أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 9















المزيد.....

الفصل السادس : مَجمر 9


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3075 - 2010 / 7 / 26 - 14:08
المحور: الادب والفن
    


في غمرَة الصّمت، المُهيمن على الحضور، فإنّ فسْقيّة قاعَة الضيافة، المُرصّعة التلبيس بشتى الألوان المَرْمريّة، استوْفت حقّ سلسبيلها في البَوح بصوتٍ، مُرَخّم.
مُحرَجاً نوعاً، ألقيتُ بَصَري إلى الخارج خلل النافذة القريبَة، علّني ألمّ أنفاساً أخرى، مُقيلة. ثمّة، كانت أشجارُ الحمضيات، الوارفة، تتراءى مُترامِيَة ً على جانبَيْ الفناء المؤدّي إلى السلاملك، وهيَ مُتآلِفة معَ شَجْو الأطيار، الساحِر.
" الأشجارُ مَعازفٌ والطيورُ قيّانٌ "، قلتُ في سرّي مُنشَرحاً. وكنتُ إلى ذلكَ الحين، مُعترى بشوائبَ من فتور الحديث، المُقتضب، الذي تفضلَ به آغا يقيني ؛ الحديث الداهِم، المؤكّد عَزم القبجي على استجواب كلّ من له علاقة بقضيّة المَملوك الصقليّ، المُتهم بالقتل. عند ذاك ، تذكّرتُ ليلة الأورطات ومُواجَهتي الأولى، العاصِفة، مع الدالي باش هذا. فأردَفتُ قائلاً في نفسي: " إنّ رَمْية خاتم النجاة، المُرَقش باسم مَولانا، القدسيّ، كانت مُوفقة ليلتئذٍ ولا شكّ ". فما أنْ أنهى داخلي ترديدَ نواطق جُملتِهِ، حتى ارتفعَ صوتُ الآذان من الجامِع، المُجاور. وفيما كانَ آمرُ الأورطات يُتمتم الشهادَة بين شفتيْه، رُحت من جِهتي أتفكّر بتلك الهُنيهَة، المُماثلة؛ المُضافرَة من قرائن الصُدَف، التي رأيت ذهني قد شغِلَ بها الآنَ: فبُعيدَ تصاعُدِ نداء المؤذن، الداعي إلى صلاة الفجر، توَقف الأورطات عن الضرب. ولقد استمرّوا في المُحافظة على الهدوء لحين انتهائنا من أداء فرض الصلاة في قاعَة السلاملك، التي كانوا قد حاصرونا فيها.
إذاك، وعلى غرّةٍ، عادتني تلك الشبهة القديمَة: " أليسَ مَعقولاً أن يكونَ أحدُ المُتواجدين مَعنا، مُنتهزاً سانِحَة انشغال الآخرين في الصلاة، قد تسلّلَ إلى القبو عبْرَ باب السلاملك الجوّاني، ليَقوم بذبح الوَصيف؟ ". لقد راوَدتني هذه الفكرة، مُجدداً، لأني تذكرتُ ما كانَ قد أفادنيه الصقليّ عن اللحظات تلك؛ وأنه سَمِعَ صرخة ياسمينة، المُتأتيَة من القبو، بُعيدَ وقوع المَنظرة والحديقة بأيدي المُهاجمين: فما هوَ سبب صراخ البنت، طالما أنّ هؤلاء لم يكونوا قد اجتاسوا بعدُ القبوَ؟

" لأنها كانت، ولا رَيْب، أوّل من اكتشفَ جثة الوَصيف "
استأنفتُ حِواري الداخليّ مُتمَثلاً هيئة ياسمينة، المسكينة، حينما كانت بقبضة أحد الأنفار المُهاجمين. إنّ داعي العَوْد إلى البدء، باستحضاري الصّورَ تلك، إنما كانَ نتيجة ً لما فجأني به الدالي باش قبل قليل. فإنه أكّدَ على لسان القبجي، أنّ المَملوكَ الصقليّ ما يفتأ مُصراً على إنكاره التورّط بجرائم القتل. إنّ هذا لأمرٌ مُحيّر، مُلغز، طالما مَضى ما يَزيد عن الأسبوع على وجود المَملوك في قبضة جلادي القلعة؛ المَشنوعي الصيت بأساليبهم الوَحشيّة، القادِرَة على انتزاع الأعترافات من أشدّ الرؤوس عِناداً. بيْدَ أنّ أقوالَ المُتهم، في آخر المطاف، أجازتْ لمُمثل السلطان أن يُوجّه الأمرَ باستدعاء عددٍ من الشهود، بُغيَة استكمال تحقيقه في الأمر ورَفده بمَعلوماتٍ أخرى، أكثر جدّة.
