حافظ الأسد الميّت الحيّ أو الحيّ الميِّت


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 3989 - 2013 / 1 / 31 - 21:23
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

أودُ فقط هُنا أن أُقارب الأحداث السياسيّة في سوريّة التي تشهد ثورة ضد حُكم بشار الأسد الذي ورث نظام حكم قد أسسه أبوه طوبةً طوبة وورثّه لابنه نظاماً قويّا كقلعة من معاقل الاستبداد الحصين الذي يصعب اختراقه. ولكن مقاربتي هنا ستتجنب الغوص في التحليل السياسيّ وستُركّز اهتمامها على التحليل النفسي من خلال فكرة "الأب" الميت الحي كما قدمها لنا كل من شكسبير في مسرحية "هاملت" وفرويد فر كتابيه "الطوطم والتابو" و "قلق الحضارة" وأخيراً دريدا في نصه "أمام القانون".
سأستدعي أولاً إذن مسرحية "هاملت" التي يجعل فيها شكسبير شبح الأب يعود من عالم الموتى بعد أن تم قتله ليواصل حياته عبر ابنه الذي يتّبع وصايا شبح الأب وينفّذ أوامره. لو تمعّنا في هذه الصورة الشبحية للأب لوجدنا أنه لم يمت فعلاً فشبحه نوع من الحياة أو نوعٌ من الحضور الحيّ للميت أو (كنوع من تلك الحالة التي يصفها فيليب. ك ديك في روايته أوبيك: نصف حياة أو نصف موت). إن هاملت الأب ليس ميتاً في مسرحية شكسبير رغم قتله والإنهاء عليه فحياته تستمر عبر ابنه الذي يواصل ما كان يمكن لأبيه أن يفعله لو ظل حيّاً فالابن ينفّذ أوامر الأب وتتحول حياة هاملت الابن إلى جزء متمم لحياة الأب هاملت الحيّ الميت أو الميت الحي.
لو قاربنا الوضع السياسي اليوم في سوريا من هذه الرؤية، لقلنا أن الثورة السورية هي بالأصل ثورة ضد الأب المؤسس للنظام البعثي الأسديّ أي حافظ الأسد فهو من بنى الجيش العقائدي والمخابرات القذرة والسجون المنتشرة في كل أنحاء سوريا والحرس الجمهوري الخ الخ. إن هذه الثورة التي قامت ضد الأسد الأب الذي "مات" عام 2000 قد جعلت شبح هذا الأخير ـ الذي تعمل الثورة على قتله رمزياً عبر رفض النظام الدكتاتوريّ الذي أسسه ـ يعود ليواصل حياته عبر الأسد الابن الوريث الذي ينصاع لما يمليه عليه شبح الأب العائد من الموت أو الحيّ الميّت أو الميت الحيّ.
الفكرة الثانية التي سأتناولها عجالاً هي فكرة فرويد حول نشوء الحضارة التي ابتدأت نتيجة لقتل الأب. لقد ظهرت هذه الفكرة بشكل رئيسيّ عند فرويد في كتابه "الطوطم والتابو" ثم في "قلق الحضارة" حيث تقوم فكرته ببساطة فجّة واختصار شديد على أن الأب في الحضارة القديمة كان يستأثر بكل نساء القبيلة له وحده مانعاً بذلك كل ذكور القبيلة من الاقتراب منهن بوصفهن ملكيّة حصريّة به. لقد أدت رغبات الأبناء الجنسية المقموعة من قبل الأب المُسيطر، بحسب حكاية فرويد، إلى حقد الأبناء عليه والرغبة المتنامية بالتخلص منه بوصفه العقبة التي تحول دون استمتاعهن بنساء قبيلتهم من أمهاتهم وأخواتهم وخالاتهم وعماتهم الخ الخ. وهذا ما حصل؛ فقد تنامى حقد الأبناء على الأب إلى أن قاموا بقتله، ولكنهم، وبحسب فرويد، قد شعروا بالندم مباشرةً بعد ذلك لقتلهم الأب رمز القبيلة. عندها شعروا بعقدة الذنب فقرروا التكفير عن ذنبهم بمعاقبة أنفسهم بأن يحرموا أنفسهم من نساء قبيلتهم التي كانت الرغبة الجنسية فيهن هي السبب الحقيقي وراء قتل الأبناء للأب. عندها راح الأبناء يبحثون عن نساء من خارج إطار قبيلتهم فانكسر إطار القبيلة وصار هناك تزاوج (غالباً ما كان يتم خطفاً أو سبياً ولا يزال هذا حاضراً في أغاني الأعراس عندنا) مما أدى إلى نشوء الحضارة بانفتاح القبائل على بعضها.
سيقوم دريدا في نصه العميق "أمام القانون" بالتعليق على عبارة لفرويد وردت في كتابه "الطوطم والتابو" وهي تتلخص بالقول: "إن أحداً من الأبناء لم يستطع تحقيق رغبته الغريزية بأن يحل مكان الأب". يرى دريدا أن عبارة فرويد هذه لا تُشير فقط إلى الإحساس بالذنب والرغبة بالتعويض عبر معاقبة النفس كما ظنّ فرويد، ولكنها تشير أيضاً إلى أن الأب لم يمت أصلاً وهذا هو السبب في إن أحداً من الأبناء لم يأخذ مكانه. وبمعنى آخر إن القانون الذي فرضه الأب "في حياته" والذي يحرم بمقتضاه أبناءه من الاستمتاع بنساء القبيلة قد ظل سارياً ولم يتوقف "بموته" فالأبناء ظلوا محرومين من الاستمتاع بنساء القبيلة.
كما في مسرحية هاملت، الأب المقتول لم يمت هنا أيضاً بحسب دريدا بل ظل يُمارس سلطاته كاملةً بعد "موته". إنه ميّتٌ حي أو حيٌّ ميت تماماً كما هو حافظ الأسد الذي يسكن شبحه سوريا اليوم ويمارس ساديته من خلال حضوره الشبحيّ الذي يُملي قوانينه فيطبقها أبناؤه (لم يبق منهم سوى اثنين حتى لحظة كتابة هذه السطور)...