أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 5















المزيد.....

الفصل الثالث : مَنأى 5


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3003 - 2010 / 5 / 13 - 00:58
المحور: الادب والفن
    


لدى ولادة نرجس ، منذ نحو ثمانية عشر عاماً ، لم تكن السويقة ، المَحدودة الحَجم ، الكائنة إلى الجنوب الغربي من حيّ الصالحية ، مَنعوتة بعدُ بـ " حارَة الطليان " . كانت مجرّد درب مُنعزل ، مُوحش ، يتناثرُ على جانبيْه بعضُ بيوت التجار البنادقة . ثمة ، كانَ يتفرّد بالبذخ والأبّهة منزلٌ واحد حَسْب . إنه جدّ نرجس لأمّها َ، من كان يقطن ذلك المنزل ، المنيف . وإنه ماله ، الخاص ، من أسهَمَ فيما بعد بتشييد تلك العمارة المقدّسة ، المأثورة ، المنذورة لخدمة أهل الحارَة ؛ أيْ الكنيسة وملحقاتها ـ كالبيمارستان والمدرسة والمقبرة .
حينما انتدبَ السنيور مارياني لمهمته في الشام ـ كوكيل تجاريّ لإمارة البندقية ـ لم يكن في وارد الخاطر ، آنذاك ، أنّ ذكرَهُ سَيُخلّد ثمة ؛ أنّ اسمَهُ سَيُرَقشُ في مَتن التدوين ، الدّمَشقي . تكليف السيّد مارياني بتلك المهمّة ، المَوْسومَة ، ألغى عندئذ عُرْفاً ، عَريقاً ، كانَ يُعمَلُ فيه طوال قرون من زمن السلطنة العليّة ، الهمايونية . إنّ كلخانة الامتيازات ، المَمنوحة للجاليات الأجنبية ، لم يُحدّد في حينه هويّة الوكلاء التجاريين أو القنصليين . إلا أنّ ما وصفته آنفاً بالعرف ، قضى أن يتمّ توكيل أولاد البلد ، النصارى ، بتلك المَهام الخطيرة : فكانَ الكاثوليكيّ يتعهّد مصالح البندقية ، والمارونيّ للمصالح الفرنسية ، والإنجيليّ للبريطانية ، والروميّ للمسقوفية .

إمارة البندقية ، المُزدهرة ، كانت وقتئذ ما تفتأ مَحَط اهتمام الباب العالي ؛ طالما أنها كفتْ ، مذ وقت بعيد ، عن دسّ أنفها بصراعاته مع جيرانها الفرنجة ، من بروسيين وهنغاريين وفرنسيين . هؤلاءُ الأخيرين ، كانوا إذاك من ألد أعداء الآستانة ، بسبب أطماع أنبراتورهم المُغامر ، بونابرته . إنّ غضبَ الدولة على رعاياها ، الكاثوليك ، كانَ من تصاريف الحملة الفرنسية على مصر . فلمجرّد كونهم على مَذهب أهل الحملة ، دُفعوا ثمناً باهظاً لا يَستحقونه بحال : وكانَ من واردات الحيطة والحذر ، أن أحْجَمَ أولئك الكاثوليك ، المحليين ، عن رعاية المصالح الأجنبية ؛ سواءً بسواء أكانت طليانية أم فرنسية .
فضلاً عن شخصيّته النبيلة ، المُفعمَة بالذكاء والإرادة الصلبَة ، تميّزَ السنيور مارياني بقدراته اللسانية . فعلاوة على لغته الأمّ ، كانَ يُجيد اللاتينية والفرنسية والأنجليزية . وإلى هذا الحدّ أو ذاك ، كانَ كذلكَ يتكلمُ بالعثمانية والعربية . ولكنّ موهبَة الرجل ، العَملية ، استأثرتْ بها التجارة . كانَ اتفاقاً ، ولا ريب ، أن تشغرَ وظيفة وكيل أعمال إمارة البندقية بدمشق ، في الوقت عينه الذي أضحى فيه السيّد مارياني زاهداً بمغامراته التجارية وأكثرَ توقاً للاستقرار . إذاك ، قبلَ بغبطة وامتنان شغلَ مَنصَب الوكيل ؛ هوَ المُتوله الخيال برؤى الشرق ، السحرية ، مذ فترة فتوّته ، عندما وقعَ بيَده ، صدفة ً ، نسخة مُترجمة للفرنسية من كتاب الحكايات ، العجيب ؛ ألف ليلة وليلة .

