساً، مَكيناً، لدرجَة أنّ تآليفِه كانت مَعروفة من لدن الغرب، بفضل الترجمَة إلى لغاتهم. واليوم، فإنّ الغربيين يواظبونَ على الإهتمام بالتراث الإسلاميّ. ففضلاً عن الرحّالة والقناصل والمستكشفين، فإنّ جامعاتهم أيضاً تفتحُ المَجال لطلبتها لكي يختصّوا بلغات المسلمين وآدابهم وثقافاتهم، المُتنوّعة "
" عَجَباً لأطوارهِم الغريبَة، أولئك الغربيين : فإنهم يُبدون الإهتمامَ بآدابنا، في نفس الوقت الذي لا يَخفون فيه مَطامِعَهم ، حدّ أن يَقتطعوا في كلّ فينةٍ قِسْماً من أراضي سلطتِنا، العَليّة "، قلتُ لمُحدّثي ودونما أن أتنبّهُ إلى كونِهِ، أصلاً، من أرومَة أولئك الخصوم، المَوسومين. ارتسَمَتْ بَسْمَة ٌ على شفتيْْ الرجل، الرقيقتيْن. وكانَ يَهمّ بإجابة مُلاحظتي، عندما راحَ أحدُهُم يَطرق بابَ المَكتب، مُستأذناً في الدخول.

" يا عصمان أفندي، عليكَ أن توقظ من قيلولتيْهما شقيّتيْ الدار، الكسولتيْن "
خاطبَ المضيفُ كبيرَ خدَمِهِ بنبرَة مَرحة، وهوَ ما يفتأ لابثاً عند بابِ الحجرة. ثمّ أضافَ بنبرَةٍ أخرى، جدّية " افعل ذلك دونما أن تخبرهما بوجود جناب الآغا هنا؛ كيلا نزعَج بحضور فضولهما، غير المُحتمَل ". فما أن عادَ المُضيف وأغلقَ بابَ المَكتب، حتى آبَ إلى مكانه مُحَملاً بصينيّة فضيّة، صغيرة، تراصَفتْ فوقها عدّة القهوة المُرّة وآنيَة الحَلوى. إنّ تبَسّطهُ في الحديث عن الفتاتيْن أمامي، وَجَدتها سانِحَة ً، مُناسِبَة، لكي أبادِرَهُ بالقول مُتسائلاً : " وإذاً فإنّ المُدَرِّسة تلك، المسكينة، أضحَتْ الآنَ وحيدة ً تماماً في هذه الدنيا، طالما أنّ أقاربها جميعاً قد فقِدوا ؟ ". مُحدّثي، المُتحرّر الفكر ولا رَيب، لم يَبدُ عليه أنه فوجيء بسؤالي. بَيْدَ أنه استلّ من ملامحي نظرة ً ما، مَليّة، قبل أن يفتحَ فمَهُ. " آه، أجل ويا للأسف. إلا أنها عثرَتْ في شخص حفيدتي، صديقتها، على أختٍ حقيقية. وستبقى لدينا، في هذا المنزل، ما طابَ لها الإقامَة فيه "، أجابَني ثمّ ما عتمَ أن أردَفَ " إنّ شمس هذه، فنانة موهوبَة حقا. ولو قدِّرَ لها أن تحيا في فرنسة، مَثلاً، لانصاحَتْ زهرَة ُ موهبتها وأينعَتْ. إلا أنها، لسوءَ الفألِ، بقيتْ إنسانة مغمورَة، ضائعَة، طالما أنها تحيا في بلدٍ مُسلم، تحرّمُ فيه تقاليدُهُ على المرأة مُزاوَلة أيّ عمل؛ ناهيكَ بحِرْفة التصوير، المُكفر أصلاً من لدن عقيدته "
" اعذرني على تطفلي، يا سيّدي. ولكن، كيفَ تمكنتَ من تقدير موهبة المُدرّسة، مع أنّ تصاويرها، المُنجَزة، بقيَتْ خلفها ثمة؛ في مدرسة الحديث ؟ "، تساءلتُ بحيرة. فقالَ لي الأفندي ببساطةٍ وزهو في آن : " لأنها تمارسُ الرَسمَ هنا، في داري، بعدما منحتها حجرَة ًوسيعَة، جيّدة الإضاءة، لتكونَ بمثابَة المُحْترَف. كما أنّ كبيرَة الحافظات، ذات القلب الكبير فعلاً، كانت قد سَمَحَتْ بأنْ يُنقلَ إلى منزلي كلّ ما كانت المدرِّسة قد أنجزته هناك، في دار الحديث، من رسوم وتصاوير، مُكتفيَة ً بالاحتفاظ بتلك النقوش، المَنذورة للآيات القرآنيّة "
" وإنّ قلبكَ لكبيرٌ، أيضاً، أيها الأفندي المُبجّل؛ كبيرٌ جداً "، هتفتُ بالمُضيف مُتأثراً. فأحنى الرجلُ رأسَه بحرَكة مُتواضِعَة، تليقُ بخلقِهِ الدّمِث، قبلَ أن يَدعوني إلى ما بتناول اليَد من قهوة وحلوى.