أخرَجَ ذهني من ربقة الأفكار، المُستبدّة به، ما كانَ من دَعْوَة المُضيف لنا، كيما نتوجّه لمصلى القصر. وما عَتمَ أن تقدّمنا بنفسِهِ، في الطريق إلى تلك الجهِة، الكائنة في مكان ظليل بالقرب من مَدخل السلاملك، المُفضي للحَديقة. ثمّة، وبُعيْدَ أدائنا الفرضَ، لبَثنا هنيهة ً ضافيَة ونحن مُقتعدين الأرضيّة المُرخّمة، المَفروشة بالبسُط الفارسيّة، البديعَة النسُج والوَشي. عندئذٍ التفتَ الدالي باش نحوَ البك، الجالس إلى يَمينِهِ، قائلاً له بنبْرَة مُحتفيَة: " أعلمني سَعادة القبجي، أيضاً، أنّ مولانا السلطان، نصَرَهُ الله، قد أمَرَ الباشا المُكلّف على الولايَة الشاميّة بالمَسير إليها بعددٍ مَحدودٍ من الجند. وسبب ذلك، خشية مولانا من أن يُروَّع الأهلون من كثرَة الجيش، المُتوَجّه للمدينة بمَعيّة الباشا والمُفترَض أن تكونَ مُهمّته مَحصورة في التصدّي للغازي ذاك، المصريّ ". المُفرَدة الأخيرَة، في كلمَة آغا يقيني، عليها كانَ أن تهْمُزَ مُضيفنا؛ البك المصري. إلا أنّ هذا، بصِفِة دَهائِهِ الراسِخة، كانَ عليه بالمُقابل أن يُظهرَ السرور بما سَمِعَه: " وَفرَ الله قِسْمَة مَولانا، المُعظم، في الأجر والثواب. فكأنما هوَ يَنطقُ على لِسان الوَحي: { وقالوا أتجعلَ فيها من يفسد فيها ويسفك الدّماء ونحن نسبّح بحمدكَ ونقدّس لكَ. إني أعلمُ ما لا تعلمون } صدَق الله العظيم ".

" ولكن أيّ رياءٍ ومَكر، قد وَفر الله في قِسْمَة نفسِكَ؟ "
أجابتْ سريرتي مديحَ المُضيف لعدوّ سيّدِهِ، العزيز. على أنني، بطبيعة الحال، أظهرتُ غبطتي لحكمته ووَرعه ـ كذا. أما الضيف، من جهته، فإنه سَبقني بالتعبير عن التعاطف، المُماثل، حينما كانَ يهزّ رأسَهُ على إيقاع مُفردات مُضيفه، المُطنِبَة. على أنه، للحقّ، كانَ تعاطفا من القلب وليسَ من اللسان حَسْب. فإنّ آمرَ الدالاتيّة، العَميق التدَيّن، كانَ حتى ذلك الحين ما يزالُ يكنّ مَشاعِرَ الوفاء والصداقة لرَبيب قائده السابق، الكنج الكرديّ؛ الذي كانَ مَعروفاً في حياتِهِ بمُمالأة أهل السجادَة الصوفيّة، القادريّة.
