نقد الدين عند هابرماس 2-3


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 6602 - 2020 / 6 / 25 - 13:46
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

العقل والدين: الحوار مع راتزنغر (2004)


على خلاف خطاب "الإيمان والمعرفة" المتحمس لعودة الديني، سيتدارك هابرماس حماسه ذاك ويعود إلى دقته وحذره المعهودين وإلى مواقعه العقلانية الرصينة حين سُيدعى بعد ثلاث سنوات من ذلك إلى مدينة ميونخ الألمانية وتحديداً في 19 جانفيي/كانون الثاني من عام 2004 من قبل الأكاديمية الكاثوليكية لبافاريا في ندوة مشتركة تجمعه مع مواطنه جوزيف راتزنغر الذي سيصبح بعدها بسنة بابا الفاتيكان. لم يكن هذا العلمان الألمانيان قد اشتركا في خطاب مشترك من قبل، ولعل هذا اللقاء قد يكون أول حدث يجمع بينهما ليس فقط على صعيد الموضوع، وإنما أيضاً بشكلٍ شخصيّ.
في ورقته التي قرأها يومها لا يتناول هابرماس موضوع الدين من حيث كونه مسألة لاهوتية أو خلاص فردي أو جماعيّ أو علاقة مؤشكلة بين المعرفة والإيمان، الخ.، وإنما من زاوية المصلحة (بالمعنى البراغماتي الهابرماسيّ) أي من خلال البحث في الدور الذي يمكن أن يلعبه الدين في الدولة العلمانية الحديثة أو في المجتمعات ما بعد العلمانية.
ولأن هابرماس على وعيّ بتراجع، بل وشبه اختفاء دور الدين في مجتمعات الغرب الأوروبي الحديث ودوله، فإنه سيمهِّد لعودة هذا الدور بإضفاء الشرعية الفلسفية عليه بعبارات قطعية فهو يؤكد مثلاً أن : "للفلسفة أسباباً تُحتم عليها أن تكون دينية."

بهذا التوجه يأخذ هابرماس الطريق المعاكس تماماً للطريق الذي قطعه ابن رشد قبل أكثر من ثمانية قرون وعقدين من الزمن في رسالته فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال (1179). إذ رغم التشابه الظاهر في سعي كل من هابرماس وابن رشد لإصلاح ذات البين بين الإيمان والمعرفة، فإن الفرق كل الفرق يكمن في كون هابرماس يريد تمرير الدين إلى داخل الحداثة من باب الفلسفة والحق في الاعتراف ونظرية العدالة وما يراه قصوراً في العلوم والعقل وعدم القدرة على إيجاد الإجابات الشافية لأسئلة ماورائية، في حين اجتهد ابن رشد لتمرير الفلسفة من بين سيوف الفقهاء المُشهرة ضد العقل ومن باب الدين بوصفه سلطة الحقيقة آنذاك.
تقوم قراءتي لنص ابن رشد ذاك على اقتراح استراتيجيات ثلاث اعتمدها في نصه. ترتكز الاستراتيجية الأولى على محاولته منح الفلسفة شيئاً من شرعية الشريعة نفسها إذ، يقول مترافعاً عن الفلسفة/الحكمة: "لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع: فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له" . وبمعنى آخر لم يجد ابن رشد مدخلاً تمر الفلسفة من خلاله بين سيوف الفقهاء وتكفير حراس الدين إلا باكسابها شيئاً من الشرعية الإسلامية ولذلك نراه يجتهد في مقدمة أضمومته بسوق الحجج والأدلة والآيات لكي يتم قبول فكرة أن يكون "النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع" . ثم بعد شرعنة القياس العقلي بالحجج الفقهية والتعريف به وبأنواعه والتأكيد على ضرورة استخدامه، ينتقل ابن رشد إلى الإستراتيجية الثانية وهي مساواة القياس العقلي – الطارئ على سلطة الحقيقة الفقهية والمُهدِّد لها – بالقياس الفقهي. وبمعنى آخر بعد تشريع استخدام العقل بحجج النقل يرفع ابن رشد من شأن الفلسفة إلى مصاف الشريعة الحاكمة والمسيطرة كسلطة حقيقة ذات نفوذ على القرار السياسيّ. وللقيام بهذه المساواة في ظل عدم تكافؤ القوى يستمر ابن رشد في نزع فتيل التوتر بين الشريعة والحكمة والتركيز على ما يمكن أن يجمع بينهما مؤكداً وجوب "النظر في القياس العقلي وأنواعه، كما يجب النظر في القياس الفقهي" . هنا يصبح القياس العقلي على نفس مكانة وأهمية ومستوى القياس الفقهي لا أدنى منه، كما لا تعود الحكمة غريبة عن الشريعة أو منافسة لها وإنما "صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة [...] وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والغريزة."
لكن معرفة القياس العقلي وأنواعه يستوجب العودة إلى مصادر هذا القياس أي الفلسفة اليونانية القديمة وبخاصة منطق أرسطو وهنا يؤكد ابن رشد على ضرورة "أن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، حتى تكمل المعرفة به" . هكذا تتجلى بحق جذرية نزعة التنوير عند ابن رشد بدعوته إلى الانفتاح على الآخر والدعوة إلى الأخذ عنه "سواء كان [ذلك] الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة" . وفي خطوة استراتيجية ثالثة وأخيرة يعلي ابن رشد من شأن القياس العقلي على القياس الفقهي أي من شأن الحكمة على الشريعة إذ في حال تعارض النظر البرهاني للفيلسوف مع ما جاء في الشرع أو في ظاهر النص "طُلب تأويله" ، أي تأويل النص. هكذا حاول ابن رشد قلب علاقات القوى بين الفلسفة غريبة الوجه واليد واللسان في الوسط الفقهي المحافظ أولاً بشرعنتها بحجج الدين وثانياً بمساواتها – وهي الضعيفة والغريبة – بالشريعة المتحكمة والمسيطرة، قبل أن يقلب البناء بحذر ودون ضجيج بجعل الحكمة صاحبة الكلمة الأخيرة والحقيقة الأسلم فإن تعارضت الشريعة مع الحكمة حتى ولو على صعيد النص القرآني وجب تأويل النص، والتأويل هنا هو باستخدام القياس العقلي لا الفقهي. هكذا حاول ابن رشد فك احتكار الفقهاء لسلطة الحقيقة ساعياً لإيجاد موطئ قدم ثابت للفلسفة على أرضٍ معادية لها. لا شك أن شروط العصر لم تسمح لمحاولة ابن رشد أن تثمر في العالم الإسلامي آنذاك وإنما في عالم غربي راحت فيه بوادر التململ من اللاهوت تفصح عن نفسها بشكل أوضح، بينما راح يخبو آنذاك ضوء الأندلس، آخر منارات الحضارة الإسلامية التي عاش فيها ابن رشد بينما سيجد فكر الغزالي السلفي، نقيض ابن رشد وعدو الفلاسفة، صدى أوسع وحضور طاغٍ في عالمٍ آفل. ولعل السياق العربي الإسلامي الوسيط على الأقل يُكذّب رأي هابرماس بأن "اللاهوت في العصور الوسطى كان حارساً للفلسفة" كما أن السياق الأوروبي لا يصادق تماماً على هذا الرأي.
بهذا المعنى يمكن لنا القول إذن أن هابرماس يذهب في عكس اتجاه ابن رشد فهو يسعى لإيجاد مكانٍ لدينٍ تراجعت مكانته وحضوره في مجتمعات الغرب المعلمنة وصار عليه تبرير نفسه ووجوده أمام محكمة العقل بعد أن كان هو القاضي والشهود على الفلسفة التي كثيراً ما استُدعيت لتمثل أمام محاكم اللاهوت. لكن لننتبه هنا أن هابرماس الذي يريد إيجاد مكانٍ للدين في أفق حداثيّ لا يسعى على طريقة ابن رشد، إلى قلب علاقات القوى المسيطرة أو سلطة الحقيقة بمساواة الضعيف بالقوي ثم، وبخطوة أخرى، تغليب الضعيف على القوي السائد والمسيطر، وإنما هو يريد للدين أن يلتزم بشروط المجتمعات التعددية الحديثة التي تفترض التعايش وتعددية التصورات حول العالم دون مصادرة أو صراع أو احتكار. على الدين إذن بحسب هابرماس "أن يستغني عن [...] الحق في احتكار التأويل وتنظيم الحياة الشامل نظراً لشروط علمانية العلم ومحايدة سلطة الدولة والحرية الدينية الشاملة.
لكن وعلى الرغم من تمسك هابرماس في خطابه ذاك بمرجعية المجتمع الحديث المعلمن إلا أن دعوته تلك تهدد علمانية المجتمع الحديث نفسها فهو يواصل فتح الباب لعودة الدين لا بوصفه مرجعية عتيقة للعقل وكامن معياري ضامن للأخلاق فحسب، وإنما وقبل كل شيء أساس الشرعية الديمقراطية. مرة أخرى نجد أنفسنا أمام نسخة مقلوبة عن ابن رشد فها هو هابرماس يطالب تقاليد التنوير بضرورة مراجعة حدودها والانفتاح على الدين المُطالب بدوره بنفس المهمة بالقول: "سوف أقترح أن نلحظ في العلمنة الثقافية والسياسية سيرورة مزدوجة للتربية والتي تجبر تقاليد التنوير بقدر ما تجبر المذاهب الدينية بالتفكُّر في حدودها على نحو متبادل."

