مع الأكراد ضد الأكراد في تأسيس دولتهم


خلدون النبواني
الحوار المتمدن - العدد: 4495 - 2014 / 6 / 27 - 22:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

يُعتبر الأكراد من أكبر القوميات التي لا تمتلك كيان سياسيّ خاص بها للآن بينما يعيش أبناؤها على مساحات بلدان عدّة غرب آسيا والشرق الأوسط. يحلمُ الأكراد منذ البعيد بتحقيق حُلمهم بتأسيس بلد يُمثِّل قوميتهم التي تكاد تبلغ 40 مليون كرديّ لكنهم اصطدموا ويصطدمون دائماً بمواجهة شرسة من الدول التي يعيشون فيها كالعراق وتركيا وسوريا وإيران التي تشكّلت هوياتها السياسيّة على حدود قطّعت حلم الأكراد السياسيّ دون أن تقطع امتدادهم الجغرافي المستمر أو تاريخهم الطويل والتراجيديّ كذلك. ربينا نحن في سوريا مثلاً على فكرة القوميّة العربية التي لا تعترف بغيرها على مساحة سوريا فحُرم الأكراد والشركس والأرمن وغيرهم من الإثنيات من الاعتراف الرسميّ بقومياتهم المختلفة أو السماح لهم القيام بطقوسهم واحتفالاتهم أو ممارسة لغتهم رسمياَ. وبكون الكرد أكثر عدداً من غيرهم من الإثنيات الأُخرى في سوريا ولأن لديهم نزوع عنيد لتأكيد هويتهم القومية ولأنهم يتواجدون في مناطق سكانية معينة في شمال سوريا تحديداً فقد وُوجه هؤلاء بكل سادية القوميّة العربية كما مثلها نظام البعث الأسديّ الذي حرم الكثير من الأكراد من هويتهم ومن أعيادهم فواجههم بأقسى أنواع العُسف السياسيّ. ولم يكن وضع أكراد العراق بأفضل حالاً في عهد صدام حسين حيث أوقع فيهم المجازر واضطهدهم أسوأ اضطهاد. الميراث النفسيّ الثقيل الذي حكم لا وعينا نحن العرب جعلنا حسّاسين جدّاً من فكرة نشوء قومية أُخرى لها كيان سياسيّ تُشاركنا نفس البلد الذي لا يعترف نظامه منذ أكثر من نصف قرن بهوية الكرديّ ويعتبر مطالبة الأكراد بإقامة دولة لهم تآمراً خارجياً على هوية الأمة أو دسيسة وتهديد للأمن القوميّ العربيّ إلى آخر تلك الأسطوانة المشروخة التي لا يزال يرددها النظام الأسديّ الفاشي وعملائه.
لنتوقف قليلاً ونتذكر كيف أن السود في أمريكا مثلاً لم يكن يُسمح لهم بركوب الباصات التي يركبها البيض أو أن يذهبوا إلى نفس المدارس أو أن يتقلدوا مناصب مخصصة للبيض الذين كانوا ينظرون إلى الأسود بوصفه الآخر الخطر على أمريكا ككل. في تلك الأثناء كان مارتن لوثر كينغ يقول عندي حُلم وكان حلمه حصول السود على كامل حقوقهم كمواطنين أمريكيين مساوين للبيض دون تمييز. كان ذلك حُلماً أشبه بالمعجزة، لكن نضال السود وتقدم أفكار حقوق الإنسان لدى مجموعات ضد العنصرية لدى البيض أعاد للأمريكيّ الأسود كل أهليته وحقوقه. قد يعترض معترض هنا ويقول، ولكن السود لم يكونوا يريدون الانفصال بدولة خاصة بهم في أمريكا الشمالية وهذا صحيح، لكن أن تُحلِّل لنفسك شيء وتحرِّمه على غيرك هو مكمن الظلم الاجتماعي والسياسيّ والقانونيّ. على ماذا قامت فكرة الدولة العربية؟ ألم تقم على أن هوية الأمة هي العروبة مما أدى إلى إقصاء القوميات الأخرى المشاركة لنا في نفس الأرض والتاريخ حتى كما حصل مع الأكراد في بلاد الشام والقبائل في الجزائر والأمازيغ في المغرب العربي مثلاً؟ أنا على يقين أنه سيأتي يوم يقرأ فيه جيلُ كرديّ قادم بألم كيف كان أباؤه وأجداده مُضهدين بسبب قوميتهم ولم يكونوا يعيشون في ذلك البلد الكردي الذي يعيش به هو يومها بعد أن ناضلوا ووجهوا بأبشع أنواع العنصرية والتمييز لتحقيقه.
يصطدم إنشاء الدولة الكردية حالياً من جانب آخر بالإحالة الذهنية العفوية إلى كيان سياسيّ آخر نشأ إبان تكوِّن المشروع "القومي العربي" وهو دولة إسرائيل. إن كان العرب قد أُجبروا بشكلٍ ما أوربما ساهموا بقصد أو دون قصد في السماح بنشوء الكيان الصهيوني في بلد عربيّ وفي عز نهوض المشورع السياسيّ القومي العربي على اختلاف تلويناته، فإنهم لم يعودا متسامحين أبداً مع نشوء كيان سياسيّ آخر يتعارض مع تصلب مفهوم القومية العربية وبخاصة في بعثي العراق وسوريا التي مثلا الفاشية القومية بل وتجاوزها.