" إنّ مَوقفكما، المُشرّف، المُعبَّر عنه خلال الإجتماع الأخير في مَنزل عبد اللطيف أفندي، قد لاقى الإرتياح لدى الخاصّة والعامَة على السواء "، استهلّ آغا يقيني كلامَهُ المُوّجه لكلّ منا. وكانَ يَقصدُ تلكَ المُبادَرَة ، العلنيّة، في قطع صِلة البك بمُوكّلِهِ، حاكم مصر، لحين توقفه عن الإندفاع في غزو أراضي البلاد الشاميّة؛ المبادرة، التي رأيتني أشاركُ فيها، إعتباطاً، طالما أنني أحمِلُ أيضاً صِفة التوكيل ذاتها.
ثمّ أضافَ الآغا بنبرَة أخرى، تنمّ عن القلق: " ولكنني هنا، لن أخفي عليكما مِقدارَ وَساوسي لِجهَة آمر القابيقول ذاك، اللعين. إنّ الفرمانَ السلطانيّ، الذي يشمِلُ الشامَ بالعفو، مُعرّضٌ هذه المرّة لِضربَة أخيرة، مُميتة، ما لو فكّرَ آغا باقوني بلعِبِ ذات اللعبَة، الخسيسة؛ التي ذهَبَ ضحيّتها كلّ من وزير الباب العالي ورسوله "
" أجل، يا آغا، إنني أدركُ ما تعنيه. إنّ آمِرَ القابيقول قد تراودُهُ، فعلاً، هكذا فكرة مَجنونة، مُستسهلاً الأمرَ بقلّة عدد الجند لدى الباشا، الجديد. وأعتقدُ على ذلك، بأنه ينبغي التفكير باستلام المدينة القديمة من الانكشارية ". قالَها القاروط بثقة مُعرباً عن رأيهِ في كلام الدالي باش. هذا الأخير، وإذ شُمِلَ وَجهُهُ بمَسْحَة من الرضى، بيّنة، فإنه ما لبثَ أن عَقبَ بلسانه: " باركَ الله في شخصِكم، الحَصيف. لقد اعتدنا ألا يَصدُرَ من مَقامكم، العالي، سوى القول الصائب ". فأجابَة البكُ بابتسامَة مُتكلّفة، وما عَتِمَ أن أشارَ له بتهذيب نحوَ باب المصلى، مُقترحاً مُواصلة النقاش ثمّة في قاعَة الضيافة.

" ولكنّ هيكلَ اللعبة، إلى الأخير، سينهارُ فوقَ رأسِ ذلك الأخرق "
قلتُ بدَوري، مُبدياً الرأي بما سَمِعته من أمر المأزق المَوصوف، المُحتمل. ثمّ أوضحتُ مَرامي قولي، مُضيفاً: "إنّ آمرَ الانكشاريّة أكثرُ دهاءً، ولا غرو، من أن يَتورّط بحماقةٍ كهذه، مَجانيّة، فيما جيشُ العزيز على اندفاعِهِ المُثابر نحوَ الولاية الشاميّة ". حينئذٍ، تطلعَ إليَ المُضيف بشيءٍ من الاستياء: " كيف يُمكن القول بأنه يَلعبُ، مَجاناً؟ "، تسائلَ بتهكّم ثمّ أردَف " فما دامَ هَدَف الانكشاريين، كما نعرف، هوَ توريط مَجلس العموميّة بنزاع مرير، لا نهائيّ، مع الباب العالي، فإنهم سيفعلون ما بوسعِهم لكي يُفشلوا مهمة الوالي الجديد، حتى إذا أدى الأمرُ لِسَفك الدّماء ثانيَة ً. ولنقلها صريحَة ً، أنهم نجَحوا مرَتيْن في توريط أعيان الشام، مَدفوعين في ذلك بحقدهم، المُتأصّل، على الباب العالي بسبب قيامِهِ فيما مَضى بتصفيَة وجاقات رفاقهم في الآستانة: المرّة الأولى، حينما حرّضوا أولئكَ الأعيان على التمرّد على الوزير، بحُجّة الرّسم ذاك، المَفروض على المَحال التجاريّة؛ والثانية، لما غدَروا هُمُ بالوزير والقبجي بتلك الطريقة ، الدنيئة، وكادوا أن يَجعلوا المدينة بأسرها تدفعُ ثمَن فِعلتهم، لولا أن تلطف الله بها حينما نشبتْ الأزمَة بين جلالة السلطان وواليه ذاك، المصريّ ".