كعادته لا يترك هابرماس فرصة لنقد تلك الفلسفات التي يحشرها في سلة ما بعد الحداثة، فها هو يخص منها بالنقد في خطابه هذا ما يسميها بالفلسفات الإلحادية ما بعد الهيجلية التي أنتجت لاهوتاً سلبياً أو فلسفات ملحدة لكنها تحمل كل صفات وملامح اللاهوت قائلاً:
تظل آلهة الميتافيزيقا مابعد الهيجلية مجهولة الأسماء تلك : كالوعي المتمدد، والحدث الذي يستحيل على الفكر التنبؤ به، والمجتمع غير المغترب فريسةً سهلة للاهوت وتظل متاحة على إمكانية قراءتها بوصفها أسماء مستعارة عن التثليث للإله الشخصي الذي يحاور نفسه.
لا نختلف مع توصيف هابرماس الدقيق هنا فنيتشه الملحد مثلاً راح يبحث عن آفاق للخروج من مأزق عصره في فلسفة ما قبل سقراطية، بل وفي تقاليد إغريقية أسطورية تسمح بالتنبؤ بعودة الآلهة المحررة (ديونيسيوس)؛ ولم يخرج إلحاد هايدجر كثيراً عن هذا الطريق في بحثه الدؤوب عن مخرج من الحداثة من مرجعيات خارج الحداثة وسابقة عليها وبخاصة في الفلسفة ما قبل السقراطية، فلسفة الأصول النقية السابقة على نشوء الميتافيزيقا حيث سيؤسس صاحب الوجود والزمان فلسفته في الوجود كلاهوت مقلوب أو ما يسمى باللاهوت السلبي؛ وسيعكف هوركهايمر "الماديّ المتشائم" على البحث عند شوبنهور "المثاليّ المتشائم" عن إمكانية الابقاء على الدين لكن من دون إله ؛ في الوقت الذي سيكسر فالتر بنيامين الجفاف المادي للماركسية بحدوس التصوف اليهودي؛ وسينشغل دريدا بإمكانية ترقب المخلِّص دون مسيح، الخ. جميع هؤلاء المفكرين، كان هابرماس قد انتقدهم في أكثر من مناسبة لنزوعهم اللاهوتي غير المباشر أو السلبي، لكن الطريف أن هابرماس نفسه الذي لا يني يصوب سهام نقده لهم يرتد، في مرحلة الإنقلاب اللاهوتي، إلى نفس المواقع التي يقصفها نقداً، مطالباً صراحةً بفلسفة لا تعترف بالدين فقط وإنما تستعير مفرداته، مع أن هابرماس قد هاجم تحديداً هذه الاستعارة وأسال فيها حبراً كثيراً في هجومه المتكرر على هايدجر .


بين الطبيعانية والدين (2005): إقحام الدين في الفضاء العام السياسيّ


فلسفة الدين بين كانط وهابرماس:

كالعديد من الفلاسفة المعاصرين، لا يتبنى هابرماس فكرة الصراع بين الفلسفة والدين أو بين الإيمان والمعرفة وإنما يؤكد على إمكانية تعايشهما معاً في المجتمعات مابعد العلمانية دون صراع وفي أفق قائم على التفاهم تضمنه دول ديمقراطية يُفترض فيها الحيادية والعدالة تجاه التصورات المختلفة للعالم وللأسئلة الوجودية الكبرى التي انبرت الفلسفات والأديان للإجابة عليها منذ بدايات تكون الوعيّ البشريّ. ولكي تتحقق مثل تلك العدالة الاجتماعية يرى هابرماس أن من مصلحة المجتمع ما بعد العلماني، كما قلنا من قبل، فتح الأبواب أمام المتدينين والاعتراف بهم وتأكيد حقهم في النقاش السياسيّ وفي أخذ المواقف السياسية انطلاقاً من قناعاتهم الدينية على شرط قبولهم بثقافة التعدد. ويُلح هابرماس على حق المتدينين الانخراط في الفضاء العام السياسيّ من خلال "لغتهم الدينية" وتصوراتهم اللاهوتية دون أن يتعرضوا لأي تمييز ضدهم من قبل العلمانيين بحجة الدفاع عن العلمانية أو العقلانية العلمية أو التفكير المدني أو بفرض لغة لادينية عليهم تتعارض مع هوياتهم الإيمانية ووجودهم كمواطنين متدينين. وليكون ذلك ممكناً يحدد هابرماس شروطاً للاعتراف المتبادل بين العلمانيين والمتدينين كأن يعترف المتدينون بتعددية الرؤى وحق الاختلاف وعدم احتكار الحقائق والكف عن فرض رؤاهم العقيدية على المختلفين معهم في ذلك؛ وكأن يحترم العلمانيون آراء المتدينين ويتضامنوا معهم ويقبلوا بهم كمواطنين شركاء ومتساوين. لكن إذ يبدو هذا الكلام المجمل هنا ذو حمولة أخلاقية نبيلة ودفاعاً عن عدالة منقوصة، فإن الدخول في تفاصيل نقاشات هابرماس يثير الكثير من الاعتراضات والأسئلة المُقلقة.
فرغم شيوع مصالحة اللاهوت مع الفلسفة وبخاصة في جامعات الولايات الممتحدة الأمريكية، إلا أن هابرماس، الأوروبيّ والذي يُقدَّم كفيلسوف لا أدري، سيجد نفسه مُضطراً على ما يبدو إلى تبرير مثل هذا التعاطف المتأخر مع الدينيّ و محتاجاً – رغم كل ثقله الفكري والمعرفي – إلى سند معرفي آخر ذي سلطة فكرية وحجة أخلاقية دامغة يدخل بواسطتها إلى عالم اللاهوت سيء السمعة عند أصحاب التفكير مابعد الميتافيزيقي الأوروبي. سيجد هابرماس في كانط وفلسفته في الدين ما يخفف عن كاهله عبء النقد لهذا الانقلاب الدينيّ وما قد يساعده على طرح فكرته حول عودة الدينيّ بفكر كانطيّ مُحدَّث يمكن من خلاله إدخال الدين إلى الحداثة المطرود منها بلبوس العقل المصنوع في معامل الحداثة والحامل لعلامتها التجارية. ولن تُخيِّب الكانطية مرة أخرى توقعات هابرماس حيث سيجد فيها كل كل المرجعية النظرية والأخلاقية التي يحتاجها.
وعلاقة هابرماس الأخير بكانط علاقة ذات دلالة. فلا شك أن هابرماس الكهل، ومنذ أن شرع يهتم بالمبحث الأخلاقي، ثم القانوني، وأخيراً الدينيّ راح يقدِّم فلسفة كانطية مُجدّدة أو كانطاً مُحدّثاً ومتأقلماً مع العصر. وفي الاستهلال الطويل الذي يقدمه لهذا الكتاب يستدعي هابرماسُ كانطَ من جديد ليستعير، مرة أخرى، ترسانته النظرية مستهدياً بها في مقاربة الدين من جهة، ومحدّثاً لها في محاولة لتقديم إجابات كانطية على أسئلة معاصرة. في هذا الاستهلال إذن لا يغيب شبح كانط الذي ستُشكل مقاربته للدين الخلفية التي ستتموضع عليها أفكار هابرماس سواء بتناول أفكار كانط نفسه في الدين أو لدى بعض الفلسفات الكانطية ما بعد كانط التي قاربت علاقة الإيمان بالمعرفة. في تأكيده على أهمية كانط في مقاربة الإشكالية الدينية يقول هابرماس: "[...] تستحق منا القصدية البنائية التي ترتكز عليها الفلسفة الكانطية للدين مواصلة الاهتمام بها إذا ما كنا نرغب تعلُّم كيفية استخدام العقل العملي وما يمكن للديانات الكونية أن تجتمع حوله ضمن شروط الفكر ما بعد الميتافيزيقي." قبل أن يؤكد ارتباطه الشخصيّ بفلسفة كانط بالقول: "ولهذا تهمني الفلسفة الكانطية للدين فهي تمنح فعلياً وجهة نظر تسمح بالتساؤل حول كيفية مواءمة الإرث الدلاليّ sémantique للتقاليد الدينية دون محو الحدود التي تفصل بين عالَمي الإيمان والمعرفة."
قد يكون دقيقاُ القول أن كانط قد ميّز بين مستويين للعقل: العقل المحض (ماذا يمكن أن أعرف؟) و العقل العمليّ (ماذا يتوجب عليّ أن أفعل)، لكنه جعل الأول مدخلاً إلى الثاني، وبالتالي فالحدود التي وضعها كانط بين الأول والثاني، أو النظري والعملي، أو حتى بين المعرفة والإيمان ليست للفصل (كما يقول هابرماس) وإنما للوصل. وبمعنى آخر كان على كانط لكي يصل إلى الإعتقاد أن يقطع طريق المعرفة كله أولاً دون أن يقطع معه. الأول بهذا المعنى عتبة للثاني ومدخل إليه ويجد مبرره وهدفه فيه، والثاني غاية للأول، والغاية تسبق السيرورة المؤدية إليها وتتقدمها وهي ليست بذلك هدفها فقط وإنما أصلها وسببها أيضاً. لنتذكر ما كتبه صاحب نقد العقل المحض في مقدمة الطبعة الثانية لهذا العمل العمدة في تاريخ الفلسفة والذي أكّد فيها أنه من غير الممكن قبول فكرة الله والحرية والخلود وفقاً لضرورات العقل العمليّ، دون أن نُسقِط عن العقل التأملي الإدعاءات المزيفة لرؤاه الترانستندتالية. ينتقد كانط هنا إذن مبادئ العقل التأملي التي لا تستطيع في نظرتها الترانسندنتالية إدراك ما هو أبعد من موضوعات التجربة الممكنة، فهي وبتجاوزها لحدود التجربة تحوّل مباشرةً الموضوع الذي تتأمله إلى مجرد ظاهرة. وبهذا يعلن كانط عجز العقل المحض عن التقدم نحو العقل العمليّ . وباختصار يؤكد كانط هنا على قصور العقل التأملي عن إدراك ما وراء التجربة المباشرة أو الممكنة، ولأنه، أي كانط، لا ينكر حقيقة ما وراء هذه التجارب كفكرة الله والحرية والخلود، فإنه يقول حرفياً: " كان عليّ إذن إلغاء المعرفة لأجد مكاناً للإعتقاد." هكذا وبعد أن وصل إلى تخومه وحدوده التي لا يستطيع أن يمضي خلفها إلا بتحوله إلى شكلٍ آخر، يُسلّم العقل النظري الراية إلى العقل العمليّ أو يتحوّل إليه. يثق كانط إذن بقدرة العقل العمليّ على الذهاب إلى ما يعجز العقل النظري أن يصل إليه. لكن، ما يسكت عنه هذا الكلام (وهو نتيجة نجدها لدى بعض المتصوفة) هو أن المعرفة تعطِّل الإيمان وتقف في طريقه ولهذا كان لا بد من الإعتقاد للخروج من عدمية الميتافيزيقا التي ينتجها العقل النظري. ها نحن هنا أمام فكرة تُذكّرنا بقفزة الإيمان الكركيجاردية، لكنها تظل مع كانط مجرد نقلة محسوبة، سجينة في حدود مجرد العقل، أو لنقل نقلة من إمكانية معينة للعقل (نظرية) إلى مهمة أخرى له (عملية) تنتقل من ضفة الشك أو العجز النظري إلى ضفة الإيمان العقلي عبر قطار العقل وليس كما سيفعل كركيجارد لاحقاً بتنظيره لقفزة الإيمان خارج العقل وإلى ما رواء العقل لا في مجرد حدود العقل كما هو الأمر مع كانط. قفزة الإيمان الكركيجاردية قفزة مليئة بحرارة الإيمان بينما الأمر عند كانط هو مجرد انتقال مدروس وحذر نحو الإيمان المُعّلب بسولوفان العقل البارد. مع كركيجارد هناك قطيعة بين المعرفة والإيمان بينما مع كانط هناك ممر إجباري يصل بين الاثنين دون قطع أو قطيعة. ولعل تعليب الدين في مقولات العقل يتجلى بوضوح عند كانط في نصه الدين في حدود مجرد العقل (1793) (والذي يُلمح إليه هابرماس بإمكانية اعتباره رابع النقديات الكانطية بعد نقد العقل المحض، فالعملي، فنقد ملكة الحكم). في هذا النص لا يقلِّص كانط الدينيّ إلى العقلي فقط، وإنما أيضاً يحشر الدين في صندوق الأخلاق، ثم يقصر الأخلاق على المسيحية.