عند وصول السنيورة مارياني إلى الشام ، رفقة أبنتها الوحيدة ، كانت أمورُ الولاية على جانب كبير من الفوضى والاضطراب . فقبل بضعة أسابيع كانَ أعرابُ الحجاز ، من النهابين السلابين ، قد وجهوا لهيبة السلطنة ضربَة َ غدر ، مُبينة ، غير مسبوقة بشناعتها وفظاعتها : استباحة المَحملَ الشريف ، المُتوجّه للحجّ . ولم يكتف أولئك الأعراب بما غنموه ، وإنما عَمَدوا أيضاً لقتل الرجال وسبي النساء . كان اسمُ القادين ، أخت جلالة السلطان ، مَسبوقاً بكلمة " المرحومة " ، كما وَرَدَ في الرسالة التي وصلتْ للقصر بخط والي الشام . نعم . كانت الرسالة مخطوطة باليد الواجفة ، المرتعشة ، لذاكَ الوالي ؛ الذي كانَ يقومُ آنذاك بمهمّة قيادة المحمل الشريف ، بوصفه أميراً للحجّ . كانت تلك إهانة ، لا تغتفر ، لشخص الباب العالي . وإذاً فإنّ زحفاً على الحجاز ، حثيثا ، كانَ قد تقررَ على الفور ثمة ، في قصر الآستانة . وكانَ للانكشارية الآن هدفٌ وحيد : استئصال شأفة من تجرأ على شخص مولاهم ، الباديشاه .
" أتمنى ألا يُضايقك ، كثيراً ، ما سأقترحه الآنَ " ، توجّه السيّد مارياني بالقول إلى زوجته ، الشابّة ، وهوَ يتأمّل هيئتها ، المُبهرة . ثمّ أردفَ على الأثر : " عليك أن تلتزمي ببرقع الوجه ، فالعساكر الانكشارية تملأ السوقَ " . كانت السنيورة يومئذ تنوي المضيّ خلل دروب المدينة ، القديمة ، في جولة اطلاع وفضول لطالما حلمَتْ بها فيما مضى ، حينما كانت ثمة ؛ في موطنها الأول . ومبعث خشية الزوج ، أنّ فرَق العسكر ، القادمة من مختلف أقاليم الدولة ، كانت تتجمّع في الشام بفوضى أنفارها وموبقاتهم . عقدٌ من الأعوام ، على الأثر ، وذلك الاقتراح ، نفسه ، كان عليه أن يتكرر على لسان السنيور ؛ ولكنه كان موجّهاً ، هذه المرة ، إلى أبنته الأثيرة .