ونسيَ البكُ ، أو تجاهلَ بالأصح، دَورَهُ هوَ في مَصرَع الرجليْن؛ عندما سبقَ واقترحَ تسلّم القلعة من أيدي الانكشاريين: وها هوَ، الماكرُ، يَحبكُ دَسيسة أخرى؛ بحَثه الدالي باش على التحرّك في اتجاهٍ شديد الخطورَة، سيَعقبُهُ ولا رَيب سيولٌ من الدّماء. وإذ عَمِيَ آغا يَقيني، الرّجل الطيّب والمِقدام، عن استجلاء مَرامي البك، الخبيثة؛ فإني بالمُقابل أدرَكتها بسهولة: إضعاف جبهَة المُدافعين عن الشام، عن طريق تأليبهم ضدّ بعضهم البعض، كيما تسهَلَ مُهمّة العَسكر المصريّ، الغازي.
" يا ربّ السَمَوات، العُلى. إنّ شخصاً بهذا الخلق، لا يَتورّعُ في سبيل مَصالِحِهِ عن التضحيَة بمَن يَثقوا فيه؛ إنه من غير المُستبعَد، أيضاً، أن يكون وراء الجرائم تلك، المَعلومة "، فكّرتُ مَغموماً. إذاك لاحَ لي، مرّة أخرى، طيفُ المَملوك المُتهم، المَنحوس، وقد تقمّصَ اسمَاً ومَقاماً شخصيّة الوَصيف، المَنحور: فإذ تمكنَ البكُ المصريّ، سَعياً منه للظفر بالكناش، من شراء ذِمّة ذاكَ الوَصيف التركيّ؛ فماذا كانَ يَمنعهُ من فعل الأمر نفسه مع خليفته، المَملوك الصقليّ، كيما يَضمنَ أنّ جميعَ العالمين بأمر الكناش قد انزاحوا عن طريقِهِ، المُفضي للكنز؟

كذلكَ كنتُ أتفكّرُ، فيما كانَ الحديثُ مُستمرّا بين الرّجليْن حولَ أمر الانكشارية. فلا غروَ أني لم أشتغل على إجابَة حُجّة المُضيف تلك، طالما أنّ ذهني صارَ مَشغولاً بأمر آخر، لا يَقل أهميّة عندي. حتى جازَ لكلمَة الدالي باش، أخيراً، أن توقظني من غفلة الشرود بَعيداً: " أظنّ أننا نملكُ الآنَ رأياً، سديداً، يُوفِر نوعاً من المَخرج لمأزق الساعَة، الراهِنة "، خاطبَ مُضيفه مُستلهماً ذات المُفردات التي دأبَ هذا على إشاعتها في الحديث.