وبالعودة إلى استرشاده بكانط في تناول "نقد العقل الدينيّ" نجد أن هابرماس وفي الاستهلال – الذي يعنونه ﺑ "الحد بين الإيمان والمعرفة – في استقبال الحمولة الحالية للفلسفة الكانطية للدين واستقبالها" – يميّز بين كانط المعرفيّ الذي عكف على ضبط حدود العقل النظري المحض، وبين كانط الأخلاقيّ الذي سيتجاوز يأس العقل النظري بالعمل والواجب والإيمان العقلي. يقول هابرماس: "إنه كانط الأخلاقيّ الذي سيقف ضد الانهزامية المستنيرة لعدم الإيمان والذي سيرغب – في وجه النزعة الشكيّة – بإنقاذ محتوى الإيمان والإلزامات الحاضرة في الدين والتي يمكن تبريرها في مجرد حدود العقل." لكن العلاقة المتوترة بين الفلسفة والدين كما كانت عليه في زمن كانط في القرن الثامن عشر قد تغيرت عما هي عليه اليوم في القرن الواحد والعشرين، الذي يرى فيه هابرماس العصر الملائم للتصالح مع الديني وفتح الأبواب أمامه فهو يؤكد: "على أيٍّ فإن النبرة قد تغيرت عندنا، ففي الغرب الأوروبيّ قد ولّى زمن التعارضات بين الفهم المتمركز على الإنسان والفهم المتمركز على اللاهوت للذات وللعالم، تلك التعارضات التي تؤكد نفسها بشكلٍ عنيف. أما الآن فلدينا مصلحة في محاولة استعادة المحتوى التوراتي والإنجيلي biblique في إيمان العقل أكثر من مصلحتنا في محاربة القديسين la soutane والظلامية."

في خضم استعراضه لموقف كانط من فلسفة الدين لا ينسى هابرماس الإشارة إلى الموقع المزدوج الذي يقف فيه كانط إزاء اللاهوت بوصفه، من جهة، وارث لتقاليده، ومن جهة أخرى، متمردٌ عليه. فكانط كان مقتنعاً بكون الدين مرجعيةً للأخلاق متقدمة عليه، لكنه كان، بالمقابل، رافضاً الظلامية والتعصب اللذين تختزنهما وضعية الدين. وهنا يقترح هابرماس تلخيصاً طريفاً للفلسفة الأخلاقية الكانطية في مجملها بوصفها "محاولة لإعادة البناء الاستدلالي لواجب الوجود القطعي المتضمن في الوصايا الإلهية" مؤكداً أن كانط قد أسس بذلك تقليداً فلسفياً "يسعى من خلال العقل ﻟ "تقليص نمط الإيمان، لكن دون تصفيته نهائياً." كما في علاقته الطويلة معها إذن، يواصل هابرماس استلهام الكانطية ونقدها وتحيينها فهو إذ يعترض على إمكانية قبولنا اليوم برأي كانط القائل أنه "لا يوجد سوى دين واحد حقيقي، بينما من الممكن في المقابل وجود أشكال عديدة للإيمان"، فإنه يستدرك بالقول: " ليس ما يريده كانط في المقام الأول استعادة المحتوى الديني بواسطة الطريق المفاهيميّ، وإنما إدماج المعنى البراغماتي الخاص بالطريقة الدينية للإيمان في العقل." سيؤكد هابرماس بعدها أن إيمان العقل الكانطيّ يسعى إلى نوع من العدالة الأرضية أو ما يسميها كانط ﺑ "مملكة الله فوق الأرض". بحسب قراءة هابرماس، ليس وجود الله ولا خلود الروح هو ما أثار اهتمام كانط في المقام الأول بالإرث المسيحي/اليهودي وإنما كيفية استنساخ مملكة السماء على الأرض .