عادَ الانكشاريون يعيثون فساداً في الشام ، قبل مغادرتهم إياها إلى تلك الأرض ، الطاهرة . إذ كانَ عليهم أن يزحفوا للحجاز ، مُجدداً ؛عليهم كان أن يُعيدوا ، بالسيف والنار ، جماعة الأعراب إلى صوابها . فقد بلغ من جرأة هذه الجماعة أن تهاجمَ مكة والمدينة ، سعياً لإزالة مقامات الصحابة ؛ بزعم كونها أوثان الجاهلية : إنه ذاك الرجل المتزمّت ، المهووس ، والمَدعو أبن وهّاب ، من كانَ قد ظهرَ بين أولئك الأعراب ، فما لبثَ أن أخضعهم لتعاليمه الغريبة ، الشاذة .
عندئذ ، كانت ماريا قد أضحَتْ فتاة متألقة القسمات ، متأنقة المَظهر ، وعلى ثقة بالنفس لا تحَدّ . فعندما أمرَها والدها أن تستر بالبرقع وجهها ، الجميل ، فإنها التفتت نحوَه ، لتقول بنبرَة مُبطنة بالتهكم : " ليسَ لديّ اللهفة ، يا أبي الحبيب ، على التخفي بنقاب جنيّة الحكايات " ، وأضافت متحدّية " سأحاولُ ما أمكنني تجنبَ الاحتكاك بهم ، أولئك الأوباش . ولكن ، إذا ما فكرَ أحدهم بمسّي ، فإنّ عينه الفاسقة ستدفع الثمن " . قالت ذلك وهيَ تلوّح بالعصا الرقيقة ، المصقولة ، التي اعتادتْ هَمْزَ الحصان بطرفها . فلم يفتح السنيور فمه بنأمة ما ، مُعترضة . اكتفى بتوقيع بسمَة ، مُتسامحَة ، على طرف فمه ، مُشيّعاً بها ظلّ الابنة ، العنيد ، المتواري وراء باب قاعة الصالون . في تلك اللحظة ، المَرحَة ، لم يُقدّر للوسواس أن يَهمز صدرَ الأبّ ، الملول ، بعصا حقيقة ، مقيتة ؛ وهيَ أنه لن يكونَ بوسعه ، أبداً ، أن يرى " مارياه " ثانية .

في الطريق إلى السوق ، اجتازت الكرّوْسَة دربَ البَحْصَة البرانيّة ، الترابية ، المطوقة بمفازة خضراء من أشجار الجوز ، العملاقة ، المتخللة بأخواتها من شجيرات المشمش والخوخ والدرّاق ، المُزدهية برقائق مذهّبة من ثمارها الناضجة. كأنما عصرُ هذا اليوم الصيفيّ ، المُعتدل الهواء ، كانَ يَدعو البنتَ الحسناء إلى جَني طيبات الجنة الشاميّة ، الطيبة . ولكن في تلك الساعة ، على الأقل ، كان نظرها أكثر توقاً إلى تجلي منارة الجامع الأموي الكبير ، المنيفة ؛ كانَ مَشدوداً إلى مَكمن السّحر ، والقداسة ، في المدينة التي تعشقها . ثمة ، عند الحدّ العمرانيّ ، المُحتفي ببيوت الأعيان ، الكائن بين السنجقدار وسوق ساروجة ، لاحظتْ ماريا أنّ الأفنيَة كانت أكثرَ سموقاً وانغلاقا ، في آن : سبق لوالدها أن أفادَ مرة ، على مَسْمَع منها ، أنّ هذه المنطقة ، المُسوّرة منذ عهد المماليك الشراكسة ، قد انتقلَ إليها مركز المدينة ، القديمة ، بعدما كانَ قبلا في محيط الجامع الكبير . هنا ، في " الآستانة الصغرى " ، كانت قصورُ الأعيان ، الباذخة ، مُتجاورة مع المنازل الأخرى ، الفارهة ـ إنما الأقل شأناً . ولكنّ الحمّامات والمقاهي والمساجد ، المتناثرة في جوانب الحيّ ، كانَ عليها أن تجمعَ ، بدأب ، أفرادَ هاتيْن الجماعتيْن ، المُتمايزتيْن ؛ الأناضولية والمحلية .