" على أني، لو سَمَحتَ لي، أرغبُ باثارَة مسألة أخرى، حَسّاسة، تخصّ هذه المُدَرِّسة "
بدأتُ أقولُ لمُضيفي، مُستهلاً بذلكَ تمريرَ ما كانَ في ذهني من هاجس لغز مصرَع العشّاب، العجوز. أحنى الرجلُ رأسه ثانية ً، دلالة على الإهتمام، فما كانَ مني إلا أن عَرَضتُ على مَسمَعِهِ موجزاً، مُقتضباً، عما كنتُ أعلمه عن سيرة شمس؛ ومن ذلك، مزاعم علاقتها العاطفيّة، العتيقة، بالمرحوم العشّاب. بدوره، أصغى الأفندي إليّ بانتباه. ولكن ، بالمقابل ، لم تظهرَ على قسماتِهِ ما يُنبي، بشكل أو بآخر، عن أنّ ثمة جدّة في المعلومات، التي أجهدتُ لساني بروايتها. غير أني، ولا غرو، لم أستسلم لشعور الاحباط. على ذلك، فقد أجزتُ لنفسي مُساءلة المُضيف عما يَعتقدُهُ من احتمال وجود علاقةٍ بين مصرَع العشّاب وجرائم القتل الأخرى، المُرتكبة من قبل ذلك القاتل، المَجهول.
" سأقولُ لكَ رأيي، بصراحَةٍ وصِدْق. إلا أني، منذ البدء، أودّ ألا تفهمَ من كلامي أني أتهمُ ذاكَ المَملوك، القبرصيّ، بكونِهِ القاتل، المُفترَض. كلّ ما هنالك، أني أضعُ شكوكَ سيّده، الشاملي، مَوْضِع المُناقشة "، افتتحَ الأفندي حديثه، إثرَ مهلة تفكير، وما لبثَ أن استأنفه على الفور " إنّ القبرصيّ كانَ بالكاد قد تعرّفَ على شمس، حينما وَقعَتْ جريمة قتل العشّاب العجوز. فليسَ ثمّة من مُبرّر لكي يَقوم باقتراف فعل القتل، بناءً على ما تناهى إليه من أمر اغواء العجوز للبنت، حينما كانت صغيرة بعد. اللهمّ إلا إذا كانت لدى مَملوكنا عِقدَة ٌما، نفسانيّة، تدفعه للإنتقام من أيّ شخص ، كائناً ما كان، يُمكن أن يُذكّرَهُ بالوصيف ذاك، المأفون؛ الذي سبَقَ له أن اخصاهُ واعتادَ على اغتصابهِ ". ولما سكتَ مُحدّثي ليَستردّ أنفاسَهُ، فإني بادرتُ إلى التعقيب على كلامِهِ : " وإذاً، فإنّ هذه الفرَضيّة، على ضِعْفِها، تبيحُ الاعتقادَ بكون الانتقام من الظلم والحَيْف هوَ دافِعُ قتل كلّ من آمرَيْ الانكشاريّة، السابقيْن ". وأردتُ أن استطردَ فأسمّي كلاً من نرجس وياسمينة، كونهما من عانيا من ظلم هذيْن الرَجليْن، بصورةٍ ما، ولكنّ لساني لم يُطاوعني.