" وإنكَ دوماً، يا آغا، أهلٌ لِمِثل المآزق تلك؛ بهِمَتكَ وفِطنتِكَ. والرأيُ عندي، أن نهرَع من فورنا للتشمير عن ساعِدِ الجدّ، قبل فوات الأوان "، قالَ المُضيف وقد استعادَ اعتداده بنفسِهِ. بيْدَ أنّ ذلكَ الإعتداد، على أيّ حال، لم يَدُم طويلاً. فما أن غادَرَ آغا يقيني القصرَ، حتى آبَ البكُ إلى قاعَة الضيافة ليَهتف فيّ عند عتبَة مَدخلِها: " إنّ عدداً من جند القلعة، على رأسهم آمرٌ شابّ، همُ في سبيلهم إلى الحضور في أمر يَخصّ المَملوك ذاك، المُتهم "
" أطواغيتٌ اُخر في مَجهَلة هذه الجُمعَة، المُبارَكة؟ "، قلتُ للمُضيف بنبرَة مُتفكّهة مُحاولاً اخفاءَ جَزعي. إلا أنّ البكَ، القلِقَ مثلي سواءً بسواء، أعرَضَ عن المَرَح قائلاً بلهجةٍ جدّية: " لقد تركتُ الدالي باش قدّام باب القصر، وكانَ يُحاول اقناعهم بالعَودَة أدراجهم إلى القلعة وأنه سيتدبّر المَوضوع مع سعادَتلو القبجي ". فما أن أنهى جُملته، حتى دبَّ البريقُ في عينيْه، الماكرتيْن. عندئذٍ، التفتَ إلى الخلف، ثمّ لوّحَ يَدَهُ اليُمنى المُعتادَة على حَمل جَرَس الخِدمَة، الدقيق الحَجم. هُنيهَة أخرى، وظهرَ الوَصيفُ المُتغندر من جَديد. " عليكَ أن تمضي مُسرعاً نحوَ مَدخل المنزل، لكي تدعوَ إلى مائدَة الغداء كلاً من جناب آغا يقيني والزورباشي ذاك، القادم من القلعة "، أمَرَ البكُ حاجبَهُ. ثمّ ما لبثَ أن عادَ ونظرَ إليّ، وعلى فمه ابتسامَة رضى يُحسِنُ رَسمَها: " هلمّ بنا، يا عزيزي، إلى قاعَة الطعام. أظنّ أنّ مِعدَة ذلكَ الآمر، الذي كانَ يَتحدّث مع الآغا بالكرديّة، ستدعو صاحِبَها بنفس اللغة إلى نسيان مُهمّته؛ مُؤقتاً، على الأقلّ "، خاطبَني وقد زايَلهُ نوعاً شعورُ الجَزع. على أنني، إذ كنتُ أهمّ بالذهاب إلى المُختبَر لمُحادثة ميخائيل، أبدَيتُ اعتذاري عن تلبيَة دَعوَة البك: " ليسَ لديّ شهيّة ٌ، حالياً. وأفضّلُ الركونَ إلى حُجرتي بُغيَة الاسترخاء "
" كيفَ ذاكَ، يا آغا؟ إنّ الدالي باش لا بدّ أن يَستاءَ، طالما أنه سيتساءلُ عن سبب عدَم وجودكَ على المائدَة. علاوة ً على أهمّية حضوركَ ثمّة، من ناحيَة أخرى، بما أننا سنتبادل الحديث مع الآمر حولَ المُهمّة التي جاءَ إلينا من أجلها "، أجابني البكُ بنفس النبرَة الآمِرَة المُستخدَمة مع وَصيفِهِ.

لدى خروجي من قاعَة الضيافة، المُكتنفة بالظلال بفضل ستائر نوافذها السَميكة، بَهَرَ عينيّ نورُ الظهيرَة، الماحِق، المُسَدّدُ خلل الأشجار المُتراميَة حولَ جنبات باحَة القصر، السماويّة. وكانَ خدَمُ الدار، المُهندمون بهيئةٍ واحِدَة، في حرَكة خليّة نحل، نشِطة، وهمُ يَتهاتفونَ بلغطٍ من لهجتهم المَصريّة، الطريفة. لا شكّ أنهم مُعتادون على ولائم سيّدهم، المَسموطة لضيوفِهِ من أكابر البلد وأعيانها. وكانَ هذا، بدَورِهِ، يَوجّهُ ملاحظاتِهِ لأولئك الخدَم المُطلّين من المَطبخ ، حينما رأيتني أرافقهُ إلى قاعَة الطعام كاظِماً حنقي من مَبأسَة المَوقف، الثقيل. كانت الظنونُ، ولا غرو، تدَغدغ جانبي. إذ كنتُ الآنَ شريكاً للبك، المصري، في ذنب لا يُغتفر أمامَ سعلدَة مُمثل جلالة السلطان؛ ألا وهوَ عَمَلي وكيلاً للعزيز، المُعلن عصيانه علناً. إضافة ً طبعاً لكوني طرَفاً في مَوضوع آخر، كانَ على ما يبدو لا يَفتأ يَستأثر باهتمام الباب العالي؛ أيْ كناش الشيخ البرزنجي، المَطلوب. فلنرَ عندَ لقاء ذلك الآمر، ما إذا كانت مَخاوفي في مَحلها أم لا.