" ولكن ، ربّاه . أيّ وجه رائع ، آسر ، لهذه النصرانية ، الجريئة "
هتفَ بالعثمانية ذاكَ الرجلُ ، المُحاط بجواري الحرملك . وقتئذ ، لم يخطرَ ببال الفتاة ، الخليّ ، أنّ نظرة منبعثة من عينين تركيتين ، مائلتين ، كانت ما تفتأ مسلطة عليها من علّية حَرَمْلك أحد بيوت الوجهاء ، تلك ؛ وكانت نظرة إعجاب وتوَله. فمذ لحظة تناهي إيقاع خبب حصان العربة على أرضية الزقاق ، المُعبّدة بالحجارة الزاهية ، الملوّنة ، وقعَ بصرُ الانكشاريّ ، مَذهولاً ، على منظر فريد ، نادر بحق ؛ منظر امرأة ، يافعة ، مكشوفة الوجه ، تقودُ بنفسها كرّوسة ، مُعتبَرَة ، في دروب الشام الشريف .
لم يكد بابُ العمارة ، العالي الطود ، ليقعَ على مرمى عينيّ ماريا الواسعتيْن ، المَكنوزتيْن بالفيروز ، حتى شعَرَتْ أنها مُطارَدة من لدن فرسان هائجين ، مُتهاتفين بلغط غريب المفردات . إنها لحظة الخطر ، ولا ريب . فما كان من الفتاة إلا أن تسوط الحصانَ ، لكي يغذ الخطى بأقصى طاقته . مطاردة ٌ مطوّلة نوعاً ، شَهَدَها دربُ السويقة ، المستقيم ، المُستزرع على جانبَيْه بأشجار زيتون هَرمة ، مُتهالكة الجذوع بجدائل مبعثرة ، شمطاء . أخيراً ، عندَ نهاية الدرب ، المنفتح على ساحة صغيرة ، مَسدودة بمداخل الأزقة ، الضيقة ، وحينما أحاط الفرسانُ بالعربة ، أيقنتْ صاحبتها ألا جدوى من المقاومة . متوحّدة ويائسة ، سلمتْ ماريا أمرَها للمقدور .

شهرٌ على الأثر ، والانكشاريّ كانَ هنا ، في إيوان منزله ، الفاره ، مُستأنساً بصحبَة ضيف وجيه ، أليف المَعشر . هذا الأخير ، كانَ قد حَدَسَ من نظرة ملية ، متفرّسة ، أنّ مُضيفه ليسَ محمود الحال . فعلامات القلق ، البيّنة ، المؤشرَة على قسمات الوجه ، كانت تبيحُ للمرء الظنّ بأنّ صاحبَ الدار ، المهموم ، ربما قضى شطراً من ليلة الأمس في الحرملك ؛ في مقارعة مديدة ، غير منتصرة . نعم . ففي سهرات أخرى ، أقدم عهداً ، سبقَ للضيف أن اُخبرَ من صاحبه بحديث ذي شجون : إنّ جارية ، إفرنجية ، حديثة العهد بالدار ، كانت هيَ المُشكل ؛ بأطوارها الغريبة ومخالفتها للمَعهود من نداتها ، اللواتي كنّ عادة ً يستسلمنَ بطواعيَة ، ووَداعة ، لرغبات سيّدهنّ ونزواته .
آنذاك ، جرى الافتراضُ ، بداهة ً، إلى برودة ، مُحتملة ، في الطبع الصَعب للهنّ . فما كانَ من الصديق إلا أن أرشدَ الانكشاريّ إلى صفة أعشاب عجيبة ، ناجعة ، كان قد جرّبها بنفسه على حالة عَصيّة ، مُشابهة : تحميلٌ من خليط مناسب ، يكونُ فيه للبزور أصلٌ منخولٌ بمقدار معلوم من الفجل ، الثيل ، السلحم ، البقم ، الجرجير ؛ معجونٌ بماء بصل العنصل ؛ مجففٌ في الفيء ؛ مُعادٌ عجن مدقوقه بماء الورد . " حمّل البنتَ ، يا آغا ، في أيام حيضها ، الثلاثة ، بأقراص من هذه الصفة ، مُساويَة لثلاثة دراهم . حمّل فرْجها منه ، فترى منه عجباً ما أن ينقلب دمه الداكن إلى مألوف مُعينه ، القاني " ، قالَ الصديق لمُضيفه بيقين . ولكنّ تلك الصفة ، المَزعومَة التجربة ، لحقها أيضاً ثلاثُ أخوات لها ؛ سُفحنَ جميعاً ، هَدْراً ، على الضفتيْن الناصعتيْن للجَيْن عَيْن المتعة ذاك ، الضحل .