مُقتفياً خطوات كانط ومتجاوزاً لها يعوّل هابرماس على قدرة الصور والمعاني المختزنة في النصوص والسرديات الدينية على تعويض ما يفترضه هو من نقص لا يستطيع الفكر ما بعد الميتافيزيقي إكماله ولا الحلول بذلك مكان الدين ففكرة "مملكة الله على الأرض" الذي يستعيرها من كانط تتجاوز حدود القانون الأخلاقي وإمكانياته، أي تتجاوز حتى حدود العقلي العمليّ الذي حصر فيه كانط الاعتقاد. يقول هابرماس: "حتى دون اليقين بوجود حضور إلهي كأفق قد يَحدُّ أفعالنا وينفتح عليها في آن، فإننا نأمل من هذه الصور [الدينية] التي نترك أنفسنا تنقاد لها، أن تمنحنا صوراً من الحياة التي لا تخيب فيها الآمال [...] التي نعقدها عليها." والصور الدينية هي جزء جوهري من المحتوى الدلالي المُتضمَّن في التوراة والإنجيل، والتي يدعو هابرماس لإستعادتها واستثمارها فلسفياً من تاريخ الأديان مؤكداً: "بشكل ما يقدّم لنا التاريخ رصيداً مهماً يتمثلّ في الدين الوضعي بكنزه المكوّن من الصور المُحرّضة للمخيلة" .
لكن هابرماس نفسه الذي يدعو الفلسفة للعودة إلى الكامن الدلالي والصوريّ في الدين لتوسيع قدرتها على التعبير كان قد حذّر قبلاً من تلك العلاقة الهشة بين الفلسفة والدين والتي قد تبتلع بها الأولى الثاني (في حين أن التخوف كان يجب أن يكون معكوساً عند فيلسوف يدّعي الحداثة) حين قال: "إن المكان الحدوديّ بين الفلسفة والدين هو أرض ملغّمة. إذ تقع الفلسفة التي تنتج حول نفسها تناقضاتها الخاصة بسهولة في إغراء الاستيلاء ببساطة وسهولة على السلطة وامتلاك وضعية المُقدّس الفارغ من الجوهر، وقد أصبح مجهولاً." لا عجب هنا فهابرماس يوجه مدفعيته النقدية صوب فلسفة الوجود عند هايدجر الذي يعيّره بإنتاج فلسفة استعارت مفاهيمها ومفرداتها من اللغة الدينية دون أن يتذكر هابرماس في حمأة نقده لهايدجر أنه يدعونا هو نفسه إلى الأخذ من نفس المصدر، : أي العودة إلى الأخذ من مفردات الدين ومحتواه الدلالي. فها هو مع الصفحة الأخيرة من خاتمة مقاله "الإيمان والمعرفة" يؤكد لنا أن: "هناك أحاسيس أخلاقية لم تجد حتى الآن تعبيراً متمايزاً كفاية إلا في اللغة الدينية؛ يمكن لهذه الأحاسيس الأخلاقية أن تجد صدى كونياً منذ اللحظة التي تحضر فيها صياغة خلاصية لأحد مظاهرها المنسي تقريباً ولكن المشعور بغيابه غير المباشر بوصفه نقصاً."

بعد استعراض مُنتخّب لآراء كانط في الدين، يستدعي هابرماس ثلاث فلاسفة كأمثلة رئيسية عملوا على استلهام الكانطية في تناولهم لعلاقة الفلسفة باللاهوت وهم هيجل، وشليرماخر، وكيركيجارد. يعتمد هابرماس بشكل خاص على الاثنين الأخيرين لتبرير اهتمامه اللاهوتيّ من خلال الإلحاح، عندهما، على تلك العلاقة الضرورية بين الدين والفلسفة مؤكداً: " لكنهما شيلرماخر وكركيجارد اللذان يشترطان على الفلسفة أن تقبل الدين بوصفه بناءً مقابلاً يقع على نفس مستوى الرؤية. فهما قد حررا المسيحية من روابطها مع الميتافيزيقا الإغريقية ليدافعا عنها أو لينتقداها في وجه العلماء وغير المبالين من بين محتقريها بوضع نفسيهما في المستوى الكانطي لفكر ما بعد ميتافيزيقي."

وأثناء تعريجه السريع على موقف ماركس وبعض أخلافه من الدين، يقدِّم هابرماس لفلسفة كانط توصيفاً أصيلاً وذكياً يشرح فيه كيف أنها انتقلت من نقد العقل النظري المتشائم المُدرك لمحدوديته وعجزه عن إدراك حقائق الإشياء بذاتها إلى إرادة متفائلة للعقل العمليّ بقدرته على العمل في الواقع الممكن مردداً هنا رأياً لأدورنو يصف به فلسفة كانط بكونها "استحالة التفكير في اليأس". يمكن لنا هنا أن نستنتج بسهولة ما يُلمح إليه هابرماس من كون ماركس نفسه لم يخرج عن تلك الرؤية الكانطية التي قدمت العقل العملي على العقل النظريّ ففضلّ صاحب رأس المال العمل على المعرفة أو جعلها في خدمته، ويمكن لنا أن نتذكّر هنا عفوياً أطروحة ماركس الحادية عشرة حول فيورباخ : "لم يفعل الفلاسفة شيئاً سوى تفسير العالم بطرق شتى، بينما المهم تغييره." لكن، وخلافاً لرأي هابرماس هذا، لنتذكر أن الفلسفة العملية لم تأخذ عند ماركس ذلك الدور الذي اضطلعت به عند كانط من محاولة إنقاذ الدين أو الإيمان على حساب المعرفة، فماركس قد أقام، على نحوٍ ما، قطيعة مع الديني مكتفياً بتفسير دور الدين بوصفه تعويضاً عن البؤس الأرضي الاقتصادي والاجتماعي للمحرومين والمُستضعفين أو بكونه "أفيون الشعوب".
من مواقع مسكونة بالدينيّ وهاجسة به يعيد هابرماس كل الفلسفات الحديثة، حتى الملحدة منها، إلى أصل مُشتركٍ مُفترَض يجمعها بالدين ويحيل إليه حتى ولو على نحوٍ معكوس كما في الفلسفات الملحدة. هكذا – وكما أعاد فلسفات نيتشه وهايدجر وهوركهايمر ودريدا إلى اللاهوت السلبي – لا يجد هابرماس في بعض الفلسفات الماركسية الإلحادية سوى دين مقلوب أيضاً. محكماً وضع نظارات اللاهوت على عينيه يقرأ هابرماس:
شهدت مواءمة الإلحاد للمحتوى الديني امتدادات حيّة في الماركسية الغربية التي نكشف فيها دون عناء مواضيع لاهوتية سواء أكان ذلك في في فلسفة الأمل المؤسسة على فلسفة الطبيعة التي يقدمها أرنست بلوخ في محاولة للإنقاذ، أو في الأمل الخلاصي اليائس عند فالتر بنيامين، أو أيضاً في السلبية اللاذعة التي يطورها ثيودور أدورنو.
وباختصار لا يقتصر مسعى هابرماس من هذا الحفر على الأصول الدينية للفلسفة الحديثة على تذكيرها بماضيها الذي اشتركت فيه مع الدين، وإنما في تذكيرها بأن لا مستقبل ممكن لها إلا بعودة افتاحها على الدين. بهذا المعنى ليس الدين ماضٍ للفلسفة فحسب وإنما مستقبلها أيضاَ.
لا شك أنه ومنذ منتصف الثمانينات أخلى هابرماس الماركسي المكان كاملاً لهابرماس الكانطيّ، مُعلناً وبصراحة تصفية حساباته مع كل ما هو ثوريّ وتغييري لصالح ما هو تصالحيّ ومحافظ. لو كان هابرماس الشاب هو من يعالج السؤال الدينيّ، لربما اعتمد ماركس والماركسية (مرجعيته الأولى وكذلك نقطة انطلاق مدرسة فرانكفورت) بدلاً من كانط والكانطية.