المشكلة العويصة التي تجعلني متردّداً شخصياً حيال المسألة الكردية تتعلق في الأساس القوميّ ذو اللون الواحد الذي يحاول الأكراد تأسيس بلدهم عليه في حين راحت مجتمعات الحداثة ومنذ أكثر من قرن تتلوّن وتتعدد وتعرف أن أي مجتمع يحترم حقوق الإنسان هو مجتمع تعدُّديّ إذا ما أردنا أن نواصل حلم كانط الشهير الذي يقول أن سطح الكرة الأرضية هو ملك لجميع الناس. يريد الأكراد أن يدخلوا تاريخ بناء الدولة على أساس قوميّ بعد أن صارت هذه البوابة طريق الفاشيات السياسيّة الحديثة وما بعد الحديثة. تصوروا أمة كرديّة فقط بلون واحد؟ بصراحة الأمر يبعث على الأسى ويؤكد أن حروب الهويات ستستمر إلى آلاف السنين القادمة في منطقة الشرق الأوسط. أن تقوم دولة على لون واحد هو أمر يبعث على الإحباط حقّاً ويُذكِّر شئنا أم أبينا بكيان إسرائيل الذي قام على أساس عصبيّ آخر هو وحدة الدين. هنا دين وهناك قوم أي دولتين كل واحدة منهما بلون واحد متمركزتين على هويتهما ومصرتان على لونهما الوحيد الذي يُقصي ما عداه. لأوضح اعتراضي أطثر على مفهوم القومية سأسمح لنفسي هنا أن أقتبس جزءً من دراسة لي بعنوان "الثورة السوريّة وتغيير باراديم السياسة" أشرتُ فيه إلى أن" مفهوم القوميّة قد لعب دوراً أساسيّاً في نشوء الدولةـالأمة بمفهومها الحديث مُحدّداً بذلك حدود ومقومات تكون الدولةـالأمة في بلدان الغرب الحديث. ولكن يجب الاعتراف أيضاً أن فكرة القومية كانت من أخطر المفاهيم الحديثة وأكثرها قابلية للانحراف لما تتضمنه من عصبية وعرقية هوياتيّة تقود إلى حروب خارجية وإلى اضطهاد وإقصاء للأقليات التي لا ينطبق عليها مقومات القومية التي يتم تقديسها في بلدٍ ما. تفترض القوميّة هويّة ما يتحدد من خلالها شعب ما في مقابل غيره من الشعوب والأُمم مما يؤدي إلى التعصب إلى الهويّة القومية إلى درجة العنصرية racism وهذا ما عرفته مثلاً بلدان الغرب الأوروبي في النصف الأول من القرن العشرين. لأسباب قوميّة قبل كونها أي شيء آخر استعر الصراع الفرنسي/الألماني في الحرب العالمية اللأولى. ونحن نعرف جيداً أن فكرة القومية كانت المنطلق الأساسيّ لظهور الفاشيات الأوروبية وبخاصة النازية الهتلرية في ألمانيا التي غذّت النزعة القوميّة معتبرةً أن قوميتها هي الأرقى والأقوى والأجدر بالحياة "ألمانيا فوق الجميع" الخ. ويُظهر لنا التاريخ بشكلٍ واضح أن الفاشيات على اختلافها هي أكثر من تغنى بفكرة القوميّة."
أتفهم ردود فعل الكثيرين من الأكراد التي، ونتيجة الاضطهاد التاريخي المتواصل الذي يقف في وجه إنشاء دولتهم، صارت متصلبة متجذِّرة على الهوية أكثر كلما دار نقاش حول مشروع إقامة الدولة الكردية لأكراد العالم. لكن هذا التعصُّب لا يؤسس لدولة حديثة ولا لمجتمع تعددي تماماً كما لا تؤسس لذلك فكرة القومية العربية التي لا تعترف بغيرها وإنما يؤدي ذلك إلى نشوء كيان سياسيّ متمترس على هويته ومقصي لغيره وينذر باستمرا حروب الهويات التي تسير على قدم وساق اليوم في سوريا والعراق ومنطقة الشرق الأوسط: سنّة/شيعة، عرب/أكراد، مسلمون/ يهود، أقليات/ أكثريات الخ الخ.
أنا أيضاً لديّ حُلم هو أن ينجح الأكراد في إقامة بلدهم، لكن ليس على أساس عرقيّ إقصائي متمركز على هويته ولونه وإنما بلد حديث ومجتمع تعددي يعترف بالآخر ويليق بنضال الكرد التاريخي المشروع والعادل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

http://therepublicgs.net/2014/04/21/%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3/
لقد سبق للمؤرخ الماركسي البريطاني إريك هوبسباوم أن درس طبيعة الترابط بين القومية والعنصريّة وافترض أن العلاقة بينهما عضوية واضحة. أنظر في ذلك مثلاً كتابه:
E. J., Hobsbawm, Nations and Nationalism since 1780, Cambridge University Press, 1990, p. 2.