" أعتقدُ أنّ ثمّة مَعرفة، مُسبقة، بين جنابَيْكما "، قالَ لي آغا يَقيني مُومئاً برأسه باتجاه الآمر. وكنتُ عندَ اقترابي من الأريكة الفارهَة، المُقتعِد عليها الضيفُ، قد أبدَيتُ ما يُنمي عن الدّهشة لكونه هوَ بنفسِهِ ذلك الدالاتي؛ الذي سبقَ والتقيتهُ في ليلة الأورطات، ثمّة في منزل الزعيم.: نعم. كانَ آنذاك قد لُبِّسَ عليهِ، أيضاً، بكوني قبجي السلطان، المَزعوم، حينما دَخلَ إلى السلاملك لكي يُخبر قائدَهُ، آغا يَقيني، بما كانَ يَستجدّ خارجاً من أمور.
" هذا هوَ، إذاً.. "، قالَ الآمرُ للدالي باش ساخِراً، مُشيراً نحوي بسبّابتِهِ دونما مُراعاةٍ أو احترام. ولم أدر هنيهتئذٍ ما إذا كانَ الآغا ما يَزالُ رئيساً لهذا الرجل الفظ، طالما أنه أبدَى على الأثر تأثرَهُ بما صَدَرَ عن مرؤوسِهِ، السابق، من تصرّف غير لائق.
" من النافل، بكلّ تأكيد، التذكير بمآثر جناب الآغا، العطار، فيما يخصّ تصريف النوائب الأخيرَة؛ التي ابتلِيَتْ بها حاضِرَتنا "، بادَرَ آغا يَقيني ذاكَ الآمر الوَقِح، مُثبّتاً فيه عينيْه، المُستعِرّتيْ الأوار. فما كانَ منه، الوَقِح، إلا إحناء رأسَهُ قليلاً وقد غابَتْ عن شفتيه، المَزمومَتيْن، تلك التكشيرَة الكريهَة. ثمّ ما عَتمَ أن قالَ ببطء، بُعيْدَ لحظة تردّد: " يُشرّفني لقاءَ جَناب الآغا، وكذلكَ صاحبَ هذا القصر، العامِر؛ سَعادَة أحمد بك ". بدَورنا، أحنينا له رأسَيْنا أدَباً، وطفقنا نتمعّنُ بما سيَفوه به من كلام. ولم يَتأخر الضيفُ في التفضّل علينا بالخبَر اليَقين، الطازج: " إنّ وجودي هنا، ليسَ أكثرَ من تبليغ جنابَيْكما بضرورة تشريفنا في القلعَة، كيما نأخذ أقوالكما بخصوص مَوضوع ذلك المَملوك، المُتهم بالقتل؛ المَدعو بالصقليّ. و للعلم، فإنّ مَملوك الزعيم الآخر، المَدعو بالروميّ، قد تمّ توقيفه أيضاً بخصوص القضية نفسها. إنه مُتهمٌ بالتعاون مع رفيقه في تخطيط وتنفيذ الجرائم تلك، الشنيعَة " .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل السادس : مَجمر 8
- الفصل السادس : مَجمر 7
- الفصل السادس : مَجمر 6
- الفصل السادس : مَجمر 5
- الفصل السادس : مَجمر 4
- الفصل السادس : مَجمر 3
- الفصل السادس : مَجمر 2
- الفصل السادس : مَجمر
- الرواية : مَطهر 9
- الرواية : مَطهر 8
- الرواية : مَطهر 7
- الرواية : مَطهر 6
- الرواية : مَطهر 5
- الرواية : مَطهر 4
- الرواية : مَطهر 3
- الرواية : مَطهر 2
- الرواية : مَطهر
- الأولى والآخرة : صراط 7
- الأولى والآخرة : صراط 6
- الأولى والآخرة : صراط 5


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل السادس : مَجمر 9