لا شك أن هابرماس أدرك أن استعادة المحتوى الديني في الفلسفة الغربية الراهنة وتوسيع حدودها برؤى وصور دينية ما ورائية إعجازية خارقة لقوى الطبيعة وعصية على التفسير العقلاني (حتى لا نقول العلموي أو الطبيعاني بمفردات هابرماس) يتعارض مع ما انفك يؤكد عليه شخصياً من عقلانية الحداثة. بوعيّ شقيّ على ما يبدو يصطدم هابرماس بالباب الموصد لذلك البناء النظري المُصمت الذي منحه هو نفسه للفلسفة الحديثة ما بعد كانط والذي دعاه، بقراءة شخصية، بالتفكير ما بعد الميتافيزيقي والموصد بإحكام أمام عودة الدينيّ. لفتح ثغرة أمام الدين في هذا الفكر يقوم هابرماس بإعادة تعريف ومواءمة التفكير مابعد الميتافيزيقي ليستوعب الدين – من باب اللاأدرية هذه المرة – في داخله فيقول بحذر واضح وبطريقة مُلتفة:
في نهاية المطاف سأدعو إذن ﺑ "مابعد الميتافيزيقيّات" – وهذا ليس فقط بمعنى منهجيّ يتعلق بسيرورات ووسائل التفكير، ولكن أيضاً بالمعنى الماهويّ – تلك المواقف اللاأدرية التي تميز بدقة بين الإيمان والمعرفة وذلك بالتأكيد دون افتراض صحة دين معين (على طريقة الدفاع عن الدين الحديثة)، لكن دون الاعتراض بالمقابل على إمكانية وجود محتوى معرفي لتلك التقاليد [الدينية] في كليتها (على طريقة العلموية).

هكذا سار هابرماس على خطى كانط بتعطيل المعرفة لصالح الإعتقاد. فإذا كان الأول قد قام بتعطيل المعرفة ممثلة لديه بالميتافيزيقا ليفسح المجال للإيمان، فإن هابرماس سيفعل ذلك لكن ليس مع الميتافيزقا التي تم تجاوزها، وإنما مع العلوم الطبيعية من جهة والفلسفة من جهة ثانية ليفسح مجالاً للدين. لكن لننتبه إلى أن ما يريده هابرماس من إلباس اللاهوت لبوس العقل لتمريره إلى مجتمعات الحداثة دون كبير اعتراض، لا يتمثل، كما هو الأمر عند كانط، بحشره في قالب العقل فقط بحيث يظل ضمن حدوده، وإنما هو يريد جعله امتداداً للفلسفة ومكملاً لها، أي متجاوزاً للعقل ومصدراً له معاً فالفلسفة الحديثة مابعد الميتافيزيقية كما يُنظّر لها تقف محدودة وعاجزة عن الإجابة عن اللانهائيات والماورائيات، كالموت والخلود ووجود خالق ما خلف هذا الكون . بتأكيده، على طريقة كانط، محدودية وقصور المعرفة متمثلّة هنا بالتفكير مابعد الميتافيزيقي وبنفيه إدعاءات العلموية حول امتلاك الحقيقة، يفتح هابرماس باب الفلسفة على الدين، ليس كممارسة وشعائر وإنما "كسلطة حقيقة" لا تقل أهمية عنده عن الحقائق العلمية والفلسفية إن لم تكن متفوقة عليها. فالحقيقة الدينية ليست عنده أقل من حقائق العلوم الطبيعة (التي فضّل عليها الحس السليم كما رأينا من قبل) ولا من حقائق الفلسفة التي لم يعد لها من دور تلعبه أمام الدين سوى دور المترجمة بحيث تكتفي بتحويل لغة الدين إلى لغة مدنية معيارية تتجسّد في السياسة والأخلاق ولغة القانون بشكلها الوضعي مابعد الميتافيزيقي. لنقرأه وهو يقول مثلاً: "في هذا الصدد لا تستطيع الفلسفة في دورها كمترجمة إلا مفاضلة التنسيق الأخلاقي والتشريعي والسياسيّ بتسليط أضوائها على التعددية المشروعة لمشاريع الحياة الجوهرية التي يطورها المؤمنون من أي معتقد ديني كانوا، أو غير المؤمنين، لكن دون أن تتدخل هي فيها بوصفها منافساً ‘أكثر معرفةً‘". هكذا يظهر هابرماس محدودية الفلسفة الحديثة وعجزها وحاجتها بالتالي للدين لتبلغ ما هي عاجزة عن وصفه أو حتى إدراكه فبالنسبة: "لوعيّ معياريّ في طور النفاد، يمكن لهذا المحتوى [الدينيّ] أن يقوم بدور قوة توليد – انطلاقاً من هذه القاعدة – في حال كان بالإمكان تطوير مفاهيم جديدة تنتج تصورات [جديدة]." بهذه الطريقة يوسِّع هابرماس مكاناً للاهوت بجانب الفلسفة، بل وفيها قبل أن يوسع له مكانٌ آخر في الفضاء العام السياسيّ كما سنرى بعد قليل.
المزعج فعلاً عند هابرماس هو إضعافه للفلسفة ليمنح مكانة للدين. منذ بداية تفكره بالمسألة الدينية راحت صورة الفلسفة عنده تضمحل وتتراجع قوتها ودورها إلى حد الانسحاب من العالَم العمليّ. في كل نصوصه حول الدين، ستجد عند هابرماس تعابير عاجزة ويائسة عن فلسفة مابعد ميتافيزيقية محدودة القدرة جداً، بل وضعيفة ومحتضرة تتوسل الدين لإنقاذها. تصريحات هابرماس حول أفول الفلسفة بعد الميتافيزيقا كثيرة استشهدت ببعضها أعلاه، وهذه أحدها أيضاً:
لكن لم يعد للفلسفة الجدارة للتدخل فيما يمكن أن يقيم التعارض بين قوى الإيمان تلك. في المسائل ذات الحمولة الأكبر بالنسبة لنا تحديداً، تندرج الفلسفة في مستوى ماورائي بحيث لا تعود تُسائِل إلا الصفات الشكلية للإجراءات التي يتم التداول فيها حول الذات. قد يكون ذلك غير كافٍ، ولكن بماذا يمكن الاعتراض في هذا المجال على تحفظ وقد تأسس؟