" أهيَ بظراءٌ ، هذه الأمَة ؟ "
سألَ الضيفُ صاحبَ الدار . فتطلعَ الآخرُ إليه بطرف عينه ، بنظرة مُستفهمَة بدورها . وكانَ أمرُ المرأة ، العنيدة ، قد قلّبَ ليلتئذ مراراً وعلى وجوه مُختلفة ؛ مُستثنىً منها ، بطبيعة الحال ، ما يُمكن تحميله من شبهَة لفحولة الرجولة . النظرة تلك ، الغائبة ، المُحال ترجمتها ، كانت دافعَ الضيف للتعقيب موضحاً : " إن يكن فرْجُ جاريتكَ كذلكَ ، فإنها على ذمّة أهل العلم ميالة ٌ للسَحْق "
" وماذا تقترحُ علاجاً ، يا سيّدي ؟ "
" لن يُجدي التعسّف ، بأيّ وجه . فعليكَ بالصبر والرويّة ، طالما أنّ تعلق قلبكَ بهذه الجارية هوَ من القوّة ، أنه يجعلكَ تحتفظ بها بالرغم من طبعها ، الموصوف "
" كنتُ قد هدّدتها ، عبثاً، بسوقها إلى سوق الجواري " ، قالَ المُضيف مغتاظاً ثمّ أردفَ وهوَ يتطلع بعينيّ مُحادثه " ولكنني أحببتها ، بحق . وعلى ذلك، أيها المحترم ،أرجو منكَ أن تفهَمَني ، إذا طلبتُ منكَ أن تقبلَ هذه الجارية هديّة ً " .

ثلاثة أعوام مَديدة ، مُمضة ، مَضتْ على وجود ماريا في منزل زعيم حيّ القنوات .
لم يكنْ سيّدها ، في واقع الحال ، قد أجبَرَها مرّة قط على شيء لا ترغبه . الشاملي من جهته ، لم يُجرّب أبداً مع هذه الفتاة الفاتنة ، اليافعة السنّ ، صفة ما من صفات الباه . ولم يَحتج الرجلُ أيضاً معَ عنادها ، الدائب ، لتعزيم أو حجاب أو أيّ حيلة أخرى ، سواءً بسواء أكانت تمتّ لعالم الأنس أو عالم الجنّ . فما هوَ إذاً وَجْهُ معاناة الفتاة ، الغريبة ؟
إنّ القادين الكبيرة ، المُتسلطة ، كانتَ طوال الوقت المَعلوم ، المُنقضي ، ترقبُ عن كثب ما كانَ من أمر هذه الجارية الإفرنجية ، العصيّة على الترويض . كانَ لديها علمٌ ، منذ البدء ، بجولات زوجها الليلية ، الخائبة دوماً . لا شكّ أنّ قريبها ذاك ، الوصيف ، هوَ من كانَ ينقل لها ، أولاً بأول ، أخبارَ سيّده المًتواترة ، المُهمّة بالنسبة إليها . الآن ، بعدَ كلّ المدّة ، الطويلة ، التي قضتها المرأة الغريبة هنا ، في هذا المنزل ، لم يَعُد من مَحل لمظنة القادين أو همّها : إنّ احتمالَ أن تنجبَ الجارية من سيّدها ، الملول ، باتَ شبه معدوم . فعلام إذاً ستكدّرُ هذه التركية نفسها في ريَب ، لا محلّ لها على أرض الموجود . في السنوات الفائتة ، كانت سيّدة الدار قد فقَدَتْ صبيَيْن ، بَهيَيْن ، فكادتْ أن تستسلمَ لليأس والإحباط . إنما معَ حلول هذه الجارية ، المونقة الحسن ، فإنّ القادين عليها كانَ ولا غرو أن تستعيدَ سريعاً دورَها ـ كزوجة وأمّ أيضاً . إنها اليومَ حاملٌ ؛ فكلّ شيء آخر، سَواءُ.