مرّة أخرى، رمَقني المُضيف بتلكَ النظرَة المَليّة، المُتأمّلة، فيما بدا أنه أدرَكَ سرّ تحفظي، المُباغت. وقالَ لي، أخيراً : " أصَبْتَ، يا آغا. ولقد فهمتُ ما تقصِدُهُ بكلامكَ. وإني أتحدّثُ معكَ صراحة ً، كما قلتُ آنفا، وأيضاً مُجرّداً من العواطف الخاصّة، الأبويّة ". وإذ نطقَ الأفندي المُفرَدة الأخيرة، فإنه صمَتَ قليلاً فيما أخذ بالتنهّد. نعم. كانَ الرجلُ يعتبرُ نرجسَ إبنته، وليست حفيدته فقط ؛ طالما أنها رُبّيَتْ في حجْرهِ مذ أن كانت رضيعاً، فلم تعرف لها أباً غيرَه إلى أن أضحَتْ في سنّ الرشاد. ولكنّ ذلكَ، حديثٌ آخر.
" بهذه الحالة، فإذا كانَ المَملوك ذاك، القبرصيّ، مُشتبَهاً بفعل الانتقام، فمن الانصاف أن نشركَ في التهمَة رفيقه الآخرَ؛ المملوكَ الصقليّ. فكلاهما لديْه الدافعُ نفسه للقتل؛ سواءً موضوع الاخصاء أو فقدان الأهل : إنّ الصقليّ، في واقع الحال، لم يَفقدَ أمّه حَسْب، قبيل استعباده، وإنما فقدَ كذلك من كانَ بمثابَة الأبّ، بالنسبة له؛ أيْ ذاكَ التاجر، المَغربيّ، الذي ربّاه كأنما هوَ من صلبه. لقد ارتبط مَصرَعُ هذا التاجرعلى أيدي الأورطات، بموضوع حسّاس للغايَة في عُرْفِ شابّ كانَ وقتئذٍ في سنّ البلوغ وربما كانَ متحصّلاً أيضاً على تجاربٍ جسديّة؛ وأعني به موضوع الاخصاء، الشنيع " ، تابعَ الأفندي كلامَهُ.
فما أن وصلَ إلى تلك النقطة، حتى رأيتني أهبّ من فوري مُتسائلاً بارتياع : " وإذاً، علينا أن نحتسِبَ الدالي باش، آغا يقيني، كما لو أنه هَدَفٌ مُرجّحٌ للقاتل ذاك، المُفترَض؛ بما أنّ الدالاتيّة همُ من قتلوا والدَ المملوك الصقليّ بالتبني ؟ ".فأجابني مُحدّثي مُتبسّماً : " على رُسلِكَ، يا عزيزي. إنّ مَملوكاً من المَوالي، غريباً، لا يكادُ يَعرف شيئاً عن الفرْق بين الفِرَق العسكريّة، الشاميّة، من السّهل عليه الخلط بين القول والأورطات واليرلية وغيرها من أصناف الجند، النظاميّة والمُرتزقة. وعلى كلّ حال، فإني وَسَمْتُ المملوكَ الصقليّ بصِفة القاتل، على سبيل المُقارنة فقط "
" أصارحُكَ، يا أفندي، بأني لطالما اشتبهتُ بهذا الصقليّ. ولم أفتأ أرتابُ بكونه القاتل المَجهول، المُحتمَل، واعتماداً على مُعطياتٍ عديدةٍ، كنتُ قد فكّرتُ بها مُطوّلاً خلال الفترة المُنقضيَة. وإذا أهملنا جانباً دوافعَ القتل، وعلى الرغم من أهمّيتها البالغة، فإنّ احتمالَ أن يكونَ الصقليَ، لا الروميّ، هوَ رَجلنا المَطلوبُ، له ما يُسنِدُهُ؛ سواءً تعلّقَ الأمرُ بالسلوك أو بالدليل "
" أنا مُتفقٌ معكَ هنا، في مسألة السلوك : فالصقليّ بعكس رفيقه، هوَ فتىً مُجرّبٌ وشديدُ المِراس، علاوة ً على كونِهِ أقلّ رهافة وحساسيّة. ولكن، أيّ دليل هذا ، الذي تملكه ضدّ ذاك المَملوك، المُشتبه به ؟ "
" إننا نتكلّمُ، بطبيعة الحال، عن الجريمَة الأخيرة. وأفيدُكَ على ذلك، بأني ضبطتُ الصقليّ في حجرَة العشّاب العجوز، وقبيل مَصرَع هذا ببضع ساعاتٍ. قبلاً، كانَ المملوكُ مفقودَ الأثر، وكانت كبيرة الحافظات قد أمَرَتْ رفيقه، القبرصيّ، أن يَبحثُ عنه في أرجاء الدار و.. "
" مَهلاً، مهلاً. أعذرني لأني قطعتُ حديثكَ، يا آغا "، هتفَ فيّ المُضيف بنبرَة خافنة الجرس وهوَ يُشنف أذنيْه إلى ناحيَة نافذة المكتب، المُحاذيَة لمَجلسِنا. ثمّ ما لبثَ أن نهضَ بسرعةٍ، لكي يهمّ بفتح دَرفتيْ النافذة تلك، قائلاً : " أظنّ أني لمَحتُ شبَحَ شخص ٍ ما، كانَ يَمرقُ بعجَلة من ذلكَ المكان؛ وكأنما كانَ يَتجسّسُ علينا " .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5
- الأولى والآخرة : صراط 4
- الأولى والآخرة : صراط 3
- الأولى والآخرة : صراط 2
- الأولى والآخرة : صراط
- الفصل الثالث : مَنأى 9
- الفصل الثالث : مَنأى 8
- الفصل الثالث : مَنأى 7


المزيد.....




- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟
- شاهد: فنانون أميركيون يرسمون لوحة في بوتشا الأوكرانية تخليدً ...
- حضور فلسطيني وسوداني في مهرجان أسوان لسينما المرأة
- مهرجان كان: اختيار الفيلم المصري -رفعت عيني للسماء- ضمن مساب ...
- -الوعد الصادق:-بين -المسرحية- والفيلم الأميركي الرديء
- لماذا يحب كثير من الألمان ثقافة الجسد الحر؟
- بينهم فنانة وابنة مليونير شهير.. تعرف على ضحايا هجوم سيدني ا ...
- تركيز أقل على أوروبا وانفتاح على أفريقيا.. رهان متحف -متروبو ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 2