"الوعي بما ينقص":
في المقالة الأولى في كتابه حول الطبيعانية والدين والتي يعنونها بعنوان ذي دلاله "الوعي بما ينقص" نلمح ولأول مرة وبشكل غير مباشر الدعوة إلى الدين بوصفه حاجة روحية وليس مجرد تصورات عن العالَم تخص شريحة من المجتمع يدافع هابرماس عن وجودها في الفضاء العام السياسيّ. في هذا النص يتجلى غياب الدين بوصفها وعياً "بما ينقص" المجتمعات الغربية مابعد العلمانية. لكن هابرماس يتخلى عن هذا الدرب الروحيّ الذي يسير فيه بضعة خطوات مترددة، ليعود إلى الطريق الوعر والمنزلق الخطير للدين بدل الإيمان.
يستعيد هابرماس في المقدمة ذكرى حضوره لمراسم جنازة الكاتب والمعماري السويسريّ الشهير ماكس فريش التي جرت في كنيسة القديس بيير في مدينة زيورخ ليتوقف عند التناقض الذي اختلطت فيه مراسم التشييع اللادينية في مكانٍ دينيّ وبحضورٍ مختلط من القساوسة و"المثقفين، الذين لا يكترث معظمهم بالشؤون الكهنوتية أو الدينية". فبحسب هابرماس، كان فريش شخصاً غير مؤمن وقد طالب بحرق جثته ورمي رمادها بعد رحيله عن الدنيا، ولكنه أوصى مع ذلك بإجراء مراسم دفنه في الكنيسة. وبناءً على وصيته تلك جرت المراسم في التاسع من نيسان/أبريل 1991 دون صلوات ولا أدعية ولا طلب رحمة ولا استغفار ولا حتى خطبة دينية على روح الفقيد. يذكر هابرماس أن مثل هذا التناقض لم يلفت انتباهه يومها قائلاً: "في تلك الفترة لم أندهش من تلك المراسم. ومع ذلك فإن هناك ما يُدهش فيها: المكان الذي جرت فيه، وتنظيمها." هكذا إذن وبعد حوالي عقد ونصف – أي بعد أن صار ينظر إلى الحياة بعدسات لاهوتية – يجد هابرماس فجأة أن المكان والمراسم الذي تمت فيه طقوس الجنازة يشهد على تناقض واضح يفضح الحاجة إلى الدين وضرورة استعادته لملئ هذا النقص.
لكل إطلالة الإيمان الخجولة هذه من خلف باب موارب، لا تلبث أن تختفي خلف نقاشاته في الصفحات اللاحقة والتي يعود فيها إلى تأكيد الحجج التي كان قد بدأها في خطاباته ونصوصه السابقة لتبرير ضرورة استفادة الفلسفة من الدين حتى تتجاوز شللها الذي يعبر عنه التفكير ما بعد الميتافيزيقي، قبل أن يعود إلى التأكيد على ضرورة التعايش والتضامن بين المتدينين وغير المتدينين في عالم تعددي. لكن أليس مطلب هابرماس هذا أمرٌ تحققه الدول الديمقارطية الحديثة بدساتيرها العلمانية على تنوعها؟ ما الجديد الذي يريد هابرماس إضافته إذن على قوانين دولة القانون الحديثة؟ وما هي الإنتقادات التي يوجهها لدساتير الدول الأوروبية الليبرالية العلمانية الحديثة بخصوص التعامل مع الدين والمواطنين المتدينين في المجتمعات العلمانية ومابعد العلمانية؟ لنتذكر قبل كل شيء أن دساتير الدول الغربية الحديثة على إختلافها، لا تنكر الأديان ولا تفاضل بينها وتنص صراحةً على الحيادية تجاه مختلف تصورات العالم وتؤكد حق المؤمنين في ممارسة أديانهم دون إكراه ودون تدخل من جانبها وتكفل حق الاعتقاد وعدم الإعتداء على حرية الآخر ومعتقداته شريطة أن تحترم هذه المتعتقدات والمؤمنين بها سياسة العيش المشترك التي يُحدّدها القانون. كما تضمن علمانية الدول الغربية اليوم تعايش تصورات العالم المختلفة بحيث يعيش فيها جنباً إلى جنب المتدينيون وغير المؤمنيين والملحدون واللأدريون دون تدخل الدولة لمصلحة فريق ضد الآخر.
في الواقع لا يبدو أن هابرماس مُقتنع فعلاً بحيادية الدولة في الغرب اليوم لا لأنها تُغلِّب تصوراً دينيّاً على آخر وإنما فيما يراه تمييزاً ومحاباةً من قبلها للعلمانيين (الذين يعتبرهم هابرماس أكثرية) على حساب المتدينين (الذين يراهم أقلية – ولا نعرف أي إحصائيات استند عليها في رأيه هذا!). وانطلاقاً من هذا التمييز المفترض، يرى هابرماس أن المواطنين المتدينين في المجتمعات الأوروبية المعاصرة، مضطرين في كل مرة يكون فيها نقاش سياسيّ إلى تقديم خطابهم وحججهم في الفضاء العام بشكل غير دينيّ مما يجعلهم بشخصيتين متناقضتين. وعليه يريد هابرماس من الدولة الليبرالية الحديثة في موقفها من الديني أن تتحوّل من الحيادية السلبية تجاه الدين إلى الإيجابية المنفتحة عليه وفتح الأبواب أمامه في الفضاء العام السياسي. في هذا السياق يكتفي هابرماس بتوظيف أحد مصطلحاته النظرية "الفضاء العام" لكن توظيف هابرماس لهذا المصطلح هنا يبدو منزاحاً كثيراً عن تقديمه له في كتاب التحول البنيوي للفضاء العام (1962) أي بوصفه تجمعات للنقاش الحر غير الرسمي وخارج نطاق المؤسسات وإكراهاتها، بل وعلى حسابها وبالتنافس معها، فهو يحمل هنا دعوة سياسية شبه مؤسساتية. بل ويبدو منزاحاً كذلك عن تقديمه له في الفصل الثامن المعنون ﺑ "دور المجتمع المدني والفضاء العام السياسي" من كتابه بين الحقائق والمعايير، فتكوين الآراء العامة والإرادات الشعبية التي تمارس شكلاً من أِكال الضغط الاجتماعي على دولة القانون ومؤسساتها، كان يشترط في كتابه ذاك مجتمع مدني معلمن ومدمقرط كما مرّ معنا. آنذاك كانت العلمانية شرطاً لا غنى عنه لانتعاش بل لوجود الفضاء العام السياسيّ أما أثناء في مناقشته للمسائل الدينية تصبح علمانية المجتمع هي العائق أمام عدالة مثل هذا الفضاء العام الذي يقصي المتدينين بحسب ادعاءات هابرماس. كما أن هابرماس لا يُطالب ممثلي الفضاء العام (العلمانيين) بالتغيير فقط وبقبول المتدينين والتخلي عن علمانيتهم المتصلبة، وإنما ينتقد دساتير الدول الأوروبية نفسها على علمانيتها التي تفرض العلمانية كمرجعية للدولة والمجتمع. وبمعنى آخر لم يعد الفضاء العام السياسيّ هنا من شأن الهامش الذي يقاوم سلطة الدولة ومؤسساتها ومركزيتها، وإنما صار يريد أن يصبح جزءاً من المركز نفسه. فكما رأينا لا يريد هابرماس أن تظل الدولة (الدولة بذاتها لا المجتمع المدني ولا الفضاء العام فقط) على الحياد تجاه الدين وإنما هو يحثها على الاقتراب والتقرب منه وفتح الأبواب أمامه للمشاركة في الحياة السياسية أو، بكلماته التي تأخذ فجأة صبغة هيجلية يريد أن تتحوّل الدولة إلى "هيئة للروح" بدل برودها المُكفّن بالقوانين العقلية والوضعانية المُشيئة وأن تتوقف عن فرض قوانينها العلمانية على المؤمنين فها هو يؤكد أن الدولة "لا تستطيع إذن أن تشترط على مواطنيها المتدينين ما قد يصبح غير قابل للتصالح مع الوجود الأصيل المُعاش "في الإيمان". وهو يتساءل معترضاً: "هل للدولة الحق في أن تأمر مواطنيها بفصل وجودهم إلى قسمين، وجود عام ووجود خاص، بإجبارهم، على سبيل المثال، على تبرير مواقفهم في الفضاء العام بأسباب غير دينية حصراً؟" لا شك أن جواب هابرماس الذي نتوقعه سيكون بالنفي. وهو يجيب على سؤاله كالتالي: "لكن إذا حازت المواقف المؤسسة على دوافع دينية على مكان شرعيّ في الفضاء السياسيّ العام فستعترف الجماعة السياسية رسمياً بقدرة المقولات الدينية على المساهمة وبشكل هادف بضرورة توضيح المسائل التي هي أصل موضع الإختلاف." طبعاً مثل هكذا دولة يحظى الدين فيها بكل هذا التعاطف "تنتظر من رعاياها العلمانيين بدورهم كمواطنين ألا يأخذوا أية مقولة دينية بوصفها غير عقلانية أبداً."
الشيء الملفت للنظر في نصوص هابرماس حول الدين منذ خطابه "الإيمان والمعرفة" حتى هذه المقالة "الوعي بما ينقص" هو ذلك الغياب الواضح والمثير للدهشة لنظريته في الفعل التوصلي التي تشكِّل غالباً الإطار المرجعي والخلفية التي يموضع عليها جميع أفكاره. على خلاف ذلك لا تحضر هنا تنظيراته في التواصل إلا على نحو شبحي خاطف وخجول. وهو غياب سيتداركه هابرماس قليلاً في مقالته الأخيرة حول الدين في هذا الكتاب.