" ربّاه ، ما هذه الفطائر ، الفظيعة ؟ "
صاحَتْ السيّدة الكبيرة بصوت مُصمّ ، من لسانها العثماني . إذاك ، كانت تتطلع إلى ماريا بنظرة حانقة ، فصيحة الاتهام . بدوره ، رفعَ الشاملي رأسَهُ . بَيْدَ أنه رَمَقَ بالجارية بنظرة أخرى ، أقلّ اهتماماً . كانَ مع زوجته في المنظرة ، يتناولان فطورهما على طاولة مُحتفية بسماط زاه ، مُزهر ، يستوي فوقه آنية الحلوى وعدّة القهوة . كانا إذاً مُستمتعَيْن بصباح خريفيّ ، دافيء ، وهما على مبعدة خطوات من مناظر الحديقة ، الدانيَة ، يفصلهما عنها ساترٌ من مضلعات ، خشبية ، مأطرٌ على شكل جنحي طاووس ، مزخرَفيْن بدقة ومهارة .
" لا شكّ أنك سَهَوت عن العجينة ، بما كانَ بين يديك من مشاغل أخرى ؟ " ، قالَ السيّد لجاريته بالعثمانية وبلهجة ودودة ، متسائلة . وقبل أن يتسنى لهذه أن تجيبَ ، إذا بالقادين تستشيط غضباً فتصرخ بأعلى مراتب غيرتها : " ألا لعنة الله عليك وعلى مشاغلك ، أيتها الجارية ، الكافرة . أغربي عن وجهي من فورك " .
عندئذ ، أصبحَتْ ماريا على يقين بأنّ هذه التركية ، الماكرة ، هيَ من أمرَ أحدهم بدسّ الملح ، بدلاً عن السكر ، في الفطائر . كانَ قد سبقَ للجارية ، الفتية ، أن فاجأت أهلَ الدار بحلوى موطنها ، الأول ؛ الحلوى الإفرنجية ، التي ستدخلُ صنعتها لاحقا في المطبخ الشامي : حفنة كبيرة من الدقيق ، الممزوج مع السكر والخميرة بوساطة الماء ، تتركُ لساعة أو نحوها لكي تضحي عجينة ً ، هامدَة في قدْرها . ثمّ تسحَبُ العجينة عدة مرات فوق دفة خشبية ، مناسبة، مُضافاً إليها الزبدة في كل مرة وبوفرة . وختام العملية ، حينما تجَزأ العجينة إلى قطع صغيرة ، متساوية الحجم ، فتدلق في وعاء يُحمّى فوق نار الكانون . وأوضحَتْ ماريا لمن حولها ، أنّ تلك هيَ حلوى الفطور ، اليومية ، وأنهم يَدعونها " كرْوَاسْ " ؛ ثمة ، في البندقية . فتضاحكَ بعضُ الخدَم ، من الذين كانوا وقتذاك في مطبخ المنزل ، وردّدوا بسرور : " إنها كرّوْسَة ، قزمَة " .

