قمْ للمعلم واحكِ التفاصيل - في المسكوت عنه 5-


لمى محمد
الحوار المتمدن - العدد: 7552 - 2023 / 3 / 16 - 00:49
المحور: الادب والفن     

القصص في معظمها لا تختلف. تختلف التفاصيل، الحكايا ضمن الحكايا.. الحواديت الصغيرة والأساطير التي صدقها كلٌ منّا عن الحب والحياة…
القصص في معظمها مكررة والتاريخ يعيد نفسه، صحيح لكن كما يختلف الأشخاص.. تختلف التفاصيل..

والحقيقة الكاملة تكمن في التفاصيل، لهذا يخسر البشر قيمهم كل يوم بينما يزداد تطورهم العلمي أو تزمتهم الديني…

التزمت الديني كما التطور العلمي بضرائب لا تقدر بثمن، ضرائب ندفعها من طيبتنا، من كرمنا، من شهامتنا.. ومن يظن أنه لم يدفع الضريبة حالم.
***********


تفاصيل -1-:

في الثمانينات عشنا في الجزائر الجميلة، أذكر أول يوم دراسي لي.. سمعتهم يقولون:
-جاءت المصرية، المصريات حلوات..
وفرحت كان مسلسل ليالي الحلمية كفيلاً بطفلة التاسعة لتعرف مصر، وتفخر بها.. ثم قلت لهم أنا من سوريا في مصر.. لم أعرف أكثر من ذلك، وفي عرف الطفولة كان ذاك كافٍ…

معلمتي في ذلك الوقت “ لالا خديجة” علمتني عن الحدود وقالت:
-مجرد خطوط على الورق، نحن شعب واحد.
تذكرتها وأنا أعلم ابنتي عن الحدود:
-الحدود خطوط صنعها الاستعمار، لتصنع الجغرافيا، والجغرافيا تصنع التاريخ الذي تدرسه المدارس، التاريخ الحقيقي يصنعه الأدباء.
***********


تفاصيل -2-:

في التسعينات، أخذت مدرسة اللغة العربية الأقرب إلى قلبي “ الآنسة رجاء ” دفتري لمواضيع التعبير، وقرأت منه في كل فصول المدرسة.. قالت لي:
-يا لمى أنت تريدين أن تصبحي طبيبة نفسية، لتعالجي البعض ، وأنا أراك كاتبة مبدعة تعالج الجميع…

بعدها بسنوات قال لي الأستاذ خليل عبقري الرياضيات، مثال الأخلاق والنزاهة:
-لا أشك لحظة واحدة في قدرتك على النجاح.. كاتبة أو طبيبة أو الاثنين، لم لا؟

رنت جملهم في روحي، وما أدراكم ما تفعله جمل المعلمات والمعلمين في أرواح الأطفال والمراهقين، تصنع مستقبلاً…

كانت جملة السيدة الفاضلة رجاء الفاتح والسيد النبيل خليل الشيخ أحمد بوصلتي، كما كانت جمل معلمين كثر مروا في حياتي، فغيروني و صنعوني، بدءاً من أمي الجميلة، إلى أبي الحكيم، وأساتذة كثر في المدرسة، كلية الطب، اختصاص الأمراض الجلدية في دمشق: مع كل الاحترام وحفظ الألقاب:
.. منتهى جليلة، نزار القيم، حبيب حصني -رحمة الله عليه-، فدوى فيوض، منير شحود، رشيد مسرة، محمد الخير، عابد دعبول، أحمد سليمان -رحمة الله عليه-، علي درويش -رحمة الله عليه- ،هناء المسوكر، غياث ربيع، بديع نعيسة، مروان بركات، محمد عادل اسماعيل، صالح داوود، حميد سليمان، أحمد عبد الرحمن، لينا الحاج ابراهيم -رحمة الله عليها- ..
وكثيرون غيرهم، لم تسعفني الذاكرة بتذكر الأسماء الأولى لهم، لكن صورهم كانت ومازالت محفورة في ذاكرتي، كما في استمراري.
***********


تفاصيل -3-:

البعض يسمي الحياة في دولة الغربة بسباق الفئران، يتراكضون ليل نهار بحثاً عن الماديات، في حين تنهار الروحانيات بالتدريج حتى يصبح الاكتئاب المرض الأكثر شيوعاً وإن غفلت الاحصائيات…

بالنسبة للأطباء العاملين في المستشفيات الجامعية، فالعمل الجزئي حلم، النظام الطبي هنا يريدك أن تعمل ليل، نهار.. لكني في كل يوم كت أتذكر كلام أساتذتي في سوريا…
بعد سنوات من السعي الحثيث في عملي الطبي في أمريكا، بعد تعديل شهادة طب الجلد، بعد التطوع المجاني في اختصاص الطب النفسي، بعد اختصاص الطب الباطني، بعد التخصص في الطب النفسي، وبعد الاختصاص الدقيق في الطب النفسي الجسدي، ومشاريع كثيرة.. ملكت شرعية الاختيار، ، اخترت طبيعة عملي -بشرعية سيرتي الذاتية الآن- ، اخترت العمل الجزئي بشرعية كلام المعلمين التي وثقوا بي وصنعوني.

في حين احتفظ بالجزء الأكبر من أيامي لكتابتي، للقراءة، للتمعن في أسرار الله في خلقه، ويقل ما أحصل عليه من المال مقارنة بالأطباء هنا..
أراهم يكبرون، ويتغيرون.. أراهم دخلوا في تنافس رهيب على الألقاب و الأموال.. وبينما يزداد رصيدهم في البنك، يكبر صف الكتب التي رحلت بين صفحاتها وأقف عليها، فيصغر العالم في نظري ويشرح التاريخ الحقيقي جغرافيا لا تعلمها المدارس.
هكذا أصبح معلمة أخرى لطلاب الطب والمقيمين هنا، وفي كل مرة أراهم أعرف أن جملي ستبقى معهم إلى جيل آخر…


القصص في معظمها لا تختلف. تختلف التفاصيل، الحكايا ضمن الحكايا.. الحواديت الصغيرة والأساطير التي صدقها كلٌ منّا عن الحب والحياة…
القصص في معظمها مكررة.. صحيح.. لكن كما تختلف التفاصيل..يختلف المعلمون، فتختلف الجغرافيا و يكتب الأدباء التاريخ.

كل عام والمعلمون الحقيقيون حول العالم صناعنا وسبب وجودنا.. تحية تتجاوز أي حدود للرُسل...

يتبع…