Jürgen Habermas, Joseph Ratzinger, Raison et religion- La dialectique de la sécularisation, trad. Jean-Louis Schlegel, Salvator, Paris, 2010, p. 33.
جدلية العلمنة – العقل والدين ، ص، 57.
ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال أو وجوب النظر العقلي وحدود التأويل (الدين والمجتمع)، تقديم وإشراف محمد عابدر الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص، 96.
المرجع نفسه، ص، 85.
المرجع نفسه، ص، 90.
المرجع نفسه، ص، 125.
المرجع نفسه، ص، 90.
المرجع نفسه، 91.
المرجع نفسه، ص، 97.
Jürgen Habermas, Entre naturalisme et religion : Les défis de la démocratie, trad. Christian Bouchindhomme et Alexandre Dupeyrix, Gallimard, p. 11.
Raison et religion- La dialectique de la sécularisatio, op.cit.,p. 57.
المرجع نفسه، ص. 35.
المرجع السابق، ص، 510
J. Habermas, « Reflections on a Remark of Max Horkheimer » in Religion and Rationality- Essays on Reason, God, and Modernity, edited. Edouard Mendieta, Polity Press, 2002, p. 99.
انظر على سبيل المثال نقده لمثل تلك الاستعارة عند هايدجر (التي يدعو إليها هابرماس نفسه) في الفصل الذي كرسه لهايدجر بعنوان " العقلانية الغربية الراشحة من خلال نقد الميتافيزيقا: هايدجر" في كتابه الخطاب الفلسفي للحداثة، وكذلك الصفحات 162-163 من الترجمة الفرنسية لمقاله "الإيمان والمعرفة"، المعطيات السابقة نفسها.
Entre naturalisme et religion op.cit, p. 34
2 المرجع نفسه، ص، 14.
Emmanuel Kant, Critique de la raison pure, trad. André Tremesayague et Bernard Pacaud, PUF, 8 édition, 2012, p. 24.
المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
Entre naturalisme et religion, op.cit., p.13
المرجع نفسه، ص، 13-14. في العبارة الأخيرة يبدو واضحاً أن هابرماس ينعي زمن وفكر فولتير الذي يمثل هو صورته المقلوبة.
المرجع نفسه، ص، 35.
المرجع نفسه، ص، 35.
المرجع نفسه، ص، 27.
المرجع نفسه، ص، 28
Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 34.
المرجع نفسه، ص، 28. المُلفت هنا هو اكتفاء هابرماس بالمرجعية الكانطية مع أن أثر الصور الدينية في تحريض المخيلة الإيمانية هي بالأحرى فكرة سبينوزية بامتياز نجدها عند سبينوزا بشكل أساسيّ في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة (1670) والتي يؤكد من خلالها أن الكتاب المقدس يتحدث "عن الله وعن الأشياء بأسلوب غير دقيق لأنه [...] لا يريد إقناع العقل، بل يريد إثارة الخيال وشحذ قدرته على التصوير." . انظر: اسبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، ترجمة وتقديم: حسن حنفي، مراجعة: فؤاد زكريا، التنوير، بيروت، 2005، ص، 225. لكن أفكار سبينوزا لا يقاربها هابرماس في هذا النص إلا على عجل على هامش مناقشة كانط لها، فسبينوزا أولاً ليس من الفلاسفة الملهمين لهابرماس ولا نكاد نجد له حضوراً يذكر في أعمال هابرماس وهذا مفهوم فثورية سبينوزا بخاصة في النظر إلى الدين لا تناسب تلك النغمة التصالحية العقلانية المحافظة الراسخة عند هابرماس والتي تجد مرجعيتها المريحة في الكانطية.
« Foi et savoir », op.cit., p. 163.
المرجع السابق، ص، 165.
Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 52.
بصدور مؤلفه الأخير بجزئيه والمعنون ﺑ تاريخ للفلسفة أيضاً Auch eine Geschichte der Philo¬sophie (2019) يبدو واضحاً أن إهتمام هابرماس بإعادة قراءة تاريخ الفلسفة الحديثة انطلاقاً من العلاقة بين المعرفة والإيمان لا يتوقف عند هؤلاء الفلاسفة الكانطيين فقط بل يتسع ليشمل معظم ممثلي وفلسفات ما يسميه بالتفكير مابعد الميتافزيقي. بهذا الجهد الجبّار يعيد هابرماس إعادة تفصيل تاريخ الفلسفة الحديثة كله تقريباً، حتى بل وبخاصة الفلسفات الملحدة منها، ليصبح متوافقاً من الدين.
Entre naturalisme et religion, op.cit.,p. 39.
المرجع السابق، ص، 57.
المرجع السابق، ص، 49.
المرجع السابق، ص، 50.
المرجع السابق، ص، 51.
L’avenir de la nature humaine, op.,cit., p. 13.
Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 141.
Droit et démocratie, op.cit., p. 414-355.
Entre naturalisme et religion, op.cit., p. 149.
المرجع السابق، ص، 150.
المرجع السابق، ص، 150.