" قد أكونُ كافرَة ً ، بنظرك ؛ ولكنني لم أكن مرّة جاريَة ، قط "
أجابتْ ماريا باللغة العثمانية ، التي تتكلمها بطلاقة ، متحدّية القادين بعزة وكرامة . فما كانَ من غريمتها إلا العودة للصراخ : " يا لك من وقحَة ، فاجرَة . أتجرئين أيضاً على مخاطبتي بغير تكلف ؟ "
" أنا أعرفُ ، جيداً ، من أخاطب . أما أنت ، يا سليلة البداوة ، فقد تجاوزت حدّك حقاً " ، قالت لها وهيَ ترفعُ ذقنها الدقيق ، بشموخ . وإذا بالتركية ، وقد أثارتْ الإهانة جنونها ، تمسكُ بطبق الحلوى فتضربُ به رأسَ غريمتها .
هذا الحَدَث ، شاءَ أن يغيّر طبعَ الجارية ، العنيد . إنّ قيام السيّد بنفسه على تطبيب ماريا ، المَجروحَة الجبين ، وتعنيفه من ثمّ القادينَ بعبارات قاسية ؛ كانَ ولا ريب سبباً ، مَرجوحاً ، في منقلب الحال . فلم يمض شهران ، تقريباً ، على وفاة صبيّ القادين ، ذي الأسابيع المعدودة من عمره ، حتى كانت غريمَتها تعاني من آلام المَخاض . عندئذ ، أنجبَتْ ماريا بنتاً رقيقة ، غضة ، لم تعرف الشامُ قبلاً مثيلاً لبهاء ملامحها ـ كما أكدَتْ الداية العجوز ، المَبهورَة العينيْن .
" وإذاً ، فلن يليق بحُسْن البنت سوى اسم " نرجس " ؛ اسم زهرة الربيع ، الأزهى " ، هتفَ الأبّ بغبطة لا مَزيد عليها وهوَ ينقدُ يدَ القابلة بقطعة ذهبية . نعم . كان الشاملي مُولعاً بالورود والأزاهير . عامان على الأثر ، حينما رزقَ من القادين بابنة أيضاً ، فما كانَ منه إلا أن أطلقَ عليها اسم التعريشة الأثيرة على قلبه ؛ " ياسمينة " . ولكن قبل ذلك ، كانَ على الإبنة الأخرى ، البكر ، أن يختفي أثرها ، أبداً ، بًعَيدَ قليل من وفاة أمّها بمرض ما ، غامض . كانت ماريا قد علّمَتْ أهلَ الدار طريقة صنع الحلوى، الإفرنجية ، التي كانت سبَبَ تلك المَشادة ؛ حينما دسّ أحدهم في عجينتها الملحَ بدلاً عن السكر . ولكن ، ما لم تكن تعلمُهُ هيَ ؛ أنّ منقلبَ حالها ، تالياً ، من مجرّد جارية إلى سيّدة ولود ، سيكون عليه بدوره أن يقلبَ صفة الملح إلى السمّ .



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفصل الثالث : مَنأى 4
- الفصل الثالث : مَنأى 3
- الفصل الثالث : مَنأى 2
- الفصل الثالث : مَنأى
- الرواية : مَهوى 11
- الرواية : مَهوى 10
- الرواية : مَهوى 9
- الرواية : مَهوى 8
- الرواية : مَهوى 7
- الرواية : مَهوى 6
- الرواية : مَهوى 5
- الرواية : مَهوى 4
- الرواية : مَهوى 3
- الرواية 2
- الرواية : مَهوى
- الأولى والآخرة : مَرقى 13
- الأولى والآخرة : مَرقى 12
- الأولى والآخرة : مَرقى 11
- الأولى والآخرة : مَرقى 10
- الأولى والآخرة : مَرقى 9


المزيد.....




- كتّاب وأدباء يوثقون الإبادة في غزة بطريقتهم الخاصة
- حين أكل الهولنديون -رئيس وزرائهم-.. القصة المروّعة ليوهان دي ...
- تكريم الإبداع والنهضة الثقافية بإطلاق جائزة الشيخ يوسف بن عي ...
- أهمية الروايات والوثائق التاريخية في حفظ الموروث المقدسي
- -خطر على الفن المصري-.. أشرف زكي يجدد رفضه مشاركة المؤثرين ف ...
- هل يحب أطفالك الحيوانات؟ أفلام عائلية أبطالها الرئيسيين ليسو ...
- أحمد عايد: الشللية المخيفة باتت تحكم الوسط الثقافي المصري
- مهرجان -شدوا الرحال- رحلة معرفية للناشئة من الأردن إلى القدس ...
- لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للق ...
- لغز الإمبراطورية البريطانية.. الإمبريالية مظهر للتأزم لا للق ...


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - الفصل الثالث : مَنأى 5